وجوب الدقّة في مراقبة القلب
المؤلف:
الحارث بن أسد المحاسبي
المصدر:
آداب النفوس
الجزء والصفحة:
ص 96 ـ 99
2025-05-19
666
ومِنَ النَّاس مَن يرى أنّه يكره المحمدة وَالثنَاء اشفاقًا على عمله وخوفًا من فتنته فَلَا يعبأ بِمَا يخيّل إِلَيْهِ من ذَلِك ويظنّ؛ لِأَنّ كَثْرَة مَا يظنّ النَّاس من ذَلِك لَيْسَ كَمَا يظنّون حَتَّى ينْظرُوا الى تَحْقِيق صدقه عِنْد الْبَيَان.
فَليُرَاجع العَبْد نَفسه إذا اثْنَي عَلَيْهِ اَوْ مدح اَوْ ذمّوه اَوْ نسبوه الى مَا يكره فَإِن كَانَ مَا اعجبه من الثَّنَاء والمدحة انّما أعجبه لِمَعْنى مَا قُلْنَا من السّتْر والرجاء فِي الثَّنَاء الْحسن وَالْقَوْل الْجَمِيل لمثل قَوْله تَعَالَى: {وألقيت عَلَيْك محبَّة منّي}، {وَآتَيْنَاهُ أجره فِي الدُّنْيَا} قَالَ: الثَّنَاء، وَقَالَ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} قَالَ: الثَّنَاء الْحسن، وَقَوله: {وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين} قَالَ: الثَّنَاء الْحسن.
وَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه [وآله] وسلم - فِي الرجل يعْمل الْعَمَل يُرِيد بِهِ وَجه الله فيحمده عَلَيْهِ النَّاس ويثنون عَلَيْهِ بِهِ فَقَالَ: "تِلْكَ عَاجل بشرى الْمُؤمن" وَقَوله ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ في العَبْد إذا احبّه الله "لم يُخرجهُ من الدُّنْيَا حَتَّى يملأ مسامعه مِمَّا يحبّ" وَقَوله: "أنتم شُهَدَاء الله فِي الأرض" وأشباه ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة.
فَإِن كَانَ سروره بِمَا ذكر بِهِ من الْخَيْر شكرًا لستر الله عَلَيْهِ، وحمدًا مِنْهُ لله إذ جعله الله عزّ وجلّ مِمَّن يذكر بعلامة الْخَيْر فَلَيْسَ ذَلِك بسرور فَاسد، وَلكنّه شكر وَطلب مزيد.
وعلامة سَلامَة نِيَّته فِي ذَلِك أن يزْدَاد لله تواضعا ولآلائه شكرا وَفِي طَاعَته اجْتِهَادًا وَمَعَ ذَلِك يَنْبَغِي ان يردّ نَفسه الى طَرِيق المخافة من الاستدراج وَيكون مَا خَفِي من عمله احبّ إِلَيْهِ مِمَّا ظهر مَخَافَة مَا يلْحق اهل الصّلاح من الْفِتْنَة فِيمَا يَسْتَمِعُون من المدحة وَالثنَاء وَلما جَاءَ من النَّهْي وَالْكَرَاهَة والتزكية والمدحة ان يسمع صَاحبه وَذَلِكَ مثل قَوْله ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ: "من مدح أخاه فِي وَجهه فَكَأَنَّمَا أَمرَّ على حلقه مُوسَى رميضًا" وَمثل قَوْله ـ عَلَيْهِ السَّلَام ـ"لَو سَمعك مَا أَفْلح" وَمثل قَوْله: ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ: "عقرت الرجل عقرك الله" وَهَذَا ونَحوه كثير.
فَإِذا كَانَ مذْهبه وَنِيَّته شكر الله على ستره وَحمد الله على نعْمَته وَيكون مَا سبق من السرُور الى قلبه فِي ثَنَاء إذا سَمعه رَجَاء الْقدْوَة بِهِ إذا كَانَ مِمَّن يصلح أن يُقْتَدى بِهِ لقَوْل الله عزّ وَجلّ: {واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا} يَقُول أَئِمَّة فِي الْخَيْر يُقْتَدى بِنَا.
فَإِن كَانَ كَذَلِك رَجَوْت ألّا يضرّهُ ذَلِك وَلَا يفْسد عَلَيْهِ عمله.
وَقد ذكر عَن مطرف أنّه قَالَ: مَا سَمِعت ثَنَاء اَوْ مِدْحَة الا تصاغرت إليّ نَفسِي.
وَقَالَ زِيَاد بن أبي مُسلم: لَيْسَ أحْدُ مسمع ثَنَاء اَوْ مِدْحَة الا ترَاءى لَهُ شَيْطَان، وَلَكِن الْمُؤمن يُرَاجع. فَقَالَ ابْن الْمُبَارك: صدق كِلَاهُمَا.
امّا مَا ذكر زِيَاد فَذَلِك قلب الْعَوام وامّا مَا ذكر مطرف فَذَلِك قلب الْخَواصّ.
وإن كَانَ مذْهبه وَنِيَّته إذا سمع ذَلِك وسُرَّ بِهِ طلب الرّفْعَة والمنزلة عِنْد النَّاس فَمَا أَسْوَأ حَاله فِي إحباط عمله.
الاكثر قراءة في التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة