خلق العالم والإنسان على أساس الحقّ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص69-72
2025-11-10
22
يتّضح هذا المعنى من خلال قوله تعالى: {ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ}[1]. وقوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}[2].
يستفاد من الآيتين أنّ الموجودات لم تخلق عبثاً، وإنّما خُلِقَت من وحي الحكمة والهدف الصحيح. وتشترك كلّ الموجودات في هذه الحقيقة بلا استثناء. خَلقُ هذا الكون كلّه بالحقّ، وجميع الكائنات الحيّة والميّتة صغيرها وكبيرها تخضع لهذا النظام العام ولا تتعدّى هذه الحقيقة. وعلى هذا المنوال خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان الذي يعتبر جزءاً من هذه الكائنات الحقّ وجبله على فطرة التوحيد.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[3].
«توجّه بقلبك وباطنك إلى هذا الدين الحنيف القائم على أساس الحقّ، والمنزّه من الانحرافات، هذا الدّين المرتكز على الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها ولا تغيير ولا تبديل في خلقة الله وفطرته. هذا هو الدّين القيّم ولكنّ أكثر الناس عجزوا عن إدراك هذه الحقيقة».
يتمتّع الإنسان بالإدراك والمعرفة. وله غرائز وصفات استمدّت وجودها كلّها من مبدأ التوحيد. وقد خلقه الله على أساس المعرفة وإدراك الحقيقة، وجعل قلبه مستودعاً لأسراره.
فالتوحيد يعني الإيمان بأنّ الله واحد في جميع مراحل الوجود، من الذات والصفات ومظاهر عالم الوجود. وصرح الوجود كلّه قائم بذاتهومتعلّق به. فلا حكومة في السماوات والأرض وما بينهما إلّا حكومته، ولا قدرة إلّا قدرته، ولا علم وحياة إلّا علمه وحياته. فلا تشذّ ذرّة صغيرة واحدة عن هذا النظم ولم يكن لأحد الاستقلال والفناء الذاتي إلّا للذات الأحديّة بلا شائبة.
لذلك لمّا كان العالم كلّه متوكّئاً على هذا المبدأ، خلق الله الإنسان لإدراك هذا المعنى وبلوغ المعرفة واستيعاب هذه الحقيقة. وجعل في قلبه قوّة جاذبة نحو ساحة القُدس. وهذه هي الحقيقة والنظرة التي جُبِل الإنسان عليها.
من جهة اخرى، نحن نعلم أنّ الله أحسن كلّ شيء خَلَقَه، فلا نقص ولا عيب في كيان الوجود: الذي {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ}[4] ومضافاً إلى أنّه أحسن كلّ شيء خلقه وأتمّه. فقد هدى كلّ موجود نحو كماله. {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى، قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}[5] فمِن بين الكائنات الخارجة عن الإحصاء التي أوجدت تامّة الخلقة، وأودعت فيها الحركة نحو الهدف في طريق الكمال هو الإنسان الذي خلق على فطرة الله وتوحيده. ينبغي أن يُوجَّه نحو الكمال وتظهر استعدادته ومواهبه الكامنة. فإذا تحرّك على الصراط المستقيم، فإنّه سيبلغ الهدف؛ وإلّا فسيكابد من الاضطراب وبلبلة الأفكار. مثله في ذلك مثل الطائر الذي لاعشّ له حتى إذا كانت الأعاصير والأمطار والرعد والبرق والصواعق، تراه حائراً يرتطم بهذا الجانب أو ذاك إلى أن يموت، ويرحل عن الدنيا ناقصاً بدون ظهور استعداداته وفعليّة غرائزه الإلهيّة المودعة فيه.
{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، ويَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً، وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، ويَصْلى سَعِيراً}[6].
«فمن تحرّك في الصراط المستقيم وعمل الصالحات، فإنّه يُعطي كتاب عمله بيمينه ويكون حسابه يسيراً ويصبح مسروراً في الجنّة مع أهله. وأمّا من تحرّك في الطريق الأعوج المنحرف وانشغل بالآثام والتعدّيات، فإنّه يعطي كتابه وراء ظهره (تعساً له) ويدعو بالهلاك على نفسه، وسيصلى نار جهنّم» في ضوء ذلك، فإنّ الإنسان ينبغي أن يخضع لتربية صائبة وتعليم صحيح حتى يبلغ كماله. ولذلك فإنّ الله قد أنزل القرآن بالحقّ أيضاً. {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ والْمِيزانَ}[7]، وكذلك أرسل رسوله بالحقّ ودين الحقّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ، بِالْهُدى ودِينِ الْحَقِ}[8].
[1]الآية 3، من السورة 46: الأحقاف.
[2]الآية 27، من السورة 38: ص.
[3]الآية 30، من السورة 30: الروم.
[4]الآية 7، من السورة 32: السجدّة.
[5]الآيتان 49 و50، من السورة 20: طه.
[6]الآيات 6 إلى 12، من السورة 84: الانشقاق.
[7]الآية 17، من السورة 42: الشورى.
[8]الآية 9، من السورة 61: الصف.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة