حسن النسق
المؤلف:
إبن أبي الإصبع
المصدر:
تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر
الجزء والصفحة:
ص89-90
26-09-2015
3313
حسن
النسق من محاسن الكلام، وهو أن تأتي الكلمات من النثر والأبيات من الشعر متتاليات،
متلاحمات تلاحماً سليماً مستحسناً، لا معيباً مستهجناً، والمستحسن من ذلك أن يكون
كل بيت إذا أفرد قام بنفسه، واستقل معناه بلفظه، وإن ردفه مجاوره صار بمنزلة البيت
الواحد، بحيث يعتقد السامع أنهما إذا انفصلا تجزأ حسنهما، ونقص كمالهما، وتقسم
معناهما، وهما ليسا كذلك، بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد
والافتراق كحالهما مع الالتئام والاجتماع.
ومن
شواهد هذا الباب في الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَقِيلَ
يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:
44].
فأنت ترى إتيان هذه الجمل معطوفاً بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي
تقتضيه البلاغة لأنه سبحانه بدأ بالأهم، إذ كان المراد إطلاق أهل السفينة من
سجنها، ولا يتهيأ ذلك إلا بانحسار الماء عن الأرض، فلذلك بدأ بالأرض، فأمرها
بالابتلاع، ثم علم سبحانه أن الأرض إذا ابتلعت ما عليها من الماء ولم تقطع مادة
الماء تأذى بذلك أهل السفينة عند خروجهم منها وربما كان ما ينزل من السماء مخلفاً
لما تبتلعه الأرض، فلا يحصل الانحسار فأمر سبحانه السماء بالإقلاع بعد أمره الأرض
بالابتلاع، ثم أخبر بغيض الماء عند ما ذهب ما على الأرض، وانقطعت مادة السماء،
وذلك يقتضي أن يكون ثالث الجملتين المتقدمتين، ثم قال تعالى: {
وَقُضِيَ الْأَمْرُ} ، أي هلك من قدر هلاكه، ونجا من قضيت نجاته، وهذا كنه
الآية، وحقيقة المعجزة، ولا بد وأن تكون معلومة لأهل السفينة، ولا يمكن علمهم بها
إلا بعد خروجهم منها، وخروجهم منها موقوف على ما تقدم، فلذلك اقتضت البلاغة أن
تكون هذه الملة رابعة الجمل، وكذلك استواء السفينة على الجودي، أي استقرارها على
المكان الذي استقرت فيه استقراراً لا حركة معه، لتبقى آثارها آية لمن يأتي بعد
أهلها، وذلك يقتضي أن يكون بعد ما ذكرنا، وقوله سبحانه: {
وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، هذا دعاء
أوجبه الاحتراس ممن يظن أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق، فدعا سبحانه على
الهالكين، ووصفهم بالظلم احتراساً من هذا الاحتمال، وذلك يقتضى أن تكون بعد كل ما
تقدم، والله أعلم.
فانظر
إلى حسن هذا النسق، وكيف وقع القول فيه وفق الفعل سواء.
ومن
شواهد هذا الباب الشعرية قول زهير [طويل]:
ومن
يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل
لهذم
فإنه
نسق على هذا البيت اثنى عشر بيتاً كل بيت معطوف على ما قبله بالواو عطف تلاحم من
غير تضمين.
وحسن
النسق تارة يكون في الأبيات بحيث يعطف بيت على بيت كما قدمنا من شعر زهير، وتارة
في جمل البيت الواحد، كقول ابن شرف القيرواني [بسيط]:
جاور
علياً ولا تحفل بحادثةٍ ... إذا ادرعت فلا تسأل عن
الأسل
سل
عنه، وانطق به، وانظر إليه تجد ... ملء المسامع
والأفواه والمقل
فالحظ
حسن هذا النسق؛ وصحة هذا الترتيب فيه، واستيعاب هذا التقسيم، ووضوح هذا التفسير،
وما رأيت من شواهد حسن النسق مما هو داخل في القسم الأول منه كقول أبي نواس [كامل]:
وإذا
جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس
وإذا
نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس
فإن
حسن النسق لاءم بين فنين متضادين في هذين البيتين: وهما المجون والزهد حتى صارا
كأنهما فن واحد، والله أعلم.