للدماغ الكبير والقوي ميزات واضحة، لكنه يحمل أيضاً جوانب سلبية خفية. فبالنسبة للعديد من المخلوقات، يساهم الدماغ الكبير حالياً في تعرضها لخطر الانقراض.
طالما امتدحت أدمغتنا الكبيرة بصفتها تمثل رصيدا مهما بالنسبة لنا. فنحن أذكياء، وغزونا كل ركن في أرجاء الأرض تقريباً، وتلاعبنا بكل ما يحيط بنا من بيئات لنجعلها تناسبنا، كما نقوم دائما بتطوير تقنيات مبتكرة لجعل حياتنا أسهل. وبدون أدمغتنا، لم يكن من الممكن حدوث أي شيء مما ذكر.
لكن الأدمغة تعد أعضاء ذات قيمة كبيرة، وهي تتطلب قدراً كبيراً من الطاقة لكي تعمل. والبشر دليل حي على أن هذه القيمة لها مردود واضح من الناحية البيولوجية. فقد تمكنا من التغلب على العقبات الخفية التي واجهتنا لتطوير أدمغة أكبر من السابق.
لكن ليس كل الأدمغة الكبيرة مرتبطة بالبقاء. في بعض الحالات، حيوانات مثل الإسفنج ليس لها أدمغة على الإطلاق، ومع ذلك فهي ناجحة في البقاء والاستمرار. ويعتقد بعض الباحثين أن حيوان الإسفنج كان له دماغ في يوم من الأيام، ولكنه تخلص منه، ربما لأن الحياة بلا دماغ كانت مفيدة للحياة المرتبطة بالصخور في قاع البحر.
ربما لا يكون مفاجئاً، بناء على تلك المعرفة، أن نعلم أن عدة دراسات تظهر الآن أن حمل دماغ كبير يمكن أن يكون مشكلة بالنسبة لبعض الثدييات. ويمكن أن يؤدي حتى إلى انقراضها. وتواجه اليوم العديد من أكبر الثدييات على سطح الأرض خطر الانقراض.
فقد توصلت دراسة نشرت هذا العام إلى أن 60 في المئة من أكبر الثدييات على سطح الأرض تصنف - من قبل الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة - على أنها مهددة. أما الحيوانات في الصحراء الكبرى الأفريقية، وجنوب شرقي آسيا هي الأكثر عرضة للخطر. ويشمل ذلك الأسود، والنمور، والغوريلا، والفيلة، ووحيد القرن.
وقال ويليام ريبل، المؤلف الرئيسي لهذه الدراسة، والأستاذ بكلية الغابات في جامعة أوريغون بالولايات المتحدة، إنه "كلما نظرت إلى التوجهات التي تتعرض لها الثدييات الأرضية الأكبر، زاد قلقي من أننا يمكن أن نفقد هذه الحيوانات التي يكتشف العلم أنها مهمة".
وقد شارك في كتابة الدراسة 43 خبيراً في الحياة البرية، ونشرت في دورية بيو ساينس. وتؤكد هذه الدراسة على أن المهتمين بالحفاظ على البيئة عرفوا منذ زمن طويل أن الحيوانات كبيرة الحجم تواجه خطر الانقراض بشكل متزايد.
هناك عدة أسباب لهذا الأمر. فالحيوانات الكبيرة تحتاج إلى طعام أكثر، ومحيط أوسع، وهي غالباً هدف للصيد الجائر. والأكثر من ذلك، تتلاشى البيئة التي تعيش فيها تلك الحيوانات بسبب التصحر المتزايد باستمرار، ويعود ذلك جزئياً إلى زيادة المساحات المزروعة التي تهدف إلى إطعام الأعداد المتزايدة من البشر.
لكن هناك سبب غير ذائع يساهم في تعرض هذه الحيوانات الكبيرة للانقراض، وهو أدمغتها الكبيرة. ويعتبر هذا واضحاً لأن الجسد الكبير يحتاج أيضا إلى دماغ كبير.
تقول مانويلا غونزالز-سويرس، من جامعة ريدينغ في بريطانيا "نعلم أن حجم الدماغ مرتبط بحجم الجسم، حيث لا يمكن أن يوجد دماغ فيل في جسد فأر مثلا. ومن النادر أيضاً أن يكون هناك حيوان له جسد كبير ودماغ صغير".
لكن غونزالز-سويرس تتساءل عما إذا كان الأمر أعمق من ذلك. فهل يؤثر حجم دماغ الثدييات على احتمال انقراضها؟
وإذا كان هناك تأثير بالفعل، فلماذا يعتبر الدماغ الكبير أمراً سيئاً؟
في دراسة نشرت عام 2015، فحصت غونزالز–سويرس وزملاؤها 474 من الحيوانات لتقف على الأسباب الدقيقة التي تزيد من خطر تعرضها للانقراض. وقد توصلوا إلى أن الأدمغة الكبيرة لها جانب سلبي واضح، لأنها مرتبطة بطيف من الصفات التي تنطوي على مشاكل.
فعلى سبيل المثال، الرضع ذوو الأدمغة الكبيرة يحتاجون إلى فترة حمل أطول، ومستوى أعلى من الرعاية الأسرية من قبل الأب والأم.
وهذا يعني أن الحيوانات ذات الأدمغة الكبيرة تستغرق وقتاً أطول للتكاثر، وتنجب عدداً أقل في المرة الواحدة. فأمهات الغوريلا ترعى صغارها لمدة ثلاث سنوات، وتنجب كل ثلاث أو أربع سنوات.
كما أن فترات الحمل والرضاعة الطويلة تعني أن المولود يكون عرضة للموت في سن صغيرة. وتقول غونزالز–سويرس "هذه الصفات في المقابل تزيد من خطر الانقراض، إذ أن أعداد هذه الحيوانات لا يمكن أن تنمو بسرعة، أو تعوض معدل الوفيات بسرعة".
صحيح أن الأدمغة الكبيرة ساعدت الثدييات، ومنها نحن البشر على وجه الخصوص، على التأقلم مع التغيرات المناخية في الماضي. لكن الدراسة الجديدة تقول إن الدماغ الكبيرة ليست أمراً جيداً كما يبدو لك.
تقول غونزالز-سويرس إنه تم الآن تجاوز نقطة تحول حاسمة، وباتت الأدمغة الكبيرة سبباً لمتاعب لا تستحقها. وتضيف "التكلفة عالية جداً".
وهناك تدخل بشري واضح في تغيير ذلك التوازن. فالحيوانات لا تستطيع التكيف مع التغيرات التي فرضها البشر على البيئة، كما يقول أليخاندرو غونزالز فوير، الكاتب المشارك من جامعة المكسيك الوطنية المستقلة.
ويضيف فوير "لا يمكن للحيوانات أن تستجيب بالسرعة الكافية، لذا فإن المرونة السلوكية التي كان يمنحها الدماغ الكبير في الماضي ليست كافية للحيوانات للتأقلم مع التغيرات السريعة التي تحدث الآن".
المفارقة هي أن ذلك يعود جزئياً إلى أن أدمغتنا الكبيرة ساعدتنا على تغيير العالم الذي تعاني منه الحيوانات ذوات الأدمغة الكبيرة حاليا.
وتحدثت دراسة أخرى عن الفكرة ذاتها، وهي دراسة نشرت في فبراير/شباط من هذا العام، وقارنت بين حجمي الدماغ والجسم. وقد ركز إريك أبيلسون من جامعة ستانفورد في هذه الدراسة على 160 صنفا من الحيوانات، مستخدماً جماجم من المتاحف لحوالي 1679 حيواناً، لمعرفة تأثير حجم الدماغ.
وتميل الحيوانات الأكثر عرضة لخطر الانقراض إلى أن يكون حجم الدماغ لديها كبيرا بالنسبة لحجم الجسد. وهذا يشمل الكلاب قصيرة الأذن، والقطط النمرية، وكلاهما صنف من قبل الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة على أنهما على وشك مواجهة خطر الانقراض.
وظاهر الأمر أن البشر يمثلون استثناءً من هذه القاعدة، فمع أننا لدينا أدمغة كبيرة، لا نزال نشهد زيادة في عدد السكان.
لكن عدد السكان من البشر ينمو بمعدلات ربما يصعب علينا معها الحفاظ عليه. بالإضافة إلى هذا، رغم ذكائنا، فقد تسببنا نحن في ظاهرة الاحتباس الحراري للكرة الأرضية بمستوى مثير للقلق.
وتقول غونزاليز–سويرس "ربما نكون أذكياء بما فيه الكفاية فيما يتعلق بمصلحتنا، ولسنا أذكياء بما فيه الكفاية لندرك أننا ندمر كوكبنا".
ويتفق فوير مع هذا الرأي، لكنه يشير إلى أن الكثيرين منا يدركون سلفاً أننا نتسبب في هذا الخراب للبيئة.
ويقول إن المشكلة هي أن دوافع تغيير تصرفاتنا ليست ملموسة لكي نعمل عليها، وإن عملنا على تغيير تصرفاتنا يخدم الأجيال القادمة، وأن المشكلة تعد ثقافية بالدرجة الأولى.
وبوضع هذه التقارير جنبا إلى جنب، نراها تشير إلى أن العالم في نهاية الأمر يفقد بعضاً من الحيوانات المعروفة ذات الأدمغة الكبيرة.
وتأمل غونزالز–سويرس في أن ما توصلت إليه سيساعد علماء البيئة في إعطاء الأولوية في التمويل المحدود الذي لديهم لمساعدة الحيوانات الأكثر تهديداً بالانقراض.
وبهذه الطريقة، يمكننا البدء في إصلاح بعض الضرر الذي تسببنا فيه نحن البشر.
ويقول مؤلفو أحدث تقرير عن الانقراض الجماعي نشر بدورية بيو ساينس العلمية "ينبغي ألا نمضي صامتين إزاء هذا المستقبل البائس. نحن نؤمن أنها مسؤوليتنا الجماعية كعلماء درسوا الحيوانات الضخمة لكي يعملوا على منع تناقص أعدادها".