تعددت المجالات في دراسة اللسانيات الحدثية، حتى أدت لظهور حقل جديد نسبياً هو ” اللسانيات الحاسوبية Computational Linguistics” حيث تشارك اللسانيات في المساعدة على فهم خصائص المعطيات اللغوية وكذلك تقديم نظريات تفيد في كيفية بناء اللغة واستعمالها، كما ظهرت ايضاً العديد من التجارب الداعمة لعملية ظهور اللغة.
اصبح الآن بإمكان تجارب المحاكاة simulations في ضوء التطورات الحديثة في مجالات النظريات الرياضية، تكنولوجيا الحاسوب، والروبوتات، اختبار فرضيات بشأن ظهور اللغة. برغم أن هذه التجارب لا تخلو من أوجه قصور: عدم قدرتها على الوقوف على تعقيدات التفاعلات البشرية، أوعلى أن تثبت بشكل قاطع أن عملية ظهور اللغة ترتبط بالتطورات الجينية. المجال لايزال حديثاً لكنه واعداً، وسوف يساعد التقدم التكنولوجي، تراكم نتائج تجارب المحاكاة، وإجراء تجارب أكثر تطوراً واقرب إلى الواقع في فهم أفضل لعملية ظهور اللغة.
في الوقت الحالي، يوجد عدد من الفرضيات عن كيف، لماذا، متى، وأين ظهرت اللغات لأول مرة، ضمن هذه الفرضيات نماذج توضح أن التفاعلات البسيطة بين الاشخاص يمكن أن تنشئ تراكيب نحوية – مفاجئة وغير حتمية – مشتركة بين الأفراد، من هذه النماذج:
نموذج محاكاة كيربي 1998 (Kirby’s Simulation)
تشتمل محاكاة كيربي Kirby’s Simulation على ثلاثة مكونات رئيسية لكل منها أربعة جوانب (أعلى، أسفل، إلى اليمين، إلى اليسار). يمثل العنصر الاول المتحدثات، الثاني الكلمات، والثالث محصل الكلمات المكتسبة.
في المرحلة الاولى، تُنتج المتحدثات الكلمات عشوائياً بناءً على قواعد نحوية محددة ثم يأخذ المكتسِب نماذج من تلك الكلمات الاقرب إلى وضعهم في الصفوف ( الجهات الاربعة). يتم ضبط تلك الكلمات نحوياً وتصبح مكتسَبة، ثم تتحول مجدداً إلى المتحدثات، وهكذا دواليك.
بيّن (كيربي Kirby ) من خلال هذه المحاكاة، أن تركيب الجملة يشبه الهيكل، يمكن أن ينشأ من خلال التحليل والتكرار دون أن يتحدد سلفاً بناء الجملة المعقد. و يرى (كيربي Kirby) أن اللغات تطورت تاريخياً لتصبح أنظمة تواصل بشكل أمثل، وهي كيّفت نفسها للبقاء على قيد الحياة، والانتقال من جيل إلى جيل. كما تطورت آليات تعلم اللغة البشرية من أجل تعلم لغات أكثر كفاءة.
نموذج محاكاة باتالي 1998 (Batali’s Simulation)
أجرى (باتالي Batali) تجربة محاكاة حاسوبية ورياضية؛ لمعرفة ما إذا كان يمكن انشاء معنى منتظم من خلال التفاعلات المحلية بين النماذج الفردية دون أي توجيه خارجي بشأن كيفية تطوير النظام. شملت التجربة عدد من نماذج انظمة الاتصال التي صُممت للقيام بأمريين: انشاء رموز تحمل معاني محددة، وتقديم تفسيرات لتلك الرموز. لم تكن هناك رموز مشتركة بين النماذج. في البداية، كانت تعمل بشكل فوضوي بالفعل. فقد أنشأ عدد من النماذج الرموز نفسها للمعنى ذاته، ولم يكن أي من النماذج قادر على فهم الرموز التى يرسلها الآخر. لكن – وبالاستمرار في التجربة- بدأ كل نموذج يتعلم تفسير الرموز التي تُرسل من الآخر، ونجح في التعامل معها. وفي النهاية، طورت هذه المجموعة من النماذج نظام اتصال دقيق للغاية، حتى أنهم أنشأوا مجموعات جديدة من المعاني.
أظهرت هذه التجربة أن نماذج المحاكاة يمكنها تعلم الرموز الحاملة للمعنى بمراقبة سلوك الآخرين فقط.
وقد خلصت نظرية (باتالي Batali) إلى أن: الكائنات شبيه الانسان “الرئيسيات” تخضع لنظرية العقل Theory of mind- القدرة على التنبؤ بسلوك الآخرين من خلال ما تعزوه الحالة العقلية – حيث أظهرت منهجية نظامية عبرت من خلالها عن المعاني المركبة دون أي سمات خاصة باللغة الفطرية، وأن بعض من الانظمة النحوية للغات البشرية الحديثة قد نشأت نتيجة للعمليات الثقافية غير الوراثية بين تلك الرئيسيات.
روبوتات ستيلز Steels’s Robotics
كرر (ستيلز Steels) عمل هذه المحاكاة عام 1998. وفقاً لرأيه، إن التطور الثقافي مثل تطور اللغة يتبع النظرية الداروينية ، ولكي يتطور أي شئ بتلك الطريقة الداروينية يجب أن يحقق ثلاثة شروط: آلية الحفاظ على المعلومات، مصدر للاختلاف، وجود حلقة بين حدوث تباين أو نجاح محدد. يرى (ستيلز Steels) أن: الذاكرة اللغوية للفرد تعد بمثابة آلية لحفظ المعلومات مثل الجينات في عملية التطور البيولوجي، و أن أخطاء الكلام تعد مصدر للاختلاف مثل الطفرات وعمليات الانتقال، وأن القليل من الجهد المعرفي وتحقيق اقصى قدر من التواصل الناجح يشكل حلقة مفرغة مشابهة للنجاح التكاثري.
شارك (ستيلز Steels) في التجربة بروبوتات مجهزة ببرامج language-game، موارد حاسوبية، بطاريات، محركات لجهتين اليمين واليسار، وقرابة 30 جهاز استشعار بما فيها المتعلقة بالرؤية. و قد استطاعت روبوتات ستيلز التفاعل مع الروبوتات الأخرى في النظام الأيكولوجى للروبوتات Robotic Ecosystem من خلال العلاقات المتبادلة بين المعاني، المعاجم، وعلم الاصوات اللغوية واستطاعت أن تطور شيئا يشبه اللغة الى حد ما.
خلصت تجربة (ستيلز Steels) إلى أن: اللغة ظاهرة طارئة وجماعية، ظهرت نتيجة تفاعل مجموعات مختلفة من النماذج مع بعضهم البعض. ليس هناك فرد واحد لديه صورة كاملة عن اللغة ولا أحد يمكنه أن يتحكم بها. كما أن اللغة تشكل نفسها بشكل عفوي متى توافرت الشروط الفسيولوجية، النفسية، والاجتماعية الملائمة. اللغة اصبحت أكثر تعقيداً بسبب ديناميكيتها، والضغط للتعبير عن الفعال الكلامية ، ومجموعة مفاهيم آخرى آخذة في الاتساع.