تفسير الآية: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج4/ص169-176
2025-12-13
58
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}[1].
اثرت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحاديث وروايات كثيرة عن طريق الشيعة والسنّة، سواء في كتب الحديث أو في كتب التفسير، تصرّح أنّ المقصود بالهادي في هذه الآية الكريمة هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. ويجدر بنا أن نتطرّق إلى تفسير هذه الآية بنحو مجمل، قبل الخوض في هذه الأحاديث والروايات. فقد نقل المؤرّخون أنّ مشركي قريش وكفّارهم طالبوا رسول الله بمعجزات مماثلة لمعجزات موسى، وعيسى، وصالح، وغيرهم من الأنبياء كانقلاب العصا إلى حيّة، واليد البيضاء، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإخراج ناقة حيّة من جحر الجبل. وكانوا يقولون: إن كان هذا النبيّ صادقاً، فلما ذا لا يأتي بمثل هذه المعجزات؟ ولما ذا لا ينزل ربّه عليه من السماء مثل هذه الأشياء الخارقة للعادة من أجل شدّ أزره ومعاضدته؟
أنّهم لم يعترفوا بالقرآن المجيد بوصفه أعظم معجزة نزلت على النبيّ، فكانوا يرتابون فيه، ولم يعتنوا به لاهثين وراء معجزات اخرى حسيّة وماديّة كمعجزات القرون الخالية.
بَيدَ أنّ طلبهم هذا غير صائب من عدّة جهات:
أوّلًا: أنّ اختيار المعجزة الخارقة للعادة بِيَدِ الله وحسب، فليس لرسول الله أن يتدخّل فيها بصورة مستقلّة فهو إنسان مخلوق وخاضع لحكم الله كبقيّة الناس. وليس باستطاعته أن يعمل خلاف الإرادة الإلهيّة أبداً، سواء شاء هو نفسه أو أراد الآخرون منه ذلك. قال جلّ من قائل: لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعاً ولَا ضَرًّا ولَا مَوْتًا ولَا حَيوةً ولَا نُشُوراً. فكلّما يريد الله، فأنّه يجريه على يد نبيّه، سواء كان ذلك إحياء الموتى، أو انقلاب العصا إلى ثعبان، أو إنزال القرآن. ولذلك فأنّ النظر إلى النبيّ على أنّه مستقلّ في التأثير أو شريك في الأثر خطأ بحت.
ثانياً: كان علم السحر والشعوذة قد بلغ ذروته في عصر موسى فجعل الله معجزته من سنخ ذلك العلم الشائع بين الناس وأمثاله. بحيث تفوّقت قدرة الإنسان، وبالفعل فقد أذعن السحرة حينئذٍ لتلك المعجزة وآمنوا بها. وكان علم الطبّ قد تطوّر في عصر عيسى إلى درجة كان الأطبّاء يعالجون الأمراض المتعذّر علاجها، فجعل الله معجزته من صنف ذلك العلم بحيث أنّ الحاذقين في علم الطبّ عجزوا عن الإتيان بمثلها. وحقيقة المعجزة هي أنّ العلماء المعاصرين لها، الذين كرّسوا أعمارهم في العلوم المماثلة لها، عاجزون عن الإتيان بمثلها، ولا بدّ لهم أن يعترفوا بتفوّقها وتقدّمها على غيرها من العلوم، لا أنّ عوامّ الناس عاجزون عن الإتيان بمثلها.
وفي عصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بلغ علم الفصاحة والبلاغة أوجه، وكان الشعراء المتضلّعون ينشدون الأشعار الأدبيّة مزيّنين إيّاها بأنواع الكنايات والاستعارات، والتمثيلات مع مراعاة الإيجاز وسائر فنون علم العربيّة وأدبها، وكانوا يعلّقونها في الكعبة، وكانت المعلّقات السبع نموذجاً ماثلًا لذلك.
مضافاً إلى ذلك فأنّ الإنسان يضع له في كلّ يوم قانوناً، ثمّ يُبتلى به، ولا يعرف علاجاً لأمراضه وآلامه. فكان القرآن الكريم في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة إلى حدّ الإعجاز من جهة، ومن جهة اخرى، كان مثالًا في رصانة القوانين واستقامتها وسلامتها، تلك القوانين والأحكام الفطريّة التي جاء بها للبشريّة، وكلّها قد دوّنت على نسق واحد على أساس من توحيد الله، وربط جميع الناس، بل جميع الكائنات، بل جميع المخلوقات وفقاً لقاعدة اللطف والتوحيد. ومن جهة اخرى فأنّ إعجاز القرآن، وكذلك دعوة جميع الناس إلى الله ربّهم، الذي هو أقرب إليهم من كلّ شيء، يعتمدان على مبدأ الجمال والجلال الذي تنطوي فيه جميع أسماء الله.
والأهمّ من ذلك كلّه هو ما نلحظه من ترابط وتماسك بين جميع هذه المواضيع والقوانين وقصص الأنبياء والامم، والسير في الآفاق، والنظر إلى ملكوت السماوات، والنجوم، والليل والنهار والأرض والمطر والسحاب والرياح. واخضرار الأرض ونضارة الطبيعة، وخلق الإنسان والمراحل التدريجيّة التي يمرّ بها الجنين والحيوان، والموت والبعث وثمرة الأعمال والحساب في جميع المخلوقات، والوجود كلّه، وكلّه قد جمع في كتاب موجز يمكن حمله في الجيب، وهو على ذلك التركيب الرفيع والنسج البديع. من جهة اخرى فأنّه معجزة رسول الله الخالدة للعلماء والحاذقين في كلّ عصر وزمان إلى يوم القيامة؛ كما رفع نفسه لواء التحدّي ودعا الناس جميعهم- في مقام الإعجاز- إلى الإتيان بمثله. لذلك فأنّ الناس إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، فهم لا يؤمنون بمعجزات اخرى كمعجزة موسى وعيسى أبداً
وثالثاً: أنّ ما أخذه الله على نفسه هو الإتيان بمعجزة لأنبيائه، حتى يستبين اتّصالهم به وبعالم الغيب، وتكون سنداً لنبوّتهم، لا أنّه يأتى بمعجزة جديدة كلّ يوم كما تهوى أنفس الناس. فالمعجزات المتتالية تصنع أناساً جامدين وعديمي الفهم، وتصادر منهم عقولهم، وتعطّل سنّة الله في تربية البشريّة وإعدادها، وتقف حجر عثرة في طريق تكاملها على أساس الاختيار والمجاهدة والعمل الصالح. وإذا كان الناس من أهل التسليم والطاعة، فينبغي عليهم أن يسلّموا لأوّل معجزة تأتيهم، وإذا لم يكونوا كذلك، فأنّهم لا يسلّمون مهما كانت المعجزات كثيرة ومتنوّعة، إذ يفسّرونها بالسحر والشعوذة، ويسلكون سبلًا مضلّة تهرّباً من اتّباع أنبيائهم كما قال تعالى في محكم كتابه العزيز: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ}[2].
مضافاً إلى ذلك، فليس هناك حدّ معيّن لأهواء الناس وطلباتهم، فتراهم كلّ يوم يطلبون معجزة جديدة من نبيّهم غير معجزة الأمس، وليس لنبيّهم إلّا أنْ يكون العوبة لتنفيذ مآربهم الفاسدة. ويصبح مدعاة لتعطيل السنن الكونيّة بدل التوجّه إلى التربية والتعليم وإراءة الصراط المستقيم المؤدّي إلى الله دائماً، وبالتالي فأنّه ينبري إلى تأدية امورهم عن طريق الأشياء الخارقة للعادات وفقاً لما تهوى أنفسهم.
وكان مشركوا مكّة وكفّارها يطلبون من رسول الله معجزات متنوّعة ولافتة للنظر كإنزال ملائكة يرونهم، والإتيان بكتاب محسوس من السماء، وتحويل الحجر إلى ذهب، وتفجير الينابيع والأنهار في جبال مكّة، أو أنْ يكون له بيت من زخرف، أو يرتقي في السماء، وأمثال ذلك. ولمّا كان رسول الله لا يستجيب لطلباتهم، فأنّهم- دون الالتفات إلى الآيات القرآنيّة الكفيلة بعلاج كلّ مشكلة والجواب على كلّ سؤال وتوضيح كلّ غامض- كانوا يقولون على سبيل المؤاخذة: وهذه مؤاخذة {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} بلغت من السقم والقبح درجة، نجد فيها أنّ الله جلّ شأنه أعرض عن جوابهم ولم يخاطبهم في الردّ عليهم بل ولم يتحدّث مع نبيّه عن كلامهم، واكتفي فقط بخطاب نبيّه في أمر هامّ وأصيل قائلًا: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}.
تدلّ هذه الآية على أنّ الأرض لا تخلو من إمام وحجّة أبداً. وسيكون هذا الإمام دليلًا وهادياً من الله لطبقات الناس المتنوّعة في العصور المختلفة دائماً يدعوها إلى سبيل الحقّ، سواء كان هذا الدليل النبيّ المنذر أو كان الهادي بهداية الله. ولم يختلف المفسّرون في أنّ المنذر في هذه الآية هو الرسول الأكرم، وذلك أنّ قوله: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ} صريح في انحصار وصف الإنذار به، بَيدَ أنّهم اختلفوا في القصد من الهادي، فذكروا أربعة أوجه في تفسيره.
الوجه الأوّل: قالوا: هو الله. فكأنّه يريد أن يقول: أنت أيّهَا النبيّ تدعو الناس إلى الله فقط، وتنذرهم من مغبّة أعمالهم القبيحة، ولكنّ الهداية بِيَدِ الله فأنّه يوجّه كلّ فرقة إلى حيث أمنها وأمانها. وقد نقل هذا القول عن سعيد ابن جبير[3]. وابن عبّاس، والضحّاك، ومجاهد[4]. يقول السيوطيّ: أخرج ابن جرير، وابن منذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: في قوله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}، قال: مُحَمَّدٌ الْمُنْذِرُ والْهَادِي اللهُ عَزَّ وجَلَّ[5]. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عبّاس مثلها[6].
وعلى الرغم من أنّ الهادي في الحقيقة هو الله، بيد أنّ ظاهر الآية الذي يفيد جعل الهادي في مقابل النبيّ ينبئنا أنّ المقصود به هنا هو الشخص الذي يهدي الناس إلى الله، لذلك فأنّ هذا التفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية، ولا يمكن قبوله.
الوجه الثاني: قالوا: الهادي هو رسول الله نفسه، وأنّ قوله: لِكُلِّ قَوْمٍ متعلّق بكلمة هَادٍ ومقدّم عليها، وكان في الأصل: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ}. لذلك فأنّ قوله: لِكُلِّ قَوْمٍ متعلّق بكلمة هَادٍ[7]. وقد نقل هذا القول عن عكرمة، وأبي الضحى[8]. والحسن البصريّ، والجبّائيّ[9]. يقول السيوطيّ: أخرج ابن جرير عن عكرمة، وأبي الضحى في قول الله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}؛ قالا: مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم هُوَ الْمُنْذِرُ وهُوَ الْهَادِي[10]. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عبّاس مثلها[11].
أنّ هذا القول وإن كان لا يخالف ظاهر الآية، لكنّه قابل للطعن من حيث المعنى، فلنا أن نتساءل: ما هو الدليل على ورود كلمة «مُنْذرٌ» بشكل مطلق، ومجيء «هَادٍ» لكلّ قوم؟ فإذا كان رسول الله هادياً لكلّ قوم، فأنّه منذر لهم أيضاً، ولا بدّ- إذَن- أن يكون قوله: {لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} متعلّقاً بكلمتي: «مُنذِرٌ» و «هَادٍ»، بينما نجده في الآية المباركة متعلّقاً بخصوص كلمة: «هَادٍ».
الوجه الثالث: قالوا: الهادي نبيّ في كلّ زمان. فكأنّه يريد أن يقول: أيّها النبيّ، أنت تنذر الناس من عذاب الله في هذا الزمان، وتدعوهم إلى معجزتك المتمثّلة بالقرآن المجيد وتهديهم إليها. وفي كلّ زمان أنبياء يهدون الناس إلى الله بمعجزاتهم مثل: انقلاب العصا إلى حيّة، وإحياء الموتى، وإخراج ناقة حيّة من الجبل، وعرض القرآن الكريم على الناس. ونقل الفخر الرازيّ هذا القول عن القاضي، وقال: تنتظم الآية بهذا المعنى، وهو وجه صحيح[12]. ونقل الشيخ الطبرسيّ أيضاً عن ابن عبّاس في رواية اخرى، وكذلك نقله عن قتادة، والزجّاج، وابن زيد[13].
يقول السيوطيّ: أخرج ابن شيبة، وابن جرير، وابن منذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}؛ قالَ: الْمُنْذِرُ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ نَبِيّ يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ[14].
وهذا التفسير لا يخالف ظاهر الآية، بَيدَ أنّنا لا بدّ أن نسأل: لما ذا يكون الأنبياء فقط هم الهداة إلى الله؟ فأوصياء الأنبياء مثل: يوشع بن نون وشمعون الصفا، وعليّ بن أبي طالب، وسائر الأئمّة الطاهرين هم هداة البشر إلى الله حقّاً، إذ يهدون الناس بنور الله وهدايته.
وهنا يأتى الوجه الرابع فنقول: الهادي هو كلّ من يهدي الناس إلى الله سواء كان نبيّاً أو وصيّ نبيّ، وينطبق هذا المعنى في الآية المباركة على رسول الله، وكذلك ينطبق على الأئمّة الطاهرين، فهو وهم مصاديق لهذا العنوان. ونقل هذا القول في «مجمع البيان» تحت عنوان: الاحتمال الرابع قال: الْمُرَادُ بِالْهَادِي كُلُّ دَاعٍ إلى الْحَقِّ[15]. ودعم العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه هذا الاحتمال أيضاً[16]. يقول السيوطيّ: أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عبّاس أنّه قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}؛ قالَ: دَاعٍ[17].
وفي ضوء الروايات الكثيرة المأثورة عن الفريقين التي قال فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنا المنذر وعليّ بن أبي طالب عليه السلام الهادي». يستبين المعنى، فهي جميعها تدلّ عليه، إذ المنذر هو الداعي إلى الحقّ، ورسول الله مصداق الهادي ومصداق المُنْذرِ. أي أنّ الهداية مترافقة مع الدعوة والإنذار.
أمّا عليّ بن أبي طالب فلم تكن له نبوّة أو دعوة بل كان له فقط عنوان الهداية إلى الله.
[1] الآية 7، من السورة 13: الرعد.
[2] الآية 23، من السورة 8: الأنفال.
[3] «تفسير أبي الفتوح الرازيّ» ج 6، ص 462.
[4] «تفسير مجمع البيان» ج 3، ص 278، و«تفسير الفخر الرازيّ» ج 19، ص 14.
[5] «الدّر المنثور» ج 4، ص 45.
[7] «تفسير الفخر الرازيّ» ج 19، ص 14.
[8] «تفسير أبي الفتوح» ج 6، ص 462.
[9] «تفسير مجمع البيان» ج 3، ص 278.
[10] «تفسير الدرّ المنثور» ج 4، ص 45.
[11] «نفس المصدر السابق».
[12] «تفسير الفخر» ج 19، ص 13.
[13] «تفسير مجمع البيان» ج 3، ص 278.
[14] «نفس المصدر السابق».
[15] «تفسير مجمع البيان» ج 3، ص 278.
[16] تفسير «الميزان» ج 11، ص 335 و359.
[17] «الدّر المنثور» ج 4، ص 45.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة