الغرض من التّشبيه والفائدة منه، هي الإيضاح والبيان (في التشبيه غير المقلوب) ويرجع ذلك الغرض إلى المشبه - وهو - إمّا.
(1) بيان حاله - وذلك حينما يكون المشبه مبهماً غير معروف الصفة، التي يُراد إثباتها له قبل التشبيه، فيفيده التشبيه الوصف، ويُوضّحه المشبه به، نحو شجر النارنج كشجر البرتقال - وكقول الشاعر:
إذا قامت لحاجتها تثنّت كأن عظامها من خيزُرانِ
(شبه عظامها بالخزران بياناً لما فيها من اللين) (1)
(2) أو بيانُ إمكان حاله - وذلك حين يُسند إليه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له، معروفٍ واضح مُسَلّم به، ليثبت في ذهن السامع ويتقرّر - كقوله:
ويلاه إن نظرت وان هي أعرضت وقع السِّهام ونزعُهنَّ أليم
(شبّه نظرها: بوقع السهام، وشبه إعراضها بنزعها: بياناً لإمكان إيلامها بهما جميعاً)
(3) او بيان مقدار حال المشبه في القوّة والضّعف، وذلك إذا كان المشبه معلوماً، معروف الصفة التي يُراد اثباتها له معرفة اجمالية قبل التشبيه بحيث يراد من ذلك التشبيه بيان مقدار نصيب المشبه من هذه الصفة وذلك بأن يعمدَ المتكلَم لأن يبين للسامع ما يعنيه من هذا المقدار - كقوله:
كأن مشيتها من بيت جارتها مر الحساب لا ريث ولا عجلُ
وكتشبيه: الماء بالثلج، في شدة البرودة - وكقوله:
فيها اثنتان واربعون حلُوبةً سوداً كخافية الغراب الأسحم
(شبه النياق السود، بخافية الغراب، بياناً لمقدار سوادها، فالسواد صفة مشتركة بين الطرفين)
(4) أو تقرير حال المشبه، وتمكينه في ذهن السامع، بابرازها فيما هي فيه أظهر (2) ، كما إذا كان ما أسند إلى المشبه يحتاج إلى التثبيت والإيضاح فتأتى بمشبه حسى قريب التصور، يزيد معنى المشبه ايضاحاً، لما في المشبه به من قوة الظهور والتمام، نحو: هل دولة الحسن إلا كدولة الزَّهرَ، وهل عمر الصِّبا إلا أصيل أو سحر، وكقوله:
إن القلوبَ إذا تنافر وُدُّها مثل الزجاجة كسرها لا يُجبر (3)
(شبه تنافر القلوب، بكسر الزجاجة، تثبيتا لتعذر عودة القلوب إلى ما كانت عليه من الأنس والمودَّة)
(5) أو بيان إمكان وجود المشبه، بحيث يبدو غريباً يُستبعد حدُوثه والمشبه به يزيل غرابته، ويُبين أنه ممكنُ الحصول، كقوله:
فان تفق الأنام وأنت منهم فان المسك بعض دم الغزال (4)
(6) أو مدحه وتحسين حاله، ترغيباً فيه، أو تعظيما له، بتصويره بصورة تهيج في النفس قوى الاستحسان، بأن يعمد المتكلم إلى ذكر مشبه به معجب، قد استقر في النفس حسنه وحبُّه، فيصور المشبه بصورته، كقوله:
وزاد بك الحسن البديع نضارة كأنك في وجه الملاحة خالُ
ونحو: كأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وكقوله:
سبقت إليك من الحدائق وردة وأتتك قبل أوانها تطفيلا
طمعت بلثمك إذ رأتك فجمَّعت فمها إليك كطالب تقبيلا
وكقوله: له خال على صفحات خد كنقطة عنبر في صحن مرمر
والحاظ كأسياف تُنادي على عاصي الهوى الله أكبر
(7) أو تشويه المشبه وتقبيحه، تنفيراً منه أو تحقيراً له، بأن تصوره بصورة تمجها النفس، ويشمئز منها الطبع، كقوله:
وإذا أشار محدثاً فكأنه قرد يقهقهُ أو عجوزٌ تلطم
وكقوله:
وترى ناملها دبت على مزمارها كخنافسٍ دبت على أوتار
(8) أو استطرافه «أي عده طريفاً حديثاً» بحيث يجيء المشبه به طريفاً، غير مألوفٍ للذهن.
إما لإبرازه في صورة الممتنع عادة، كما في تشبيه: فحم فيه جمر متقد يبحر من المسك موجه بالذهب - وكقوله:
وكأن محمرَّ الشقيق ... ... إذا تصَّوب أو تصعَّد
أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد
وإما لندور حضور المشبه به في الذهن عند حضور المشبه، كقوله:
أنظر إليه كزورق من فضَّة قد أثقلته حمولة من عنبرٍ (5)
تشبيه على غير طرقه الأصلية
(1) التشبيه الضمني
هو تشبيه ٌ لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، بل يلمح المشبه والمشبه به، ويفهمان من المعنى، ويكون المشبه به دائماً برهاناً على امكان ما أسند إلى المشبه، كقول المتنبي
من يهن يسهل الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميَّت إيلامُ
(أي إن الذي اعتاد الهوان، يسهل عليه تحمّله، ولا يتألم له، وليس هذا الادعاء باطلا (لأن الميت إذا جرح لا يتألم) ، وفي ذلك تلميح بالتشبيه في غير صراحة، وليس على صورة من صور التشبيه المعروفة، بل انه (تشابهٌ) يقتضي التَّساوي، وأما (التشبيه) فيقتضي التفاوت.
التشبيه المقلوب
(2) قد يُعكس التشبيه، فيجعل المشبه مشبهاً به - وبالعكس (6)
فتعود فائدته إلى المشبه به، لادِّعاء أن المشبه أتم وأظهر من المشبه به في وجه الشبه - ويسمى ذلك (بالتشبيه المقلوب) (1) أو المعكوس - نحو: كأن ضوء النهار جبينُه - ونحو: كأن نشر الروض حسن سيرته - ونحو: كأن الماء في الصفاء طباعه - وكقول محمد بن وهيب الحميري (7)
وبدا الصباح كأن غرّته وجهُ الخليفة حين يُمتدحُ
(شبه غرة الصباح، بوجه الخليفة، إبهاماً أنه أتم منها في وجه الشبه وكقول البحتري في وصف بركة المتوكل:
كأنها حين لجَّت في تدفقها يد الخليفة لمّا سال واديها (8)
وهذا التشبيه مظهرٌ من مظاهر الإفتنان والابداع، كقوله تعالى حكاية عن الكفار (إنما البيعُ مثل الربا) في مقام أن الربا مثل البيع عكسوا ذلك لإيهام أن الربا عندهم أحلّ من البيع، لأن الغرض الرِّبح وهو أثبتُ وجوداً في الربا منه في البيع، فيكون أحق بالحل عندهم.
_________
(1) والتشبيه لهذا الغرض يكثر في العلوم والفنون لمجرد البيان والايضاح، فلا يكون فيه حينئذ أثر للبلاغة لخلوه من الخيال وعدم احتياجه إلى التفكير، ولكنه لا يخلو من ميزة الاختصار في البيان، وتقريب الحقيقة إلى الأذهان، كقوله: الأرض كالكرة.
(2) ويكثر في تشبيه الأمور المعنوية بأخرى تدرك بالحس: نحو التعلم في الصغر كالنقش في الحجر.
(3) تنافر القلوب وتوادها من الأمور المعنوية، ولكن الشاعر نظر إلى ما في المشبه به من قوة الظهور والتمام، فانتقل بالسامع من تنافر القلوب الذي لا ينتهي إذا وقع، إلى كسر الزجاجة الذي لا يجبر إذا حصل، فصور لك الأمر المعنوي بصورة حسية.
(4) أي أنه لا استغراب في فوقانك للانام مع أنك واحد منهم - لأن لك نظيراً وهو (المسك) فانه بعض دم الغزال وقد فاق على سائر الدماء - ففيه تشبيه حال الممدوح بحال المسك تشبيها ضمنيا - والتشبيه الضمني هو تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، بل يلمحان في التركيب لافادة أن الحكم الذي أسند إلى المشبه ممكن، نحو: المؤمن مرآة المؤمن.
(5) الحمولة ما يحمل فيه ويوضع والمقصد من التشبيه وجود شيء أسود داخل أبيض واعلم أن التشبيه يعود فيه الغرض إلى المشبه يكون وجه شبهه أتم وأعرف في المشبه به، منه في المشبه، كما في السكاكي، وعليه جرى أبو العلاء المعري في قوله (ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك) وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى - وشراح التلخيص اشترطوا الأعرفية ولم يشترطوا الاتمية، وفي المطول والأطول ما يلفت النظر - فارجع اليهما.
(6) التشبيه المقلوب: ويسمى المنعكس، هو ما رجع فيه وجه الشبه إلى المشبه به وذلك حين يراد تشبيه الزائد بالناقص ويلحق الأصل بالفرع للمبالغة، وهذا النوع جار على خلاف العادة في التشبيه، ووارد على سبل الندور وانما يحسن في عكس المعنى المتعارف كقول البحتري
في طلعة البدر شيء من محاسنها وللقضيب نصيب من تثنيها
والمتعارف تشبيه الوجوه الحسنة بالبدور، والقامات بالقضيب في الاستقامة، والتثنى لكنه عكس ذلك مبالغة - هذا إذا أريد الحاق كامل بناقص في وجه الشبه، فان تساويا حسن العدول عن (التشبيه) إلى الحكم (بالتشابه) تباعداً واحترازا من ترجيح أحد المتساويين على الآخر، كقول أبي اسحاق الصابي
تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فو الله ما أدرى أبا لخمر أسلبت جفوني أم من عبرتي كنت أشرب
وكقول الصاحب بن عباد
رق الزجاج وراقت الخمر فتشابها وتشاكل الامر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر.
(7) فالحميري أراد أن يوهم أن وجه الخليفة أتم من غرة الصباح اشراقا ونورا
(8) فالبحتري أراد أن يوهم أن يد الخليفة أقوى تدفقاً بالعطاء من البركة بالماء.