معبد دلفي
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج12 504 ــ 506
2025-05-12
539
كان يوجد في عدة أجزاء من بلاد الإغريق أماكن مقدسة يعرف كل منها باسم «الوحي»، حيث كانت الآلهة توحي بإرادتهم للناس. وكان أهم وحي هو «وحي دلفي»، وكان يحدد بالبقعة التي أقيم فيها نسران قيل إنهما تقابلا هناك — وكانا قد أرسلهما «زيوس» شرقًا وغربًا من نهاية العالم — مدللين بذلك على أن «دلفي» هي وسط العالم. وقد كشف النقاب عن «دلفي» هذه الحفائر التي قام بها الفرنسيون في نهاية القرن التاسع عشر.
وكان قد أقيم على موقعها قرية حديثة كان على الحفارين أن يزيلوها، ويقيموا أخرى بدلًا منها قبل البدء في أعمال الحفر. وإله «دلفي» هو «أبوللو»، وكان جذابًا وجماله يفوق جمال كل الآلهة الآخرين، وكان يُعد إله كل الكلام الملهم في الموسيقى والشعر والتنبؤ. وكان يقال إنه ابن «زيوس» نفسه، وأنه ينطق بإرادته. ولا غرابة إذا كان قد جمع كل بلاد الإغريق في حظيرته المقدسة.
والواقع أن «دلفي» تقع في مكان غريب على صورة شعب ارتفاعه ألف قدم على جانب جبل، يشرف خلفها جبل «برناسوس» Parnassus. وتنبع من بين قمتين من قمم هذا الجبل عين «كاستيليان» من الصخر. وكان كل من جبل «برناسوس» و«كاستيليان» مقدسًا لإلهات الشعر «ميوزس» Muses، وكان على الحجاج الذين هم في حاجة لاستشارة الوحي أن يغتسلوا في «العين الكستيليانية». وبعد ذلك كانوا يتسلقون الطريق المقدسة إلى مذبح «أبوللو»، وهنا كانوا يقدمون قربانهم ويقيمون صلواتهم، وعلى مقربة من المذبح يوجد المعبد الكبير الذي كان يحتوي على تمثال للإله «أبوللو»، ونار مقدسة حفظت مشتعلة بالغار وخشب الصنوبر، وفي المحراب الداخلي كان ينطق الوحي بما يوحى به لكل سائل. والكاهنة التي تنطق بما يقول كانت تسمى «بيثيا» Pythia ولا بد من أن تكون امرأة من أهل «دلفي» حرة لا غبار على حياتها، ولكنها لم تكن على شيء من الذكاء؛ لأنه لم يكن مطلوبًا منها أن تركن إلى شيء من العلم والمهارة، بل كان كل ما تركن إليه هو إلهام الإله لها. ومن الممكن كذلك أنها كانت قد وهبت بصيرة أخرى. وكانت هذه الكاهنة تصوم وتستحم في عين «كستيليان»، كما كانت تمضغ أوراق غار مقدس وفيرة، ثم تأتي بعد ذلك في أثواب فضفاضة محلية شعرها بحلي من الذهب، وتقعد على كرسي مثلث الأرجل في داخل المحراب على شق في الأرض، وكان يخرج من عين تحت الشق بخار يظهر أنه كان يجعلها في غيبوبة، حتى إنها كانت تنطق بأصوات متقطعة أو كلمات أوحى بها الإله.
وكان كاهن «أبوللو» يقف على مقربة ليترجم فيكتب الجواب على لوحة ويعطي السائل إياه. وكان الوحي يستشار في كل الأمور، فكان يستشار مثلًا قبل الدخول في حرب أو تأسيس مدينة. وعندما كانت أثينا في خطر داهم من الفرس أخبر «الوحي» المواطنين أن يثقوا في جدرانهم الخشبية، وقد أكد لهم رجل سياستهم «تميستوكليز» أن المقصود من ذلك هو سفنهم المصنوعة من الخشب، وأغراهم أن يضعوا أسرهم على ظهر السفن؛ لتكون حماية لهم في أماكن قريبة وبذلك نجوا. وكان الموحى به يفهم على وجهين أحيانًا، فمثلًا نجد أن «كروسوس» — الذي سنتحدث عنه فيما بعد — ملك «ليديا» الغني كان مصممًا على عبور نهر «هاليس» في آسيا الصغرى، وإعلان الحرب على الفرس، ولما كان جواب الوحي كالآتي:
وعندما يعبر «كروسوس» «هاليس» (النهر)
فإن إمبراطورية عظيمة ستفقد.
فقد عبر «كروسوس» النهر وهو واثق من النصر، ولكنه وجد فيما بعد أن الإمبراطورية العظيمة التي فقدت كانت إمبراطوريته.
وأحيانًا يكون الوحي مبهمًا أو خاطئًا، ولكن نصيحته كانت حكيمة سليمة بعامة؛ وذلك لأن الكهنة الذين كانوا يلقنون الوحي كانوا يعرفون كثيرًا عن الناس، وعن الأحوال الجارية في البلاد، وقد استعملوا معرفتهم لمساعدتهم في ترجمة الكلمات التي تنطق بها «بيثيا» الكاهنة. وهذا الوحي كان في الواقع إحدى الروابط التي تربط الوحدة الإغريقية، فكان الإغريق يشعرون بأن هذا المحراب ملك كل الإغريق لا ملك بلدة «دلفي» نفسها؛ ولذلك تألف مجلس كان يحتوي على اثني عشر نائبًا مقدسًا أرسلوا من حلف مؤلف من إحدى عشرة مدينة أو دولة (وقد أرسلت «دلفي» نائبين)؛ وذلك لمنع التعدي على أي عضو من الحلف، وكذلك من التعدي على محراب «دلفي» نفسه. وقد قامت حربان مقدستان شنهما أعضاء الحلف حماية لهذا المحراب.
وكانت تتدفق على هذا المحراب الهبات وتقدم له كذلك الهدايا، حتى إن المكان أصبح مفعمًا بالمحاريب والنقوش والتماثيل والآثار التي تقدم شكرًا على ما نال مقدموها من نصر. ولا بد أن «دلفي» كانت مزدحمة أكثر مما يجب، ولكن ما عسى أن يفعله الإنسان عندما يقدم القوم هدايا؟
وكانت تقام في «دلفي» أعياد عظيمة يفد إليها الناس من كل أنحاء بلاد «هلاس» (1). وفي هذه البقعة كان يشعر سكان «هلاس» بأنهم جميعًا مواطنون إغريق، وكذلك في هذه البقعة كانوا يشتركون في الألعاب الرياضية، التي كانت تعتبر جزءًا من عيدهم، وكذلك كانوا يشتركون في العبادة عند المحراب الذي كان يتوسطها.
.........................................................
1-«هيلاس» هو اسم يطلق على بلاد الإغريق، وكذلك كان يستعمل وإن لم يكن من الوجهة الجغرافية؛ ليدل على كل الأراضي التي يسكنها الإغريق.
الاكثر قراءة في الحضارة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة