دولة أثينا
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج12 ص 511 ــ 514
2025-05-13
630
كانت «أثينا» في بادئ أمرها كباقي الدويلات الصغيرة التي تتألف منها بلاد اليونان، غير أنها على مر الزمن فاقتها جميعًا. وإذا قرناها «بأسبرتا» وجدنا أن الأخيرة كانت محكومة بقوانين صارمة لا تتغير، إذ الواقع أنها كانت حكومة أقلية يدير شئونها حفنة من الرجال في حين أن «أثينا» قد صارت دولة حرة راقية، إذ كانت حكومتها ديموقراطية يدير شئونها مواطنوها على حسب إرادة الشعب، وسنرى فيما يلي كيف أنها وصلت إلى هذا الحكم الشعبي شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت مضرب الأمثال في كل تاريخ العالم. ففي حين نرى «أسبرتا» قد فتحت كل من «لاكونيا» و«مسينيا» بالقوة، وأبقتهما في يدها بالخوف والعنف، نجد أن «أثينا» قد حكمت «أتيكا» بإرادتها. والواقع أننا نجد في تاريخ أثينا المبكر أن المدن التي كانت يتألف منها إقليم «أتيكا» قد انضمت تحت لواء حكومة «أثينا» بالطرق السلمية دون عنف ما، وقد كان ذلك من حسن حظ «أثينا»، إذ قد أحاطت نفسها بأصدقاء وجعلت سلطانها يمتد على مساحة عظيمة تبلغ حوالي عشرة آلاف ميل مربع، وتحتوي على موارد طبيعية مثل المرمر والأحجار في جبالها والفضة والقصدير في مناجمها والطين في أنهارها لصنع الفخار، والزيتون والكروم الوفيرة وبعض الغلال مما تنبته تربتها، غير أن الغلال لم تعد كافية على مر الأيام وازدياد عدد السكان لسد حاجاتها.
وقد كان إقليم «أتيكا» من جهة اليابسة محميًّا بجبال، ولكن لم تكن تكنفها هذه الجبال لوجود ممرات عبرها يمكن استعمالها في وقت السلم. أما ساحل «أتيكا» فيبرز في البحر نحو جزر «إيجة» والشرق، وهذا كان مغريًا على ركوب المخاطر في عرض البحر، والواقع أنه لم تلبث طويلًا حتى أبحرت عدة سفن من مينائها محملة بزيت الزيتون والفخار للتجارة، ثم العودة بالغلال، وعلى ذلك كانت التجارة نشطة في بحر «إيجة» مع «أثينا». وكانت «أثينا» في بادئ أمرها محكومة بملوك، ولكن حوالي عام 650 ق.م حدث تغيير لم يأتِ عن طريق ثورة بل بالطرق السلمية، وذلك أن الملوك الذين فقدوا سلطانهم شيئًا فشيئًا قد انقطعوا عن الحكم حتى الاسمي منه، وأصبحت حكومة البلاد في يد عصابة من الأسر الشريفة يقودها حكام يطلق عليهم «أركون»، وكان عددهم في بادئ الأمر ثلاثة ثم ازدادوا إلى تسعة، وكان هؤلاء ينتخبون من أفراد هذه الأسر.
وكان الشعب مقسمًا طبقات على حسب الثروة، وكان لكل الطبقات حق التصويت إلا أحط طبقة في جمعية الشعب. وفي هذه الجمعية كان من الممكن الموافقة على انتخاب «الأركون» (الحكام) رسميًّا. وعند تولي هؤلاء الحكام زمام الأمور كانوا يحلفون اليمين على أن يحكموا على حسب القوانين وألا يقبلوا رشوة قط، وإذا لم يقوموا بهذه الالتزامات كان عليهم أن يهدوا لمعبد «دلفي» تمثالًا من الذهب، ومن المحتمل أن هذا التمثال كان بالحجم الطبيعي. ولكن لم يمضِ طويل زمن حتى قامت الصعاب وبوجه خاص بين الطبقة السفلى، التي لم يكن لها حقوق سياسية؛ وهكذا فإنه في مدة المائة والخمسين سنة التي تلت وضع هذا النظام عملت تغييرات من وقت لآخر، سارت بأثينا نحو الديموقراطية الحقة إلى درجة عظيمة.
دراكون: ففي عام 621 ق.م طلب إلى «أركون» (حاكم) يدعى «دراكون» أن يضع قائمة بقوانين «أثينا». والواقع أن «دراكون» وتشريعاته القانونية ليست معروفة لدينا إلا بصورة مبهمة، ولكن يظهر جليًّا أن العقوبات التي توقع على المدنيين كانت صارمة جدًّا حتى إنه إلى أيامنا هذه يضرب بها المثل في القسوة والشدة، وقد ذكر لنا «بلوتارخ» المؤرخ الروماني أن الموت كان العقاب على كل الجرائم تقريبًا، فكان يوقع عقاب الموت من أجل سرقة تفاحة أو كرنبة، أو من أجل البطالة، أو من أجل قتل نفس. ولكن «بلوتارخ» كتب ذلك بعد عهد «دراكون» بنحو 700 سنة، فيحتمل ألا يكون بيانه مضبوطًا؛ غير أنه مما لا شك فيه أن الإغريق أنفسهم اعتقدوا أن القوانين كانت صارمة جدًّا حتى قال عنها الخطيب الأثيني «دمادس»: إنها لم تكن مكتوبة بالحبر بل بالدم، وعلى أية حال فإنها كانت خطوة للأثينيين في أن يكون لهم قوانين يحكمون بها مكتوبة للجميع، ولكن لم تلبث هذه القوانين مدة طويلة حتى حلت محلها قوانين أخرى.
سولون: ننتقل الآن من عهد الأشخاص المبهمة في التاريخ مثل «ليكورجوس» وغيره من الأشخاص غير المعروفين لنا بصفة محسة، مثل «دراكون» إلى أشخاص عرفناهم معرفة أكيدة مدونين في تاريخ بلاد اليونان، ونخص بالذكر أولًا «سولون» الذي ينحدر من أسرة أثينية عريقة في الحسب والنسب، فكان أولًا تاجرًا ثريًّا لاحظ في أسفاره كيف كانت تحكم المدن الأخرى، ولقد رأى أن تشريع «دراكون» على الرغم من أنه قد وضع الحجر الأساسي للحكم المقنن يلمس جذور الفساد، فقد كان يرى كل عام ظلم الأغنياء القليلي العدد، والفقر الذي كان يتفاقم أمره بين صغار الزراع. ومن أجل ذلك عزم على أن يساعد «أثينا» ويعمل عملًا نبيلًا لبلاده، وقد أخذ اسمه يعلو إلى أن انتخب عام 594 ق.م «أركون» فأخذ يقوم بإصلاحاته. وقد نقل بعض القوانين عن مصر كما أشرنا إلى ذلك عند الكلام عن الملك أحمس الثاني.
والواقع أنه كان يوجد في «أتيكا» عدد كبير من صغار الفلاحين يئنون من الفقر، لدرجة أنهم كانوا يقترضون نقودًا بأرباح فاحشة من كبار الملاك وغيرهم من أثرياء القوم، بضمان ما ملكت أيديهم من أرض زراعية، وهذا يعني أنهم كانوا يرهنون أراضيهم؛ أي إنهم كانوا يسلمونها لدائنيهم، إذا لم يقوموا بتسديد ما عليهم من ديون. وهذه الأراضي المرهونة كانت محددة بأحجار — وتسمى أحيانًا أعمدة الرهن — وغالبًا ما كانت تبقى منتصبة هناك لا تزحزح إذا أخفق الدائن في دفع ما عليه. وعلى ذلك كان المدين يستمر يعمل في الأرض التي كانت يومًا ملكه، والظاهر أنه كان يدفع سدس محصولها فائدة لدائنه. والناس الذين ليس لهم أرض أو الذين لم يكن في مقدورهم دفع ما عليهم من ضريبة كان عليهم أحيانًا أن يرهنوا أنفسهم وأسرهم، وعندما يظل الدين قائمًا بعد ذلك يصبح هؤلاء الرهائن في موقف العبيد الذين يمكن بيعهم في داخل البلاد أو في خارجها على يد أسيادهم.
وأول عمل قام به «سولون» أن خلع أحجار الحدود، وحرر العبيد وحرم على الناس أن يبيعوا أنفسهم، وألغى الديون التي فرضت بسبب ذلك. وهذا العمل كان يطلق عليه كلمة إغريقية معناها «نزع النبر»، وقد خلصت فعلًا «أثينا» في مدة وجيزة كل من كان حولها من رجال عوملوا معاملة سيئة، وكانوا خطرًا عليها خطر طبقة «هلوت» الذين كانوا شوكة في ظهر «أسبرتا» في كل أطوار تاريخها.
وقد حاول «سولون» أن يجعل من الأثينيين مواطنين يدب فيهم روح شعبي عالٍ طيب، فقسم الشعب طبقات وأعطى أحقر طبقة وهم الكادحون حق التصويت في الجمعية العمومية للشعب، ووضع محاكم تشريعية تتألف من مواطنين محلفين ورحب بالأجانب الذين كانوا يفدون على «أثينا»، وشجع التجارة وشدد في ضبط الموازين والمكاييل، ولم يسمح لواحد أن يغتاب الأحياء في الأماكن العامة، كما كان محظورًا عليه أن يذم الموتى، وقرر أنه على كل والد ألا ينتظر معونة ابنه إذا لم يكن قد رباه ليكون صاحب تجارة أو حرفة، كما أنه لم يسمح لأي فرد أن يقف على الحياد؛ أي أنْ يقف بعيدًا عن الاشتراك في مصالح بلاده، إذا كان هناك أحزاب مختلفة في البلاد. وأخيرًا لم يسمح لأي امرأة أن تغالي في زينتها، وقد كتب «سولون» قوانينه هذه على ألواح من الخشب، وحفظت في قاعة المدينة Prytaneum، وحتم على كل مواطن أن يطبعها … وبعد أن أتم كل هذه الإصلاحات قام بأسفاره ثانية لمدة عشر سنوات، ثم مات في عزلته في «أثينا» عام 559 ق.م.
الاكثر قراءة في الحضارة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة