لغة(1): ما يتكلم به الإنسان، ويريد به غيره، وهي: مصدر كنيت، أو كنوت بكذا، عن كذا، إذا تركت التصريح به.
فالكناية: هي أن يريد المتكلم اثبات معنى من المعاني: فلا يذكره باللفظ الموضوع له ولكن يجىء إلى معنى هو مرادفه، فيومىء به إلى المعنى الأول، ويجعله دليلا عليه أو الكناية هي اللفظ الدال على ما له صلة بمعناه الوضعي، لقرينة لا تمنع من إرادة الحقيقة، كفلان نقي الثوب، أي مبرأ من العيب، كلفظ «طويل النجاد» المراد به طول القامة، فانه يجوز أن يراد منه طول النجاد أي علاقة السيف أيضا، فهي تخالف المجاز من جهة إمكان إيراد المعنى الحقيقي مع إرادة لازمه، بخلاف المجاز فانه لا يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي لوجود القرينة المانعة من ارادته، ومثل ذلك قولهم «كثير الرماد» يعنون به أنه كثير القرى والكرم، وقول الحضرمي: قد كان تعجب بعضهن براعي حتى رأين تنحنحى وسعالى
كنى عن كبر السن بتوابعه، وهي التنحنح والسعال
وقولهم: المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه - وقوله
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
وقوله: ومابك في من عيب فاني جبان الكلب مهزول الفصيل
فان «جبان الكلب» كناية - وكذا «مهزول الفصيل» والمراد منهما ثبوت الكرم، وكل واحدة على حدتها تؤدي هذا المعنى، وقد جاء عن العرب كنايات كثيرة كقوله:
بيض المطابخ لا تشكو إماؤ همو طبخ القدور ولا غسل المناديل
ويروي أن خلافا وقع بين بعض الخلفاء ونديم له في مسألة، فاتفقا على تحكيم بعض أهل العلم، فاحضر، فوجد الخليفة مخطئاً، فقال: القائلون بقول أمير المؤمنين أكثر (يريد الجهال) وإذا كان الرجل أحمق قيل - نعته لا ينصرف، ونظر البديع الهمذاني إلى رجل طويل بارد - فقال: قد أقبل ليل الشتاء، ودخل رجل على مريض يعوده وقد اقشعر من البرد - فقال ما تجد (فديتك) قال أجدك (يعني البرد) وإذا كان الرجل ملولا قيل: هو من بقية قوم موسى، وإذا كان ملحداً، قيل قد عبر (يريدون جسر الإيمان) وإن كان يسيء الأدب في المؤاكلة قبل: تسافر يده على الخوان ويرعى أرض الجيران، ويقال عمن يكثر الاسفار: (فلان) لا يضع العصا على عاتقه - وجاء في القرآن الكريم (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً) فانه كنى عن الغيبة يأكل الانسان لحم الانسان، وهذا شديد المناسبة لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم وتمزيق العرض مماثل لأكل الانسان لحم من يغتابه ومن أمثال العرب: قولهم: لبست لفلان جلد النمر، وجلد الأرقم - كناية عن العداوة، وكذلك قولهم (قلبت له ظهر المجن) كناية عن تغيير المودة، ويقول القوم: فلان برىء الساحة، إذا برؤوه من تهمة - ورحب الذراع، إذا كان كثير المعروف - وطويل الباع في الأمر، إذا كان مقتدرا فيه - وقوى الظهر، إذا كثر ناصروه، ومن ذلك أن (المنصور) كان في بستان له، أيام محاربته (إبراهيم بن عبد الله بن الحسن) فنظر إلى شجرة خلاف فقال للربيع، ما هذه الشجرة، فقال طاعة يا أمير المؤمنين فتفاءل المنصور به، وعجب من ذكائه، ومثل ذلك: أن رجلا مر في صحن دار (الرشيد) ومعه حزمة خيزران، فقال الرشيد للفضل بن الربيع، ما ذاك فقال (عروق الرماح) يا أمير المؤمنين، وكره أن يقول «الخيزران» لموافقته اسم (والدة الرشيد) ومن كلامهم «فلان طويل الذيل» يريدون أنه غني من الحال، وعليه قول الحريري
أن الغريب الطويل الذيل ممتهن فكيف حال غريب ماله قوت
وكذلك قولهم: فلان طاهر الثوب - أي منزه عن السيئات، وفلان دثن الثوب أي متلوث بها - قال امرؤ
القيس ثياب بني عوف طهارة نقية وأوجههم عند المشاهد غرات
ويقولون: فلان غمر الرداء - إذا كان كثير المعروف عظيم العطايا، قال كثير
... غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال
ومن الكنايات اللطيفة: ما ذكرها الأدباء في الشيب والكبر، فيقولون: عرضت لفلان فترة، وعرض له ما يمحو ذنوبه، واقمر ليله، ونور غصن شيابه، وفضض الزمان أبنوسه - وجاءه النذير، وقرع ناجذ الحلم، وارتاض بلجام الدهر، وأدرك زمان الحنكة، ورفض غرة الصبا، ولبى دواعي الحجي، ومن كناياتهم عن الموت: استأثر الله به، وأسعده بجواره، ونقله إلى دار رضوانه ومحل غفرانيه، واختار له النقلة من دار البوار إلى دار الأبرار، ومن الكنايات أيضاً أن يقام وصف الشيء مقام اسمه كما ورد في القرآن الكريم (وحملناه على ذات أولاح ودسر) يعني السفينة، فوضع صفتها موضع تسميتها، كما ورد (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) يعني الخيل، وقال بعض المتقدمين.
سألت قتيبة عن أبيها صحبة في الروح هل ركب الاغر الاشقرا
يعني هل قتل، لأن الاغر الاشقر، وصف الدم، فأقامه مقام اسمه
واصطلاحاً: لفظ أريد به غيرُ معناهُ الذي وضع له، مع جواز إرادة المعنى
الأصلي، لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته، نحو «زيد طويل النجاد «تريد بهذا التركيب أنه شجاع عظيم، فعدلت عن التصريح بهذه الصفة، إلى الاشارة إليها بشيء تترتب عليه وتلزمه، لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول صاحبه، ويلزم من طول الجسم الشجاعة عادة، فإذاً: المراد طول قامته، وان لم يكن له نجاد، ومع ذلك يصحّ أن يراد المعنى الحقيقي - ومن هنا يعلم أن الفرق بين الكناية والمجاز صحة إرادة المعنى الأصلي في الكناية، دون المجاز، فإنه ينافى ذلك، نعم: قد تمتنع إرادة المعنى الأصلي في الكناية، لخصوص الموضوع كقوله تعالى (والسموات مطويات بيمينه) وكقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) كناية عن تمام القدرة، وقوة التمكن والاستيلاء وتنقسم الكناية بحسب المعنى الذي تشير إليه إلى ثلاثة أقسام:
1- كناية عن صفةٍ - كما تقول (هو ربيب أبي الهول) تكنى عن شدة كتمانه لسره.
وتعرف كناية الصفة بذكر الموصوف: ملفوظاً أو ملحوظاً من سياق الكلام.
2- كناية عن موصوف - كما تقول (أبناء النيل) تكنى عن المصريين، و (مدينة النور) تكنى عن باريس، وتعرف بذكر الصفة مباشرة، أو ملازمة ومنها: قولهم (تستغنى مصر عن مصب النيل ولا تستغني عن منبعه) كنوا بمنبع النيل عن أرض السودان.
ومنها: قولهم (هو حارس على ماله) كنوا به عن البخيل الذي يجمع ماله، ولا ينتفع به، ومنها: قولهم (هو فتىً رياضي) يكنون عن القوة - وهلم جرّا
3- كناية عن نسبة، وسيأتي الكلام عليها فيما بعد، فالقسم الأول - وهو الكناية التي يطلب بها (صفة) هي ما كان المكنى عنه فيها صفة ملازمة لموصوف مذكور في الكلام - وهي نوعان.
(1) كناية قريبة - وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بغير واسطة بين المعنى المنتقل عنه، والمعنى المنتقل إليه - نحو قول الخنساء في رثاء أخيها صخر
رفيع العماد طويل النجا د سادَ عشيرته أمردا (2)
(ب) وكناية بعيدة - وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بواسطة، أو بوسائط، نحو «فلان كثير الرماد» كناية عن المضياف، والوسائط: هي الانتقال من كثرة الرّماد إلى كثرة الإحراق، ومنها إلى كثرة الطبخ والخبز، ومنها إلى كثرة الضيوف، ومنها إلى المطلوب، وهو المضياف الكريم.
القسم الثاني - الكناية التي يكون المكنى عنه موصوفاً (3) بحيث يكون إما معنى واحداً «كمواطن الأسرار» كناية عن القلب، وكما في قول الشاعر:
فلما شربناها ودب دبيبها إلى موطن الأسرار قلت لها قفي
وإما مجموع معان: كقولك «جاءني حيٌّ مستوى القامة، عريض الأظفار» (كناية عن الانسان) لاختصاص مجموع هذه الأوصاف الثلاثة به، ونحو:
الضاربين بكل أبيض مخذم والطاعنين مجامع الأضغان
ويشترط في هذه الكناية: أن تكون الصفة أو الصفات مختصة بالموصوف، ولا تتعداه ليحصل الانتقال منها اليه.
القسم الثالث - الكناية التي يراد بها نسبة أمر لآخر، إثباتاً أو نفياً فيكون المكنى عنه نسبةً، أسندت إلى ماله اتصال به - نحو قول الشاعر
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
فانّ جعل هذا الأشياء الثلاثة في مكانه المختص به يستلزم اثباتها له والكناية المطلوب بها نسبةٌ.
(1) إما أن يكون ذو النسبة مذكوراً فيها - كقول الشاعر
... أليُمن يتبع ظلّه والمجدُ يمشي في ركابه
(ب) وإمّا أن يكون ذو النسبة غير مذكور فيها: كقولك «خير الناس من ينفع الناس» كناية عن نفي الخيرية عمّن لا ينفعهم، وتنقسم الكناية أيضاً باعتبار الوسائط (اللوازم) والسياق: إلى أربعة أقسام: تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء.
(1) فالتعريض: لغة - خلاف التصريح، واصطلاحا: هو أن يطلق الكلام، ويشار به إلى معنى آخر، يفهم من السياق نحو قولك للمؤذي (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) تعريضاً بنفي صفة الإسلام عن المؤذي، وكقول الشاعر:
إذا الجودُ لم يرزق خلاصاً من الأذى فلا الحمدُ مكسوباً ولا المال باقيا
(2) والتلويح: لغة - أن تشير إلى غيرك من بعد
واصطلاحاً - هو الذي كثرت وسائطه بلا تعريض، نحو
وما يكُ فيّ من عيبٍ فإنى جبانُ الكلب مهزول الفصل
كنى عن كرم الممدوح بكونه جبان الكلب، مهزول الفصيل، فان الفكر ينتقل إلى جملة وسائط.
(3) والرمز: لغة - أن تشير إلى قريب منك خفية، بنحو: شفة، أو حاجب.
واصطلاحاً - هو الذي قلّت وسائطه، مع خفاء في اللزوم بلا تعريض نحو: فلان عريض القفا، أو عريض الوسادة - كناية عن بلادته وبلاهته ونحو: (هو مكتنز
اللحم) كناية عن شجاعته، (ومتناسب الأعضاء) كناية عن ذكائه، ونحو: (غليظ الكبد) كناية عن القسوة - وهلم جرّا والإيماء أو الإشارة: هو الذي قلت وسائطه، مع وضوح اللزوم، بلا تعريض، كقول الشاعر:
أو ما رأيت المجد ألقى رحله في آلِِ طلحة ثم لم يتحول
كناية عن كونهم: أمجاداً أجواداً، بغاية الوضوح ومن لطيف ذلك قول بعضهم:
سألت الندى والجود مالي أراكما تبدلتما ذلاً بعزٍّ مؤبدِ
وما بال رُكن المجد أمسى مهدّما فقالا، أصبنا بابن يحيى محمد
فقلت: فهلاّ مُتُّما عند موته فقد كنتما عبديه في كل مشهد
فقالا: أقمنا كي نُعزّى بفقده مسافة يوم ثم نتلوه في غد
والكناية من ألطف أساليب البلاغة وأدقها، وهي أبلغ من الحقيقة والتصريح، لأن الانتقال فيها يكون من الملزوم إلى اللازم، فهو كالدَّعوى ببينة، فكأنك تقول في «زيد كثير الرماد» زيد كريم، لأنه كثير الرماد وكثرته تستلزم كذا الخ - كيف لا - وانها تمكن الإنسان من التعبير عن أمور كثيرة، يتحاشى الأفصاح بذكرها، إمّا احتراماً للمخاطب، أو للابهام على السّامعين، أو للنيل من خصمه، دون أن يدعَ له سبيلا عليه، أو لتنزيه الأذن عمّا تنبو عن سماعه، ونحو ذلك من الأغراض واللطائف البلاغية.
_________
(1) توضيح المقام: أنه إذا أطلق اللفظ، وكان المراد منه غير معناه - فلا يخلو إما: أن يكون معناه الأصلي مقصودا أيضا، ليكون وسيلة إلى المراد وإما: ألا يكون مقصوداً - فالأول - الكناية - والثاني – المجاز.
(2) قصدت الخنساء وصف صخر بطول القامة والشجاعة، فعدلت عن التصريح بما أرادت إلى الاشارة إليه بطول النجاد لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول قامة صاحبه، أو طول القامة يلزمه الشجاعة غالباً - كما أرادت وصفه بالعزة والسيادة فلم تصرح بقصدها وصرحت بما يستدعي ما أرادت فقالت: (رفيع العماد) فرفعة العماد تستلزم أنه عظيم المكانة في قومه على الشأن بين عشيرته، لجريان العادة بذلك، وعمدت إلى وصفه بالجود والكرم، فقالت (كثير الرماد) تشير كثرة الايقاد للاطعام، وهذا يلزمه الكرم.
(3) أي يكون المكنى عنه فيها ذاتا ملازمة للمعنى المفهوم من الكلام.