إنها ركعتان تقام في ذروة تفاعل المودة وهياج العواطف الغرامية وإن كانت الصلاة معراج المؤمن دوماً فإن هذه الصلاة معراج سعادتهما المستقبلية والضمان الكفيل بتوفرها فما الغاية من الصلاة في هذه الظروف؟
يسلب الانسان اختياره وإرادته في مواضع ثلاثة يكون فيها مكبل الإرادة وكأنه كائن ملقن الحركة حسب نظام الخلق، وهذه المواضع هي: يوم ميلاده ويوم وفاته ويوم بعثه ثانية حياً. وبما أنه يكتسب فاعلية مباشرة من ربه في هذه المواضع إذن فهو أحوج إلى إمداده بالسلم والسلامة والعون من قبل الباري تعالى.
ويوضح لنا القرآن الكريم أن الله عز وجل قد وهب السلم والسلامة كلاً من النبيين يحيى وعيسى في هذه الحالات التي تتبدل فيها الآفاق ويجب أن تثبت فيها الأنفس دون تغيير {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33] و {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15] وتطرأ على حياة الإنسان ظروف لا يكون فيها مجبلاً مسلوب الإرادة من قبل نظام الخلق ولكنه يغالي في انشغاله بقضية أو بموضوع يبدو وكأنه ضاع فيها من شدة انهماكه بها وعندها يكون بحاجة لمن يمده بيد العون فينتشله من هذا المأزق الذي أغرق نفسه في ملماته وينقذه من معتقل الماديات الذي رمى بنفسه ثانية وراء قضبانه.
إن البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) أمر حسن يثاب المرء عليه ويتضاعف هذا الأجر والثواب في يوم عاشوراء حيث الذكرى السنوية لاستشهاد هذا الإمام الهمام، ولكننا نرى إلى جانب ذلك استحباب قراءة سورة التوحيد ألف مرة في هذا اليوم، فما الحكمة يا ترى من هذا الاستحباب؟ ان روائع أفعال هذا المجاهد الإسلامي العظيم قد تشد المرء إليها بنحو يفقد فيه ولو للحظة واحدة ارتباطه مع الحقيقة المطلقة فيذوب الشخص في عظمة تضحيات وبسالة الإمام الحسين (عليه السلام) بينما لم يقدم إمامنا الشهيد على هذا الأمر إلا حفاظاً على ارتباط العباد بالله وترسيخ هذا الارتباط.
إن تعاظم الاهتمام والالتفات إلى حادثة كربلاء في ذكراها (رغم استحقاقها المثوبة) يجب أن لا يصل مرحلة الانقطاع عن ذكر الله ولو لدقائق، فتدبر الإسلام حال أتباعه في مثل هذه الظروف ليجعـل مـن استحباب قراءة سورة التوحيد وسيلة لتحطيم العوائق وإعادة ارتباط الانسان بالحقيقة المطلقة، واختار سورة التوحيد بالذات لتفطينه بأقدمية التوحيد على أي أمر آخر.
ويغرق العريسان في لحظة الوصال في نار الحب وولع التطلع إلى المستقبل وتتناسى الفتاة نفسها وهي تلخص كل شيء في وجود الفتى والفتى كذلك عند وقوفه على أعتاب تحقق أمله في الارتباط بنحو خاص بالفتاة فيطوق كل منهما الآخر بطوق لا يحطمه إلا الصلاة وهي مدعاة العودة إلى أصل الوجود الأزلي اللامتناهي، والاتكال عليه في طليعة الحياة الزوجية فإنه مأمن نجاحهما وسداد خطاهما وحافظ سلامتهما فيها.
العروس تجلس في غرفتها مستغرقة بملء وجودها بالتفكير في كافة آمالها وذروة أمانيها تبحث عن أخلاقيات أبيها في شخصية زوجها وتستعد لتقبل قيمومته عليها في شتى مجالات حياتها ولا يوحشها إلا هواجس تتبلور لديها عن عسر هذه القيمومة جراء رهبتها من وداعها حياة العذارى لحظة جماعها الأول مع زوجها وهي مـا سـتـمـر بـه بـعد لحظات أو أيام. إنها قلقة من ماذا سيحل بي؟ ماذا سيحدث؟ وهل سيصيبني مكروه؟ وفجأة ترى العريس قد يمم وجهه نحو القبلة يصلي لربه مستهلاً عبادته ودعاءه بعبارة «الرحمن الرحيم» وهل يحتمل تطبع مثل هذا العبد من عباد الله بالوحشية والترهيب؟.
تستلهم الفتاة انطباعاتها عن الرجال بسابق عهدها بهم وبحسب نمط قيمومة أبيها عليها وهو إما يكون عصبي المزاج سيئ الخلق أو رؤوفاً ورحيماً أو ما بين ذلك. والفتى كذلك قد نشأ في رعاية أم إما أن تكون دائمة الثورة والإنفعال سيئة الأخلاق أو رؤوفة رحيمة أو ما بين ذلك.
وعندما تستبدل الفتاة قيمها وتراه يشرع حياته بالإيمان بالارتباط بالله وبإطاعته، تستبعد منه السلوك غير الالهي، البربرة والاساءة، والتخبط في الحياة وإنجاب أطفال شريرين. إن هذه الصلاة تـبشـر بـحياة هانئة وربما يكون أبوها دائم الثورة والإنفعالية ولكن الله وهبها زوجاً يبتدئ أفعاله بذكر ((الرحمن الرحيم)) وقد ألفت وآنست هذه الكلمات مسامعه، وإذا كان أبوها رؤوفاً رحيماً فقد حالفها الحظ مرة أخرى وها هو زوجها يواصل الدرب. إن هذه الصلاة تمثل حلقة وصل بين حياة العزوبية والحياة الزوجية للموحدين.
تنشأ الفتاة في عهد الصبا وهي أقرب ما تكون لأبيها ثـم تترعرع وتنحسر العلاقات بينهما فلم يعد يحتضنها، وتتبلور بينهما هوة تزداد سعة يوماً بعد يوم. وتعيد الكرة في حياتها الزوجية فتدنو من زوجها وتدعه يحتضنها لتبتعد عنه بعد مرور فترة من الزمن شيئاً فشيئاً تحت طائل قلقها من أخلاقيات زوجها المستقبلي وقيمها الجديد في ليلة العرس وتوجسها منه خيفة لا يكبح جماحها إلا بهذه الصلاة.
وتندلع مشاعر السكينة وبواعث الأمل في قلب الفتى عندما ينظر إلى زوجته وهي تقف مؤدية الصلاة في مثل هذه الظروف وسيأمل خيراً في حياة يسلم زمامها إلى ربة بيته الجديدة.
الصلاة تعني تمثل الرجل بالملائكة في نواظر المرأة وتدل عـلـى انسجام المرأة وتطبعها الخاص لدى الرجل. أجل ينساق العريسان في سياق ارتباطهما بالله وتقربهما من باريهما لانسجامهما مع بعض وشعور كل منهما بالرأفة إزاء الآخر وبالأمل في الحياة.
إنها ركعتان لا غير، تفضل على الغراميات الجنسية وتدل على أقدمية عبادة الله لدى الفرد على العبوديات الإنسانية إنها مظهر من مظاهر تضرع جليل وابتهال كائن ضعيف إلى القادر الأزلي في مسيرته نحو نيل الكمال في مدرسة الفضائل والانطلاق من غرفة العروس نحو أقاصي الأزل تعبيراً عن الحب والطاعة لله طلباً لترصيع مقاليد حياتهما المشتركة الجديدة بوافر النعمة ورغيد العيش من خالق السماوات والأرضين. لقد عرج العريسان إلى آفاق الخلود وتساميا حتى بلغا ذروة السماوات فأخذا يتطلعان إلى العظمة اللامتناهية وإن كانت قدماهما مستقرتين على هذه البقعة الحجرية المتحركة المسماة «الأرض». إنهما جسمان منفصلان يتلظيان من ظمأ السكينة ما داما غير مقترنين ويندمجان في روح واحدة عند التحاقهما بالأفلاك.
إنها لعظيمة صلاة ليلة العرس، إنها تزيح حجباً مادية عسيرة تبلغ في عسرها عسر فراق محبين، والماديات كما هو معروف عنها تحكمها قاعدة الأخذ والعطاء، إنها تأخذ ما تمنح، أبواك أنجباك وعليك أن تنجب بدورك، منحك أبوك فعليك ان تعتلي منصة الأبوة فتمنح ما مُنحت، وهبت الروح لتنقلها عبر الإنسال، فعالم المادة يطلب ما يعطي ويستحصل المنفعة مما يعطي ويكسب من المزايا بقدر ما يبذل منها خلافاً لما وراء الطبيعة (العالم الميتافزيقي) فإنه لا يأخذ ما يعطي، لا يستعيده، بل يهب ما يهب كمالاً منه إنه يتبرع ويمضي في سبيله إذ لا يعتني إلا بما يؤول إليه أمر المستقبل استناداً إلى الآية القرآنية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} الذي يرفع الحاجز بين المحب ومحبوبه حاجز الهجر، دونما أخذ فيحل الوصال محله وهو امتياز يمنح للعريسين للسير قدماً نحو الكمال والتكامل وليتزين عرسهما بما هو أسمى من الماديات والمزايا التي تعمه، بالسمو والتكامل جراء اقتران الفاعل والمفعول في خضم عالم مادي منبثق من حمأ مسنون، ومعنوي نابع من {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وأصبح المفردان مفرداً متألفاً من المزايا المادية والتكامل والحب والروح الالهية.
كان مظهر كل منهما قبل هذا يتجسد في الجانب المتفوق من خلقتهما المادية والمعنوية، وعندما يمتزج المفردان في مفرد واحد يلتقي جانباهما المادي وكذلك الجانبان المعنويان في خلقهما ليثمرا اتحادين يتمثل أحدهما بالعرس والجماع والآخر في الصلاة. إن صلاة ليلة العرس تعني بالضبط ضخ ذروة الحب وعنفوان الشهوة في قوة معينة تتسامى حتى بلوغ العرش وتحول الشهوة الجنسية العارمة الى رؤية كونية واسعة ترتكز على العفة والطهر وتنتهي بتنفيذ الوعد الإلهي «الجنة تحت أقدام الأمهات»، وقد بدأ عهد التآلف مع الجنة في لحظة إقامة الصلاة في ليلة العرس.
إن هذه الصلاة أذان ببداية حياة جديدة، وسيلة اختارها الإنسان لتميز اقترانه ومن ثم نكاحه عن سائر الحيوانات الثدية (اللبائن)، لا بل هي ينبوع الإخلاص والطهر والسعادة ينبع من ليلة العرس ليستمر سيلانه مدى الحياة.
لقد عقد الفتى في أحلامه والفتاة في أفكارها، آلاف الأمنيات والآمال على لحظات اقترانهما ببعض إنهما ينتظران بفارغ الصبر زفافهما وها هما قد بلغا ما يرنوان إليه بشغف، لقد حان أوان تحقق آمالهما وتلاقحها في هذه الساعات ولو تناسيا ربهما فالصلاة تردعهما عن ذلك وتقيهما الانهيار عند بروز أي طارئ مفاجئ كأن يصطدم الشاب بخواء أمله في الاقتران بفتاة باكر (مع أن الاسلام قد احتفظ بحق الشاب في مطالبته ببكارة الفتاة).
ان الصلاة تأبى على العاشقين المقترنين اللذين تناكحا ليعيشا حتى نهاية حياتهما معاً، أن يلخصا مؤشرات السعادة وضمانها في مجريات ليلة العرس ومراسيم الزفاف، بل أن يستسيغا حلاوة صنعاها بأنفسهما ويفضلانها على حلاوة مصطنعة، فالاستسلام للباري تعالى يعني على وجه الدقة مد يد العوز إليه ليشملهما برعايته وبقدرته على إسعادهما، فعبارة «إياك نستعين» تدل على حصر الاستغاثة وطلب السعادة برمتها من لدنه.
ألا ترى ان المسلم يتابع نزاعات المسلمين مع أعدائهم في أقاصي بقاع الأرض متأملاً متربصاً بالأحداث يلهبه الشوق لسماع نبأ انتصار أبناء عقيدته، إنه يصك أسنانه ويشد قبضته أسى وتلهث أنفاسه غيظاً وهو يتتبع في الشرق ما يحل بالمسلمين من رزايا في الغرب. وهذا ما يفترض الإفصاح عنه في نطاق مادي أقل سعة وفي معان وأطر أوسع ليلة الزفاف.
فصلاة الزوج في نظرة الزوجة وصلاة الزوجة حسب رؤى الزوج إنما تشير إلى ارتياح المصلي لما آل إليه اختياره وإلى توحد أفكارهما ودينهما وبالتالي إضفاء الهيبة والوقار أكثر فأكثر على هذا العقد المقترن وعلى هذه الأواصر الودية المبرمة بين العريس والعروس المتجسدة في اتحادهما معنوياً إثر إقامة الصلاة التي تبلور لديهما الشعور بانسجام أفكارهما وعقليهما لأن تباين العقليات يتأتى مـن اختلاف العقائد والأديان وهو ما لا يحمد عقباه أبداً.
إن أداء الصلاة في هذا المكان الضيق يحطم طوق شتى الأجواء المختلفة، فالآمال المنعقدة تضيق ذرعاً بهذا المأزق النفساني. والصلاة هنا مدعاة لطرد الشيطان ـ متأوهاً يجر أذيال الخيبة من تحقق جميع مطامعه وراءه ـ ونبذه وهو يتذوق مرارة اليأس من الهيمنة على حياة هذه الاسرة الحديثة التأسيس، وهي فائدة عظمى نتوخاها من إقامة الصلاة في أولى ساعات الحياة المشتركة.
لقد اندفع الإنسان البدائي جراء شعوره بالخوف وهو المساق فطرياً نحو العبادة ليختار ملجأ وليبحث عن مأوى يغدق عليه بالرأفة حتى واتته الفرصة والظروف المناسبة لتبلور مواهبه ومكنونات قلبه فاتجه نحو العبادة الصحيحة التي تمنحه الأمان. فالمعبود تحدد بمن تتركز فيه الآمال في لحظات الخيفة والراحة على حد سواء. والعريسان وهما يقفان على أعتاب تبني المسؤوليات العائلية في لحظات امتزاج هواجس الخيفة والشعور بالارتياح هذه لا يمكنهما استحصال السكينة والشعور بالطمأنينة إلا بالإستغاثة بالله عز وجل.
إنها ركعتان تحفظ كلّاً من الرجل والمرأة من الانهيار أمام الشهوات الجنسية الحيوانية وتهبهما الثبات والاستقرار وتلقنهما أن الزواج لا يقتصر على ما يوفره من لذائذ جنسية بل يترتب منه وترافقه شؤون معنوية أيضاً، خاصة ما يتعلق منها بالعلوم الروحية والإنسانية.
إنها ركعتان يكتسب الرجل بهما هدوءاً واطمئناناً خاصاً وتستجلب منهما المرأة ضرباً معيناً من الراحة وهذا ما يحفظ الجيل الناجم عن مثل هذا الزواج من الإصابة بالحالات العصبية.
إنها ركعتان تدل على طاعة العباد لله، إنها إعلان موجه من قبل كل من الزوج والزوجة للآخر ينبهه إلى إخلاصه في طاعته للمعبود وتنزهه عن عبادة الخلق وإن كان روحه - تنزهاً لا يؤدي إلى الخيانة بل يبث مشاعر الطمأنينة والثقة في النفس وفي الآخرين لما له من دور خارق في إضفاء الوقار على صاحبه عندما يقف مؤدياً الصلاة في هذه الليلة الفريدة من حياته.
لقد انخدع آدم وحواء بأحابيل الشيطان وعوقبا بالهبوط إلى الأرض ودخول عالم الماديات، وبتوبتهما أنقذا من غضب الله رغم أنهما لم ينجحا في العودة إلى الجنة، وهكذا نسل آدم يخدع بالشيطان وينجو من عواقب فعاله بالتوبة، يغرقون في عالم الماديات ولا يبقى لهم من سبيل للتخلص من شراكها إلا بتحطيم قضبان معتقل الماديات بسلاح التوبة والإنابة والتضرع إلى الله الذي يتجسد في أرقى مظاهره في الصلاة.
العريسان يكبلان بسلاسل الماديات في مراسيم الزفاف بين مجموعة من أهل الأرض ولابد لهما من امتطاء صهوة التسامي عن طريق الصلاة التي تفك قيود الماديات - المتمثلة بسلاسل هياج الاقتران ـ بمفتاح «إياك نعبد وإياك نستعين» عندما يطهر كل منهما (العريسين) قلبه وروحه ولو لفترة وجيزة مما علق بها من أدران واستسلامها برمتها للخالق الأزلي الذي تتلخص في وجوده الحياة وما فيها، فكل شيء نابع في وجوده من الله دون سواه.
لا يمكن تناسي ليلة عرس تستهل بالصلاة، بصلاة تمتد جسورها إلى الحقيقة اللامتناهية، بصلاة لها من اللذة المعنوية ما للجماع الأول من لذائذ مادية، ولكن ماذا عن سائر الليالي؟! تتلخص الصلاة في غيرها من الليالي في عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم»، وهي صلاة مجملة صغيرة في كلمة عليا ينطق بها كل من الزوج والزوجة قبل الجماع لتطبيع الأجواء النفسية بآثارها واستحصال السكينة والهدوء والاتصال بعالم ما وراء الطبيعة عن طريقها، وهذا ما يعتبر منتهى المتطلبات التي يتوجب توفرها فيما لو انعقدت نطفة جراء هذه العملية وحتى لو اكتفي بجانب التمتع فيها فإنها (البسملة) تمنح انطباعات ملذة للإنسان عن وحدة العقيدة، وحدة الأفكار والانسجام في الكثير من شؤون الحياة الدنيوية والاخروية.
إذن تتلخص الصلاة في هذه العبارة التي ينطق بها الزوجان تعبيراً عن وحدة العقائد ووحدة الدرب ووحدة الاسرة ووحدة الإله المعبود ألا وهو الله الواحد والركون إليه إبتعاداً عن هذا الهياج الملهب الذي ذقناه ليلة العرس أيضاً. ولهذه العبارة الصغيرة من القدرة ما تبعد الشيطان بها عن نفس الإنسان وتفصح عن الارتياح التام لكلا الزوجين من هذا الزواج والاقتران. إنها مشاعر لا تقتصر على الإنسان المسلم بل أن الإنسان البدائي كذلك كان يبحث بجد عن «الرحمن الرحيم» الذي ينجيه من مخاوفه برأفته ورحمته وهذا ما يعاود الكرة ها هنا عند ذكر اسم الرحمن الرحيم وهو الأول والآخر والظاهر والباطن الذي يدعو المخلوقات برأفته الواسعة ليأووا إليه.
إنها ركعتان تنفض غبار الماديات عن نفس الإنسان وتؤهله للتجلد إزاء ما يظهر من مؤثرات وظروف مؤلمة إذ يصبح انفعاله تأثراً بها مستحيلاً. ان كلاً من الشاب الذي اختار ركناً يصلي فيه والشابة التي وقفت تستشعر أحاسيس {الرجال قوامون على النساء} أثناء صلاتها تتأكد لهما هذه القاعدة:
(صلاة ليلة الزفاف وسيلة يستلهم منها ضرب من التفاهم العام).
إنها ركعتا صلاة يؤديهما شابان يتلظيان بنار هياج أنهك قواهما. وسيلة لتحطيم طوق هذه المشاعر الجنسية وتحرر الأجسام منها ولتخليص هذين العبدين من لهيبها باختراق الحجب والعروج إلى ما لا نهاية له.
لقد تواضعت الحكمة في التعاليم الإسلامية على سن قانون هذه الصلاة، وقد أثبتت الصلاة جدارتها في أداء المهام المفوضة إليها عندما حولت الإنسان من عبادة الأصنام إلى عبادة الله وأضفت السعة عـلـى أجواء مكة حتى انضمت إلى السماوات وتنزلت آيات حول السماوات فمزقت الشرنقة التي لفها المسلمون حول أفكارهم في ذلك المكان الضيق الذي يعيشون فيه لتنطلق متطبعة بالطابع العلمي وبرؤية كونية موحدة تسبح في فسيح السماوات فيأخذ القرآن بيد المسلم ليجول في الغمام ثم يتركها ليمتطي عنان البحار حتى يعود إلى عصور عاد وثمود ويقوم بزيارة قصور مصر في عهد النبي يوسف (عليه السلام) ثم يعتلي قمم الجبال، وها هي الآيات القرآنية تسلم النبي العظيم عيسى بن مريم (عليه السلام) طائراً لينفخ فيه فيعود إلى الحياة وتطل هذه الآيات من بعد ذلك على جنة تكتظ بثمار العنب وصاحبها ينكر كل هذا الإحسان فيفيق صباح غده ليجد كل تلك النعمة قد أصبحت هشيماً تذروه الرياح، وعلى حين غرة تلج الأجرام السماوية ثم تتطرق إلى نمو وتطور النباتات الأولية التي افتقدت السيقان والجذور والأوراق والثمار ، كل ذلك بغية توسيع نطاق الرؤى.
وهكذا صلاة ليلة العرس تطلق عنان البصر للعريسين ليدركا الكائنات جميعاً بنظرتهما وإن كانت أبدانهما الملتهبة محاطة بجدران أربعة لكن روحيهما تتطايران في عالم الخلق بأسره وتكتسبان من السعة ما تضاهي سعة هذا العالم الشاسع فيسجدان اعترافاً منهما بعظمة خالق هذا الكون على أرض ستكون إبان أمومة الفتاة في مستقبل قريب قطعة من الجنة إنها البقعة ذاتها التي اختاراها ليتحدثا عندها مع ربهما الذي شاء لهما الإسلام الدنو منه دونما حجب تعيق هذا الاقتراب نعم لا تحجبهما حدود البلدان ولا حتى القارات أو الأجرام السماوية من ذلك وهذا ما أقرته الآية {سخر لكم الشمس والقمر}، وهل يمكن عزل هذين المحبين ـ الهائجين المستغرقين في أحلام تضاهي في وسعها سعة السماوات ـ عن سائر الكائنات بحدود وأطر؟ كلا، لن يكون ذلك أبداً. تعتبر صلاة ليلة الزفاف تحليقاً ثورياً وطفرة معنوية تثبت تفوق قدرتها على أعتى الغرائز الشهوانية وتؤكد عدم انقياد العروس تماماً للشهوات وأن معتقل الغرائز لم يفلح في تكبيل العريس أيضاً.
لقد اختار العريسان أداء الصلاة سوية وعقدا آمالهما وطموحاتهما حول نقطة الهدف المتسامي وتوحيد دربهما وهو درب الايمان بالله قبل أن يتجها لتلبية مطالبهما الشهوانية.
وأريد أن أوضح هذه الحقيقة عن الصلاة قبل أن تثار المشاعر لدى البعض لنردع هذه الثلة عن تعريض أنفسهم إلى الصعاب.
إن الصلة بين الجسم والروح تماثل الصلة بين الدنيا والآخرة فكما أن كل عمل دنيوي يؤثر لا محالة في كلا الجانبين وكذلك الأفعال الأخروية تترك بصماتها على مدى الحياتين لأن الدنيا مزرعة الآخرة والآخرة مستودع الدنيا، وكما أن كل ذرة من ذرات الخلق لا تنفرد في مسيرتها عن سائر المخلوقات بل تؤثر بعضها في بعض، كذلك الدنيا والآخرة أو كل ما يتعلق بالأبدان والأرواح تتصل ببعضها ويؤثر كل منهما في الآخر. إن الصلاة التي يدعي معتوه ما بأنها تمارين رياضية وضعها محمد لأتباعه (رياضة تستهل بالوضوء وتتضمن حركات بسيطة ظاهرياً وكلمات معينة و...!) يجب الحكم بشأنها بمقتضى العدالة والإنصاف وأن لا نتناسى أثر الصلاة على الجسم أيضاً.
أجل ان الصلاة تتفاعل مع الروح بفاعلية الآخرة وتترك في الأبدان من الأثر ما للدنيا الفسيحة من الشمولية والكلية. إذن كما يتأثر الجسم بالصوم فإن الصلاة كذلك تؤثر في الأبدان أيضاً إلى جانب تأثيراتها المعنوية.
أثبتت التحقيقات كما جاء في بعض المؤلفات ومنها الكتب التي يسعى مؤلفوها لتعليم أسلوب تركيز الذهن أن التزام الصمت فـي جـو هادئ تماماً لمدة قصيرة عدة مرات (مرتين أو ثلاث مرات أو...) يؤدي إلى انحسار العمليات الأيضية والأكسدة في خلايا الجسم إلى الحد الأدنى وهي طريقة يعالج بها ارتفاع ضغط الدم بسبب التغيرات الفيزيولوجية الناجمة عن انخفاض استهلاك الأوكسجين إلى حد يبلغ 10% ويتقلص كذلك معدل إنتاج غاز ثاني أوكسيد الكاربون نتيجة انحسار عمليات الأكسدة فتهدأ الأنفاس ويتصبب المرء عرقاً إثر ظهور أمواج ألفا في المخ والتي يرافقها استرخاء الجسم.
إن هذه الطريقة المتبعة في مذهبي يوكو - زم العلاجيين وتسمى التنويم أو إغفال النفس استلهمت الكثير من تعاليمها من مناسك الأديان السماوية مثل أداء هذه النشاطات في جو مفعم إلى أبعد الحدود بالهدوء والسكينة، تركيز الرؤية في نقطة واحدة، تناسي الذات، التأكيد على اصطلاحات وكلمات سامية من قبيل: الله، المودة ومعاودة النطق ببعض الكلمات وأداء بعض الحركات....
ولا تعجب إذ تقف على حقيقة ذكرها القرآن الكريم وهي أن الصلاة من المناسك الأساسية في الأديان حيث تتضمن في جميع هذه الأديان ركوعاً وسجوداً وهذا ما يستوحى من الآية التي خوطب بها ابراهـيم الخليل ونجله النبي اسماعيل (عليهما السلام) {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وآية أخرى تخاطب مريم (عليها السلام): {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، وجاء على لسـان جـميع الأنبياء {أوصاني بالصلاة} كما قالها الائمة (عليهم السلام).
ومما يثير الدهشة ان صلاة الجميع كانت تتضمن أقساماً ثلاثة: النية القلبية، إفصاح اللسان، والعمل بالأركان وهي أمور يعتمد عليها العلم الحديث لتوفير الهدوء النفسي ومعالجة بعض الأمراض، وقد عرضها الإسلام من قبل كعلاج حتمي للاختلالات الروحية {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. والأكثر عجباً هو ذكر كلمة «الله» العليا بعلو لا يسمو عليه شيء في عبارة «الله أكبر» الناطقة. إذن الصلاة تمنح الروح سعة الآخرة وتهب الجسم سعة الدنيا.
ما أجمل تسمية القرآن وكم من السلاسة والخفة والبساطة تنطوي عليها هذه التسمية، إنه حقاً إسم على مسمى، القرآن اسم كتاب أنزل للانسان ليقرأه بتمعن، كتاب قرأه جبرائيل على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وتلاه خاتم الأنبياء والمرسلين على الناس ويطالعه الناس دوماً لنيل السعادة وتحقيق الكمال، القرآن كلام الله ومن يقرأه ينطق بكلام الله، أجل إن الله يتحدث للإنسان عند قراءته القرآن على لسانه هو. ولكن الصلاة تشمل ما هو أسمى من هذا كله بين طياتها وهو وجوب قراءة سورة الفاتحة فيها ويطلق عليها اسم «المثاني» أو «سبع المثاني» أيضاً، أما كلمة سبع فلأنها تضم سبع آيات وأما «المثاني» فلأنها كلام الله يأتي بأمر من الله عـلـى عباده، كلام ينطوي على كل ما تعتبر معرفته واجباً وعرفانه ضرورياً، إنها سورة تجمل فيها كافة الخيرات وتتلخص فيها الهداية الإلهية، هداية العبد إلى الصراط المستقيم في مساره نحو الله، والمثاني حسب ما ذكرنا إنما تعني أن الله يتحدث إلى عبده المصلي أو قارئ القرآن بحديث يصدر عن ذاته القدسية في ذات الوقت الذي يعتبر إذعان العبد وسؤاله ربه بعبارات ناطقة من لدنه (حديث العبد مع ربه).
ما هو السر الذي يحفز المسلم ليلة زفافه سواء بالأمس عندما كان ينقل عروسه إلى حيث يبيت ليلة زفافه على ظهر ناقة أو اليوم وهو يترجل أرقى وسائل النقل - ليقف مؤدياً صلاة تكون معراجه إلى أقاصي الكون؟ لأن وسائل الدنو إلى الله هي في شتى المواقف والأوضاع واحدة لا تبلى وستظل هكذا دون أن يعتريها تغيير.
فالمسلمون الأوائل وكذلك المسلمون العصريون يعلمون أن القوانين الدينية والتعاليم الإلهية هي الخالدة في حياة الإنسان حسب قاعدة فطرية بعيدة عن التأثيرات التي تتحكم بعلاقات الإنسان مع الطبيعة والتي يتغير نمطها فيما لو استغني عن وسائل الحصاد الأولية فيه بالآلات الحديثة، فعلاقة الإنسان بربه ثابتة راسخة تتضح معالمها في عبارة بسيطة وهي لو اعترى التغيير والتذبذب علاقات الآباء بالأبناء إثر تطور التقنية فعندئذ يحتمل تغير علاقات الإنسان بالله فكما أن توقعات الآباء من أبنائهم والأبناء من آبائهم ثابتة عبر عنها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) في حديث نبوي قائلاً ((وقروا كباركم وارحموا صغاركم)) فإن صلة الله بعباده كذلك ثابتة وستظل هكذا أبد الدهر.
ان وجوب توجه العباد إلى الله بطلب الإرشاد والهداية والسعادة قاعدة ثابتة لا تتغير، وقد شرحت مفاد هذا الكلام في المجلدات السابقة ونوهت عند حديثي عن السمات التي تميز الإنسان عن الحيوان أن جميع الكائنات يؤدون دور المتفرج في ساحة الوجود بينما يتحتم على الإنسان أن يؤدي دوري المتفرج والممثل على حد سواء، يستلهم أفكاره تلقائياً وبأسلوب منتظم من مشاهداته للكون بأسره ثم يخول لتطبيق مدركاته بشكل تلقائي منظم. وفي ليلة زفافه يملك عنان نفسه ليؤدي دور الممثل وينبغي له أن يسلم عنان هذه النفس الهائجة لله عبر الصلاة لينظم شؤونه ويضمن نجاحه في تنسيق حياته تلقائياً.
ويفترض على الإنسان إذا همَّ بتناول طعام أو تلبية شهوته الجنسية بالجماع وهو ما يملك زمامه أكثر من أي أمر آخر، أن يبادر للقيام بهذه الأمور كما أراد له الله لتعتبر عبادة منه.
والإنسان عندما يكب على الصلاة في أجواء هياج مشاعره الودية، خيالاته وتصوراته وما إليها إنما يرنو لإضفاء طابع العبودية عـلـى هـذا الأمر وهو يتذكر الحديث النبوي الشريف «أفضل الأعمال أحمزها». فالعروس تلتهب بنار الدنو من العريس والزوج يكتوي بلهيب انتظار لحظة الدنو من زوجته، فما أعظم مساعيهما لتبديل هذه القوة العارمة إلى قدرة تدنيهما من ربهما وهذا ما يميز فضيلة هذه الصلاة عن بقية الصلوات المستحبة.
إن وجوب أداء الصلاة في طليعة وقتها وفي بداية الحياة الزوجية ترسخ لدى الفرد طابع تنظيم الوقت وعدم إهداره.
إن قيمة مثل هذه الصلاة التي تؤدى ليلة الزفاف والتي يسارع فيها العريسان كما تدل كلمة الزفاف إلى الإقتران - بينة للجميع فغايتها الله والدنو منه وثمرتها إنجاب جيل لائق بالانسان المسلم.
ان صلاة العرس تلقن الزوجين بأن حياتهما الدنيوية القادمة هـي مقدمة للحياة الأخروية التالية وكل شيء فيها منوط برضا الله، ويتبين للعروس من خلالها أن زوجها حرّ من العبوديات الزائفة. ويفهم العريس أن زوجته تكافئه من هذه الناحية إذ أن الصلاة مفتاح لدخول حصن «لا إله إلا الله» الحصين ونبذ العبوديات المزيفة والاستسلام لعبادة المعبود الواقعي.
إن وقوف الزوجين يؤديان الصلاة مبتدئين تضرعهما إلى الله بعبارة «الله أكبر» لأكبر دليل على عظمة الإسلام والدين الإسلامي الإلهي مقارنة مع سائر المذاهب الفكرية الأخرى لأنه مؤشر على تمسك المسلمين بعقيدة التوكل على الله وتسليم شؤون مستقبلهم إليـه ليكون سبحانه وتعالى عالم الغيب إلى جانبهم دوماً وأخيراً أقول أن الصلاة تقضي على النوايا الخائنة والأعمال المشينة التي تعرقل زواج الفتيات ممن يعانين الفاقة وتحول كذلك دون تفكير المستضعفين من الفتيان بالزواج، وبوسع من يستزيد المعلومات حول الصلاة أن يراجع المجلدات السابقة، لا سيما المجلدين الثاني والحادي عشر (موضوع المسجد).
ذكرنا قبل هذا أن نظام الخلق يحتم التضحية بالعناصر الأدنى بغية إيجاد العناصر الأسمى، فالهيدروجين يتحول عند التعرض لدرجات الحرارة والضغط العاليتين إلى الهليوم وهكذا دواليك، يتحول الهليوم إلى ما هو أقوى منه في ظروف خاصة. إن هذه القاعدة تتحكم بالمخلوقات على نطاق أوسع، فالأرض تحرث وتقلب أتربتها وتُزرع فتسقى و... بغية الحصول على النبات والنبات يفقد ثماره خلال الحصاد ثم تتعرض الثمار للدق أو الطحن أو... ليتغذى عليها الحيوان وبذلك يحافظ على استمرار حياته، ثم يذبح الحيوان بهدف إطعام الإنسان والإبقاء على حياته.
والعكس غير صحيح إذ لا يقتل الإنسان أو يذبح حفاظاً على حياة الحيوان أو يضحى بالحيوان لضمان بقاء النبات، ولا تشذ هذه القاعدة إلا في عالم الماديات إذ يستفاد فيه من الأسمى لإيجاد الأدنى، لأن الماديات كما قلنا - مجبلة لتعيد إلى عالم الخلق ما كسبته منه فقد تستبدل العناصر العليا بعناصر أقل قيمة من أجل الحصول على الطاقة منها ولكن فيما عدا الجماد فإن الاشياء تعيد إلى عالم الخلق ما منحها وتحتفظ في الوقت ذاته بحياتها، وبما أن الأرض لا تقوى على استلام كل هذه المعطيات المستعادة، يحكم النظام المهيمن على المخلوقات جمعاء بتحريرها في عالم آخر كما تذكر الآية {..وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]، وهذا ما دعا الاسلام لتحريم استئصال جذور أي نبات حي دون مبرر من أعماق التربة ومنع قتل أي حيوان لا يسبب وجوده ضرراً للإنسان، وهذا أيضاً ما يوضح دواعي تشديد حرمة قتل النفس الإنسانية نظراً لتمتع الإنسان بقيمة وجودية عليا.
ويعاقب القتلة في عالم آخر بعذاب أعد لهم من النار (تتأتى من الحرارة والطاقة المتحررة جراء عمليات التحول هذه) وقد يكون هذا الأمر هو مغزى الآية {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، وتقديس الجمادات من قبل الكفرة إهانة تستحق عذاباً آخر لمن يأتي بمثل هذه المعصية.
لو تمعنا في آلاف من أشجار الرمان أو غيرها من الأشجار لا يلفت انتباهنا تباين كيفي ونوعي خاص بينها وهكذا مجاميع الذباب أو الفيلة أو قطعان الخراف لا تمتاز عن بعضها بنحو يذكر خلافاً لبني البشر الذين يمتاز أحدهم عن الآخر حتى يغدو أحدهم حسيناً سيد الشهداء (عليه السلام) والآخر يزيد زعيم الأشرار، وتقتضي الحكمة ويرى العقل هنا أيضاً أن يفتدى السامي المتعالي الشريف بالوضيع الذي بذل حياءه وشرفه جانباً. لقد شدد الإسلام على ضرورة مراعاة هذه الملاحظة حتى في أحرج الظروف، فلو شاءت الأقدار أن يبادر المرء لإنقاذ غريقين وأصبح على يقين من أن أحدهما سيفارق الحياة أثناء انشغاله بإنقاذ الآخر، عليه أن يؤثر الأسمى. والعقل كما هو عليه في سائر الأحوال الأخرى، يؤيد حكم الإسلام في تقديم الأسمى على الأدنى.
والناس فئات ثلاث، وفئة تستسلم لمشيئة القدر وآثار الطبيعة أو تغدو آلة في يد طغاة العصر لا تنتسب إلى هذه المجاميع الثلاث وتضم من يلخص وجوده في بهيميته. اما الأصناف الثلاثة فهي:
الصنف الأول: وهم القانعون بموقعهم وثقلهم الراهن يتناولون الطعام ويمارسون الجماع ويمتلك أرقاهم مستوى سيارة ثمينة، دون أن تكون لديهم معرفة ووعي بما يميز الإنسان عن غيره إلا أنهم يختلفون عن اولئك المتأطرين بإطار الجانب المادي في وجودهم، لأنهم يتمتعون بنشاط ويعانون آلاماً نفسية مستقلة وخاصة بهم، أي أنهم ليسوا من ذوي النوايا الوضيعة البالغة الانحطاط التي يفترض التضحية بها بصفتها دنيئة فداء للحقائق الأسمى في عالم ذاتهم.
والصنف الثاني استحصل معرفة عن السمات المميزة للإنسان ويرى أن الإنسان يتصف بمميزات لا تتحدد بالأطر البشرية، أي أنهم لا يحددون معالم روح الانسان ونفسه في ردود الفعل المشروطة والغرائز الطبيعية والسلوك المبرر والنشاطات الواضحة وحفنة من اللحم والعظام و... بل يقرون بامكانية التعرف على القضايا البشرية العامة والتمحص فيها خارج نطاق المختبر أيضاً.
والمنتمون للصنف الثالث لا يحددون أي بعد من الأبعاد الباطنية والخارجية في وجود الإنسان بما يوافق رأيهم فيتابعون خطواتهم نحو نيل الكمال في مسيرة هذه التحولات ويحافظون على استمرارية انفعالاتهم النفسية الباطنية (الإيمان) ليقدموا ثمرتها عن طريق اللسان أو أعضاء الجسم إلى العالم الخارجي الذي يحيط بهم (وعملوا الصالحات).
ويتضح لنا من هذا أن الجماد منقاد للنباتات والنباتات للحيوانات وكذلك الحيوانات للإنسان، ولكن بني الإنسان لا تتحدد حرياتهم إلا إزاء بعضهم البعض، فمنهم من تأسره مشيئة القدر أو يتخذه الطغاة وسيلة وبهذا تفرض عليهم قيود وضيعة ودنيئة للغاية دون وعي منهم لأنهم حسب تعبير القرآن الكريم لم يفقدوا أعينهم وآذانهم بل يفتقدون نعمة البصر والسمع، وفريق آخر تضيق الظروف النطاق عليه وفئة أخرى حطمت قضبان معتقل النفوس فتعقد أواصرها مع عالم الوجود لتنال منه ما يمكنها من مزايا علمية وفنية وصناعية.... وهنالك من يحطم هذه السلاسل النفسية ويعقد أواصره مع عالم الوجود ولكنه يعلم أن المقومات البناءة في عالم الوجود سلبت مزية الإطلاق مما يؤدي إلى الحيلولة دون مواصلة مسيرتهم نحو التكامل ويدفعهم لعقد أواصرهم مع خالق الوجود المطلق اللامتناهي ضماناً لاستمرارية تكــاملهم، وهـل هنالك وسيلة أكثر نجاحاً من الصلاة في عقد أواصر الانسان وارتباطه بالله، تلك الصلاة التي أوصت بها جميع الأديان أتباعها وجعلت الركوع والسجود و... من أركانها الأصيلة كما جاء في الآيـات القـرآنية التي سبقت الإشارة إليها فيما يخاطب به الله عز وجل ابراهيم النبي (عليه السلام) ومريم العذراء (عليها السلام).
لا يخفى على أحد أن جسمه مجبل لمواصلة مسيرة الحياة الطبيعية والاجتماعية على درب الفناء والموت وهذا ما يدعو الإنسان للحفاظ على نفسه من الأخطار التي تهدده فيتقي شر الآلام والأمراض والعجز. وكلنا يعي هذه الحقيقة تقريباً وهي أن الإنسان إلى جانب مزاياه الجسمية المحددة يسمو على الحيوان بسبب تمتعه بأمور من قبيل: المودة، المنطق. الضمير و... فهل يسعى الإنسان للحفاظ على سموه اللامتناهي؟ والإجابة تفرض علينا أن نقرّ أن الناس فريقان متسام ومتدن فمستسلم للأقدار أو الطغاة ممن يخطو بإرادته قدماً نحو الفناء ومستسلم لمشيئة الله وأوامره ونواهيه، وبينهما من التباين ما نجده بين الطغاة والله.
ويكفي المصلي اعتزازاً أنه يسمو خمس مرات في اليوم سمواً من نوع آخر، سمواً أعلم علم اليقين بصفتي إنساناً يدرك وضعه أنه خارج عـن نطاق تحمل الجانب الحيواني في وجودي، سمواً لا يكبله أو يعرقله وضعه الجسماني وعلواً يؤهله للارتباط بخالق الكون بأسلوب ارتباطي فريد لا تتمكن منه أي وسيلة أخرى سوى الصلاة وبدرجة من النجاح لا يسع حتى غير المصلين إزاءها إلا الاعتراف بمكانتها بين الناس، إنها تزيل الفواصل وتذيب ما يتكدس على الوشائج من جليد لتعلو بالفرد حتى بلوغ العرش الأعلى والاتصال بالحقيقة الأزلية اللامتناهية. فالصلاة كما عبر عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله) معراج المؤمن وأداؤها أسمى من تركها وقد خط على جبين نظام الخلق بأحرف كبيرة أن الأدنى يفتدى به في سبيل بقاء الأعلى، إنها قاعدة أكدها الوحي الإلهي المنزل أولاً على لسان الأنبياء والمذعن به أخيراً من قبل العلوم وهل هنالك وسيلة ترفع من شأن الإنسان أفضل من الصلاة؟
إن الحيوان بطبيعة حاله لا يرغب في معرفة أسلافه وكيف عاشوا ومن سيكون اللاحقين به ومن هو زوجه الذي يقترن به خلافاً للإنسان فإنه يميل إلى معرفة ماضيه ومستقبله كحاضره ويود الارتباط بهما، ولكنه لا يكتفي بإطلاق سراح فكره في هذا السياق فقط بل يسعى إلى بلوغ اللانهاية وهذا ما لا يتحقق له سوى بالاتصال بالله وأفضل طريقة إرتأتها الأديان كافة لتحقيق هذا الهدف المنشود تتمثل بإقامة الصلاة.
الاكثر قراءة في مقبلون على الزواج
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة