الأحرفُ المشبَّهةُ بالفعل ستَّة، هي "إنَّ وأنَّ وكأنَّ ولكنَّ وليتَ ولعلَّ".
وحكمُها أنها تدخلُ على المبتدأ والخبرِ فتنصبُ الأولَ، ويُسمّى اسمَها، وترفعُ الآخرَ، ويُسمّى خبرَها، نحو "إن اللهَ رحيمٌ. وكأنّ العلمَ نورٌ".
(وسميت مشبهة بالفعل لفتح أواخرها، كالماضي، ووجود معنى الفعل في كل واحدة منها. فان التأكيد والتشبيه والاستدراك والتمني والترجي، هي من معاني الافعال).
ويجوزُ في (لعلَّ) أن يقالَ فيها (علَّ) كقوله
*فَقُلْتُ عساها نارُ كأْسٍ وعَلّها * تَشَكّى، فآتي نَحْوَها فأعُودُها*
وفيها لُغاتٌ أُخَرُ قليلةُ الاستعمال.
وفي هذا الفصل ثمانيةَ عشرَ مبحثاً.
مَعاني الأَحرُفِ المُشَبَّهَةِ بالفعْلِ:
معنى "إنَّ وأنَّ" التوكيدُ، فهما لتوكيدِ اتصافِ المُسنَدِ إليه بالمُسند.
ص366
ومعنى "كأنَّ" التشبيهُ المؤكدُ. لأنها في الاصل مُركبةٌ من "أنَّ" التوكيدية وكافِ التشبيه، فاذا قلتَ "كأنّ العلمَ نورٌ" فالاصلُ "إنَّ العلمَ كالنور" ثم إنهم لما أرادوا الاهتمامَ بالتشبيه، الذي عَقَدوا عليه الجملة، قدّموا الكافَ، وفتحوا همزةَ "إنّ"، مكان الكاف، التي هي حرفُ جرّ، وقد صارت وإيّاها حرفاً واحداً يُرادُ به التشبيهُ المؤكد.
ومعنى "لكنَّ" الاستدراكُ، والتوكيد، فالاستدراكُ نحو "زيدٌ شجاعٌ، ولكنه بخيل"، وذلك لانَّ من لوازم الشجاعةِ الجودَ، فاذا وصفنا زيداً بالشجاعة، فرُبما يُفهمُ أنهُ جوادٌ أيضاً، لذلك استدركنا بقولنا "لكنه بخيل". والتوكيدُ نحو "لو جاءني خليلٌ لأكرمتُهُ، لكنه لم يجيء"، فقولك لو جاءني خليلٌ لأكرمتُه" يفهم منه أنه لم يجيء، وقولك "لكنه لم يجيء" تأكيدٌ لنفي مجيئه
ومعنى "ليتَ" التمني، وهو طلبُ مالا مطمع فيه، أو ما فيه عُسرٌ، فالأول كقول الشاعر
*أَلا لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوماً * فأُخبرَهُ بما فَعَل المَشِيبُ*
والثاني كقول المعسر "ليتَ لي ألفَ دينارٍ".
وقد تُستعمل في الامر الممكن، وذلك قليلٌ، نحو "ليتك تذهب".
ومعنى (لعلَّ) الترجّي والاشفاقُ. فالترجي طلبُ الامرِ المحبوب، نحو "لعلَّ الصديقَ قادمٌ". والاشفاقُ هو الحذَرُ من وقوع المكروه، نحو "لعلّ المريضَ هالكٌ". وهي لا تُستعملُ إلاّ في الممكن.
وقد تأتي بمعنى (كي)، التي للتعليل، كقولك "إبعثْ إليّ بدابتك، لعلي أركبها"، أي كي أركبها. وجعلوا منه قوله تعالى {لعلكم تتَّقون. لعلّكم تعقلون. لعلّكم تَذكّرون}، اي "كي تَتقوا، وكي تَعقلوا، وكي تَتذكّروا".
وقد تأتي ايضاً بمعنى الظنَّ، كقولك "لعلي أزورُك اليوم". والمعنى أظنَّني أزورك. وجعلوا منه قولَ امريء القيس
*وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ * لَعَلَّ مَنايانا تَحُولَنَّ أَبْؤُسا*
وبمعنى (عسى)، كقولك (لعلَّكَ أن تجتهدَ). وجعلوا منه قولَ مُتَمّمٍ
*لَعَلَّكَ يَوْماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ * عَلَيْكَ، منَ اللاَّتي يَدَعْنَكَ أَجدَعا*
بدليل دخول (أنْ) في خبرها، كما تدخل في خبر (عسى).
الْخَبرُ المُفْرَدُ، والْجُمْلَةُ، والشبيهُ بالجملة:
يقع خبر الاحرفِ المشبّهة بالفعل مفرداً (أي غيرَ جملةٍ ولا شبْهَها) نحو "كأنَّ النّجمَ دينارٌ"، وجملةً فعليّةً، نحو "لعلك اجتهدتَ. وإنَّ العلمَ يُعَزَّزُ صاحبهُ"، وجملة اسمية، نحو "إنَّ
ص367
العالمَ قدرُهُ مرتفعٌ" وشِبْهَ جُملةٍ (وهو أن يكون الخبر مُقدَّراً مدلولاً عليه بظرفٍ أو جارّ ومجرورٍ يتعلقانِ بهِ)، نحو "إنّ العادلَ تحتَ لِواءِ الرَّحمن، وإن الظالمَ في زُمرة الشيطان".
(والخبر هنا يصح أن تقدره مفرداً ككائن وموجود، وأن تقدره جملة ككان ووجد، أو يكون ويوجد. فهو مفرد. باعتبار تقديره مفرداً، وجملة، باعتبار تقديره جملة، فالحقيقة فيه أنه شبيه بالمفرد وبالجملة، وتسميته بشبه الجملة فيها اكتفاء واقتصار).
حَذْفُ خَبَرِ هذهِ الأَحرُف:
يجوز حذف خبرِ هذه الاحرفِ. وذلك على ضربينِ جائز وواجب
فيُحذَفُ جوازاً، اذا كان كوناً خاصاً (أي من الكلماتِ التي يُرادُ بها معنًى خاصّ)، بشرطِ أن يدُلَّ عليه دليلٌ، كقوله تعالى {إنَّ الذينَ كفروا بالذّكر لمّا جاءهم. وانهُ لكتابٌ عزيزٌ}.
(أي إن الذين كذبوا بالذكر معاندون، أو هالكون، أو معذبون).
وقال الشاعر
*أَتَوْنِي، فَقالوا يا جَميلُ، تَبَدَّلتْ * بُثَيْنَةُ أَبْدالاً، فَقُلْتُ لَعَلَّها*
(أي لعلها تبدَّلت، أو لعلها فعلت ذلك).
ويحذفُ وجوباً، اذا كان كوناً عاماً (أي من الكلمات التي تدُلُّ على وجودٍ أو كونٍ مُطلقَينِ، فلا يُفهَمُ منها حَدَثٌ خاصٌّ أو فعلٌ معيَّنٌ، ككائنٍ، أو موجود، أو حاصلٍ) وذلك في موضعينِ
(1) الاولُ بعدَ "ليتَ شِعري"، اذا وَلِيَها استفهامٌ، نحو "ليتَ شِعري هل تنهضُ الأمةُ؟ وليتَ شِعري متى تنهضُ؟"، قال الشاعر
*ألاَ لَيْتَ شِعْري كَيْفَ جادَتْ بِوَصْلِها؟ * وكيفَ تُراعي وُصْلةَ المُتَغَيِّبِ*
(أي ليت شعري (أي علمي) حاصل. والمعنى ليتني أشعر بذلك، أي أعلمه وأدريه. وجملة الاستفهام في موضع نصب على أنها مفعول به لشعري، لأنه مصدر شعر).
(2) أن يكونَ في الكلام ظرفٌ أو جار ومجرورٌ يتعلقانِ به، فيُستغنى بهما عنهُ، نحو "إنَّ العلمَ في الصدور. وانَّ الخيرَ أمامك".
(فالظرف والجار متعلقان بالخبر المحذوف المقدر بكائن أو موجود أو حاصل).
تَقَدُّمُ خبَرِ هذِه الأَحرُف:
لا يجوزُ تقدُّمُ خبرِ هذه الاحرف عليها، ولا على اسمها.
ص368
اما معمولُ الخبرِ، فيجوزُ أن يتقدَّم على الاسم، ان كان ظرفاً أو مجروراً بحرف جرٍّ، نحو "إنَّ عندَك زيداً مُقيمٌ"، قال الشاعر
*فَلا تَلْحَني فيها، فإنَّ بِحُبِّها * أَخاكَ مُصابُ الْقَلْبِ جُمٌّ بَلابِلُهْ*
ومن ذلك أن يكون الخبرُ محذوفاً مدلولاً عليه بما يتعلقُ به من ظرفٍ مأو جارٍّ ومجرورٍ مُتقدمين على الاسم، نحو "إنَّ في الدَّار زيداً"، ومنهُ قولهُ تعالى "إنَّ فيها قوماً جبّارينَ، وقولهُ "إنَّ مع العُسرِ يُسراً".
(فالظرف والجار متعلقان بالخبر المحذوف غير أنه يجب أن يقدر متأخراً عن الاسم، إذ لا يجوز تقديمه عليه. كما علمت. وليس الظرف أو الجار والمجرور هو الخبر، كما يتساهل بذلك كثير من النحاة، وإنما هما معمولان للخبر المحذوف، لأنهما متعلقان به).
ويجبُ تقديمُ معمولِ الخبر، إن كان ظرفاً أو مجروراً، في موضعين
(1) أن يَلزمَ من تأخيره عودُ الضمير على متأخرٍ لفظاً ورتبةً وذلك ممنوعٌ نحو "إنَّ في الدَّار صاحبَها".
(فلا يجوز أن يقال "ان صاحبها في الدار)"، لأن "ها" عائدة على الدار. وهي متأخرة لفظاً، وكذلك هي متأخرة رتبة، لأن معمول الخبر رتبته التأخير كالخبرِ".
(2) أن يكون الاسمُ مُقترِناً بلامِ التأكيد، كقوله تعالى {وإنَّ لنا للآخرة والأولى}، وقولهِ {إنَّ في ذلك لَعِبْرةً لأولي الأبصارِ}.
أما تقديمُ معمولِ الخبرِ على الخبر نفسهِ، بحيثُ يَتوَّسطُ بينَ الاسمِ والخبر، فجائزٌ، سواءٌ أكانَ معمولهُ ظرفاً أو مجروراً أم غيرَهما، فالاولُ نحو "إنكَ عندَنا مقيمٌ"، والثاني نحو "إنكَ في المدرسة تتعلّمُ"، والثالث نحو "إنَّ سعيداً دَرْسَهُ يكتبُ".
فائدة
متى جاء بعد "إن" أو إحدى أخواتها ظرف أو جار ومجرور، كان اسمها مؤخراً. فليتنبه الطالب الى نصبه، فان كثيراً من الكتاب والمتكلمين يخطئون فيرفعونه، لتوهمهم أنه خبرها نحو "إن عندك لخبراً"، ونحو "لعل في سفرك خيراً".
(5) لامُ التأْكيدِ بعدَ "إنَّ" المَكسورةِ الهمزة:
تختصُّ "إنَّ"، المكسورةُ الهمزةِ، دونَ سائرِ أخواتها، بجوازِ دخولِ لامِ التأكيد، وهي التي
ص369
يُسمونها (لامَ الابتداءِ) على اسمها، نحو "إنَّ في السماءِ لخَبَراً، وإنَّ في الارض لَعِبَراً"، وعلى خبرها نحو "إنَّ الحقَّ لمنصورٌ، وعلى معمول خبرها، نحو "إنه للخيرَ يفعلُ"، وعلى ضمير الفصلِ نحو "إنَّ المجتهدَ لَهُوَ الفائزُ".
شَروطُ ما تَصحَبُهُ لامُ التأكيد:
(1) يُشترطُ في دخول لام التأكيد على اسم "إنَّ" أن تقع بعدَ ظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ يتعلقان بخبرها المحذوف، نحو "إن عندَك لخَيراً عظيماً، وإنَّ لك لخُلُقاً كريماً".
(فان وقع قبلهما لم يجز اقترانه باللام فلا يقال "إن لخيراً عندك، وإن لخلقاً كريماً لك").
(2) يُشترط في دخولها على الخبر أن لا يقترنَ بأداةِ شرطٍ أو نفي، وأن لا يكون ماضياً مًتصرفاً مُجرَّداً من "قد". فان كان الخبرُ واحداً منها لم يَجُز دخولُ هذه اللام عليه. فمثالُ المستكملِ للشرط "{إن ربي لسميع الدُّعاء}. {وإنَّ رَبَّكَ لَيعلمُ}. {وإنَّا نحنُ نُحيي الموتى}".
ومتى استَوفى خبرُ "إنَّ" شروط اقترانه بِلام التأكيد، جاز دخولها عليه، لا فرقَ أن يكون مفرداً، نحو "إنَّ الحقَ لمنصورٌ"، أو جملةً اسميَّةتً، نحو "إنَّ الحقَّ لصَوتُهُ مرتفعٌ، أو جملةً مضارعيّةً، نحو "إنَّ ربّكَ ليَحكُمُ بينهم"، أو جملةً ماضيَةً فعلها جامدٌ، نحو "إنك لَنِعْمَ الرجل"، أو متصرفٌ مقترنٌ بقد، نحو "إنَّ الفرَجَ لقدْ دَنا".
واذا حُذفَ الخبرُ، جازَ دخولُ هذهِ اللامِ على الظرف أو الجار المتعلّقينِ به، نحو "إن أخاكَ لعندي، وإنَّ أباكَ لَفي الدّار"، ومنهُ قولهُ تعالى {وانك لَعَلى خُلُقٍ عظيم}.
(3) يُشترطُ في دخولها على مفعول الخبر شرطان، الاول أن يتوسَّطَ بين اسمها وخبرها. والثاني ان يكونَ الخبرُ ممّا يَصلُحُ لدخول هذه اللامِ عليه، نحو "إنَّ سليماً لفي حاجتك ساعٍ، وإنه لَيومَ الجمعةِ آتٍ، وإنهُ لأمرَكَ يُطيعُ".
(4) أما ضميرُ الفصلِ، فلا يُشترطُ في دخولها عليه شيءٌ، كقوله تعالى {إنَّ هذا لَهُوَ القَصَصُ الحقُّ}.
(وضمير الفصل هو ما يؤتى به بين المبتدأ والخبر، أو بين ما أصله مبتدأ وخبر للدلالة على أنه خبر لا صفة. وهو يفيد تأكيد اتصاف المسند إليه بالمسند. وهو حرف لا محل له من الاعراب، على الأصح من أقوال النحاة، وصورته كصورة الضمائر المنفصلة وهو يتصرف تصرفها بحسب المسند اليه، إلا أنه ليس إياها.
ثم إن دخوله بين المبتدأ والخبر المنسوخين بكان وظن وأن واخواتهن تابع لدخوله بينهما
ص370
قبل النسخ، نحو "إن زهيراً هو الشاعر". وكان علي هو الخطيب وظننت عبد الله هو الكاتب).
(وضمير الفصل حرف كما قدمنا وإنما سمي ضميراً لمشابهته الضمير في صورته. وسمي ضمير فصل لأنه يؤتى به الفصل بين ما هو خبر أو صفة، لأنك إن قلت "زهير المجتهد"، جاز أنك تريد الإخبار وأنك تريد النعت. فان أردت أن تفصل بين الأمرين. وتبين أن مرادك الإخبار لا الصفة. أتيت بهذا الضمير للاعلان من أول الأمر بأن ما بعده خبر عما قبله لا نعت له، ثم انه يفيد تأكيد الحكم، لما فيه من زيادة الربط.
ومن العلماء من يسمي ضمير الفصل "عماداً" لاعتماد المتكلم أو السامع عليه في التفريق بين الخبر والصفة).
وقد شرحنا ضمير الفصل في الجزء الاول من هذا الكتاب، في الكلام على الضمائر، فراجعه.
شرحُ لامِ الابتداء
تدخلُ لامُ الابتداء في ثلاثة مواضع.
الاولُ في باب المبتدأ. وذلك في صورتين:
(1) ان تدخلَ على المبتدأ، والمبتدأ مُتقدّمٌ على الخبر، ودخولها عليه هو الاصل فيها نحو {لأنتم أشد رَهبةً في صُدورهم}. فان تأخرَ عن الخبر امتنعَ دخولها عليه، فلا يُقال "قائمٌ لَزيدٌ". وما سُمعَ من ذلك فلضَرورةِ الشعر، وهو شاذٌّ لا يُقاس عليه.
(2) ان تدخل على الخبر بشرط ان يتقدم على المبتدأ، نحو "لمُجتهدٌ انتَ" فان تأخرَ عنهُ امتنع دخولها عليه، فلا يقال "انت لمجتهدٌ". وما سُمعَ من ذلك فشادٌّ لا يُلتفتُ اليه. ومن العلماءِ من لا يُجيزُ دُخولها على خبر المبتدأ، سواءٌ أتقدَّمَ أم تأخر.
الموضع الثاني: في باب "إن" المكسورةِ الهمزة. وقد سبقَ انها تدخل على اسمها المتأخر، وعلى خبرها، اسماً كان، او فعلاً مضارعاً، او ماضياً جامداً أو ماضياً متصرفاً مقروناً بِقَدْ، أو جملة اسميَّة. وعلى الظرف والجارّ المُتعلقينِ بخبرها المحذوف دالين عليه، وعلى معمول خبرها.
الموضعُ الثالثُ: في غير بابيِ المبتدأ وإنّ. وذلك في ثلاث مسائل
(1) الفعلُ المضارع، نحو "لَتَنهض الأمة مُقتفيةً آثارَ جدودها".
(2) الماضي الجامد، نحو {لَبئسَ ما كانوا يعملون}.
ص371
(3) الماضي المتصرف المقرون بِقَدْ، نحو "لَقد كان لكمخ في يوسفَ وإخوتِهِ آياتٌ".
ومن العلماء من يجعلُ اللامَ الداخلةَ على الماضي، في هذا الباب، لامَ القسم فالقسم عنده محذوف، ومصحوب اللام جوابُه.
واعلم أنَّ للام الابتداء فائدتين.
الفائدة الأولى: توكيدُ مضمونِ الجملة المُثبتة. ولذا تُسمّى "لام التوكيد" وإنما يُسمونها لامَ الابتداء لأنها في الاصل، تدخل على المبتدأ، أو لأنها تقع في ابتداء الكلام.
وإذْ كانت للتوكيد فانها متى دخلت عليها "إنَّ" زحلقوها الى الخبر، نحو {إنَّ ربي لَسميع الدعاء"، وذلك كراهية اجتماع مُؤكدينِ في صدر الجملة، وهما "إنَّ واللام". ولذلك تُسمّى "اللامَ المزخلَقَةً أيضاً".
وإِذْ كانت هذه اللام للتوكيد في الإثبات، امتنعت من الدخول على المنفيِّ لفظاً أو معنى، فالاول نحو "انكَ لا تكذبُ"، والثاني نحو "إنك لو اجتهدتَ لأكرمتُكَ. وإنك لولا اهمالُكَ لَفُزتَ". فالاجتهادُ والإكرامُ مُنتفيانِ بعدَ "لو"، والفوزُ وحدَهُ مُنتفٍ بعدَ "لولا".
الفائدةُ الثانيةُ: تَخليصها الخبرَ للحال، لذلك كان المضارع بعدها خالصاً للزمان الحاضر، بعد أن كان مُحتملاً للحال والاستقبال.
واذْ كانت لتوكيد الخبرِ في الحال امتنعت من الماضي والمضارع المُستقبل، الا ان يكون الماضي جامداً او مُتصرِّفاً مقترناً بِقدْ. اما الجامدُ فلأنه لا يَدلُّ على حدثٍ ولا زمان. وأما المقترنُ بِقدْ فلأنّ (قد) تُقرِّبُ الماضيَ من الحال.
ولا فرقَ بينَ ان يكون المضارعُ المستقبلُ مسبوقاً بأداةٍ تَمحَضُه الاستقبالِ كالسين وسوفَ وأدواتِ الشرطِ الجازمة وغيرها، او غيرَ مسبوقٍ بها، وانما القرينةُ تدلُّ على استقباله، نحو "إنه يجيءُ غداً". وأما قوله تعالى {إنَّ ربكَ لَيحكُمُ بينَهم يوم القيامة}، فانما جازَ دخولُ اللام لأنَّ المستقبل هنا مُنزَّلٌ مَنزلةَ الحاضرِ لتحقُّق وقوعهِ، لأنَّ الحكمَ بينهم واقعٌ لا محالةَ. فكأنهُ حاضر، وكذا قولهُ تعالى {ولَسوفَ يُعطيكَ ربُّكَ فترضى}، فانَّ الإعطاءَ مُحقَّقٌ، فكأنه واقعٌ حالاً. وأما قوله عز وجلَّ على لسان يعقوبَ {انهُ ليحزُنُني ان تذهبوا به}، فانّ الذهابَ، وان كان مُستقبلاً فان أثرَهُ، وهو الحزنُ، حاضرٌ، فانهُ حَزِنَ لمُجرَّدِ علمهِ انهم ذاهبُون به، فلم يخرُج المضارعُ هنا، وهو (يُحزُنني)، عن كونهِ للحال.
ويرى بعض العلماء (وهمُ الكوفيُّون) انها لا تمحَضُ المضارع الحالَ، بل يجوز ان تدخل عَليه مُستقبل، بالأداة او بِدونها، وجعلوا الاستقبالَ في الآياتِ على حقيقته.
ص372
"ما" الكافَّةُ بعدَ هذهِ الأحرُف:
اذا لحقت (ما) الزائدةُ الاحرفَ المُشبّهةَ بالفعل، كفتّها عن العمل، فيرجعُ ما بعدها مبتدأً وخبراً. وتُسمّى (ما) هذه (ما الكافةَ) لأنها تَكُفُّ ما تلحقُهُ عن العمل، كقوله تعالى {إنما إِلهكُم إِلهٌ واحدٌ"}، ونحو {كأنما العلمُ نورٌ} و (لَعلَّما اللهُ يرحمُنا).
غير أنَّ (ليتَ) يجوزُ فيها الإِعمالُ والإِهمالُ، بعدَ أن تَلحقَها (ما) هذه، تقولُ (ليتما الشبابَ يعودُ) و (ليتما الشبابُ يعودُ). واعمالُها حينئذ أحسنُ من اهمالها. وقد رُوِيَ بالوجهينِ، نصبِ ما بعدَ (ليتما) ورفعه، قولُ الشاعرِ
*قالتْ أَلاَ لَيتَما هذا الحمامَ لنا * إلى حَمامَتِنا، أو نِصْفَهُ فَقَدِ*
(فالنصب على أن (ليتما) عاملة، و (ذا) اسمها، و "الحمام" بدل منه. والرفع على أنها مهملة مكفوفة بما، و (ذا) مبتدأ، و "الحمام" بدل منه. وكذا "نصفه" إن نصبت الحمام نصبته، وإن رفعته رفعته، لأنه معطوف عليه).
ومتى لحقت ( ما الكافَّة) هذهِ الاحرفَ زالَ اختصاصُها بالأسماء. فَلِذا أُهملت، وجازَ دخولُها على الجملة الفعليّة، كما تدخلُ على الجملة الاسميَّة، إلاَّ (ليتَ). فمن دخولها على الجملةِ الفعلية قولهُ تعالى {كأنما يُساقونَ الى الموت} وقول الشاعر
*أَعِدْ نَظَراً يا عَبْدَ قَيْسٍ، لَعَلَّما * أَضاءَتْ لكَ النَّارُ الحِمارَ المُقَيَّدا*
ومن دخولها على الجملة الاسميَّة قوله تعالى {قل انما انا بشرٌ مثلُكُم يُوحى اليَّ انما إلهكم إلهُ واحدٌ}، وقولهُ {إنما اللهُ إِلهٌ واحدٌ}.
وأما (ليتَ) فانها باقيةٌ على اختصاصها بالأسماءِ، بعدَ أن تلحقها (ما الكافةُ) فلا تدخلُ على الجُمل الفعليَّة، لذلك يُرَجَّحُ ان تبقى على عملها من نصب الاسمِ ورفعِ الخبر، كما تقدَّم.
فائدة وتنبيه:
(إن كانت (ما) اللاحقة لهذه الأحرف اسماً موصولاً، او حرفاً مصدرياً، فلا تكفها عن العمل، بل تبقى ناصبة للاسم رافعة للخبر. فان لحقتها (ما الموصولة) كانت (ما) اسمها منصوبة محلاً، كقوله تعالى {إن ما عندكم ينفد}، أي إن الذي عندكم ينفد. وإن لحقتها (ما المصدرية) كان ما بعدها في تأويل مصدر منصوب، على انه اسم "ان" نحو "إن ما تستقيم حسن"، أي ان استقامتك حسنة. وحينئذ تكتب (ما) منفصلة. كما رأيت. بخلاف (ما الكافة)، فانها تكتب متصلة كما عرفت فيما سلف. وقد اجتمعت "ما" المصدرية و "ما" الكافة في قول امرئ القيس:
ص373
*فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة * كفاني ولم أطلب، قليل من المال*
*ولكنما أسعى لمجد مؤثلٌ * وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي*
فما في البيت الاول مصدرية. والتقدير لو ان سعيي. وفي البيت الآخر زائدة كافة، أي ولكني أسعى لمجد مؤثل).
العَطْفُ على أسماء هذهِ الأَحرُف
اذا عطفتَ على اسماءِ الاحرف المشبَّهة بالفعل، عطفت بالنصب، سواءٌ أوقعَ المعطوفُ قبلَ الخبر ام بعدَهُ، فالاولُ نحو (إنَّ سعيداً وخالداً مسافرانِ)، والثاني نحو (إنَّ سعيداً مُسافرٌ وخالداً).
وقد يُرفعُ ما بعدَ حرف العطف، بعدَ استكمالِ الخبر، على انهُ مبتدأٌ محذوفُ الخبر، وذلك بعد (إنَّ وأنَّ ولكنَّ) فقطْ، فمثالُ (إنَّ)" (إنَّ سعيداً مسافرٌ وخالدٌ)، ومنهُ قولُ الشاعر
*فَمَنْ يَكُ لم يُنْجِبْ أَبُوهُ وأُمُّهُ * فَإنَّ لَنا الأُمَّ النَّجيةَ، والأَبُ*
وقول الآخر
*إنَّ الخِلافَة والمُروءَةَ فيهمُ * والمَكْرُماتُ وسادةٌ أطهارُ*
ومثالُ (أنَّ) قوله تعالى (واذانٌ من الله ورسولهِ الى الناس يومَ الحجِّ الاكبرِ أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركينَ، ورسولهُ).
ومثالُ "لكنَّ) قولُ الشاعر
*وما زِلتُ سَبَّاقاً إلى كُلِّ غايةٍ * بها يُبْتَغَى في النَّاس مَجدٌ وإِجلالُ*
*وما قَصَّرَتْ بِي في التَّسامي خُؤُولةٌ * ولكنَّ عمِّي الطَّيِّبُ الأَصلِ والخالُ*
ص374
وقد يُرفعُ ما بعدَ العاطف قبل استكمالِ الخبر، لغرضٍ معنوي، على أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر "فتكونُ جُملتُهُ مُعترِضةً بينَ اسمِ (إنّ) وخبرِها، كقول الشاعر
*فَمَنْ يَكُ أَمسَى بالمدينَةِ رَحْلُهُ * فإنِّي، وقَيَّارٌ، بِها لَغَريبُ*
(غريب خبر عن اسم، "إن"، وقيار مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير وقيار غريب بها ايضاً. وقيار اسم فرسه او جمله. وانما قدمه واعترض بجملته بين اسم إن وخبرها لغرض ان هذا الفرس او الجمل استوحش في هذا البلد، وهو حيوان، فما بالك بي، فلو نصب بالعطف على اسم "ان" فقال "فاني وقياراً بها لغريبان"، لم يكن من ورائه شدة تصوير الاستيحاش الذي يعطيه الرفع في هذا المقام).
ومنهُ قولهُ تعالى {(إنَّ) الذينَ آمنوا والذينَ هادُوا، والصابئون، والنصارى، مَن آمنَ منهم باللهِ واليومِ الآخرِ وعملَ صالحاً، فلا خَوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون}.
فالصابئون مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير والصابئون كذلك، اي لهم حكم الذين آمنوا والنصارى واليهود. والجملة معترضة بين اسم "ان" وخبرها، وخبر (ان) هو جملة الجواب والشرط، والغرض من رفع "الصابئون" وجعله مبتدأ محذوف الخبر أنه لما كان الجواب والشرط، والغرض من رفع "الصابئون" وجعله مبتدأ محذوف الخبر أنه لما كان الصابئون، مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الاديان كلها، يتاب عليهم ان صح منهم الايمان، واعتصموا بالعمل الصالح، فغيرهم ممن هو على دين سماوي وكتاب منزل، أولى بذلك).
إنَّ المكسورةُ، وأَنَّ المفتوحة:
يجبُ ان تُكسرَ همزةُ (إنَّ) حيث لا يصحُّ ان يقومَ مقامَها ومقام معمولَيها مصدرٌ.
ويجبُ فتحُها حيثُ يجبُ ان يقوم مصدرٌ مقامَها ومقامَ معموليها.
ويجوزُ الامرانِ الفتحُ والكسرُ، حيثُ يَصحُّ الاعتبارانِ.
(فان وجب أن يؤول ما بعدها بمصدر مرفوع أو منصوب أو مجرور (بحيث تضطر الى تغيير تركيب الجملة)، فهمزتها مفتوحة وجوباً، نحو "يعجبني أنك مجتهد"، والتأويل "يعجبني اجتهادك" ونحو "علمت ان الله رحيم"، والتأويل "علمت رحمة الله"، ونحو "شعرت بأنك قادم"، والتأويل "شعرت بقدومك". وانما وجب تأويل ما بعد "أن" هنا بمصدر لأننا لو لم نؤوله، لكانت "يعجبني" بلا فاعل، "وعلمت" بلا مفعول، و "الباء" بلا مجرور فالمصدر المؤول فاعل
ص375
في المثال الاول، ومفعول في المثال الثاني، ومجرور بالباء في المثال الثالث.
وان كان لا يصح أن يؤول ما بعدها بمصدر (بمعنى أنه لا يصح تغيير التركيب الذي هي فيه) وجب كسر همزتها على أنها هي وما بعدها جملة، نحو "ان الله رحيم". وإنما لم يصح التأويل بالمصدر هنا لأنك لو قلت "رحمة الله" لكان المعنى ناقصاً.
وان جاز تأويل ما بعدها بمصدر، وجاز ترك تأويله به، جاز الامران، فتحها وكسرها نحو "أحسن إليّ علي، انه كريم"، فالكسر هنا على أنها مع ما بعدها جملة تعليلية، والفتح على تقدير لام الجر، فما بعدها مؤول بمصدر. والتأويل "أحسن اليه لكرمه".
وحيث جاز الامران فالكسر أولى وأكثر لانه الاصل، ولانه لا يحتاج معه الى تكلف التأويل).
مَواضعُ "إِنَّ" المكسُورة الهمزة وجوباً:
تُكسرُ همزةُ (إنَّ) وجوباً حيثُ لا يصحُّ أن يُؤَوّلَ ما بعدَها بمصدر، وذلك في اثنيْ عَشر موضعاً
(1) ان تقعَ في ابتداءِ الكلام، إمَّا حقيقةً، كقوله تعالى {إنا انزلناهُ في ليلة القَدْرِ}، أو حُكماً، كقوله عَزَّ وجلَّ {ألا إنَّ اولياءَ الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون}.
وإن وقعتْ بعدَ حرف تنبيه، كألا، اوِ استفتاحٍ، كألا وأمَا، او تحضيضٍ كهَلاً، او رَدْعٍ، كَكَلاَّ، او جوابٍ، كنَعْم ولا، فهي مكسورةُ الهمزةِ، لانها في حكم الواقعة في الابتداء.
وكذا إن وقعت بعدَ (حتّى) الابتدائية، نحو "مَرِضَ زيدٌ، حتى إنهم لا يَرجونه، وقَلَّ مالُه، حتى إنهم لا يُكلّمونه". والجملة بعدَها لا محلَّ لها من الاعراب لانها ابتدائيةٌ، او استئنافيّة.
(2) أن تقعَ بعد (حيث) نحو "اجلِسْ حيث إنَّ العلم موجود".
(3) أن تقعَ بعد (إذْ) نحو "جئتُكَ إذْ إنِّ الشمسَ تطلُعُ".
(4) أن تقعَ صدرَ الواقعةِ صِلَةً للموصول، نحو "جاء الذي إنه مجتهدٌ"، ومنهُ قولهُ تعالى {وآتيناهُ من الكنوزِ ما إن مَفاتحَهُ لتَنوء بالعُصبةِ أولي القوَةِ}.
(5) أن تقعَ ما بعدَها جواباً للقسَم، نحو واللهِ، "انَّ العلمَ نورٌ"، ومنه قولهُ تعالى {والقرْآنِ الحكيمِ، انكَ لَمنَ المُرسلينَ}.
(6) أن تقعَ بعد القولِ الذي لا يَتضمَّنُ معنى الظنِّ، كقوله تعالى {قال إني عبدُ اللهِ}، فان تَضمَّنَ معناهُ فُتحت بعدهُ، لأنَّ ما بعدَها مَؤوَّلٌ حينئذٍ بالمفعول به، نحو "أتقولُ أن عبدَ الله يَفعلُ هذا؟"، أي "أتظنُّ أنهُ يَفعلهُ؟".
ص376
(7) أن تقعَ معَ ما بعدها حالاً، نحو "جئتُ وإِنَّ الشمس تَغرُبُ"، ومنه قولهُ تعالى {كما أخرجَكَ رَبُّكَ من بيتكَ بالحقِّ، وإنّ فريقاً منَ المُؤمنينَ لكارهون}.
(8) أن تقعَ معَ ما بعدَها صفةً لما قبلها، نحو "جاءَ رجلٌ إنه فاضل".
(9) أن تقعَ صدرَ جملةٍ استئنافيَّةٍ، نحو "يَزعُمُ فلانٌ أني أسأتُ اليهِ، إنه لكاذبٌ}. وهذهِ من الواقعة ابتداءً.
(10) أن تقعَ في خبرِها لامُ الابتداء نحو "علمتُ إنكَ لمجتهدٌ". ومنه قولهُ تعالى {واللهُ يَعلمُ إنكَ لرسولُه، واللهُ يشهدُ إنَّ المُنافقينَ لكاذبون}.
(11) ان تقعَ مع ما بعدَها خبراً عن اسم عين، نحو "خليلٌ إنه كريمٌ" ومنه قولهُ تعالى {إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابِئينَ والنَّصارى والمجُوسَ والذينَ اشركوا، إنَّ اللهَ يَفصِلُ بينهم يومَ بالقيامة}.
مَواضعُ "أَنَّ" المفْتوحةِ الهمزة وجوباً:
تُفتحُ همزةُ "أنّ" وجوباً حيثُ يجبُ ن يؤوَّلَ ما بعدَها بمصدرٍ مرفوع او منصوبٍ أو مجرور. وذلك في أحدَ عشرَ موضعاً
فيؤوَّل ما بعدها بمصدرٍ مرفوعٍ في خمسة مواضع
(1) ان تكون وما بعدها في موضع الفاعل، نحو "بلغني أنك مجتهدٌ" ومنه قولهُ تعالى {أَولم يَكْفِهم أنا أنزلنا عليكَ الكتاب}.
ومن ذلك أن تقع بعد "لَوْ"، نحو "لو انك اجتهدتَ لكان خيرٌ لك"، ومنه قولهُ تعال {ولو أنهم آمنوا واتقَوْا لمثوبة من الله خيرٌ}.
ومن ذلك ان تقع بعد "ما" المصدريّة الظَّرفيَّة، نحو "لا أُكلمك ما أنك كسُولٌ"، ومنه قولُهُمْ (لا أُكلِّمهُ ما أنَّ حراءً مكانَه) او (ما أنَّ في السماءِ نجماً).
ص377
(2) أن تكون هي وما بعدها في موضعِ نائب الفاعل، نحو "عُلمَ انك منصرفٌ"، ومنهُ قولهُ تعالى {قُل أُوحِيَ اليَّ انه استمعَ فَفَرٌ من الجن}.
(3) ان تكونَ هي وما بعدها في موضع المبتدأ، نحو "حَسَنٌ انك مجتهدٌ"، ومنهُ قولهُ تعالى {ومن آياته انك تَرى الارضَ خاشعةً}.
(4) ان تكون هي وما بعدها في موضع الخبر عن اسم معنًى واقعٍ مبتدأ او اسماً لأنَّ، نحو "حَسبُكَ انكَ كريمٌ"، ونحو "ان ظني انك فاضلٌ". فان كان المخبَرُ عنهُ اسمَ عينٍ وجب كسرُها، كما تقدَّمَ، لانك لو قلت "خليلٌ انهُ كريمُ"، بفتحها، لكانَ التأويلُ "خليلٌ كرَمُهُ"، فيكونُ المعنى ناقصاً.
(5) ان تكون هي وما بعدها في موضعِ تابعٍ لمرفوعٍ، على انه معطوفٌ عليهِ او بَدَلٌ منه، فالاولُ نحو "بلغني اجتهادُك وانكَ حَسَنُ الخُلُق"، والثاني نحو "يُعجبُني سعيدٌ انهُ مجتهدٌ".
وتُؤَوَّلُ بمصدرٍ منصوبٍ في ثلاثةِ مواضعَ
(1) ان تكون هي وما بعدها في موضع المفعول به، نحو "علمتُ أنكَ مجتهدٌ"، ومنهُ قولهُ تعالى {ولا تخافون انكم أشركتم باللهِ}. ومن ذلك ان تقع بعد القول المتَضمّنِ معنى الظنّ، كما سبق.
(2) أن تكون هي وما بعدها في موضعِ خبرٍ لكانَ او إحدى أخواتها، بشرطِ ان يكون اسمُها اسمَ معنًى، نحو "كانَ عِلمي، او يَقيني، أنك تتَّبعُ الحقَّ".
(3) ان تكون هي وما بعدها في موضعِ تابعٍ لمنصوبٍ، بالعطف او البَدَليّة فالاوَّلُ نحو "علمتُ مجيئَكَ وأنكَ مُنصرفٌ" ومنهُ قولهُ تعالى {اذكروا نِعمتيَ التي انعمتُ عليكم، واني فَضَّلتكم على
ص378
العالمين}، والثاني نحو "احترمتُ خالداً انه حَسَنُ الخُلقْ" ومنه قولهُ تعالى {واذْ يَعِدُكم الله إحدى الطائفتين انها لَكُم}.
وتؤَوَّلُ بمصدرٍ مجرورٍ في ثلاثة مواضعَ ايضاً
(1) ان تقعَ بعد حرف الجر، فما بعدَها في تأويل مصدرٍ مجرورٍ به، نحو "عَجبتُ من انكَ مُهملٌ"، ومنه قولهُ تعالى {ذلكَ بأن اللهَ هوَ الحقُّ}.
(2) ان تقعَ مع ما بعدها في موضعِ المضاف اليه، نحو "جئتُ قبلَ أنَّ الشمسَ تَطلُعُ"، ومنه قوله تعالى {وإنه لحَقٌّ مثلما انكُم تَنطِقون}.
(3) ان تقع هي وما بعدها في موضع تابعٍ لمجرورٍ، بالعطف او البَدَليةِ، فالاولَ نحو "سُررتُ من أدَبِ خليلٍ وإنها عاقلٌ"، والثاني نحو "عَجبتُ منهُ إنهُ مُهملٌ".
الْمَواضِعُ التي تَجوزُ فيها "إِنَّ وأَنَّ"
يجوزُ الامرانِ، كسر همزة "إنَّ" وفتحُها، حيثُ يَصح الإعتبارانِ تأويلُ ما بعدها بمصدرٍ، وعدمُ تأويلهِ. وذلك في أربعة مواضع
(1) بعد "اذا" الفُجائيّةِ، نحو "خرجتُ فاذا إنَّ سعيداً واقفٌ".
(فالكسر هو الاصل، وهو على معنى "فاذا سعيد واقف" والفتح على تأويل ما بعدها بمصدر مبتدأ محذوف الخبر، والتأويل "فاذا وقوفه حاصل").
وقد رُوي بالوجهينِ قولُ الشاعر
*وكُنْتُ أَرَى زَيْداً، كما قيلَ، سَيِّداً * إِذَا أَنَّهُ عَبْدُ الْقَفا واللَّهازِمِ*
ص379
(فالكسر على معنى "فاذا هو عبد القفا". والفتح على معنى "فاذا عبوديته حاصلة".
(2) ان تقعَ بعدَ فاءِ الجزاءِ، نحو "ان تجتهدْ فانكَ تُكرَمُ". وقد قُرِيءَ بالوجهين قولهُ تعالى {مَنْ يُحادِدِ اللهَ ورسولَهُ فانَّ لهُ نارَ جهنمَ}. وقولهُ {مَن عملَ منكم سُوءًا بِجهالةٍ، ثمَّ نابَ من بعدهِ واصلحَ، فانهُ غفورٌ رَحيمٌ}.
(فالكسر على جعلها جملة الجواب. والفتح على ان ما بعدها مؤول بمصدر مرفوع مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير في المثال "ان تجتهد فاكرامك حاصل". والتقدير في الآية الاولى "فكون نار جهنم له او ثابت أو حاصل" والتقدير في الآية الاخرى {فمغفرة الله حاصلة له}. وتكون جملة المبتدأ المؤول وخبره المحذوف جواب الشرط).
(3) ان تقعَ مع ما بعدها في موضعِ التَّعليلِ، نحو اكرِمْهُ، انّهُ مُستحِقٌّ الإكرامِ"، وقد قُريءَ بالوجهينِ قولهُ تعالى {صَلِّ عليهم، إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهم}.
(فالكسر على انها جملة تعليلية. والفتح على تقدير لام التعليل الجارة اي لانه ولان صلاتك. والتأويل في المثال "أكرمه لاستحقاقه الإكرام"، وفي الآية "صل عليهم لتسكين صلاتك إياهم"، والسكن (بالتحريك) ما يسكن اليه، ويفسر ايضاً بالرحمة والبركة).
(4) ان تقعَ بعدَ "لا جَرَمَ" نحو "لا جَرَمَ انكَ على حَقٍّ". والفتح هو الكثير الغالبُ. قال تعالى {لا جَرَمَ أنَّ اللهَ يَعلَمُ ما يُسِرُّونَ}. (ووجه الفتح أن تجعل ما بعد "أن" مؤولاً بمصدر مرفوع فاعل لجرمَ. وجرم معناه حقَّ وثبتَ. وأصل الجرم القطع، وعلمُ الله بالاشياء مقطوعٌ به لانه حق ثابت.
و "لا" حرف نفي للجواب، يرد به كلام سابق. فكأنه قال "لا"، اي ليس الامر كما زعموا، ثم قال (جرم أن الله يعلم) أي (حق وثبت علمه). وقال الفراء لا جرم بمعنى (لا بد)، لكن كثر في الكلام، فصار بمنزلة اليمين، لذلك فسرها المفسرون حقاً وأصله من جرمت بمعنى كسبتُ. فتكون (لا) على رأيه نافية للجنس. و (جرم) اسمها مبني على الفتح، وما بعد (أن) مؤول بمصدر على تقدير(من)، أي لا جرم من ان الله يعلم، اي لا بد من علمه.
ووجه الكسر: ان من العرب من يجعل (لا جرم) بمنزلة القسم واليمين، نحو (لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت). فمن جعلها يميناً كسر همزة (ان) بعدها نحو (لا جرم إنك على حق)، وجعل جملة (ان) المكسورة واسمها وخبرها. جواب القسم. وعلى من جعلها يميناً فاعرابها كاعراب (لا بد) وقد أغنى جواب القسم عن خبرها.
ص380
وقد علمت انه حيث جاز فتح (أن) وكسرها، فالكسر أولى وأكثر، لأنه الأصل، ولأنه لا تكلف فيه، إلا اذا وقعت بعد (لا جرم) فالفتح هو الغالب الكثير، وان نزّلتها منزلة اليمين، لأنها في الاصل فعل).
تخفيفُ "إنَّ وأَنَّ وكأنَّ ولكنَّ"
يجوزُ ان تُخفَّفَ "إنَّ وأنَّ وكأنَّ ولكنَّ" بحذف النون الثانية، فيقال "إنْ وأنْ وكأنْ ولكنْ".
"إنْ" المخففة المكسورة:
اذا خُفّفت "إنَّ" أُهمِلتْ وجوباً، إن ولِيَها فعلٌ، كقوله تعالى {وإن نَظنكَ لَمِنَ الكاذبين}. فان ولِيَها اسمٌ فالكثيرُ الغالبُ إهمالها، نحو "إن أنتَ لصادقٌ"، ويَقِلُّ إعمالها، نحو "إنْ زيداً مُنطلِقٌ"، ومنهُ قولهُ تعالى {وإنْ كُلاً لمَا ليوَفينَّهم ربكَ اعمالهم"، في قراءَة من قرأ "إنْ ولَمَا" مخفّفتينِ.
ومتى خُففت وأُهمِلَت لزمتها اللامُ المفتوحةُ وجوباً، نحو "إنْ سعيدٌ لمجتهد" تَفرقةً بينها وبين "إنْ" النافيةِ، كيلا يقع اللبسُ. وتُسمّى "اللامَ الفارقةَ". فان أُمِنَ اللَّبس جاز تركُها، كقوله
*أَنا ابنُ أُباةِ الضَّيْمِ منْ آلِ مالِكٌ * وإِنْ مالكٌ كانتْ كِرامَ الْمَعادِنِ*
لأن المقامَ هنا مَقامُ مَدح، فيمنعُ ان تكونَ "إنْ نافيةً، وإلا انقلبَ المدحُ ذَماً".
وإذا خُففت لم يَلِها من الأفعال إلا الأفعالُ الناسخةُ لحكم المبتدأ والخبر (اي التي تَنسَخُ حُكمهما من حيثُ الإعرابُ. وهي كانَ وأخواتُها، وكادَ وأخواتُها، وظنَّ وأخواتُها). وحينئذٍ تدخلُ اللامُ الفارقةُ على الجزءِ الذي كان خبراً.
والاكثر ان يكونَ الفعلُ الناسخُ الذي يليها ماضياً، كقوله تعالى {وإِنْ كانت لكبيرةً إلاّ على الذينَ هدى اللهُ}، وقوله {قال تاللهِ إن كِدتَ لَتُردِينِ}، وقولهِ {وإن وجدنا أكثرَهم لَفاسقينَ}. وقد يكونُ مضارعاً كقوله سبحانهُ {وإن نظنكَ لَمِنَ الكاذبين}.
ودخولُ "إنْ" المخفّفَة على غير ناسخٍ من الافعال شاذ نادرٌ، فما وردَ منه لا يُقاسُ عليه، كقولهم "إنْ يَزينُكَ لنَفسُكَ، وإنْ يشينُكَ لهِيَهْ".
ص381
"أنْ" المُخفَّفَةُ المفتوحة
أذا خُفّفت "أن" المفتوحةُ، فمذهبُ سيبويه والكوفيين انها مُهمَلةٌ لا تعمل شيئاً، لا في ظاهر ولا مُضمر، فهي حرفٌ مصدري كسائر الاحرف المصدرية. وتدخلُ حينئذٍ على الجملِ الإسميّة والفعلية. وهذا ما يظهرُ أنه الحقُّ. وهو مذهبٌ لا تكَلُّفَ فيه. واما قولُ جَنوبَ الكاهليّة
*لَقَدْ عَلِمَ الضيفُ والمُرْمِلون * إِذا اغْبرَّ أُفْقٌ وَهَبَّتْ شَمالا*
*بأَنْكَ رَبيعٌ وغَيْثٌ مَريعٌ * وأَنْكَ هُناكَ تكونُ الثِّمالا*
وقولُ الآخر
*فلَوْ أَنْكِ في يَوْمِ الرَّخاءِ سَأَلتني * طلاقَكِ لم أبخلْ وأَنتِ صَديقُ*
فضَرورَةٌ شعريَّةٌ لا يُقاسُ عليها.
واعلم أنَّ "أنَّ" المخفّفةَ، إن سبقها فعل، فلا بُدَّ ان يكونَ من افعال اليقينِ او ما يُنزَّلُ منزلَتها، من كل فعل قلبيٍّ، يُرادُ به الظنُّ الغالبُ الراجح. فالاولُ كقوله تعالى {عَلِمَ أنْ سيكونُ منكم مَرْضى}، ومنه قول الشاعر
إذا مِتُّ فادفنِّي إِلى جَنْبِ كرْمةٍ * تُرَوِّي عظامي بعْد مَوتي عُروقُها
ولا تَدفِنَنِّي في الْفَلاةِ، فإنَّني * أحافُ إِذا ما مِتُّ، أَن لا أذُوقُها
فخوفهُ ان لا يذوقها بعدَ مماته يقينٌ عنده، مُتحققٌ لديهِ. والثاني كقوله تعالى {وظنُّوا أنْ لا مَلجأ من اللهِ إِلاّ اليه} وقولهِ {أيحسَبُ أن لم يَرَهُ أحدٌ}.
ص382
فائدة
(إذا وقعت "أن" الساكنة بعد فعل يفيد العلم واليقين، وجب أن تكون مخففة من "ان" المشددة. وأن يكون المضارع بعدها مرفوعاً، كما رأيت. ولا يجوز أن تكون "أن" الناصبة للمضارع. وان وقعت بعد فعل يدل على الظن الراجح، جاز أن تكون مخففة من (أن) المشددة فالمضارع بعدها مرفوع، وجاز أن تكون (أن) الناصبة للمضارع، فهو بعدها منصوب. وقد قريء بالوجهين قوله تعالى {وحسبوا أن لا تكون فتنة}، بنصب (تكون) على أن (أن) هي الناصبة للمضارع، ورفعه على انها هي المخففة من (أن) المشددة. وذلك لأن (أن) الناصبة للفعل المضارع تستعمل في مقام الرجاء وللطمع فيما بعدها، فلا يناسبها اليقين، وإنما يناسبها الظن، فلم يجز أن تقع بعد ما يفيد اليقين. و (أن) المخففة هي للتأكيد، فيناسبها اليقين. ولما كان الرجاء والطمع يناسبهما الظن، جاز أن تقع بعده (أن) الناصبة للمضارع المفيدة للرجاء والطمع. وانما جاز أن تقع (أن) المخففة المفيدة للتأكيد. إذا كان ظناً راجحاً، لأن الظن الراجح يقرب من اليقين فينزل منزلته).
واعلم أنَّ "أن" المخفّفَة لا تدخل إلا على الجمل، عند من يُهملهُا وعند من يُعمِلُها في الضمير المحذوف، الا ما شذ من دخولها على الضمير البارز في الشعر للضّرورة، وقد علمت أنه نادر مخالفٌ للكضير المسموع من كلام العرب.
والجملةُ بعدها إمَّا اسميَّةٌ، وإما فعليَّة.
فان كانت جملةً اسميَّة او فعليَّة فعلُها جامدٌ، لم تحتجْ الى فاصل بينها وبين "أنْ" فالإسميَّةُ كقوله تعالى {وآخِرُ دعواهُم ان الحمدُ للهِ ربِّ العالمين}. وكقول الشاعر
*في فِتْيَةٍ، كسُيوفِ الهِنْدِ، قَدْ عَلِمُوا * أنْ هالِكٌ كلُّ منْ يحْفى ويَنْتَعِلُ*
والفعليَّةُ، التي فعلُها جامدٌ، كقوله سبحانهُ {وان ليس للانسان إلا ما سعى}، وقولهِ {وان عسى ان يكونَ قد اقتَربَ أَجلُهم}.
وإن كانت الجملةُ بعدها فعليّةً، فعلُها متصرّفٌ، فالأحسن والاكثر أن يُفصلَ بينَ "أنْ" والفعلِ بأحدِ خمسة أشياءَ:
(1) قد، كقوله تعالى {ونَعْلَمَ أنْ قد صَدقتَنا}، وقول الشاعر:
ص383
*شَهِدْتُ بأنْ قَد خُطَّ ما هُوَ كائنٌ * وأنَّك تَمحو ما تَشاءُ وتُثْبِتُ*
(2) حرف التّنفيسِ "السينُ او سوف" فالسينُ كقوله تعالى {عَلِمَ أنْ سيكونُ منكم مَرضى}، وقولِ الشاعر
*زَعَمَ الْفَرزْدَقُ أنْ سَيَقْتُلُ مِرْبَعاً * أَبشِرْ بطول سَلاَمةٍ يا مِرْبَعُ*
وسوف، كقول الآخر
*واعلمْ، فَعِلْمُ الْمَرء يَنْفَعُهُ، * أن سَوْفَ يأْتي كُلُّ ما قُدِرا*
(3) النفي بِلَنْ او لم او لا، كقوله تعالى {أيحسَبُ الإنسانُ أنْ لنْ نجمَعَ عظامَهُ} وقوله {أيحسَبُ أنْ لم يرَهُ أحَدٌ}، وقولهِ {أفلا يَرَوْنَ أنْ لا يرجِعُ اليهم قَوْلاً}.
(4) أداةُ الشرطِ، كقوله تعالى {وقد نَزَّلَ عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتُم آياتِ الله يُكفَرُ بها ويُسْتهزأ بها، فلا تَقعُدوا مَعَهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيرِهِ} وقولهِ {وأن لوِ استقاموا على الطريقة لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً}.
(5) رُبَّ، كقول الشاعر
*تَيَقَّنْتُ أَنْ رُبَّ امريءٍ، خِيلَ خائناً * أَمينٌ، وخَوَّانٍ يُخالُ أَمِينا*
وإنما يُؤتى بالفاصل لبيانِ أنَّ "أنْ" هذه مخفَّفةٌ من "أنَّ" لا انها "أن" الناصبةُ للمضارع.
ويجوزُ أن لا يُفصَل بينَ "أنْ" والفعلِ بفاصل، إنْ كان ممَّا يدلُّ على العلم اليقينيّ، كقول الشاعر
*عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُونَ، فجادُوا * قَبلَ أَنْ يُسأَلوا بأَعظمِ سُؤْلِ*
(وذلك انه لما وجب أن يعتبر (أن) الساكنة مخففة من (أن) المشددة، إذا وقعت بعد فعل يقيني، ولم يجز أن تكون هي الناصبة للمضارع، كما علمت، سهل ترك الفصل بينها وبينه، لأن الفاصل أنما يكون لتمييز احداهما عن الاخرى، للايذان من اول الامر بأنها ليست الناصبة للمضارع، وانما هي المخففة).
ص384
كَأَنْ المُخَفّفة:
إذا خفّفت "كأن"، فالحقُّ (على ما نرى) انها مُهمَلةٌ، لا عمل لها. وعلى هذا الكوفيون. وهو قولٌ لا تكلفَ فيه.
وعلى كلِّ حالٍ فيجبُ ان يكون ما بعدها جملةً، فان كانت اسميّة لم تحتج الى فاصل بينها وبين "كأن" كقوله
*وصَدْرٍ مُشْرِقِ اللّوْنِ * كَأَنْ ثَدْياهُ حُقّان*
وإن كانت جملةً فعليّة، وجب اقترانُها بأحدِ حرفينِ
(1) قد، كقول الشاعر
*أَزفَ التّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكابَنا * لما تزُلْ برحالِنا، وكَأَنْ قَدِ*
وقول الآخر
*لا يَهُولَنَّكَ اصْطِلاءُ لظى الحرْ * بِ، فمحذُورُها كَأَنْ قَد أَلَما*
(2) لم، كقوله تعالى {كأن لم تَغْنَ بالأمسِ}، وقولِ الشاعر
*كَأنْ لم يَكُنْ بَيْنَ الحجُونِ إِلى الصَّفا * أَنِيسٌ، ولم يَسْمُرْ بِمكّةَ سامرُ*
وانما فُصِلَ بينهما، تمييزاً لها عن "أن" المصدريةِ الداخلةِ عليها كافُ التشبيهِ.
لكن المخففة:
اذا حُفّفت "لكنَّ" أهملت وجوباً عند الجميع، ودخلت على الجُمل الاسميّةِ والفعليّة، نحو "جاء خالدٌ، لكنْ سعيدٌ مسافرٌ. وسافرَ عليٌّ لكنْ جاء خليلٌ"، إلاّ الاخفشَ ويونسَ. فأجازا إعمالها.
ص385