أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-6-2019
6434
التاريخ: 6-5-2019
41265
التاريخ: 6-5-2019
5297
التاريخ: 20-6-2019
3033
|
قال تعالى : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف : 85 - 87] .
عطف سبحانه على ما تقدم من القصص ، قصة شعيب ، فقال {وإلى مدين} أي : وأرسلنا إلى مدين {أخاهم شعيبا} ، وقيل : إن مدين ابن إبراهيم الخليل ، فنسبت القبيلة إليه . قال عطاء : هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم . وقال قتادة : هو شعيب بن بويب . قال ابن إسحاق : هو شعيب بن ميكيل بن يشحب بن مدين بن إبراهيم . وأم ميكيل بنت لوط . وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وهم أصحاب الأيكة . وقال قتادة : أرسل شعيب مرتين إلى مدين مرة ، وإلى أصحاب الأيكة مرة .
{قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم} قد مر تفسيره {فأوفوا الكيل والميزان} أي : أتموا ما تكيلونه على الناس بالمكيال ، وما تزنونه عليهم بالميزان ، ومعناه : أدوا حقوق الناس على التمام في المعاملات . {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} أي : لا تنقصوهم حقوقهم . وقال قتادة ، والسدي :
البخس : الظلم ، ومنه المثل {تحسبها حمقاء وهي باخس} .
{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} يعني : لا تعملوا في الأرض بالمعاصي واستحلال المحارم ، بعد أن أصلحها الله بالأمر والنهي ، وبعثة الأنبياء ، وتعريف الخلق مصالحهم . وقيل : لا تفسدوا بأن لا تؤمنوا ، فيهلك الله الحرث والنسل . {ذلكم} الذي أمرتكم به {خير لكم} وأعود عليكم {إن كنتم مؤمنين} أي : مصدقين بالله .
وإنما علق خيريته بالإيمان ، وإن كان هو خيرا على كل حال ، من حيث إن من لا يكون مؤمنا بالله ، وعارفا بنبيه ، لم يمكنه أن يعلم أن ذلك خير له ، فكأنه قال لهم : كونوا مؤمنين لتعلموا أن ذلك خير لكم . ويمكن أن يكون المراد : لا ينفعكم إيفاء الكيل والوزن ، إلا بعد أن تكونوا مؤمنين .
وقال الفراء : لم يكن لشعيب معجزة على نبوته ، لأن الله تعالى لم يذكر له دلالة في القرآن ، وهو غلط ، لأنه لا يجوز أن يخلي الله تعالى نبيا عن معجزة . هذا وقد قال سبحانه : {قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا} فجاء بالفاء جوابا للجزاء .
ويجوز أن يكون له معجزات ، وإن لم تذكر في القرآن ، كما أن أكثر آيات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته ، غير مذكورة في القرآن . ولم يوجب ذلك نفيها .
{ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} قيل في معناه أقوال أحدها أنهم كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيبا للإيمان به ، فيخوفونه بالقتل ، عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد . وثانيها أنهم كانوا يقطعون الطريق ، فنهاهم ، عن أبي هريرة ، وعبد الرحمن بن زيد ، ويمكن أن يكونا أرادا به أنهم كانوا يقطعون الطريق على الناس عن قصد شعيب ، فيرجع إلى معنى القول الأول وثالثها : إن المراد لا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين ، فتطلبون له العوج ، بإيراد الشبه ، وتقولون لشعيب إنه كذاب ، فلا يفتننكم عن الدين وتتوعدونه .
{وتصدون عن سبيل الله من آمن به} أي : تمنعون عن دين الله ، من أراد أن يؤمن به من الناس {وتبغونها عوجا} الهاء راجعة إلى {السبيل} أي : تبغون السبيل عوجا عن الحق ، وهو أن تقولوا : هذا كذب ، وهذا باطل ، وما أشبه ذلك ، عن قتادة . وقيل : معناه تلتمسون لها الزيغ ، عن مجاهد . وقيل : معناه لا تستقيمون على طريق الهدى ، عن الحسن . وقيل : تريدون الإعوجاج ، والعدول عن القصد ، عن الزجاج .
{واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} أي : كثر عددكم . قال ابن عباس : وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط ، فولدت حتى كثر أولادها . قال الزجاج : وجائز أن يكون {كثركم} جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء . وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وإقدار ، فكثرهم . وجائز أن يكون عددهم قليلا فكثرهم .
{وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} يعني : فكروا في عواقب أمر عاد ، وثمود ، ولوط ، وإنزال العقاب بهم ، واستئصال شأفتهم ، وما حل بهم من البوار {وإن كان طائفة} أي : جماعة {منكم آمنوا بالذي أرسلت به} أي : صدقوني في رسالتي ، وقبلوا قولي {وطائفة لم يؤمنوا} لم يصدقوني {فاصبروا حتى يحكم الله بيننا} خاطب الطائفتين ، ومعناه : لا يغرنكم تفرق الناس عني ، فإن جميل العاقبة لي ، وسيجزي الله كل واحد من الفريقين بما يستحقه على عمله في الدنيا ، أو الآخرة دون الدنيا {وهو خير الحاكمين} لأنه لا يجوز عليه الجور ، ولا المحاباة في الحكم ، وهذا وعيد لهم .
قال البلخي : أمرهم في هذه الآية بالكف عما كانوا يفعلون من الصد عن الدين ، والإيعاد عليه ، والكف عنه خير ورشد ، ولم يأمرهم بالمقام على الكفر .
وفي ذلك دلالة على أنه ليس كل أفعال الكفار كفر ومعصية ، كما يذهب إليه بعض أهل النظر .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 302-304 .
{وإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهً ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} .
مر نظيره في الآية 59 من هذه السورة . وشعيب من أنبياء العرب كهود وصالح ، وأهل مدين عرب ، وكانوا يسكنون أرض معان من أطراف الشام .
{قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . البينة كل ما يتبين به الحق ، سواء أكان برهانا عقليا ، أم معجزة خارقة للعادة ، وليس من شك ان شعيبا قد جاء قومه بمعجزة تدل على نبوته ، والا كان متنبئا ، لا نبيا . ولا نص في القرآن يدل على نوع هذه المعجزة ، فتعيينها بالذات كما في بعض التفاسير قول على اللَّه بغير علم .
{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزانَ ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} . ويومئ هذا النص إلى انهم كانوا يسيئون المعاملة في البيع والشراء ، وان ذلك كان فاشيا فيهم ، ولذلك أمرهم بإيفاء الكيل والميزان بعد أن أمرهم بتوحيد اللَّه ، ثم أمرهم بالعدل وعدم البخس في جميع الحقوق مادية كانت كالمبيعات ، أو معنوية كالعلم والأخلاق ، فلا يصفون العالم بالجهل ، والأمين بالخيانة .
{ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} . مر تفسيره في الآية 56 من هذه السورة ، فقرة اللَّه أصلح الأرض والإنسان أفسدها {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ذلك إشارة إلى الخمسة المتقدمة ، وهي عبادة اللَّه ، والوفاء بالكيل والوزن وعدم البخس والإفساد .
{ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وتَبْغُونَها عِوَجاً} . هذا بيان وتفسير لقوله : ولا تفسدوا في الأرض لأن معناه دعوا الناس وشأنهم ، ولا تلقوا عليهم الشبهات ، ولا تتوعدوهم وتهددوهم ان أرادوا الإيمان باللَّه ورسوله ، ولا تمنعوا من آمن أن يقيم شعائر الدين ، وتصدوه عن طريق اللَّه القويم ، وتحاولوا أن تحملوا الناس على سلوك الطريق العوجاء التي تسيرون عليها . . وأوضح تفسير لهذه الآية وأوجزه ما روي عن ابن عباس انهم كانوا يقعدون على الطريق ، ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ، ويقولون لهم انه كذاب ، فلا يفتننكم عن دينكم .
{واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} . جعلهم اللَّه أغنياء بعد أن كانوا فقراء ، وأقوياء بعد أن كانوا ضعفاء ، وكثيرين بعد أن كانوا أقلاء ، فوجبت عليهم الطاعة والشكر للَّه {وانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي وإلا أصابكم ما أصاب من أفسد الأرض مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط .
{وإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا} . آمن بشعيب جماعة ، وكفر به آخرون ، فدعا الجميع إلى التعايش السلمي ، وان تترك كل طائفة وشأنها ، ولا يتعرض أحد لأحد بأذى ، سواء اختار الكفر ، أم الإيمان ، ثم تنتظر الطائفتان إلى ان يحكم اللَّه بينهما {وهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} . ولا رد لهذا المنطق ، وبأي شيء ترد من يقول لك : انتظر فيك حكم اللَّه ؟ .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 356-357 .
قوله تعالى : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف : 85] الآية معطوف على القصة الأولى وهي قصة نوح (عليه السلام) ، وقد بنى (عليه السلام) دعوته على أساس التوحيد كما بناها عليه من قبله من الرسل المذكورين في القصص المتقدمة .
وقوله : {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } [الأعراف : 85] يدل على مجيئه بآية تدل على رسالته ولكن الله سبحانه لم يذكر ذلك في كتابه وليست هذه الآية هي آية العذاب التي يذكرها الله تعالى في آخر قصته فإن عامة قومه من الكفار لم ينتفعوا بها بل كان فيها هلاكهم ولا معنى لكون آية العذاب آية للرسالة مبينة للدعوة .
على أنه يفرع قوله : {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف : 85] الآية على مجيء الآية ظاهرا ، وإنما يستقيم الدعوة إلى العمل بالدين قبل نزول العذاب وتحقق الهلاك . وهو ظاهر .
وقد دعاهم أولا بعد التوحيد الذي هو أصل الدين إلى إيفاء الكيل والميزان وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الإفساد في المعاملات رائجا فيهم شائعا بينهم .
ثم دعاهم ثانيا بقوله : {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف : 85] إلى الكف عن الإفساد في الأرض بعد ما أصلحها الله بحسب طبعها ، والفطرة الإنسانية الداعية إلى إصلاحها كي ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة ، والإفساد في الأرض وإن كان بحسب إطلاق معناه يشمل جميع المعاصي والذنوب مما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله وما بعده يخصه - تقريبا - بالإفساد الذي يسلب الأمن العام في الأموال والأعراض والنفوس كقطع الطرق ونهب الأموال وهتك الأعراض وقتل النفوس المحترمة .
ثم علل دعوته إلى الأمرين بقوله : {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 85] أما كون إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم خيرا فلأن حياة الإنسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الأفراد بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته ، وأخذ ما يعادله مما يتمم به نقصه في ضروريات الحياة وما يتبعها ، وهذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الأشياء ومقاديرها على ما هي عليه فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله ، وهو شيوعه ، وإذا شاع البخس والغش والغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفاء والردي مكان الجيد ، والخليط مكان الخالص ، وبالآخرة كل شيء محل كل شيء بأنواع الحيل والعلاجات كان فيه هلاك الأموال والنفوس جميعا .
وأما كون الكف عن إفساد الأرض خيرا لهم فلأن سلب الأمن العام يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الإنسانية .
فالمعنى : إيفاء الكيل والميزان وعدم البخس والكف عن الفساد في الأرض خير لكم يظهر لكم خيريته إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي ، أو المعنى : ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق .
وربما قيل : إن المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فإن غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه وخسرانه وضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيوية بحسب الحقيقة لأن انتفاعه إنما هو انتفاع في موطن خيالي وهو الحياة الدنيا التي هي لعب ، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون .
هذا كله على تقدير كون المشار إليه بقوله : ﴿ذلكم﴾ هو إيفاء الكيل وما بعده كما هو ظاهر السياق ، وأما أخذ الإشارة إلى جميع ما تقدم وجعل المراد بالإيمان هو الإيمان المصطلح دون الإيمان اللغوي كما احتمله بعضهم فهو أشبه باشتراط الشيء بنفسه لرجوع المعنى إلى نحو قولنا إن كنتم مؤمنين فالعبادة لله وحده بالإيمان به وإيفاء الكيل والميزان وعدم الفساد في الأرض خير لكم .
ويرد على الوجهين الأخيرين جميعا أن ظاهر قوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ثبوت اتصافهم بالإيمان قبل حال الخطاب فإنه مقتضى تعليق الحكم بقوله : ﴿كنتم مؤمنين﴾ المؤلف من ماضي الكون الناقص واسم الفاعل من الإيمان ، المقتضي لاستقرار الصفة فيهم زمانا ، ولا يخاطب بمثل هذا المعنى القوم الذين فيهم الكافر والمؤمن والمستكبر والمنقاد ولو كان كما يقولون لكان من حق الكلام أن يقال : ذلكم خير لكم إن آمنتم أو أن تؤمنوا فالظاهر أنه لا محيص من كون المراد بالإيمان غير الإيمان المصطلح .
قوله تعالى : {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف : 86] الآية ظاهر السياق أن ﴿توعدون وتصدون﴾ حالان من فاعل ﴿لا تقعدوا﴾ وقوله ﴿وتبغونها﴾ حال من فاعل ﴿تصدون﴾ .
ثم دعاهم ثالثا إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم الذي هو الدين فإن في الكلام تلويحا إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب (عليه السلام) ويوعدونهم على إيمانهم به والحضور عنده والاستماع منه وإجراء العبادات الدينية معه ، ويصرفونهم عن التدين بدين الحق والسلوك في طريقة التوحيد وهم يسلكون طريق الشرك ، ويطلبون سبيل الله الذي هو دين الفطرة عوجا .
وبالجملة كانوا يقطعون الطريق على الإيمان بكل ما يستطيعون من قوة واحتيال فنهاهم عن ذلك ، ووصاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ويعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الأمم الغابرة ، وما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة السوء .
فقوله : {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف : 86] كلام مسوق سوق العظة والتوصية وهو يقبل التعلق بجميع ما تقدم من الأوامر والنواهي فقوله : {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} أمر بتذكر تدرجهم من القلة إلى الكثرة بازدياد النسل فإن ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الإنساني لأن الإنسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة والسعادة العالية الإنسانية التي يمتاز بها عن سائر الأنواع الحيوانية وغيرها اقتضت أن تهب العناية الإلهية له أدوات وقوى مختلفة وتركيبا وجوديا خاصا لا يستطير أن يقوم بضروريات حوائجها العجيبة المتفننة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح وغيرها تعاضدا في الفكر والإرادة والعمل .
ومن المعلوم أنه كلما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوة المركبة الاجتماعية ، واشتدت في فكرتها وإرادتها وعملها فأحست وشعرت بدقائق الحوائج ، وتنبهت للطائف من الحيل لتسخير القوى الطبيعية في رفع نواقصها .
فمن المنن الإلهية أن النسل الإنساني آخذ دائما في الزيادة متدرج من القلة إلى الكثرة ، وذلك من الأركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الأمم العظيمة كالشراذم القليلة التي تتخطف من كل جانب ، ولا الأقوام والعشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة التي لا تستقل في شأن من شئونها السياسية والاقتصادية والحربية وغيرها مما يوزن بزنة العلم والإرادة والعمل .
وأما عاقبة المفسدين فيكفي في التبصر بها ما نقل عن عواقب أحوال الأمم المستعلية المستكبرة الطاغية التي ملأت القلوب رعبا ، والنفوس دهشة ، وخربت الديار ، ونهبت الأموال ، وسفكت الدماء ، وأفنت الجموع ، واستعبدت العباد ، وأذلت الرقاب .
مهلهم الله في عتوهم واعتدائهم حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم ، واستووا على أريكة شوكتهم غرتهم الدنيا بزينتها واجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقل واشتغلوا بملاهي الحياة والعيش واتخذوا إلههم هواهم وأضلهم الله على علم فسلبوا القدرة والإرادة ، وحرموا النعمة فتفرقوا أيادي سبأ .
فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة والفراعنة والأكاسرة والفغافرة وغيرهم لم يبق منهم إلا أسماء إن لم تنس ، ولم تثبت من هيمنتهم إلا أحاديث فمن السنة الإلهية الجارية في الكون أن تبتنى حياة الإنسان على التعقل فإذا تعدى ذلك وأخذ في الفساد والإفساد أبى طباع الكون ذلك ، وضادته الأسباب بقواها ، وطحنته بجموعها ، وضربت عليه بكل ذلة ومسكنة .
قوله تعالى : {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} [الأعراف : 87] إلى آخر الآية .
ثم دعاهم رابعا إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالإيمان والكفر فإنه كان يوصيهم جميعا قبل هذه الوصية بالاجتماع على الإيمان بالله والعمل الصالح ، وكأنه أحس منهم أن ذلك مما لا يكون البتة ، وأن الاختلاف كائن لا محالة ، وأن الملأ المستكبرين من قومه وهم الذين كانوا يوعدون ويصدون عن سبيل الله سيأخذون في إفساد الأرض وإيذاء المؤمنين ويوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم ، وتسلط الناس على قلوبهم فأمرهم جميعا بالصبر وانتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم وهو خير الحاكمين .
فإن في ذلك صلاح المجتمع ، أما المؤمنون فلا يقعون في البأس من الحياة الآمنة ، والاضطراب والحيرة من جهة دينهم ، وأما الكفار فلا يقعون في ندامة الإقدام من غير رؤية ومفسدة المظلمة على جهالة فحكم الله خير فاصل بين الطائفتين فهو خير الحاكمين لا يتساهل في حكم إذا حان حينه ، ولا يجور في حكم إذا ما حكم .
فقوله : ﴿فاصبروا﴾ بالنسبة إلى الكفار أمر إرشادي ، وبالنسبة إلى المؤمنين أمر مولوي أو إرشادي ، وهو إرشاد الجميع إلى ما يصلح حالهم .
____________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 190 - 194 .
رسالة شعيب في مدين :
في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا خامسا من قصص الأقوام الماضين ، ومواجهة الأنبياء العظام معهم ، وهذا الفصل يتناول قوم شعيب .
بعث شعيب عليه السلام الذي ينتهي نسبه ـ حسب كتب التاريخ ـ إلى إبراهيم عبر خمس طبقات ، إلى أهل مدين. وهي مدينة من مدن الشام ، كان أهلها أهل تجارة وترف قد سادت فيهم الوثنية ، وكذا الحيلة ، والتطفيف في المكيال والميزان ، والبخس في المعاملة.
وقد جاء تفصيل هذه المواجهة بين هذا النّبي العظيم وبين أهل مدين ، في سور متعددة من القرآن الكريم ، وبخاصّة في سورة «هود» و «الشعراء» ، ونحن تبعا للقرآن الكريم سنبحث بتفصيل هذه القصّة في ذيل آيات سورة هود إن شاء الله. أمّا هنا فنذكر شيئا عن هذه القصّة باختصار طبقا للآيات المطروحة هنا.
في البداية يقول سبحانه : ولقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} .
روى جماعة من المفسّرين ، مثل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في تفسيره المعروف ، أن «مدين» في الأصل اسم لأحد أبناء إبراهيم الخليل ، وحيث أنّ أبناءه وأحفاده سكنوا في أرض على طريق الشام سميت تلك الأرض «مدين».
هذا وقد أوضحنا السرّ في استعمال لفظة «أخاهم» في الآية (65) من هذه السورة.
ثمّ إنّه تعالى أضاف : إنّ شعيبا مثل سائر الأنبياء بدأ دعوته بمسألة التوحيد و {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} .
وقال : إنّ هذا الحكم مضافا إلى كونه من وحي العقل ، ثابت بواسطة الأدلة الواضحة التي جاءتهم من جانب الله أيضا : {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}.
أمّا أنّ هذه «البيّنة» ما هي؟ فإنّه لم يرد كلام حولها في الآيات الحاضرة ، ولكن الظاهر أنّها إشارة إلى معجزات شعيب عليه السلام .
ثمّ أنّه عليه السلام بعد الدعوة إلى التوحيد أخذ في محاربة المفاسد الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية السائدة فيهم ، وفي البدء منعهم من ممارسة التطفيف ، والغش في المعاملة ، يقول : {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} (2) .
وواضح أن تسرّب أيّ نوع من أنواع الخيانة والغش في المعاملات يزعزع بل ويهدم أسس الطمأنينة والثقة العامّة التي هي أهم دعامة لاقتصاد الشعوب وتلحق بالمجتمع خسائر غير قابلة للجبران . ولهذا السبب كان أحد الموضوعات الهامّة التي ركز عليها شعيب هو هذا الموضوع بالذات .
ثمّ يشير إلى عمل آخر من الأعمال الأثيمة ، وهو الإفساد في الأرض بعد أن أصلحت أوضاعها بجهود الأنبياء ، وفي ضوء الإيمان فقال : {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها}.
ومن المسلّم أنّه لا يستفيد أحد من إيجاد الفساد ومن الإفساد ، سواء كان فسادا أخلاقيا ، أو من قبيل فقدان الإيمان ، أو عدم وجود الأمن ، لهذا أضاف في آخر الآية قائلا : {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وكأنّ إضافة عبارة : «إن كنتم مؤمنين» إشارة إلى أنّ هذه التعاليم الاجتماعية والأخلاقية إنما تكون متجذرة ومثمرة إذا كانت نابعة من الإيمان ومستمدة من نوره. أمّا لو كانت قائمة على أساس سلسلة من ملاحظة المصالح المادية ، لم يكن لها بقاء ودوام.
وفي الآية اللاحقة يشير إلى رابع نصيحة لشعيب ، وهي منعهم عن الجلوس على الطرقات وتهديد الناس ، وصدّهم عن سبيل الله ، وتضليل الناس بإلقاء الشبهات وتزييف طريق الحق المستقيم في نظرهم ، فقال : {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ، وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً} .
وأمّا أنّه كيف كانوا يهدّدون الراغبين في الإيمان ، فقد ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات متعددة ، فالبعض احتمل أنّه كان ذلك عن طريق التهديد بالقتل ، وبعض آخر احتمل أنّه كان عن طريق قطع الطريق ونهب أموال المؤمنين ، ولكن المناسب مع بقية العبارات الأخرى في الآية هو المعنى الأوّل .
وفي ختام الآية جاءت النصيحة الخامسة لشعيب ، التي ذكّر فيها قومه بالنعم الإلهية لتفعيل حسّ الشكر فيهم ، فيقول : تذكّروا عند ما كنتم أفرادا قلائل فزادكم الله في الأفراد وضاعف من قوتكم : {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} .
ثمّ يلفت نظرهم إلى عاقبة المفسدين ونهاية أمرهم ومصيرهم المشؤوم حتى لا يتبعوهم في السلوك فيصابوا بما أصيبوا به ، فيقول : {وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
ويستفاد من الجملة الأخيرة أنّه على العكس من الدعايات غير المدروسة لتحديد النسل في هذه الأيّام فإنّ كثرة أفراد المجتمع ، يمكن أن تكون منشأ القوّة وعظمة وتقدم المجتمع في أكثر الموارد ، طبعا شريطة أن تضمن معيشتهم وفقا لبرامج منظمة ، من الناحية المادية والمعنوية .
إنّ آخر آية من الآيات المبحوثة هنا بمثابة إجابة على بعض استفهامات المؤمنين والكفار من قومه ، لأنّ المؤمنين ـ على أثر الضغوط التي كانت تتوجه إليهم من جانب الكفار ـ كان من الطبيعي أن يطرحوا هذا السؤال على نبيّهم : إلى متى نبقى في العذاب ونتحمل الأذى ؟
وكان معارضوهم ـ أيضا ـ والذين تجرأوا لأنّهم لم تصبهم العقوبة الإلهية فورا يقولون : إذا كنت من جانب الله حقّا فلما ذا لا يصيبنا شيء رغم كل ما نقوم به من إيذاء ومعارضة؟ فيقول لهم شعيب : إن كانت طائفة منكم آمنت بما بعثت به ، وأعرض أخرى فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا لغرور الكفار ، ويأس المؤمنين ، اصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فالمستقبل سوف يكشف عمن يكون على حق ، ومن يكون على باطل {وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ}.
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 423-426 .
2. البخس يعني نقص حقوق الأشخاص ، والنّزول عن الحد بصورة توجب الظلم والحيف .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|