أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-11-2016
1356
التاريخ: 11-4-2021
2240
التاريخ: 30-11-2018
2382
التاريخ: 16-11-2016
1512
|
الشخصية الإسلامية الحقيقية هي التي تستلهم مبادئها النظرية والعملية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره المثلى الأعلى، والقدوة الأكبر الذي قال الله تعالى فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]
ثم هي بعد ذلك ـ لتأكيد تلك المعاني وتقويتها ـ تستلهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين حسنت صحبتهم وتلمذتهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومثلوه في جميع القيم التي جاء بها خير تمثيل، وماتوا على ذلك.
وهم الذين وردت في حقهم الآيات الكريمة تنوه بفضلهم، ومكانتهم، وقد وصفهم الإمام علي، فقال: (لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم رُكب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب) (1).
لكن السلفية، وباعتبارهم الطلقاء وغيرهم من الصحابة، شوهوا الشخصية الإسلامية تشويها عظيما، من أجل الحفاظ على سمعة من سموهم كذبا وزورا صحابة وتلاميذ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
ولهذا نراهم لا يكتفون بالقول بنجاة معاوية، ولا بكونه فردا من أفراد الصحابة، بل راحوا يضمون إلى ذلك ما هو أخطر بكثير، وهو اعتباره سيدا وقدوة وصاحب شخصية قوية يمكن للمؤمنين البسطاء أن يستبدلوا بها شخصية عمار وبلال وأبي ذر وقتادة وغيرهم من كبار الصحابة.. وكأن تلمذة معاوية القصيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاقت تلمذة أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار.
وهم يروون لتأكيد هذا عن ابن عمر قوله: ما رأيت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أَسْوَدَ من معاوية، قال: قلت: هو كان أسود من أبي بكر؟ قال: هو - والله - أخير منه، وهو - والله - كان أسود من أبي بكر، قال: قلت: فهو كان أسود من عمر؟ قال: عمر - والله - كان أخير منه، وهو - والله - أسود من عمر، قال: قلت: هو كان أسود من عثمان؟ قال - والله - إن كان عثمان لسيدا، وهو كان أسود منه) (2).
وروا عن قبيصة بن جابر الأسدي قوله: ألا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلاً أفقه فقهاً ولا أحسن مدارسة منه، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت رجلاً أعطى للجزيل من غير مسألة منه؛ ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أحب رفيقاً، ولا أشبه سريرة بعلانية منه) (3) .
ورووا عنه قوله: (ما رأيت أحداً أعظم حلماً ولا أكثر سؤدداً ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجاً ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية) (4).
ولست أدري كيف صار معاوية بهذه الأخلاق العالية، والسيادة الرفيعة التي سبق فيها ـ حسب تصورهم ـ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهو لم يتتلمذ يوما واحدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كان من ألد أعدائه هو وأسرته جميعا منذ صباه الباكر.
يقول الشيخ حسن بن فرحان معلقا على ذلك العشق والهيام الذي يقابل به السلفية شيخهم وإمامهم معاوية: (أعجب منهم أناس - يدعون أنهم يحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم - يمدحون أشخاصاً أفنوا أعمارهم في حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحابته على مدى ثمانين عاما، فقد ولد معاوية قبل البعثة بخمس سنين، ورضع بغض النبي منذ الصبا، فأبوه أبو سفيان، وأمه هند بنت عتبة آكلة كبد حمزة، وعمته حمالة الحطب.. لقد كان معاوية - في أول العهد المكي - من أولئك الصبية الذين كانت قريش تسلطهم على أذية رسول الله، وشارك شبابهم في بقية العهد المكي، ثم اشترك مع أبيه في حرب النبي في تلك الحروب، وكان فيها مقتل أخيه حنظلة ببدر (قتله علي)، ومقتل جديه عتبة وشيبة وخاله الوليد.. ثم أسلم نفاقاً يوم فتح مكة.. واشترك في غزوة حنين منافقاً، فقد كان ممن اعتزل مع أبيه فوق تلّ وقال معه: (بطل السحر اليوم)! ثم قام هو وأبوه يوم حنين بسرقة جمل لعجوز مسلمة، فاشتكتهما إلى النبي، فأنكرا وحلفا، فأخبر الوحي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمكان الذي أخفيا فيه الجمل، فوبخهما وردّ الجمل على العجوز وتألفهما على الإسلام.. ثم كان معاوية في تبوك، وحاول مع أبيه اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عقبة تبوك، ولكن الله سلم (5).. ثم في عهد عثمان اجتهد في كنز الأموال واضطهاد الصالحين والربا.. وفي عهد علي [عليه السلام] قتل 25 بدريا ونحو 200 من أصحاب بيعة الرضوان بصفين. ثم في عهده، لعن علياً على المنابر، واضطهد الأنصار، ونبش قبر حمزة، وأمر أحد العمال بضرب قدم حمزة الذي قتل جده عتبة، فانبعث الدم من قدمه. وأراد تخريب منبر النبي مرتين، فأظلمت السماء، فترك ذلك، وذهب إلى الأبواء لينبش قبر أم النبي، ويطرحه في بئر، فأصابه الله باللقوة، فتوقف.. ثم كانت خاتمته أنه تحقق فيه قول النبي (يموت معاوية على غير ملتي)، والحديث صحيح على شرط مسلم، وقد صححت الحديث جامعة أم القرى.. وتحقق فيه الحديث الآخر (حديث الدبيله) (6) فأصابته الدبيلة (قرحة كبيرة) فانغرست في ظهره وخرجت من صدره، وبقي معذباً بها سنة كاملة) (7)، ثم ختم ذلك بقوله: (هذا هو عجلكم معاوية الذي ملأتم بمدحه الدنيا، ولو لم يكن فيه إلا الحديث الصحيح: (يموت معاوية على غير ملتي) لكفى بذلك ذماً. وهذا الحديث يقطع كل جدل، ورجاله ثقات أثبات سمع بعضهم من بعض، وصححه مجموعة من أهل الحديث على شرط مسلم، منهم المحدث محمد عزوز المكي وابن عقيل) (8).
ولم يكتف السلفية بكل ذلك، بل إنهم لأجل الحفاظ على المكانة الرفيعة لمعاوية ومن معه من الفئة الباغية، راحوا يقدمون ـ شعروا أو لم يشعروا ـ معاوية على كل الصحابة، وحتى على السابقين منهم.
ومن الأمثلة على ذلك أنهم في الخلاف الخطير الذي جرى بين معاوية وأبي ذرّ الغفاري نراهم يقدمون معاوية، ويعتبرونه المحق، ويعتبرون أبا ذر جانيا بإنكاره على معاوية، ويلتمسون كل المبررات التي تحفظ ماء وجه معاوية، ولو بإراقة ماء وجه أبي ذر، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن صدق أبي ذر، وكونه ابتلاء لمن بعده، فقال: (ما أقَلّت الغَبْراءُ ولا أظَلّت الخضراءُ من رجل أصدق لهجة من أبي ذرّ) (9).
وسنحكي هنا باختصار قصة الخلاف، وما انجر عنها من نفي أبي ذر إلى الربذة ليموت فيها شهيدا، والقصة هي ما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب، قال: (مررت بالربَذَة فإذا أنا بأبي ذر، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان: أن اقدم المدينة فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت، فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت) (10).
وقد روي أن سبب الخلاف كان أعمق من ذلك، فقد كان أبو ذر يلاحظ تلك التحريفات الخطيرة التي قام بها معاوية، وكان ينكر عليه، فبعث إليه معاوية بثلاث مائة دينار، فقال: (إن كان من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها).
وعندما بنى معاوية قصره الخضراء بدمشق، فقال: (يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الاسراف)
وكان يقول: (والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله اني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيى، وصادقا يكذب، وأثره بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه)، وكان الناس يجتمعون عليه، فنادى منادي معاوية ألا يجالسه أحد (11).
وفي رواية أن معاوية بعث إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح، دعا رسوله فقال: اذهب إلى أبي ذر، فقل: أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإني أخطأت. قال: يا بني، قل له: يقول لك أبو ذر: والله ما أصبح عندنا منه دينار ولكن أنظرنا ثلاثا حتى نجمع لك دنانيرك، فلما رأى معاوية أن قوله صدق فعله، كتب إلى عثمان: أما بعد، فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله، فابعث إلى أبي ذر فإنه وغل صدور الناس... الحديث (12).
وقد حاول السلفية سلفهم وخلفهم أن يلتمسوا كل الحيل لتبرئة معاوية ومروان، وإلصاق كل التهم بأبي ذر غير مراعين حجمه في الصحابة، ولا أسبقيته للإسلام، بل قدموا عليه الطلقاء وأبناء الطلقاء.
ومن تلك الاعتذارات ما عبر عنه ابن تيمية بقوله: (وأما قوله: إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حقه: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)، وقال: (إن الله أوحى إلي أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم. فقيل له: من هم يا رسول الله؟ قال: علي سيدهم، وسلمان، والمقداد، وأبو ذر)، فالجواب: أنّ أبا ذر سكن الرّبذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، فإن أبا ذر كان رجلا صالحا زاهداً، وكان من مذهبه أن الزّهد واجب، وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار، واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة. احتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة، واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أنه قال: (يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارا أرصده لدَين). وأنه قال: (الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا)، ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا، جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه، وعثمان يناظره في ذلك، حتى دخل كعب ووافق عثمان، فضربه أبو ذر، وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب، وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم، ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه، مع أنه مجتهد في ذلك، مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله.... فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا، حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع، وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات. وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين، فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب، ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض) (13).
وهكذا نرى ابن تيمية يعلم أبا ذر ماذا يفعل، بل نراه يهينه حين لا يكتفي بتقديم معاوية عليه، بل يقدم عليه كعب الأحبار نفسه، وكأن كعبا ومعاوية أعلم بالدين من أبي ذر الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صدقه.. بل أمر بحبه.
وهكذا ندرك أن سلف السلفية الأوائل ليسوا الصحابة السابقين، وإنما هؤلاء الطلقاء الذين استبدوا بالأمر من دون السابقين، ثم وجدوا من الفقهاء ومن متأخري الصحابة من ساندهم وأيدهم، فأصبحوا الممثلين الشرعيين للدين.
ونفس الأمر يقال في موقفهم من عمار بن ياسر، فهم يقدمون عليه معاوية، ويضربون بالأحاديث الواردة في فضله وكونه مقتولا من طرف الفئة الباغية عرض الحائط.
فهم يؤولون كل ما ورد من نصوص في ذلك تأويلا عجيبا، كهذا التأويل الذي نراه من بعض السلفيين الأكاديميين المعاصرين، فقد قال: (روى البخاري ومسلم وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن عمارا تقتله الفئة الباغية) وكان عمار مع أهل العراق، وقد قتله أهل الشام في صفّين، فالحديث دلّ على أن الفئة الباغية هي التي تقتل عمارا، ومن المحتمل أن الحديث لا يشمل كل أهل الشام، وإنما أريد به تلك العصابة- الفئة- التي حملت على عمار حتى قتلته، وهي طائفة من العسكر، وروي أن معاوية تأوّل الطائفة التي قتلت عمارا بأنها هي الطائفة التي جاءت به، فردّ عليه علي بقوله: (فالمسلمون إذن هم الذين قتلوا حمزة وليس المشركون)، وعند ابن تيمية أن ما ذهب إليه معاوية ضعيف، وأن ما قاله علي هو الصواب.. لكن لا يغيب عن البال أن في الطائفتين بغاة، فالذين قتلوا عمارا بغاة وهم من أهل الشام، والذين قتلوا الخليفة عثمان أعظم بغيا وجرما من هؤلاء، وهم مع جيش العراق، مما يجعل ما ذهب إليه معاوية بن أبي سفيان له وجه من الصحة، فقتلة عثمان هم السبب في مجيء عمار وغيره. وفي هذا الأمر يرى الباحث محب الدين الخطيب أن قتلة عثمان هم الفئة الباغية، فكل مقتول يوم الجمل وصفين فإثمه عليهم لأنهم هم الذين أججوا نار الفتنة بين المسلمين، ابتداء بعثمان وانتهاء بعلي ومرورا بطلحة والزبير وعمار) (14).
وقبله قال ابن تيمية: (ثم (إن عمارا تقتله الفئة الباغية) ليس نصا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه؛ بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته، وهي طائفة من العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها، ومن المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار: كعبد الله بن عمرو بن العاص وغيره؛ بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار، حتى معاوية، وعمرو) (15)، بل إننا عندما نتأمل كلماتهم ومواقفهم نجدهم يقدمون معاوية على الإمام علي نفسه، غير مراعين صحبه، ولا أسبقيته للإسلام، ولا كل ما ورد في شأنه.
ولهذا يصورون معاوية أنه كان ولي دم عثمان، وأنه كان يطالب بالقصاص من قتلته الذين التحقوا بجيش علي.. وأن الإمام علي كان يمكنه أن يتفادى المشكلة، لو أنه دفع لهم القتلة..
يقول ابن تيمية: (لما رأى علي وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة، وهم –أي معاوية وأصحابه - قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا، ظلمونا واعتدوا علينا. وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا، ويبذل لنا الإنصاف) (16). وقال: (لكن قاتلوا مع معاوية لظنهم أن عسكر علي فيه ظلمة – يعني قتلة عثمان - يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان، وأنهم يقاتلونهم دفعا لصيالهم عليهم) (17).
هذه بعض النماذج والأمثلة عن مواقف السلفية التبريرية لكل جرائم معاوية في حق نفسه وحق المسلمين وحق الإسلام.. والمشكلة الأكبر في تلك التبريرات أنها صورت الشخصية الإسلامية بصورة متناقضة تماما مع الصورة التي أراد الإسلام تكوينها.
فالصورة المثالية للمسلم هي صورة أولئك الصحابة السابقين الذين مثلهم الإمام علي [عليه السلام] أحسن تمثيل، والتي تهمهم بالمبادئ قبل المصالح، وبالقيم قبل المنافع.. لكن الصورة الجديدة التي تكونت لدى السلفية بسبب ولائهم لمعاوية هي صورة المسلم البراغماتي المصلحي الذي لا يهمه سوى الصعود، ولا يهم أي سلم يصعد عليه.
أو كما عبر عن ذلك الجاحظ بقوله: (كان عليٌّ لا يستعمل في حربه إلا ما عدّله ووافق فيه الكتاب والسنة، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنة، ويستعمل جميع المكايد، وجميع الخدع، حلالها وحرامها، ويسير في الحرب سيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وخاقان إذا لاقى زنبيل، وفنغور إذا لاقى المهراج، وعليّ يقول: لا تبدؤوهم بقتل حتى يبدؤوكم، ولا تتبعوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تفتحوا باباً مغلقاً) (18).
وعبر بعده سيد قطب عن ذلك، فقال: (إن معاوية وزميله عمراً لم يغلبا علياً لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس، وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب. ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح، وهو مقيد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع. وحين يركن معاوية وزميله عمرو إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم لا يملك على أن يتدلى إلى هذا الدرك الأسفل. فلا عجب ينجحان ويفشل، وإنه لفشل أشرف من كل نجاح. على أن غلبة معاوية على علي، كانت لأسباب أكبر من الرجلين: كانت غلبة جيل على جيل، وعصر على عصر، واتجاه على اتجاه. كان مد الروح الإسلامي العالي قد أخذ ينحسر. وارتد الكثيرون من العرب إلى المنحدر الذي رفعهم منه الإسلام، بينما بقي علي في القمة لا يتبع هذا الانحسار، ولا يرضى بأن يجرفه التيار. من هنا كانت هزيمته، وهي هزيمة أشرف من كل انتصار) (19).
ونحب أن نورد هنا مثالا يحرص السلفية على ذكره عند تعديدهم لمناقب معاوية، وخاصة أن الذي رواه هو البخاري صاحب الصحيح، وهو ما رواه عن ابن أبي مليكة، قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: (أصاب إنه فقيه) (20)، وللأسف فإن السلفية يقبلون هذه الرواية عن ابن عباس، ويعرضون عن عشرات غيرها يذم فيها ابن عباس معاوية.. مع أن هذه الرواية نفسها لا تعبر إلا عن صورة ذلك المتكاسل المحتال الذي لا يصلي من الليل إلا ركعة واحدة في نفس الوقت الذي أعرضوا فيه عن أولئك السابقين الذين كانوا من أول الإسلام يقومون الليل نصفه وثلثه، بل حتى ثلثيه، بل حتى الليل جميعا.
بل إن الإمام الطحاوي ـ وهو من الموثوقين لدى السلفية ـ أورد رواية أخرى تدل على أن مقولة ابن عباس لم تكن سوى تهكما وسخرية، فقد روى بسنده عن عكرمة أنه قال: كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل، فقام معاوية فركع ركعة واحدة، فقال ابن عباس: (من أين ترى أخذها الحمار) (21).
وقد علق الطحاوي على الرواية التي أوردها البخاري بقوله: (وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس (أصاب معاوية) على التقية له).
______________
(1) نهج البلاغة ج:1 ص:189 ـ 190.
(2) سير أعلام النبلاء، 3/154.
(3) تاريخ الطبري (5/ 337) وأورد هذا الخبر البخاري في التاريخ الكير (7 / 175).
(4) البداية والنهاية (8 / 138).
(5) قصة محاولة الاغتيال هي تلك ذكرها الله في قوله {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74] وكان مع أبي سفيان ومعاوية آخرون بلغوا أربعة عشر رجلاً، فلعنهم، ثم بعد عودة النبي من غزوة تبوك، أخرج الذين حاولوا اغتياله من المسجد، ولعنهم، وكان منهم أبو سفيان وابناه معاوية وعتبة، وسندها صحيح.
(6) ففي صحيح مسلم من حديث قيس بن عباد عن عمار: (ثمانية تكفيكهم الدبيلة: مرض يظهر في ظهورهم فينجم من صدورهم)، وكان لا يستتقذ كل رداء، حتى أنهم جعلوا له رداء من حواصل الطير، فاستثقله وآذاه، ولما طال مرضه وأعياه، نصحه طبيب بلبس الصليب، والبراءة من دين محمد، ففعل ومات، انظر: رسالة بعنوان: حديث الدبيلة للشيخ حسن بن فرحان المالكي.
(7) من مقال بعنوان: (هذا معاوية الذي ملأتم به الدنيا!)
(8) من مقال بعنوان: (هذا معاوية الذي ملأتم به الدنيا!)
(9) أحمد: 6/192
(10) البخاري: 2/107.
(11) ابن سعد 4 / 229.
(12) سير أعلام النبلاء 2 / 50.
(13) منهاج السنّة النبوية 6/271
(14) د. خالد كبير علال، دراسات نقدية هادفة عن مواقف الصحابة بعد وفاة الرسول الكريم - قضية التحكيم في موقعة صفّين بين الحقائق والأباطيل-
(15) مجموع الفتاوى (35 / 77)
(16) مجموع الفتاوى (35 / 72-73)
(17) منهاج السنة (4/ 383)
(18) رسائل الجاحظ ص 365 ( الرسائل السياسية )
(19) كتب وشخصيات، ص 242 – 243.
(20) صحيح البخاري -تحقيق : د. مصطفى ديب البغا ( ج 3 ص 1373 )
(21) شرح مشكل الآثار1: 289، رقم: 1720
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ندوات وأنشطة قرآنية مختلفة يقيمها المجمَع العلمي في محافظتي النجف وكربلاء
|
|
|