وسائل علاج العزّ المذموم
المؤلف:
الحارث بن أسد المحاسبي
المصدر:
آداب النفوس
الجزء والصفحة:
ص 107 ـ 113
2025-05-25
512
قلت: قد وصفت من فَسَاد الْعِزّ وضرره وشرّه مَا قد وصفت فَصف لي طَرِيق التَّحَرُّز والامتناع مِنْهُ فَإِنّ الْمَرِيض إذا عرف داءه أحبّ أن يعرف دواءه وَهَكَذَا من أحب أن يعرف عيب نَفسه يحب أن يعرف الَّذِي يصلح بِهِ عَيبه.
فَقَالَ: إِنّ ابْن آدم تكلّف نزُول الطير من جوّ السَّمَاء فأنزله.
وتكلّف خُرُوج الْحُوت من قَعْر الْبَحْر فَأخْرجهُ.
وتكلّف إِخْرَاج الذَّهَب وَالْفِضَّة من بطن الأَرْض فأخرجها.
وتكلّف أخذ الدَّوَابّ والأنعام والوحوش وَالسِّبَاع من البراري والغياض فَأَخذهَا وذلّلها وسخّرها.
وتكلّف أخذ الأفاعي والحيّات فَأَخذهَا.
وتكلّف معالجة الشَّيَاطِين فعالجها.
وتكلّف معرفَة النُّجُوم فِي السَّمَاء وأسماءها ومجاريها ومطالعها وَمَغَارِبهَا.
وتكلّف منَازِل الشَّمْس وَالْقَمَر ومجاريهما ومطالعهما ومغاربهما.
وتكلّف معرفَة الْوَلَد إذا لم يكن من أبيه فَعرف ذَلِك كُلّه لمّا تكلّفه.
وتكلّف مرض الْمَرِيض وأسباب علله بِالنّظرِ إلى بَوْله من غير أن ينظر إليه فَعرف داءه وَعرف دواءه فَعرف كلّ ذَلِك.
وتكلّف تعلّم سير الْمُلُوك الْمَاضِيَة من الْقُرُون الأولى فكتبها ودرسها.
وكلّ مَا تكلّف من ذَلِك فَإِنَّمَا حمل نَفسه على تكلّفه لطلب الزِّيَادَة من الدُّنْيَا وَلَيْسَ فِي هَذَا من أمْر دينه الَّذِي كُلِّفه شَيْء وكُلِّف تَقْوِيم نفس وَاحِدَة فَلم يقم بتقويمها وَلَيْسَ عَلَيْهِ من فَسَاد غَيرهَا شَيْء لم يُكَلّف إِلَّا بإصلاح فَسَاد نَفسه وَحدهَا فَلم يقم بإصلاح فَسَادهَا فجهل بعض الصّلاح وَعلم بَعْضًا فَمَا جهل فَهُوَ جَاهِل بِهِ لَا يتَكَلَّف علمه وَمَا علمه من فَسَادهَا فَهُوَ مضيّع لإصلاحه.
وَلم يُكَلّف أحد أن يَصُومَ وَلَا يُصَلِّيَ وَلَا يُزكّيَ وَلَا يحجَّ وَلَا يتَوَضَّأ وَلَا يغْتَسلَ عَن أحد إنّما كُلِّفَ نَفسه لَيْسَ لَأحَدَّ من صَلَاح أحد شَيْئًا وإنّما صَلَاح كلّ امرىءٍ وتقواه لنَفسِهِ وَفِي مِيزَانه لَيْسَ فِي ميزَان غَيره مِنْهُ شَيْء.
وَهَكَذَا النِّيَّة فِي الأعمال لَا تَنْفَع نيّتي عَمَلك وَلَا تَنْفَع نيّتك عَمَلي اذا كَانَت صَحِيحَة وَلَا تضرّه اذا كَانَت سقيمة وإنّما الْمَنْفَعَة والمضرة على صَاحب النِّيَّة وَصَاحب الْعَمَل وإنّما هِيَ نفس وَاحِدَة فَإِذا صَار الى أَمر نفيسته لم يعرف خَيرهَا من شَرها وَلَا إقبالها من إدبارها.
يعْمل الْخَيْر فَلَا يدْرِي مقبل هُوَ فِيهِ أم مُدبر إلا بِظَاهِر الْعَمَل وَالدَّعْوَى وَلَا يدْرِي أَيّ شَيْء يعمله للدنيا اَوْ للآخرة لَيْسَ يُمَيّز بَين الأمرين وَلَا يفاتش الهمّة فِيهِ والمحبّة لَهُ وَلَا الخشية فِيهِ وَلَا يتَوَقَّف وَلَا يحسن أَن يطالع ضَمِيره فَهُوَ يفْسد الْخَيْر بِالشَّرِّ وَلَا يشْعر.
هُوَ فِي ظَاهِرَة مقبل وَهُوَ فِي بَاطِنه مُدبر وَهُوَ فِي ظَاهره آبق الى الله وَهُوَ فِي بَاطِنه آبق من الله.
فسبحان الله مَاذَا تكلّف الْمِسْكِين من معرفَة مَا لم يُكَلّف فشغل عنايته فِيهِ وشغل فهمه بِهِ وَأمّا الَّذِي جهل فضيّع من مَعْرفَته فَهُوَ مَا قد كلّف وَأخذ عَلَيْهِ فِيهِ المواثيق.
يدْخل عَلَيْهِ الشَّرّ وَالْفساد فَلَا يدْرِي من أيْنَ دخل وأنّى أتاه وَكَيف هُوَ وَمَا السَّبِيل إلى التَّخَلُّص مِنْهُ فَبَقيَ عِنْدَ ذَلِك تائهًا حيران وَقد عالج مَا فِي الْهَوَاء وَمَا فِي قَعْر الْبحار فَعرفهُ لما شغل عنايته بِهِ لِمَعْنى دُنْيَاهُ الَّذِي قد تكفّل الله لَهُ مِنْهَا بِمَا قدر لَهُ وَضمن لَهُ الْوَفَاء بهَا أقبل عَلَيْهَا أَو أدبر عَنْهَا.
فغلب الْمِسْكِين الْخلق وغلبته نَفسه وَلَو عني بِمَعْرِفَة فَسَاد نَفسه وصلاحها وَخَيرهَا وشرّها وَخَافَ التّلف عَلَيْهَا كَمَا عني بِمَعْرِفَة مَا ذكرنَا من أمْر دُنْيَاهُ الْمَضْمُونَة لَهُ لعرف من فَسَادهَا وصلاحها مثل مَا عرف من ذَلِك وَقدر مِنْهُ على مَا قدر من ذَلِك وَلكنّه رَضِي أن يسْلكَ طَرِيق الدّين بالجهالة وَلم يرضَ أن يسْلك طَرِيق الدُّنْيَا إلّا بِعلم وبصيرة وَمَتى شِئْت رَأَيْته فِي طَرِيق الدُّنْيَا وَهُوَ يحْسب أَنّه فِي طَرِيق الْآخِرَة.
وَمَعَ ذَلِك فَإِنّ بعض المدبرين عَن الله تَعَالَى المعرضين عَنهُ قد تسمّوا عُلَمَاء ونصبوا أنفسهم للدلالة على الله وهم حيارى متصنّعة مدخولون متشبّهة يَحْسبهُم الْجَاهِل أدلّاء وهم عمى حيارى فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون.
وَاعْلَم أَنّ الْعِزّ والتعزّز لَيْسَ بغائب قادم عَلَيْك فتريد التَّحَرُّز مِنْهُ والامتناع عَلَيْهِ، وَلكنّه شَيْء قد حلّ بك وَنزل وَتمكّن من الْمنزل واستوى وَجلسَ فِي صدر الْمجْلس وَأخذ مِنْك خيرك وَغلب أخير مَوضِع فِيك واتّكأ على متّكئه واستخدم أعوانه بِمَا يُوَافق هَوَاهُ فِي إقبالهم وإدبارهم.
وَلَا أكثر عَلَيْك من صِفَات فروع دوائه فتمل وَتعرض وَلَكِن أدلّك على الأصل الَّذِي إذا عالجته أَتَى على الأغصان كلّهَا وَهُوَ الأياس من جَمِيع المخلوقين أَن يضرّوا أَو ينفعوا أَو يُعْطوا أَو يمنعوا أَو يحيوا أَو يميتوا فألزمه قَلْبك فَإِنَّهُ أصل الأصول وَرَأس الأمر وسنامه.
فَإِن كنت مرِيدًا صَادِقًا تحبّ النّظر فِي عواقب الأمور فأغلق على نَفسك بَاب الطمع وَافْتَحْ لَهَا بَاب الأياس وَانْفَرَدَ لذَلِك بإرادتك كلّهَا وتجرّد فِي طلبه كَالَّذي لَيْسَ لَهُ من حوائج الدُّنْيَا كلّهَا إلّا حَاجَة وَاحِدَة.
وتعزم عزمًا صَحِيحًا على أن تهبَ نَفسك لله فِي بَقِيَّة عمرك إن كنت ترَاهُ لذَلِك أَهلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا أغناه عَن أهل السَّمَوَات وَأهل الأرضين وَمَا أَشدّ اضطرارهم إليه.
فَاجْعَلْ يَا أخي نَفسك كَهَيئَةِ الأسير فِي أيدي أهل زَمَانك أَيَّام حياتك فِي اتِّبَاع مرضاة الله (عزّ وَجلّ) والتخلّص من بليّة الْعِزّ فَإِنّ الأسير مَمْلُوك لَا يملك وَلَا يطْمع أن يظلم أحدًا وَلَا ينتصر من ظَالِم ثمَّ تَجِد حلاوة طعم ذكر الله ولذاذة الْمُنَاجَاة فِي عبَادَة الله.
وإنّما قلت لَك اسْتِخْرَاج الْعِزّ وقطعه عَن قَلْبك باليأس من النَّاس لأنّه يردّك الى الله ورجوعك الى الله سُكُون قَلْبك عَلَيْهِ وَفِي سُكُون قَلْبك عَلَيْهِ الازدياد من طَاعَته والوصول الى خاصيّة عِبَادَته وَفِي الْوُصُول إلى خاصيّة عِبَادَته النُّزُول عِنْد دَرَجَة العبيد وَفِي النُّزُول عِنْد دَرَجَة العبيد إصابة شرف الْعُبُودِيَّة وَمن إصابة شرف الْعُبُودِيَّة اكْتِسَاب الْقلب المذلّة لله (عزّ وَجلّ) فأعزّك بِطَاعَتِهِ وخضعت لَهُ فشرّفك بِعِبَادَتِهِ قَالَ الله (عزّ وَجلّ): {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وَقَالَ فِي المذموم من الْعِزّ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
قلت: وَكَيف يُمَيّز بَين العزّين؟
قَالَ: أمّا المذموم مِنْهُمَا فينبو عَن طَاعَة الله والمحمود مِنْهُمَا يزيدك تذلّلاً فِي طَاعَة الله (عزّ وَجلّ).
وَاعْلَم أنَّ الأمر إذا انْتهى فِي الضّيق اتَّسع وَمَا هُوَ الّا قطع الطمع وَاسْتِعْمَال الأياس فَإِذا أنت قد صرت فِي وَادي الرّوح والراحة والفرح فتنعّمت مَعَ أهل هَذِه الدَّرَجَات بِذكر الله والتلذّذ بحلاوة الْمُنَاجَاة والبكاء من خَشيته ذقت حلاوة الْيَقِين وَفَرح الرِّضَا وراحة التَّفْوِيض وخفّة محمله ثمَّ صرت تنظر إلى من يتعذّب ويجول فِي سُلْطَان الْعِزّ وَملكه. فهنيئا لَك حِينَئِذٍ تصبح وتمسي لَيْسَ لَك هم وَلَا حزن الّا فِيمَا أنت وَارِد عَلَيْهِ من أمْر آخرتك وَالله ينظر إلى همّتك وإرادتك فِي وَادٍ، وَالنَّاس فِي وَادٍ غَيره.
الاكثر قراءة في التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة