القريب من التوبة والبعيد منها
المؤلف:
الحارث بن أسد المحاسبي
المصدر:
آداب النفوس
الجزء والصفحة:
ص 86 ـ 90
2025-05-13
587
صدق النَّدَم وعلامته:
قلت: فمَن أرجا النَّاس لقبُول التَّوْبَة مِنْهُم؟
قَالَ: أشدّهم خوفًا وأصدقهم ندامةً على مَا كَانَ مِنْهُ، وَمَا شَاهده الله واطّلع عَلَيْهِ من زَلَـلِـهِ وخطلِهِ وَطول غفلته ودوام إعراضه وَأَحْسَنهمْ تحفظًا فِيمَا يسْتَقْبل وَإِن اسْتَووا فِي ذَلِك فأشدّهم اجْتِهَادًا فِي الْعَمَل؛ لِأَنَّ عَلامَة صدق النَّدَم على مَا مضى من الذُّنُوب شدَّة التحفّظ فِيمَا بَقِي من الْعُمر، ومواثبة الطَّاعَة بالجد وَالِاجْتِهَاد واستقلال كثير الطَّاعَة واستكثار قَلِيل النِّعْمَة مَعَ رقّة الْقلب وصفائه وطهارته ودوام الْحزن فِيهِ وَكَثْرَة الْبكاء والتفويض الى الله تَعَالَى فِي جَمِيع الأمور والتبرّي إِلَيْهِ من الْحَول وَالْقُوَّة ثُمَّ الصَّبْر بعد ذَلِكَ على أَحْكَام الله (عزَّ وَجَلَّ) وَالرِّضَا عَنهُ فِي جَمِيعهَا وَالتَّسْلِيم لأمورِهِ كلِّهَا.
الْخَطَأ فِي طَرِيق التَّوْبَة ونتائجه:
وَقَالَ لي: قد علمت من أَيْن غَلطت: أَحْسَنت الظَّنّ بِنَفْسِك فتاقت الى دَرَجَات الْمُحْسِنِينَ بِخِلَاف سيرتهم من غير إِنْكَار مِنْك عَلَيْهَا لمساوئ أعمالها وَلَا دفع لما ادَّعَتْهُ من أعمال الصَّادِقين.
وأسأت الظَّن بغيرك فأنزلتهم فِي دَرَجَة المسيئين إغفالاً مِنْك لشأنك وتفرّغت للنَّظَر فِي عُيُوب غَيْرك.
فَلَمَّا كَانَ ذَلِك مِنْك كَذَلِك عوقبت بِأَن غارت عُيُون الرأفة وَالرَّحْمَة من قَلْبك وانفجرت إِلَيْهِ أَنهَار الغلظة وَالْقَسْوَة فَأَحْبَبْت أَن تنظر إلى النَّاس بالإزراء عَلَيْهِم والاحتقار لَهُم وَقلّة الرَّحْمَة وَأَرَدْت أَن ينْظرُوا اليك بالتعظيم والمهابة وَالرَّحْمَة فَمن وَافَقَك مِنْهُم على ذَلِك نَالَ مِنْك قربًا ومحبّةً ونلت أَنْت من الله تَعَالَى بعدًا وسخطًا وَمَن خالفك فِيهِ ازْدَادَ مِنْك بُعدًا وبُغضًا وازدَدْتَ أنتَ مِنَ اللهِ بُعدًا وسُخطًا.
وأطلتَ فِي ذَلِك كُلِّهِ أملك فطاب لَك الْمسير فِي طَرِيق التسويف ومدارج الحيرات فاشتدّت رَغْبَة نَفسك واستمكن الْحِرْص من قَلْبك فعظمت لذَلِك فِي الدُّنْيَا رغبتك وشحّت فجمحت إلى شهواتها واحتوشت قَلْبك لذّاتها فحال ذَلِك بَيْنك وَبَين ان تَجِد حلاوة سلوك طَرِيق الآخرة.
فقلبك حيران على سَبِيل حيرة قد اشتبهت عَلَيْك سبل النجَاة وشقق حجاب الذُّنُوب فأنست لقربها وطاب لَك شمّ رِيحهَا فوصلت بذلك الى مَحْض الْمعْصِيَة فادّعيت مَا لَيْسَ لَك وتناولت مَا يبعد مرامه من مثلك.
ثمَّ أخرجك ذَلِك الى إن تَكَلَّمت لغير الله وَنظرت الى مَا لَيْسَ لَك وعملت لغير الله فَكنت مخدوعا مسبوعًا عِنْد حسن ظَنك بِنَفْسِك وأنت لَا تشعر ومستدرجًا من حَيْثُ لَا تعلم فَكَانَ مِيرَاث عَمَلك الْخبث والجريرة والغشّ والخديعة والخيانة والمداهنة وَالْمَكْرُوه وَترك النَّصِيحَة وأنت فِي ذَلِك كُلّه مظهر لمباينة ذَلِك.
فَمن كَانَت هَذِه سيرته فَلَا يُنكر أن يَبْدُو لَهُ من الله مَا لم يكن يحْتَسب.
فَلَو كَانَ لَك يَا مِسْكين أدنى تخوّف لبكيت على نَفسك بكاء الثكلى الْمُحبَّة لمن أثكلت ونحْتَ عَلَيْهَا نياحة الْمَوْتَى حِين غشيك شُؤْم الذُّنُوب.
وَلَو بَكَى عَلَيْك أهل السَّمَوَات وأهل الأرض لَكُنْتَ مستوجبًا لذَلِك لعظم مصيبتك.
وَلَو عزاك عَلَيْهَا جَمِيع الْخلق تَعْزِيَة المحروب المسلوب لَكُنْت مُسْتَحقّا لذَلِك لِأَنَّك قد حرمت دينك وسلبت معرفتك بشؤم الذُّنُوب فركبك ذل الْمعْصِيَة وَأثبت اسْمك فِي ديوَان العاصين واستوحش مِنْك أهل التَّقْوَى إِلَّا من كَانَ فِي مثالك.
فاخذ الَّذين أَرَادوا الله وَحده فِي طَرِيق الْمحبَّة لَهُ وسلكوا سَبِيل النجَاة إِلَيْهِ وَأخذت فِي غير طريقهم فملت حِين خَالَفت طريقهم الى غَيره فَبَقيت متحيّرًا وَعَن وجع الإصابة متبلّدًا. وبمثل هَذِه الأسباب الَّتِي اشْتَمَلت عَلَيْهَا طريقتك يسْتَدلّ على خسران الْقِيَامَة وَبِاللَّهِ نَعُوذ وايّاه نسْأَل عفوًا وتقريبًا مَعَ الْمُحْسِنِينَ إنَّه لطيف خَبِير.
الاكثر قراءة في التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة