المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تربية الماشية في جمهورية مصر العربية
2024-11-06
The structure of the tone-unit
2024-11-06
IIntonation The tone-unit
2024-11-06
Tones on other words
2024-11-06
Level _yes_ no
2024-11-06
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05

معنى كلمة ثقف
9-12-2015
تجارب الدول المتقدمة في تحقيق التنمية البشرية (الصيـن) 1
20-11-2020
تجربة مركز الكتلة (مركز الثقل)
6-8-2016
مميزات المنهج‏ القرآني
5-05-2015
ملاحظات عامة
2023-05-18
ولاية عبيد الله بن العباس على اليمن
29-4-2016


الرحلات إلى العالم العلوي  
  
2334   03:27 مساءاً   التاريخ: 23-03-2015
المؤلف : محمد الصالح السليمان
الكتاب أو المصدر : الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث
الجزء والصفحة : ص32-53
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015 1843
التاريخ: 16-12-2019 1026
التاريخ: 15-12-2019 644
التاريخ: 15-12-2019 7139

لقد نظر الإنسان منذ القدم إلى قبّة السماء فوجد فيها لغزاً محيّراً أوقد في روحه جذوة البحث والمعرفة، فأنشأ لها علماً خاصاً يدرس ظواهرها الثابتة والمتغيّرة ويسجّل حركة النجوم ومواقعها بما ينفعه في حياته، ولكنّ ذلك كلّه لم يروِ شغفه إلى البحث والمعرفة عن أسرارها الغامضة، وقبل أن تمكنّه وسائله الماديّة من ارتياد أجوازها، فقد ارتادها بفكره وخياله، متصوّراً أنّ عليها حياة عاقلة خيراً من حياته بين أبناء جنسه. وقد يبدع شخصيات خياليّة قريبة من واقعه لا يريد منها إلا التعريض بحياة مجتمعه وتوجيه سياط النقد اللاذعة له.

وقد انطوت هذه الرحلات تحت قسمين رئيسين، الأوّل: اتجاه إلى عالم الفلك والنجوم وفيه رحلات محمد الفراتي: ((الكوميديا السماويّة))، ورحلة رشيد أيوب: ((حلم في المريخ)) ورحلة محمد حسن فقّي: ((الكون والشاعر)). والثاني: التمس عالم الروح والملائكة بما فيها من معاني الطهر والنقاء. وهي: ((على بساط الريح)) لفوزي معلوف، و((أبونا آدم))، لإبراهيم الهوني، و

((الله والشاعر)) لمحمد حسن فقّي، و((المعري يبصر)) لأنيس المقدسي.

الكوميديا السّماوية(1) لمحمد الفراتي (1890-1978).

هي أطول القصائد التي نظمها محمد الفراتي سنة 1956 ست وخمسين وتسعمائة وألف، وقد ظنّ معظم الباحثين أنّها فقدت بعد أن فقدها خليل هنداوي، (2) ولكنّ الأستاذ سامي الكيالي كان قد أقنع الشاعر الفراتي بنشر قسم كبير منها في مجلة الحديث وترك الشاعر قسماً نشره في ديوانيه: النفحات والعواصف، وبلغت أبياتها كاملة ثمانية وأربعين وستمائة بيت موزعة على العناوين التالية:(3)

أ -حُلم مُريع أو ليلة في عالم المريخ/ الطويل.

ب -من أنا ومن أين جئت إلى هذا الوجود/ الوافر.

ج -السّاحر/ الرمل.

د -غرور الشّباب/ الخفيف.

هـ-في حانة إبليس/ الهزج.

و -إلى أين مصيري بعد الموت/ الوافر.

وقد درس هذه القصيدة باحثٌ سوري في مجلة المعرفة العدد (427)، نيسان 1999، ودراسته غلب عليها الطابع الوصفي، وقد كانت دراستنا أسبق إلى دراسة القصيدة غير أنّ التأخر في إنجاز طباعة البحث هو السبب في تأخير ظهور هذا البحث.

وتدور أحداث الرحلة في عالم علويّ يصعد إليه الشاعر بوساطة الأحلام والرؤى ليلتقي هناك شخصيات مريخيّة يتحاور معها في قضايا تهمّ البشر وتهمّ الشخصيات التي أبدعتها مخيّلة الشاعر. ثمّ ينفض الشاعر عنه الهموم والأحزان ليهيم في الفضاء بعيداً يلتقي في الكواكب شعراء وأدباء وعلماء وزنادقة وأناساً مثاليين، لا يمكن أن تتحقّق ملامحهم في الواقع الإنساني، ثمّ يخرج عن نطاق الوجود لتفنى روحه في الأنوار القدسيّة، وليلوح له نور المصطفى صلّى الله عليه وسلم. فيفنى بهذا النور فناء المحب المدّله. أمّا قصيدة ((غرور الشباب)) فهي حلم يداعب مخيلة الشاعر ليعيش مع ((فرنوف معيد الشباب)) لحظات من العودة إلى الشباب وتجديد الشعر والروح والجسد.

تبدأ الكوميديا بـ ((الحلم المريع)) ليلفت الشاعر الانتباه إلى عالم الرؤى والأحلام الذي يشدّه إليه ليحلّق بجناحيه صعوداً وهبوطاً في أعماق نفسه ليجد نفسه على كوكب المريخ، على شاطئ بحر خضم اسمه ((سيسا)) وهو كثير المخاطر والأهوال، ويجدّ الشاعر في طلب النار لرفقته من وادٍ قريب فيرى هناك مخلوقات شبيهة ببني البشر، يقترب منها يحاول التفاهم معها فلا يستطيع حتّى يمكنه ذلك بالإشارة، فيأخذونه معهم ليجد مدينة زاهرة في هذا الكوكب. فيطوّف فيها ويراقب أهل الأرض الذين يقضون الدهر في حروب ومطاحنات فيرى رجلاً مريخيّاً يشير إلى كوكب الأرض وينعت أهله بأقبح الصفات يقول:

يَقولُ لَهمْ والأرضُ تَلْمَعُ في الدُّجَى ... عَلَى سَطْحِهِا أَشْقَى النُّفُوسِ وألأَمُ

فَقُلْتُ بِنَفْسِيَ وَافَضيْحَةَ أَهْلِهَا ... وَوَا خَجْلَتَاهُ إنّني قُلْتُ مِنْهُمو(4)

 

ثمّ يطلب الشاعر من صاحبه المريخيّ أن يجوز بحرهم إلى مكان آخر، وهنا يستطرد الشاعر كثيراً في وصف رفيقه في هذه الرحلة واسمه ((ميكال))، ثمّ يتحدّث ميكال عن حياته العلميّة وأساتذته ومن أبرزهم رفائيل، ويعرض عليه الشاعر أن يزور أستاذه رفائيل. ويلتقي الشاعر رفائيل ويسرد عليه الشاعر قصّة التاريخ البشريّ الدينيّ من خلق آدم إلى بعثة الأنبياء وحياة البشر بين الظلم والعدل والخير والشرّ، وهنا يخشى ميكال على أستاذه رفائيل من سآمة الحديث، فيطلب من الشاعر السكوت ليتكلّم رفائيل بنصائح يقدّمها للشاعر فيها -على حدّ زعمه-صلاح حال أهل الأرض ليؤكدّ أنّ العقل هو الحكم الفيصل الصالح لحياة المخلوقات ويجب أن يدين له الجميع بذلك. وفي تلك اللحظة يسرُّ الفراتي في سرّه قولاً يجعل رفائيل يثور ويزّبد ويربد يقول:

هُنَا قُلْتُ في نَفْسِيْ وَلَمْ أَدْرِ أنَّهُ ... عَلِيمٌ بِمَا أُخْفِي بِسرّي وَأَكْتُمُ

ألا اقْطَعْ حَدِيثَ الدِّينِ عنَّا فإِنَّما ... حَدِيثُكَ هَذَا يَا رَفائيلُ يُؤلْمِ(5)

ثمّ يحدّث رفائيل الشاعر عن نفسه وأصل حكمته وعلمه، وينتبه الشاعر صبحاً ليجد نفسه بين أولاده وعقيلته فيردّد بيتي حكمة خلص بهما من هذه الرحلة:

بَنِي الأرضِ ما فَوقَ البَسِيْطَةِ عاقِلٌ ... وليسَ من الأخلاقِ في الأرضِ دِرْهَمُ

وإِنّي وإِياكُمْ وكلَّ أخِي حجَا ... يدبُّ على الغَبْراءِ صَخرٌ مُرْضَّمُ(6)

 

وفي القسم الثاني تشدّ روح الشاعر في سياحتها إلى كواكب عجيبة يسمّيها نسبة إلى ساكنيها، ففي كوكب الشعراء يلتقي أبا نواس وحوله الندامى تعاطى رحيق الخلد خمراً معتّقة، فيعجب الشاعر لذلك ويهتف به، فيميل أبو نواس إلى جهة الصوت جذلا سكرانا، فلا يرى شيئاً. فيخبره الشاعر أنّه روح ولن يراه ويدور بينهما حوار عن مصير أبي نواس وكيف وصل إلى هذا المقام السنّي ويضمّن الفراتي ذلك الحوار هجوماً على أدعياء التقوى والورع على لسان أبي نواس، فيقول:

فَكَمْ شَيْخٍ بِلا عِلْمٍ وَتَقْوَى ... يُعَدُّ لَدَى الوَرَى مِنْ أَوْلِيَاهَا

تَرَاهُ مَرَرْتَ غَداً عَلَيْهِ ... لَدَى سَقَرٍ يُلوّح في لَظَاهَا(7)

 

ينتقل الفراتي بعدها إلى كوكب آخر ((فوق رمح السماك)) يرى نوراً مضيئاً يغشى العيون، فيقطع إليه جبالاً وسهولاً وحزوناً، ليصل إليه فيقف على عدد من الزنادقة أمثال ابن الراوندي ومزدك، وغيرهما من الزنادقة فيوجّه إليهم الشاعر شهبه الكلامية الحارقة، ثمّ يحاور الشاعر زعيمهم ابن الراوندي مستغلاً هذا الحوار ليطعن أيضاً على بعض المتديّنين الذين يحيون في الحياة بُلهاً مجانين بلا عقول. أمّا الزنادقة فشقوا بعلمهم وعقولهم الجبّارة كما يزعمون فما طالوا دنيا ولا فازوا بآخرة، فيقول:

 وَلَمْ نَقْنَعْ بِقِسْمَتِهِ وَثُرْنَا ... عَلَيْهِ يَوْمَ ذَلكَ سَاخِطِينَا

وَظَلَّ اللهُ يَضْحَكُ إِذْ رَآنَا ... مِنْ الإِفْلاسِ بِتْنَا مُلْحِدِينَا(8)

 

وفي نهاية الطواف النجمي بين الكواكب يرسم الشاعر عالماً مثاليّاً في كوكب العباقرة إذ حاول الشاعر أن يصبّ كلّ طموحاته في هذا النشيد ليخرجه على صورة الجنّة في هيكله وبنائه وأهله، فهو منبت العلماء العظام وكبار صانعي حضارة المستقبل وفيه تتحقّق كلّ الأماني دون أن يلفظ الإنسان فيه ببنت شفة فما عليه إلاّ التخاطب بالخواطر والأفكار.

ثمّ يخرج الشاعر عن المجرّة تاركاً أبا نواس ليقترب من مناهل الشهود المطلق ويكشف أستار الحُجب ويذوق لذّة الوجد الصوفي الحقيقي لأنه ينكر أن يكون كصوفيّ زمانه يقول:

ذَكَرْتُكَ كُلَّ حِينٍ في جَنَانِي ... وَلَيْسَ كَذِكْرِ صُوفِيٍّ مَرِيدِ

يُهَيْنِمُ عَنْكَ مَشْغُولاً بِلَفْظٍ ... يُرَدِّدُهُ كَزَمْزَمَةِ الهُنُودِ(9)

 

وفي قصيدة ((غرور الشباب)) يبتعد الفراتي عن الكواكب والنجوم إلى عالم الأحلام والرؤى، ذلك الحلم الذي طالما داعب الخيال البشري النازع إلى الخلود والشباب والقوّة والتجدّد، إنّه عودّة إلى الشباب ذلك الفردوس المفقود، حيث القوّة والحيويّة والنشاط والحبّ والهوى والطيش كما يقول الشاعر:

قَالَ لي مُغْرِيَاً وَقَدْ جَسَّ نَبْضِي ... لَمْ تَزَلْ فِيهِ وَمْضَةٌ مِنْ حَيَاةِ

أَفَتَهْوَى الشَّبَابَ؟ قُلْتُ: ومَنْ لِي ... بِمُثِيْرِ الأَهْوَاءِ والشَّهْوَاتِ(10) فتأخذ الشاعر نشوة المخمور وقد تبدّل الحال بعد المشيب إلى الشباب والقوّة فلابدّ أن يجدّد الشعر ويطرح القديم ليتناسب مع الروح الجديدة التي دبّت فيه فيرتّل من آي الشعر أبياتاً يؤذّن فيها ببدء العهد الجديد. وبينما يخطر الشاعر في هذه اللوحة الفنيّة التي تواشجت فيها عناصر الجمال، حيث رسم الشاعر صورة الحياة المتجدّدة في نفسه بعد أن كادت يبوسة الشيخوخة أن تقتلها، وقد تجاوز التسعين، يسمع هاتفاً يسفّه شعره وروحه التوّاقة إلى الجمال فيلتفت على طريقة الشعراء القدماء ليبرهن لهذا الطيف الذي قطع عليه نشوة الحلم وشاعريته، إنّه ذلك الشاعر الذي لا يشقّ له غبار في الوصف، غير أنّ الطيف يعيب عليه نزوعه إلى القديم البالي من الشعر ليكرّر على سمعه:

لَمْ تَزَلْ مِنْ طِرَازِ شِعْرِكَ هَذَا ... في نُزُوعٍ إلى القَدِيمِ العَاتِي(11)

 

ويرد عليه الشاعر مُغضباً: أن اسمع هذا التصوير من أفانين الشعر فيرسم له لوحة شعريّة لا تملك النفس أمام صورتها وألوانها الأخّاذة وأريجها الفوّاح، وحورها الحسان إلاّ أن تترنّح سكرى جذلى. ويظلّ الشاعر في هذه الصور إلى أن ينتزع منه الإعجاب والاعتراف بالشاعريّة الفذّة ليسمّيه شاعر الخلد والفنّ والنّفحات والنّفثات.

وهنا ينتهي الحلم على غرور يملأ رأس الشاعر وقلبه فيستيقظ ليجد نفسه على حالها من شيب وتقوّس ظهر وقناعة أنّ الناس تهوى السخافات والترّهات ولا تقدّر العلماء.

وهكذا انتهت الكوميديا السماوّية، التي كانت محاولة حلّق من خلالها الفراتي بعيداً في أجواز الفضاء، في سياحة فكريّة وروحيّة، أراد من خلالها أن يندّد بالواقع الاجتماعي الذي لبس أقنعة الزيف والخداع واضطهد الشاعر الإنسان ليس إلاّ لأنّه صوت حقّ وشعور وفنّ وجمال، كما أراد منها الشاعر أن يروّح عن نفسه المتعبة التي أثقلتها السنون وذهبت برونقها الأيام. محاولاً الانتصار لنفسه وإثبات جدارته بأن ينال القدر والاحترام كشاعر فذّ من أولئك الذين يشار إليهم بالبنان، لاسيما بعد عزلة أدبيّة واجتماعيّة عن الناس دامت قرابة ربع قرن. ... ... ... ***

حلم في المريخ رشيد أيوب 1872-1941

جاءت قصيدة رشيد أيوب ((حلم في المريخ)) في ديوانه الأيّوبيّات وقد نظمها على طريقة المخمّسات وعددها خمسة عشر مخمّساً. على البحر الطويل موزّعة على الصفحات من 148 إلى 156 (12)،

القصيدة رحلة تأمليّة تحاول أن تجد حلاً لتساؤلات البشر عن وجود حياة عاقلة على الكواكب الأخرى فتختار كوكب المريخ الذي كان أكثر الكواكب جدلاً في هذه القضية وتتّخذ من الروح مطيّة خياليّة تغيب عن ذات الشاعر لتطوف في عالم المريخ وتعود إلى الشاعر لتخبره بالحياة المثاليّة التي تعبّر عن نزوع طامح للقيم المثاليّة.

يبدأ الشاعر القصيدة في خلوة نفسيّة يتأمّل فيها الكائنات والكون ويتساءل في نفسه عن هذه المخلوقات التي بثّها الله في هذا الكون والتي ما خُلقت عبثاً، يقول:

خَلَوْتُ بِنَفْسِيْ والهُمُومُ بِمَعْزِلٍ ... فَشَاهَدْتُ مَعْنَى الكَائِنَاتِ فَلَذَّ لِيْ

وَطَابَ بِأَسْرَارِ النُّجُومِ تَغَزُّلِي ... فَقُلْتُ لِنَفْسِيْ والكَواكِبُ تَنْجَلِي

أَيا نَفْسُ مَا هَذِي النُّجُومُ السَّوَاطِعُ(13)

 ويتساءل الشاعر في لهفة عن صدق مقولة الناس والمهتمّين بوجود حياة على كوكب المريخ، وهل هم بشر مثلنا وأصلهم من تراب كأصلنا وهل يعرفون الجهل والعلم والحقّ وغير ذلك ممّا نعرف؟..

ولكن ليس من وسيلة تمكّن الشاعر من تحقيق هذا التطلّع إلاّ نفسه النقية الطاهرة فهي خير وسيلة للانطلاق في أجواء الحلم.

يناجي الشاعر نفسه بعد أن نقّاها من الهموم والآلام ليحمّلها المهمّة العظيمة التي ستقوم بها يقول:

وَقُلْتُ لَهَا لمَّا رَخَيْتُ زِمَامَها ... وَعَاهَدْتُهَا ألاّ أَخُونَ ذِمَامَها

وَإِنِّيَ لا أَنْفَكُ أَرْعَى هُيَامَها ... أَيّا نَفْسُ سِيْرِي واغْتَنَمْتُ سَلامَها

فَطَارَتْ إلى نَحْوِ السَّماءِ تُسَارِعُ(14)

 

فالنفس الإنسانيّة لدى رشيد أيوب وسيلة كشف ومعرفة، كما هو الحال لدى المتصوّفة، لأنّ الشفافية تصل بروح الإنسان إلى إدراك حقيقة الوجود.

وتؤوب النفس بعد أن أنهت رحلتها الكونية موفية بوعدها للشاعر فتناجيه بخطرات الروح وماذا عاينت هناك في المريخ يقول:

هُنَالِكَ في المَرْيخِ عَايَنْتُ خُضْرَةً ... كَأَحْسَنِ خَلْقِ اللّهِ لَوْناً وَفِطْرَةً

تَدُوْمُ إلى مَا شَاءَ رَبُّكَ عِبْرَةً ... تَرَاهُ إِذا ما جَالَ لَحْظُكَ مَرَّةً

بِعَيْنِ مُرُوْجٍ عُرْفُهَا الدَّهْرَ ذَائِعُ

وَفِيْهِ ريَاضٌ باللَّطَائِفِ تُوصَفُ ... وفي وَسْطِها عَيْنٌ مِنَ الدُّرِ تَذْرِفُ

يَمَرُّ بِها صَافِيْ النَّسِيمِ فَتَأَلَّفُ ... ويُطْرِبُها صَوْتُ النَّعيمِ فَتْعْطِفُ

وَتَبْقَى دُهُوراً والصَّفَا مُتَتَابِعُ(15)

وهكذا تنتهي رحلة رشيد أيوب إلى غايتها المرجوّة التي أرادها الشاعر لها، وهي أن تنبّه أولئك البشر الغافلين عن آي الإعجاز في خلق الله ولطيف صنعه في المخلوقات التي فطرها على أحسن حال، وربّما أراد أن يشير من طرف خفيّ إلى أن النفس البشريّة مكمن العرفان إذا ما هذّبت ونقّيت ممّا لحق بها من أوضار المادّية في ظلال المجتمعات المعاصرة. ويبقى السؤال قائماً هل الحياة التي رأتها نفس رشيد أيوب حقيقية على المريخ أم أنّ الحلم لا يزال مستمرّاً؟.

على بساط الريح فوزي معلوف 1899-1930.

تتألف مطوّلة ((على بساط الريح)) من خمسة وعشرين ومائتي بيت من الشعر موزّعة على أربعة عشر نشيداً ينتظمها البحر الخفيف بقافية متنوّعة، طبعت في سان باولو، في البرازيل دون تاريخ بمقدّمة للشاعر الإسباني ((فرانسيسكو فيلا سبازا)). (16)

تبدأ الرحلة الخياليّة برحلة واقعيّة على متن الطائرة، وهناك في الفضاء تنفك قيود الروح لتحلّق بعيداً بين الطيور والنجوم تحاورها وتجادلها وتستغيث بها لتلبيّ رغبة الشاعر في تحقيق وجوده الروحيّ في هذا العالم النقيّ لكنّها-أي روح الشاعر -لا تجد واحتها إلاّ بعد أن كاد الصدى يقتلها يأساً، إذ تنبري الروح لعناقه والدفاع عنه ليعود الشاعر إلى موطنه الأرض بعد أن قضى لحظات خالدة في عالم الطهر.

يختار الشاعر في النشيد الأول ((مَلِكٌ في الهوَاءِ)) الفضاء واحة لخياله الخصب يؤسّس فيها مملكة خياليّة تعجز عن نوالِها أيدي البشر وأطماعهم، لأنّها تملك قوّة الروح والخيال التي تحوّل المستحيل ممكناً، فيقول:

يَا جَنَاحَ الخَيَالِ أَقْوَىَ جَنَاحٍ ... أَنْتَ يَلْوِي ظَهْرَ الرِّيَاحِ لِصَدْمِهْ

لَيْتَ شِعْرِي ما الشَّاعرُ ابنٌ لهذي الْـ ... أرضِ إلاّ بِلَحْمَهِ وَبِعَظْمِهْ (17)

وفي النشيد الثاني ((رُوحُ الشَّاعِرِ)) يُشيد فوزي بالروح الوثّابة التي تصل الشاعر بعالم الخلد وبعرائس الجمال والجلال لأنّها ليست ابنة التراب واللحم والدّم يقول:

لَسْتِ مِنْ عَالَمِ التُّرابِ وإِنْ كُنْـ ... ـــتِ تَقَمَّصْتِ بالتُّرابِ عَلَيْهِ

أَنْتِ مِنْ عَالَمٍ بَعيدٍ عَنْ الأَرْ ... ضِ يَفِيضُ الجَلالُ عَنْ جَانِبِيهِ(18)

 

ولكنّ الشاعر يلتفت في النشيد الثالث ((العبد)) إلى واقعه ليجد نفسه مقيّداً إلى الأرض يشدّه إليها اللحم والدّم والقوانين والشرائع والقضاء والتمدّن يقول:

أَنَا في قَبْضَةِ العُبوديّةِ العَمْـ ... ـيَاءِ أَعْمَى مُسَيَّرٌ بِغُرورِهْ

كلٌّ مَا بِي في الكَونِ أَعْمَى ومُنْقَا ... دٌ على رُغْمِهِ لأَعْمَى نَظِيْرِهْ

غَيرَ رُوحِي فالشِّعرُ فَكَّ جَنَاحِيْـ ... ـها فَطَارَتْ في الجوِّ فَوْقَ نُسورِهْ(19)

 

وفي النشيد الرابع يمتطي الشاعر الطائرة هذه الوسيلة الحضارية التي ألّبت عليه الطيور، وكأنّه ينعى على الإنسان إسفافه في حياته الماديّة التي نفّرت منه كلّ أشكال الجمال في الكون، فها هي الطيور تصف بساطه الحديديّ بالشيطان وتصف راكبه بالغادر، فيقول:

يَا لَهُ طَائراً بِصُورَةِ شَيْطا ... نِ يَبُثُّ اللّهيبَ بُرْكَانُ صَدْرِهْ

آدميٌ هَذا -أَجَابَ أَخُوهُ ... جَاءَ يَسْتَعْمِرُ الأَثِيرَ بأَسْرِهْ

نحنُ لَمْ نَهْجِرِ البَسيطَةَ إلاّ ... هَرَباً مِنْهُ واجْتِنَاباً لِشَرِّهْ(20)

 

ويمجّد الشاعر في النشيد السادس الشقاء الإنساني على طريقة الرومانتيكيين متخذاً من الطبيعة إطاراً يصوّر فيها خطرات النفس المعذّبة وأحلامها العذبة.

ويدخل الشاعر في النشيد السابع عالم النجوم التي تنكره وتنكر آلته الشرّيرة التي تقتحم عليها عالمها، وتصف الشاعر بالعجز والشقاء وتظهر اليأس من صلاحه، في حين حاول الشاعر جهده أن يقنعها بأنّه ذلك الشاعر الذي قضى لياليه في مراقبتها مراقبة المشوق إليها، وقد سفح دم المداد تغزّلاً فيها، يقول:

إِيْهِ يا نَجْمَتِي أَلَمْ تَعْرِفِينِي ... شَاعِراً يُنْصِتُ الدُّجَى ِلنُواحِهْ

كَمْ ليالٍ في الرَّوضِ أَحْييتُها أَبـ ... ـكِي وَأَشْكُو إليكِ بينَ أَقاحِهْ

سَامَحَ اللهُ فيْكِ قَلْباً نَسيّاً ... هُوَ في الكَونِ مِثلُ قَلْبِ مِلاحِهْ(21)

 

وفي النشيد الثامن ينثر الشاعر كنانة نفسه ويصوّر تلاشي أحلامه على صخرة الواقع القاسية، فهو يعيش دنيا المتناقضات فليست حياته إلاّ شقاء، وما كانت آماله وأحلامه وأطيافه إلاّ ومضات لمعت في حياته ساعة من دجى ليلة مدلهمّة ثمّ انطفأت يقول:

لَيْتَ شِعْرِي والّليلُ يَعْقُبُهُ الفَجْـ ... ـرُ مَتَى يَعْقُبُ البُكاءَ ابتسَامُ

ضَاعَ عُمْرِيْ سَعْياً وَرَاءَ رُسومٍ ... خطَطَتها في الشَّاطِئِ الأقدامُ

عِشْتُ أبْنِي على الرِّمَالِ وَهَلْ يَثْـ ... ـبُتُ رُكْنٌ لَهُ الرّمالُ دِعَامُ(22)

 

وفي النشيد التاسع ((في عالم الأرواح)) يصل فوزي معلوف إلى غايته في الرحلة حيث عالم الروح الأثير الذي لا يستطيع الشاعر إدراك شيء من كنهه فيروح واصفاً الدّويّ والأنوار الخافتة والبرّاقة فيه.

وأمّا النشيد العاشر وهو ((حفنة من تراب)) فإنّ الشاعر يدخل في حوار مع الأرواح التي تنكر هذا الوافد الغريب بما يحمل بين جنبيه من كدر وشرور، حتّى لا يؤمّل فيه الخير إلاّ عندما يموت فيمتصّ الثرى ما في جسده من غذاء يمدّ به أنساغ الحياة الهادئة الوادعة، ليصل المعلوف إلى ذروة الجمال والحكمة.

وفي النشيد الحادي عشر يبدو الشاعر حانقاً على الشرّ بداخله إذ تأبى الأرواح إلاّ وصفه بالشرّ والخراب والدمار والطمع والأنانيّة.

وفي النشيد الثاني عشر وهو بعنوان ((كفّارة الشاعر)) يلتقي الشاعر روحه التي أقبلت تدافع عنه في عالم الأرواح وتصطفيه إليها لأنه قبل كلّ شيء شاعر ليس عمره كأعمار بني جنسه لأنّ عمره قطرة حبر سالت قافية على طرسه فحوّلت الدنيا أفراحاً وأغاريد. وهو يضحّي بروحه ويحرقها على هيكل الخلود شمعة وضّاءة يقول:

جَاءَ مِنْ أَرْضِهِ يُفَتِّشُ عَنِّي ... بَائِسَاً فاخْشَعُوا احتراماً ليأْسِهْ

وَدُعُوهُ مَعِيْ فَفِيْ قُبُلاتِي ... شَهْدُ عَطْفٍ يُنْسِيهِ عَلْقَمَ كأسِهْ(23)

 

وفي النشيد الثالث عشر يعيش الشاعر لحظات الصفاء الخالدة مع روحه حيث تتضاءل أمام فرحته جبال الأرض وسهولها ووديانها وتحلّق حوله أغاريد الفرح تعزف على قيثاراتها أناشيد الحبّ ونغماته، فيقول:

 

وَعَذَارَى الأَرْوَاحِ تُنْشِدُ مِنْ بُعْـ ... ـدٍ بِصَوْتٍ ، اللّه في نَبَرَاتِهْ

رَافَقَتْهُ قِيْثَارَةُ الحُبِّ فانْسَلَّ ... أَنِيْنُ الأَوْتَارِ في نَغَمَاتِهْ(24)

 

وفي النشيد الأخير تنتهي الرحلة ليعود الشاعر إلى الأرض فلا يجد مؤنساً له ولا مدّوناً للحظات الخلد هذه إلاّ قلمه ذلك الرفيق الذي ما خانه يوماً وما جافاه إن جافته الصحاب.

وهكذا سار فوزي معلوف حثيثاً نحو موطنه المحلّق حيث الروح تشدّه، تنزعه من عالم التراب ومطالب اللحم والدّم، ولكن متى يحقّق حلم الحريّة وتتحقّق تلك المعادلة الصعبة الراسفة به إلى قيوده؟ إنّ شعاع الأمل هو الذي يشقّ طريقه نحو الروح ولا يفتَّق هذا الوميض الأخّاذ إلاّ الشعر الذي يحمل له الخلاص المنشود. ولتغدو مطالب الفرد نزوعاً إنسانيّاً يحمل الحبّ والصفاء لكلّ البشر.

المعرّي يبصر أنيس الخوري المقدسي

 تعدّ قصيدة ((المعرّي يبصر)) لأنيس الخوري المقدسي، قصيدة فلسفيّة مؤلّفة من ثلاثة أناشيد رئيسيّة هي:

1 -حيرة وشكوك.

2 -ظلام التشاؤم.

3 -تجلّي النور.

وقد بلغ عدد أبياتها (102) مائة وبيتين ينظمها البحر الوافر في قافية منوّعة تختلف من نشيد لآخر، نشرها الشاعر في مجلة المورد الصافي الصادرة في بيروت في العدد العاشر وألقاها بمناسبة عيد الشبيبة في سورية 1921(25)

يدور موضوع القصيدة حول تساؤلات يطرحها الشاعر عن الكون والأفلاك والمخلوقات وعن خالق هذه الكائنات، وتقوده هذه التساؤلات إلى الشك القاتل فيخوض بحراً رهيباً من الشكّ والحيرة إلى أن يلتقي المعرّي وسط الظلمة فيحاوره ويناجيه إلى أن يقوده الأخير إلى أول الطريق المنير فيصل الشاعر إلى حقيقة مكمن السعادة في الوجود.

تتناول القصيدة النفس الإنسانيّة، ذلك اللغز الذي حيّر العلماء ولا يزال مشكلاً رغم الدراسات العلميّة والطروحات الفلسفيّة التي تناولته، بيدَ أنّ الشعراء هم أكثر الناس تفاعلاً مع النفس الإنسانيّة، فهم يحملون في طيّات تكوينهم قدرة تمكنّهم من اختراق الغامض المستتر من الحجب. والمقدسيّ واحد من شعراء العربيّة باحث وأديب يخاطب في قصيدته في النشيد الأوّل: قوى المجهول التي برت هذا الكون وكوّنت ملامحه، طالباً إليها أن تبدّد ظلام الشكّ في نفسه، يقول:

أَعِيْرِينِي الضّياءَ مِنَ النّجومِ ... مُكَوِّنَةَ العَوَالِمِ مِنْ سَدِيمِ(26)

 

ولكنّه يظل يتخبّط في بحر من الشكّ متلاطم يلقي شراع العقل في حيرة تكاد تمزّقه في وسط خضمّها البهيم، فإذا العقل يتيه بين الحياة والموت، بين النجوم والأفلاك في البحث عن سبب هذه الموجودات، فالأمطار والأحياء والنجوم، كلّ أولئك يجري بنظام ودقّة ما لهما مثيل، فهل العقل يرشدنا إلى بارئ الأكوان؟

وَكَمْ بيني وَبينَ الحقِّ سُتْرٌ ... تَكَشَّفُ عَنْ مَلايينِ السُّتورِ(27)

سَأحيَا ما حَييتُ وَلَيْسَ نُورٌ ... لِعَيْنِ العَقْلِ في العمرِ القصيرِ

ومَا للقلبِ مِنْ أملٍ فيرجو ... ولا فجرٍ لذا الليلِ العَميمِ

أعِيْريني الضّياءَ مِنَ النَجومِ ... مُكَوِّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَدِيمِ(28)

 

وبينما هو على تلك الحال في ((النشيد الثاني)) يرى الشاعر شبحاً قد دبّت فيه الحياة، فيدنو منه على وجل وترقّب لعلّه يجد لديه ما يشفي الصدى الروحيّ إلى المعرفة والعلم، ويخلِّصه من لهيب الشكّ، فيعرّفه المعرّي على نفسه.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا اختار أنيس المقدسي المعرّي؟ ألأنّه قضى جلّ حياته بحثاً عن أساس المعرفة، أم لأنّه كان قد انتهى إلى القول بفساد كلّ شيء من هذا الكون إلاّ الخالق البارئ؟ ربّما هذا هو السرّ الذي جعل المقدسي يفتتح قصيدته ببيت راح يكرّره في القصيدة مرّات عدّة يقول:

أعِيريني الضّياءَ مِنَ النّجومِ ... مُكوِّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَديمِ(29)

 

فهل أراد الشاعر أن يتخلّص من شكوك نفسه، فجعل المعرّي رمزاً لخلاصه بعد أن خلص نفسه من أوهامها وقطع دابر شكوكها كما يقول:

كَذَاكَ خَرَجْتُ عَنْ أَوْهَامِ نَفْسِي ... وَفازَ القلبُ بالغَرضِ المَرُومِ

فَصِرْتُ أَرى الوُجودَ كَما تَراني ... بَصِيراً والبَصِيرُ يَرى جَليّا

هَجَرْتُ المِحْبَسَينِ فَصِرْتُ حُرّاً ... أَرى الدُّنْيَا تَروقُ لِنَاظِريّا(30)

ويسأل الشاعر المعريّ عن كيفيّة تحقيق هذه الطمأنينة لأنّه لا يزال أسير الشكوك والأوهام، ولا يزال القلب باهت الإيمان، فلا القلب ينجيه ولا العقل يرحمه، ويطرح في الحوار مع المعرّي قضايا مهمّة جداً في الرحلات الخياليّة كالقدريّة والجبر والاختيار وشقاء أهل العقل والعلم، كما يتساءل عن العدل أمام الظلم في هذه الحياة، والموت المسلّط على الرقاب وأين يمكن للإنسان أن يجد السعادة؟

فقد بحث عنها في كلّ مكان، لقد فتّش النجوم والمقابر ورمم الموتى فلم يجد لها أثراً، ثمّ يسأل المعريّ عن سبب وجوده في هذا المكان، فيقول:

فَقَالَ: قُضِيْ عَليَّ الدَّهْرَ أَنِّي ... أَكُونُ لِعَابِريِ الوَادِي دَليْلا

فأَرْشُدُ كلَّ ذي قلبٍ صَدُوقٍ ... وَأهْدِيْهِ إِذَا تَاهَ السَّبيلا

وأُخْرِجُهُ مِنَ الظُّلماتِ حتّى ... يَرَى في الأُفْقِ أَنْوارَ النَّعيمِ(31)

 

ثمّ يرشده المعرّي إلى السبيل الذي ينتصر فيه على أوهامه، إنّه الصبر والمصابرة أمام الشكوك والأهوال التي سيلاقيها، وهنا يبدأ النشيد الثالث ((تجلي النور)) حيث تتجلّى الحقائق أمام الشاعر فلا يرى الخير إلاّ في العمل الشريف والحبّ الطاهر والقلب النقيّ، وعلى المرء ترك مالا يعنيه وما لا رجاء له في أن يراه بالبيّنات. ثمّ ينادي في النهاية ذلك النور الذي شعّ في أعماق روحه قائلاً:

فَيَا نُوراً تَلألأَ في الأَعَالي ... بَعْيداً عَنْ يَقينِ ذَوِيْ اليَقِينِ

إليَكَ أتَيْتُ في ظُلُماتِ نفسي ... لِتَهْدِينْي إلى الحقِّ المُبينِ

لَعَلِّي بالغٌ بِكَ في حَيَاتِي ... مَقاماً ليسَ يُبْلَغُ بالعُلومِ(32)

وهكذا تنتهي رحلة المقدسي بعد أن رأت نفسه النور الذي كانت تبحث عنه، وتبدو النزعة الصوفيّة جليّة في هذه الرحلة التي ترى العلم والمعرفة عاجزين عن تحقيق السعادة التي تحتاج إلى الحبّ والعرفان سبيلاً لتحقيقها، وربّما نمّت هذه النزعة عن عداء ساد الواقع العربي الأدبي للعلوم التقنيّة، لاسيما أنّ هذا التقدّم أتى به الغرب الذي يريد استعمار البلاد، لذا دعت هذه الرحلات إلى الحبّ والفنّ ومنه الشعر سبيلاً لتحقيق السعادة الإنسانية أجمع.

الكون والشّاعر محمد حسن فِقّي (1912).

جاءت القصيدة في مجموعة ((قدر ورجل)) وهي مؤلّفة من سبعة وسبعين بيتاً على البحر السريع ورويّ واحد هو النون.

هي رحلة خياليّة يطوّف فيها الشاعر أجواز الفضاء يحاور سكّانه ويطرح تساؤلات كثيرة عن الخير والشرّ والموت، والحياة يفصح الشاعر فيها في النهاية عن تفاؤله في الحياة وإيمانه بانتصار الخير أبداً وهزيمة الشرّ وانحساره.

يجرّد الفقّي من نفسه روحاً تخاطب روح الخلد التي هيّجت أشجان النفس، ويستحثّها الشاعر لتحمل روحه بعيداً عن الأرض لتحرّر الروح من قيودها، قيود العبوديّة والجسد والقوانين الوضعيّة إذ لم تعد الروح تطيق حال الأرض التي استشرى الشرّ فيها فصارت له دولة وسلطان، ولكن هي الدنيا دَوْل بين الحقّ والباطل، فلابدّ أن ينتصر الحقّ ويزهق الباطل، وإذا انتصر الحقّ فلن يكون كالباطل في جبروته وغروره، لذا لن يعاقب الشرّ بما يستحقّ، بل سيحتضنه ويوجهه إلى ما فيه نفع العالم أجمع، يقول:

وَهَلْ إِذَا الخَيْرُ أَتَاحَتْ لَهُ ... دُنْيَاهُ مَا يَكْفَلُ رَجْحَانَهُ

يُحَاسِبُ الشَّرَّ على ما جَنَتْ ... يَدَاهُ أَمْ يَمْنَحُ غُفْرَانَهُ

لكنَّهُ الخَيْرُ حَليمٌ فَمَا ... أَضلّهُ الحِلْمُ ولا شانَهُ(33)

وهنا تبدأ الرحلة حيث ينطلق الشاعر فيرتاد أجواز الفضاء ورحاب الكون، وكأنّه سليمان عليه السّلام يجوبها على بساطه الريحي ويلتقي في الجوّ الطير، ولكنّه لقاء الودّ والصفاء لا الإنكار والتطيّر كما حصل لفوزي المعلوف، ويشرق الحوار وفلسفته عن الروح الإنسانيّة التوّاقة إلى عناصر الجمال والصفاء والطهر يقول:

لَمْ يُزعجِ الطّيرَ عَلى كَوْنِهِ ... بَينَ جُموعِ الطَيْرِ إنسانَهُ

أكانَ يَدْرِي الطَّيرُ أَنَّ الذي ... صاحَبَهَا صاحَبَ أخدانَهُ(34)

 

ويستمع الشاعر إلى حديث الطير عن نفسها فتبدو متفائلة بالحياة، وأغلب الظنّ أنّ هذا التفاؤل فيض من روح الشاعر التي ملأها الإيمان فاطمأنّت به. وتتكّشف في حواريّة الشاعر والبلبل نظرة الشاعر للحياة، ورأيه في الناس الذين ملأ الزيف والخداع حياتهم حتّى صار الزيف طبعاً كأنّه جُبل في فطرتهم لذا يقول البلبل:

وَقَالَ إِنْ كُنْتَ تُريدُ الهُدَى ... فَهاكَ مِنْ طَبْعِي بُرْهَانَهُ

الزَّيْفُ في النَّاسِ وَأمّا هُنا ... فَالطّيْرُ لا يَخْدَعُ إِخْوَانَهُ(35)

 

وبعد حديث الطير ينطلق الشاعر محلّقاً في الفضاء ليشارف النجم ثمّ يرتقي إلى ما هو أبعد من النجوم وأطهر، إلى عالم الملائكة، ذلك العالم الذي لا يمكن خرقه -وفق المعتقد الإسلامي-لأنها ملئت حرساً شديداً فكيف لابن الطين أن يصل إلى هذا المقام السنيّ؟ لاشكَ إنّه الحلم، هذا العالم الغريب الذي كان خير مطيّة تخفّ بها الروح من أدرانها لتصل إلى أعلى المقامات لذا يقول:

تَبَاركَ اللّهُ فَكَمْ شَاعِرٍ ... يُطاولُ المُلكَ وَتيْجَانَهُ

لَمْ يَعرِفِ الذُّلَّ ولاقَيْنَهُ ... وَلا وَعَى المَكْرَ وأَشْطَانَهُ(36)

 يبدو أن الرحلة التي قام بها الفقّي تعكس ارتقاء الروح في درجات الكمال ولكن قبل أن تخترق هذا العالم السماوي النّقي لابدّ لها من التخّلص من قيود المادية الراسفة، التي تثقلها إلى الأرض وتحول دون انطلاقها، وكما هي الحال لدى فوزي معلوف ليس للشاعر إلا روح الشعر التي ترفع الشاعر إلى أن يطاول عنان السماء ويحلّق بجناح الخيال والشعر إلى العالم النقي الطاهر.

اللّه والشّاعرُ محمّد حسن فقّي

هذه القصيدة وردت في المجلّد الأوّل من المجموعة الكاملة من الصفحة 80 إلى الصفحة 84، وهي مؤلّفة من ستة وسبعين بيتاً منظومة على البحر الخفيف موحّدة الوزن، منوعة القافية والرويّ. (37)

هي رحلة روحيّة يصل فيها الفقيّ مقاماً لا تصل إليه روح بشر، ولم تصل إليه تطلعات شعراء الرحلات الخياليّة، إنّه مقام القرب من الحضرة الإلهيّة وهناك يحاور الشاعر الملائكة، ويتحدّث إلى ربّ الأرض والسماوات الذي يقربّه قربى لا يقربّها بشراً بعده وهو في رحلته هذه ينطلق من روح إسلاميّ محضّ وقدرة شاعريّة فريدة غايتها تمجيد الشعر من بين الفنون الإنسانيّة.

ففي لحظة البداية نجد أنفسنا في رحاب الملأ الأعلى مع الشاعر الذي جعل من قلبه الطاهر الجريء وسيلة للوصول إلى هذا المكان الذي لا يعرف إلاّ الطهر والنّقاء، يقول:

ثمَّ أَوْجَستُ خيفَةً إِذْ تَسلّلْـ ... ـتُ إليهِ، هُنَا بِقْلبٍ فريٍّ

غَيْرَ أنّي أَحْسَسْتُ أنّي تَطَهَرْ ... تُ وَقَدْ لُذْتُ بالمقامِ السّنيِّ(38)

 

ولكنْ ما غاية الشاعر من هذه الرحلة؟ أهي ذاتية يريد بها أن يرفع شأن الشعر والشعراء في عصر بات الشعر فيه يعاني نزعات الاحتضار أمام كثير من الفنون الأدبية؟ أم هي رحلة غايتها التطهّر بأنوار الربوبيّة...؟

ينطلق الشاعر يفصّل الحواريّة التي تخيّلها بينه وبين الذات الإلهيّة، فالله يعلم بوجوده بين عباده من الصفوة المقرّبين من حضرته الإلهية لأنّه صعّده إلى مقامه السنّي ليحتفي به وبشعره يقول:

وَسَيَلْقَى هُنَا الكَرَامَةَ مَا ظَلَّ ... فإنّي الحفيُّ بالشّعراءِ

وَتَرَامَى إليَّ هَمْسٌ خفيٌّ ... م ... مِنْ صُفوفِ الأمْلاكِ يَعْجَبُ مني

مَنْ تُرَاهُ هَذا وَمَا ذلكَ الشعّـ ... ـرُ أَفَنٌ يَسْمُو على كلِّ فَنِّ؟

مَنْ تُراهُ هَذا وَمَا ذلكَ الشّعـ ... أَوْ رأيْنا كمِثْلِهِ حَظَّ جِنٍّ(39)

 

لكنّ الله لا يخفى عليه شيء من تعجبهم فيردّ عليهم بأنّ ما يرونه رهن المشيئة الإلهيّة التي تعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء، ثمّ يقرّ بأسلوب تقريري تغلب عليه الرؤية الإسلاميّة بالتمجيد لله جلّ وعلا، فهو ربّ النعماء والحمد والرحمة والحكم، وله مقاليد الأمر في السماء والأرض. وتتساءل الملائكة عن سبب تقريب هذا المخلوق فيأتي الجواب من الحقّ جلّ جلاله، فيقول:

مَا تُراهُ إلاَّ الكريمَ بِمَا يَمْـ ... ـلُكُ حتَّى وَلَوْ أَسَأْتَ إليهِ

لَوْ تَسَلّلْتَ في حنايَاهُ لَمْ تَلْـ ... ـق حُقُوداً تَضُجُّ في جَانِبَيْهِ

أَفَلا تُبْصِرُ الجنانَ مُطِلاً ... كالنَّدى كالشُّعَاعِ في مُقْلَتِيهِ

وَلَقَدْ يَسْتَفِزُّهُ الغيُّ حِيناً ... ثمَّ لا يستمرُّ إلاَّ قَلْيلا

هُوَ كِفْلٌ مِنْ النّبوّةِ لَوْلا ... أنّني ما اتخذْتُ مِنْهُ رَسُولا(40)

 

ولا تخفى عنه النزعة الذاتيّة التي تحاول رفع مقام الشعر حتّى إنّ الله ليجعل لذة الإحساس بالحياة في شقاء الشعراء وآلامهم وحسراتهم وآهاتهم، هنا يزهو الشاعر حين يرى الملائكة ترنو إليه بإعجاب ودهش ليختم قصيدته بأسلوب تقريري إيماني بأنّ الله مصدر الشعر والشعور والإلهام.

وهكذا ربط الشاعر الفقيّ بين قصيدة ((الكون والشاعر)) و((الله والشاعر))، برباط مقدّس يجعل من الشعر رسالة إنسانيّة ترفع الشاعر إلى أعلى درجات الكمال حتّى يغدو صنو الأنبياء، ويتوافق هنا مع رؤية المعلوف التي ترى الشعر وسيلة تمنح الإنسان الخلود والنقاء اللذين يرفعانه فوق حاجات اللحم والدم.

أبونا آدم إبراهيم الهوني (1907).

قصيدة ((أبونا آدم)) في ديوان الشاعر إبراهيم الهوني موزّعة على الصفحات من 36 إلى 40 وقد بلغت أبياتها ستة وسبعين بيتاً على البحر الطويل الموحّد القافية والرويّ(41) وهي ترجع إلى عام 1948

إن روح الشاعر المستاءة ممّا تراه على الأرض من مفاسد تدفعه إلى ركوب جناح الخيال بعيداً في عالم السماء لعلّه يجد مكاناً تتخلّص فيه نفسه من أوصابها وهناك يلتقي ببعض الملائكة يحاورهم في فكرتهم عن البشريّة مشيراً إلى قصّة آدم مع الملائكة ثمّ يتابع انطلاقه إلى حيث يسكن آدم وحواء ويحاورهما في أحوال الناس وما آلت إليه أوضاعهم من فساد ويطلب البقاء لديهم لكنَّ آدم يخبره باستحالة مطلبه ما لم يتخلّص من الجسد بالموت.

يشقى إبراهيم الهوني، كدأب أهل الرحلات، بروحه الشاعريّة بين أهل الأرض، فهو يسعى بوعيه أو لا وعيه للبحث عن النقاء والصفاء فيفتش في هذه الأرض فلا يعثر على ضالته فيتخذّ من الخيال جناحاً يحلّق به.

وأين يجد الصفاء والنقاء؟ لاشكّ سيجده في عالم الملائكة والأرواح؟ فيصعد بين أطباق السماوات مراقباً أحوال الملائكة بين السجود والركوع والقيام والقعود وكثرة التسبيح. عندها يتقدّم من ملك سرعان ما يعرف أنّه آدمي من أهل ((برقة))، فيتساءل الشاعر بدهشة عن قدرة المَلَكْ على معرفة الشاعر فيجيبه المَلَّكَ على تساؤله.

ثمّ يتحاور مع أحد الملائكة في جملة من الأمور منها قضيّة المعصية والطاعة، واستفسار الملائكة من الله جلّ جلاله عن جعل آدم خليفة في الأرض ثمّ يترك ذلك الملك، ليتقدّم إلى خيمة يقبع فيها آدم وحواء فيدهش لما فيها من جمال يأخذ بمجامع الألباب.

يقترب أكثر منهما ويستمع لحوار بين آدم وزوجته عمّا تغيّر من أحوال البشر على الأرض من بعدهما وما دبّ بينهم من مفاسد ودمار، ولكنّهما ينتبهان إلى الشاعر المراقب والمنصت للحديث فيطلب إليه آدم أن يدخل فيعرّفهما بنفسه، ويبثّهما شكواه من أحوال الأرض وتغيّر أوضاع الناس وانقلاب المفاهيم، وسيادة النفاق والكذب وازدراء العلماء وتكريم الجهّال، وانتشار أمراض القلوب وغيرها، الأمر الذي يدفع آدم إلى التبرّؤ من نسله وتمنّي حواء لو أنها كانت عقيماً لم تنجب أبد الدهر.

ولكنّ لدى الشاعر رغبة عارمة في الخلاص من شرور أهل الأرض تجعله يطلب البقاء بين آدم وحواء ولكن هيهات أن يكون ذلك مالم يسبقه تطهير للروح من قيود الجسد ولا يكون ذلك إلاّ بالموت، يقول:

فَقُلْتُ أبي أَبْغِي المُكُوثَ بِسَاحِكُمْ ... مَلَلْتُ لَعَمْرِي عِيشَةَ الضَّنْكِ والذُّلِّ

فَقَالَ: مُكوثُ المرءِ عِنْدِي مُحرَّمٌ ... إذا لَمْ يُطَهَّرْ بالمَمَاتِ مِنَ الغِلِّ.

فَقُلْتُ: سلامُ اللّهِ ثمّ تركتهُمْ ... وأُرْجَعْتُ رَغْمَ الأَنْفِ للعَالَمِ السّفلِي(42) وهكذا كانت رحلة الهوني محاولة جادة للتطهّر من المفاسد الخلقيّة والاجتماعيّة التي سادت في مجتمعه وذلك باستجماع كلّ ما لديه من طاقة الخيال الخلاّق ليستعيد بها لحظات من النقاء والطهر في عالم السماء كان قد تشوّق إلى العيش بها، ومن اللافت للانتباه أن هذه النهاية المأساويّة التي يرى فيها الشاعر خلاصه. فالخلاص كما يخبره آدم هو أن تطهّر الروح من أثقال المادة والجسد ولا يكون إلاّ بالموت، لذا يسيطر على الشاعر حسّ القهر الذي تلخّصه عبارة ((رغم الأنف)) في قوله:

((وأُرْجِعْتُ رَغْمَ الأَنْفِ لِلعَالمِ السّفلِي)) (43)

وهكذا وجد بعض الشعراء في توجّههم إلى عالم السماء والروح والأمل في تحقيق الخلاص المنشود الذي كانوا يحلمون به، وإن تباينت تطلعاتهم إلى ذلك الخلاص ووسائلهم إليه، فالشعر والفنّ عند المعلوف والفقّي رسالة إنسانية تحمل هموم الأدب التي أثقلتها قيود الحياة الماديّة المعاصرة. وبدا النزوع الرومانتيكي واضحاً في أماني بعض الشعراء اليائسة من صلاح الأرض، فكان الموت أمنية للخلاص من أوضار المادّية العمياء كما بدا ذلك لدى الهوني.

ولم ينس الشعراء وهم يحلّقون في فضاءات النقاء والصفاء أن ينظروا لمجتمعاتهم نظرة الفاحص الناقد الذي يكشف ما فيها من زيف وفساد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكيالي، سامي، مجلة الحديث، المجلد 31، العدد 3-4-5-6-7-8-9-عام 1957.

(2) الحريري، محمد علي، الفراتي، وعالم النسيان، مجلة الفيصل، العدد 34-1980.

(3) المصدر السابق، العدد 3-4-ص: 142

(4)        المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص: 147.

(5)           المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص: 153.

(6)           المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص:154.

(7)        المصدر السابق، العدد 5، المجلد 31، ص: 267-268.

(8)           المصدر نفسه، العدد 6، المجلد 31، ص: 349.

(9)           المصدر نفسه، العدد 7 المجلد 31، ص: 433

(10)الفراتي، محمد، النفحات، ص: 300.

(11)المصدر نفسه، ص: 303

(12)     أيوب، رشيد، الأيوبيات، دار بيروت، دار صادر، لبنان، 1959، ص: 148-156.

(13)المصدر نفسه، ص: 148.

(14)             المصدر نفسه، ص: 152.

(15)             المصدر نفسه، ص 153-154.

(16)       معلوف، فوزي، على بساط الريح، دار صادر، دار بيروت، 1958، بيروت، لبنان.

(17)المصدر نفسه، ص 63.

(18)     المصدر نفسه، ص70.

(19)     المصدر نفسه، ص79.

(20)المصدر نفسه، ص: 93-94.

(21)     المصدر نفسه ص: 111

(22)المصدر نفسه، ص :119.

(23)     المصدر السابق، ص 151.

(24)المصدر نفسه، ص158.

(25)     المقدسي، أنيس، المعري يبصر، مجلة المورد الصافي، العدد 10، بيروت، 1921، ص: 329-335.

(26)المصدر السابق، ص 329.

(27)     سترٌ: هكذا وردت في النص، والصواب بالكسر لأن تمييز كم الخبرية مجرور.

(28)     المصدر نفسه، ص: 330.

(29)     المصدر نفسه، ص: 332.

(30)المصدر نفسه، ص: 334.

(31)     المصدر نفسه، ص:335.

(32)المصدر نفسه، ص: 335.

(33)     ساسي، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، القاهرة، 1951، ص:50.

(34)     المصدر السابق: ص:51.

(35)     المصدر نفسه، ص:51.

(36)المصدر نفسه، ص:53.

(37)     فقي، محمد حسن، الأعمال الكاملة، مجلد 1، الدار السعودية للنشر، الرياض، السعودية، ص: 80-84.

(38)المصدر نفسه، ص: 81.

(39)     المصدر السابق: ص:81.

(40)المصدر نفسه، ص:83.

(41)الهوني، إبراهيم، الديوان، مكتبة الأندلس، بنغازي، ليبيا، ط/أولى، 1996.

(42)المصدر السابق، ص: 40.

(43)المصدر نفسه، ص: 40.

 

 

 

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.