المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05

Parabolic dishes
31-8-2020
أسوأ الاعمال عند الله
30-7-2019
مسائل تتعلق بالاستنجاء .
22-1-2016
مراحل تكوين الرأي العام
23-5-2022
ماهية التنفيذ الجبري لقرارات الضبط الإداري ومبررات اللجوء اليه
6-4-2017
ابن الزبير وعبد الملك بن مروان
11-12-2018


مصدر جمال الأدب  
  
3836   09:32 صباحاً   التاريخ: 27-7-2017
المؤلف : علي علي مصطفى صبح
الكتاب أو المصدر : الصورة الأدبية تأريخ ونقد
الجزء والصفحة : ص:100-108
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد الحديث /


الأدب هو محل الخلاف والصراع، فقد شغل حيزًا كبيرًا في النقد الأدبي وأخذ الناقد يبحث عن الغاية من الأدب، وينقب عن مصادر الجمال فيه، ومن هنا انبعث الانشقاق في ساحة النقد الأدبي، وظلت تصطخب بالفرق، التي تناصر كل فرقة رأيها واتجاهها في ذلك، وتشعبوا في نصرتهم لآرائهم إلى أنصار ثلاثة:
أ- أنصار الشكل:
وهم الذين يضعون حدًّا فاصًلا ودقيقًا بين العلم والأدب، فالعلوم تقوم على الاهتمام بالمضمون، والأدب ينبغي ألا يعرف إلا الشكل، الذي يهتم فيه المنشئ بالصياغة والموسيقى والتصوير، وكل ما يتصل بالناحية الخارجية في العمل الأدبي، وموطن الجمال فيه، وقد فلسفوا الشكل فلسفة نفعية عن طريق غير مباشر:
أولًا: أن ما يثيره الجمال من الإمتاع، يصقل ذوق الغير ويهذب نفسه ويطبعها على حب الجمال والفضيلة، فتكون النفس أهلًا للخير والنفع والإصلاح، إذ شارك صاحبها في ميدان العلم أي الإصلاح في الحياة والنهوض بها.
ثانيًا: أن العمل الفني الذي يعني فيه بالشكل، هو عصارة خالصة، تتصل بذات الفنان ومشاعره وأحاسيسه؛ لأنه يعبر عن واقع آخر، وفي هذا تحقيق لقيمته عند الشاعر أو الأديب في الحياة، ألا وهي الصدق بين نفسه وبين العمل الفني، وهي غاية نبيلة وخلقية في ذاتها(1).
ثالًا: والشاعر الذي يهتم بالشكل، إنما يهرب من مطالب الحياة هروبًا صريحًا في شعره، وهو في الحقيقة باتجاهه الشكلي الخالي من التوجيه المباشر، يهرب من واقع المجتمع المر القبيح، وفي هذا الهروب ذاته سخط على أوضاع المجتمع وشروره، فهو يطالب بالتخلص منه ومن شروره عن طريق غير مباشر وبالإيحاء، وبعد هذا المركب الرمزي عند الشكلين من أخص خصائص الفن الراقي؛ لأن في الهروب والسخط على النمط السابق قيمًا أخلاقية وإصلاحًا اجتماعيًّا، وغايات نبيلة للفن الشعري(2).
رابعًا: إن الشاعر حينما يعاني تجربته الذاتية، ويصورها كما هي في نفسه، من غير أن يكون لها صلة بالواقع في الظاهر، غاية اجتماعية، تفيد الغير، فإن عملية التخلص من هذه المعاناة، وإبراز التجربة في عمل فني مجسم في الخارج، تعد أكبر قيمة نفعية بها فتحرر الأديب من الألم المكبوت في نفسه، وكأنه بهذا يدعو كل الناس إلى أن يصنعوا مثل صنيعه حتى يتحرروا من شرور النفس، وهي في ذاتها غاية نبيلة في الحياة، وإن تحققت عن طريق غير مباشر وجاءت تبعًا من غير قصد في البداية.
وعلى ذلك فالشكليون يعنون بالصورة الأدبية أشد العناية، ويهتمون بأركانها وعناصرها، ويرصفون أجزاءها، ويهذبون متونها، ويحككون ويصنعون لتأخذ بمجامع القلوب وتستولي على العواطف والنفوس، ولا عليهم أن يملأ تجويفها بالمعاني اللطيفة، وتفيض مكامنها بالأفكار المنتجة النافعة، إلا إن كانت وسيلة في العمل الفني لا غاية، ولا يعنيهم أن يكون المضمون جميلًا أو قبيحًا، ما دام كل من الجمال والغاية يرجع إلى الروعة الفنية بين التراكيب، والعمل على التنسيق بين الصور، وقدرتها على نقل أحاسيس الشاعر الذاتية.
فابن الرومي حينما يصور "الأخدع" إنما يتخلص في تصويره من شرور في النفس تكاد تزهقه، وفي هذا تنفيس عن شؤمه، واسترواحة مما يعانيه من الألم الممض المكبوت ثم تنفير الناس من هذا التكوين في شكل الأخدع وهيئته القبيحة، حتى يتجنبوا مهاويه ومساقطه، ولا يقترفوا أسبابه وعلله في حياتهم، وهو في صنيعه هذا يحذر الأجيال المقبلة من هذا القبح وهجر أسبابه، حتى لا تعتريهم العاهة في الكبر، فلا يكونوا محلا للسخرية والإضحاك مثل الأخدع في صورة ابن الرومي التي يقول فيها:
قصرت أخادعه وطال قذاله ... فكأنه متربص أن يصفعا
فكأنما صفعت قفاه مرة ... وأحس ثانية لها فتجمعا
وكذلك الأمر في تصوير ابن الرومي للمعنى القبيح الصوت، "أبي سليمان" فهو ينقل إلينا مشاعره بصدق إزاء صوته القبيح، ثم يحرر نفسه من هذا الألم الذي يعانيه من بشاعة الصوت، ثم الدعوة إلى أن يكون الغناء صادرًا عن مغن حسن الصوت، حتى لا يتأذى الناس منه؛ لأن في الغناء إمتاعًا وجمالًا. ولا بد أن يكون مصدره كذلك. يقول:
ومسمع -لا عدمت فرقته ... فإنها نعمة من النعم
يطاول يومي -إذا قرنت به- ... كأني صائم ولم أصم
إذا تغنى النديم ذكَّره ... أخذ السياق الحثيث بالكظم
يفتح فاه من الجهاد كما ... يفتح فاه لأعظم اللقم
أبح فيه شذوذ حشرجة ... منظومة في مقاطع النغم
نبرته غصة وهزته ... مثل نبيب التيوس في الغنم
كأنني -طول ما أشاهده- ... أشرب كأسي ممزوجة بدمي
وابن الرومي في هذا يولي اهتمامه بالصورة الأدبية، ولا يعنيه إلا التصوير وأما المضمون هنا فليس تعبيرًا مباشرًا عن إصلاح أو دعوة إلى الخير، أو تقديم منفعة للحياة، وإنما جاءت القيمة الخلقية في الصورة، من وراء ستار، وبععد إمعان ودقة نظر عن طريق الوحي والإشارة البعيدة.
ب- أنصار المضمون:
وهم في دعوتهم هذه لا يهملون الشكل والصورة، ولكن عنايتهم بها بعد المضمون في الدرجة والرتبة، فالصورة عندهم وسيلة فقط لإبراز الغاية من الأدب: وهو المحتوى والمضمون، ولو تحقق المضمون بدون اهتمام الصورة وعناية الشكل، فلا ينقص من جمال الأدب عندهم، الذي يقوم على غاية واحدة، وهي النفع والخير والفائدة.
فابن الرومي حينما يدعو إلى العفو والسماحة، إنما يريد أن يشيع المحبة والتسامح بين الناس حتى يسير ركب الحياة إلى ما هو أفضل. يقول:
أتاني مقال من أخ فاغتفرته ... وإن كان فيما دونه وجه معتب
وذكرت نفسي منه عند امتعاضها ... محسن تعفو الذنب عن كل مذنب
فيا هاربًا من سخطنا متنصلًا ... هربت إلى أنجى مفر ومهرب
فغدرك مبسوط لدينا مقدم ... وودك مقبول بأهل ومرحب
ولو بلغتني عنك أذني أقمتها ... لدى مقام الكاشح المتكذب
ولست بتقليب اللسان مصارمًا ... خليلي إذا ما القلب لم يتقلب
وكذلك حينما يصور فصل الصبر وميزاته، وحرمة المسلمين في رثاء البصرة، وذم الحقد وتنفير الناس منه صراحة، وغير ذلك مما تهدف إليه صورته الأدبية، من غير قناع ولا ستار فيقصد ابتداء المضمون، وينشد الغاية من التصوير الأدبي.
ج- أنصار العمل الفني "الصورة والمضمون معًا":
وهؤلاء لا يهتمون بالمضمون وحده، ولا بالشكل وحده، وإنما يهتمون بالعمل الأدبي، فيحرصون على الغاية من الأدب، كما يحرصون على إظهاره في صورة خلابة وشكل جميل، يهز أعماق النفس ويحرك المشاعر والعواطف، فالعناية فيهما بدرجة واحدة، فإن كان المضمون خلاقا ونافعًا، لكنه إن ظهر في شكل رديء وصورة واهية مهلهلة، فإن كان كذلك فسيفقد أساسًا كبيرًا وعنصرًا جوهريًّا يهز النفس، ويثير المشاعر، ويوقظ الأحاسيس، وكل هذه هي مفتاح العقل وصمام الفكر؛ لأن الإنسان يقتنع بمشاعره وأحاسيسه قبل أن يقتنع بعقله وفكره، يتنقل بين الجوانب المحسة في الصورة، قبل أن تستحيل إلى أفكار مجردة تصور واقعًا جديدًا، وإصلاحًا، أو إرشادًا يمت إلى الواقع بأسباب وعلاقات.
وعلى ذلك فالعمل الفني يبعث في النفس الحياة والنشاط، ويهز النفوس ويوقظ الأذهان، ويسهم في بناء الحياة ونهضة الأمم، التي لا تنهض ولا تقوى إلا على أساسين كبيرين هما: العاطفة والعقل، ولا يستغني أحدهما عن الآخر.
وكذلك الأمر هنا لو كانت الصورة الرائعة لا تحمل مضمونًا نافعًا، فإنها تشبه شجر الخلاف تفتن بمنظرها ولكن لا نفع لها ولا ثمر، مع أن اللفظ في ذاته لا بد أن يحمل معنى تكون قيمته بقدر مشاركته في الصورة، ويسهم كل لفظ في موضعه الذي اقتضاه بين إخوته في تحقيق غرض الصورة ومغزاها، ثم توحي الصورة القوية البارعة، بإيحاءات تعمق هذا الغرض، وتزيده ثراء وسعة، وبناء على ذلك لو اختل الترتيب في الألفاظ وضلت مواقعها لأدت الصورة معنى آخر مختلفًا وإيحاء مغايرًا لما سبق؛ لأنها تختلف في معناها ووحيها حسب اختلاف مواقع الكلمات فيها، ولو كانت مادة الألفاظ واحدة لم تتغير من صورة إلى أخرى.
وهذا يدل على أن لغة الصورة تلزم مضمونًا معينًا، وأن المضمون والغاية فيها ترتبط بقدرة الأديب على تشكيل الصورة وتسخير أدواتها لخدمة هذه الغاية، وتوجيهها نحو المعنى الذي يريد في أقوى صورة، فالشكل والمضمون يمتزجان معًا في وحدة وترابط، بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وعلى هذا فما الفرق بين الاتجاه الأخير وبين الاتجاهين السابقين، فأنصار كل منهما لا يهمل الأمرين الشكل والمضمون؛ لكنه يجعل أحدهما غاية، والآخر وسيلة؛ فالشكليون يهتمون بذات الصورة، ثم يأتي المضمون والمغزى تبعًا لذلك، وأنصار المضمون يعنون به، ويجعلونه غاية في ذاته، وتصير الصورة التي تنقله إلى الغير وسيلة -لا غاية- في إظهاره.
أما ما نحن بصدده الآن من الاتجاه الثالث، فهو يعتد بالأمرين معًا، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، ولا تتأتى بحال التفريق بين الصورة وبين ما تحويه من معنى أو مغزى؛ لأنه يتفق وطبيعة اللغة فالألفاظ إنما وضعت لمعان تدل عليها، وقد سخرت لخدمة الناس والحياة كالشأن في الإنسان الحي، فالجسد فيه لا يستغني عن الروح، وكذلك لا تنقل الروح عن البدن فالحياة رهن امتزاجهما، وارتباطهما جميعًا فلا جسد بدون روح، ولا يعقل أن توجد روح من غير جسد، وكل منهما له قيمته التي لا تقل عن الآخر، وعلى سبيل المثال نجد أن الصورة تمثل الآلة "الميكانيكية" فالحركة فيها مرهونة بوضع الأجزاء وكل في مكانه، في رباط قوي وإحكام ودقة، وإلا توقفت عن العمل لاختلال أجزائها واضطرابها في مواقعها.
وابن الرومي كان في معظم شعره يسير على النمط الثالث، حتى كاد أن يجمع النقاد، أنه من أصحاب المعاني الذين يعنون بالفكرة، ويعمقونها، ويهتمون بمضمونها، ويكاد أيضًا أن يجمع النقاد قديمًا وحديثًا على أنه الشاعر المصور والرسام البارع، والعبقري في تصويره.
وعندي أن العناية بالصورة والنبوغ فيها يستلزم العناية بمضمونها الخلقي فيها؛ لأن مراعاة التمام في أجزاء الصورة، وارتباطها، واستيفاء عناصرها، يؤدي في النهاية إلى كمال المعنى، وتمام الغرض، وحيوية المضمون، فالنبوغ في التصوير لا يفصل الشكل عن المضمون بحال.
والعمل الفني أشبه بالدائرة الكهربائية التامة المغلقة التي تبدد الظلمات بأضوائها، فإن اختل جزء منها، وانفتحت الدائرة من أي مكان توقف التيار وانقطع النور، فلا قيمة ولا حياة، بل توقف وظلام.
والأمثلة كثيرة في شعر ابن الرومي مثل صورته الرائعة في رثاء البصرة، فإنه يثور فيها على الظلم وأهله من الزنج، الذين انتهكوا الحرمات، وقضوا على المقدسات، في أبشع صورة يعرفها البشر، كلها غدر وخيانة، وظلم وقسوة، لا هوادة فيها ولا رحمة، ولا مراعاة للمبادئ الإنسانية والخلقية والحضارية، ثم يستغيث الشاعر بالعالم بالإنسانية كلها لإنقاذ الحضارة والمقدسات، وردع الطغاة والظالمين في البصرة وغيرها من الأمم، وذلك كله في صورة أدبية يقول في مطلعها:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام ... شغلها عنه بالدموع السجام
أي نوع بعد ما حل بالبصـ ... ـرة ما حل من هنات عظام
أي نوع بعد ما انتهك الزنـ ... ـج جهارًا محارم الإسلام(3)
وكذلك صورة في فضل الصبر وذم الحقد والمتكبر، وغير ذلك من الصور الرائعة التي تنقل الواقع في الحياة، لتحض على الخير، وتنفر من الشر إما بالتصريح أو بالإيحاء الذي هو أقوى عنده من التصريح.
ولما كان المضمون والمعنى ملازمين للصورة والشكل تعذر الفصل بينهما أثناء تحليل العمل الفني ونقده، وشق على الناقد في نقده التفريق بينهما كل على انفراد، حتى يمكن التعرف على المضمون كوحدة مستقلة، وعلى الصورة كذلك.
والصورة بهذه الصلة التي لا تكاد تنفك عن المضمون فيها خصائص شكلية مستقلة كانسجام الكلمة وإيقاعها، وموسيقاها داخلية كانت أو خارجية، وعناصرها من حركة وشكل وهيئة ولون وظلال وأضواء، وغير ذلك مما سيأتي تفصيله، ومما يرجع إلى الناحية الشكلية في الظاهر، لكن الحقيقة أن الصورة بعناصرها وأصواتها وتركيبها لم تأت عبثًا، وإنما جاءت لتجلي المضمون، وتتآخى في جميعها، لتكشف عن الغرض، فكل كلمة كالوتر تشارك مع غيرها في تكوين المعزوفة الموسيقية، وكل لفظ له لون خاص، يشترك مع غيره في إتقان الرسم وإحكام الرقعة الفنية الرائعة.
وكما قلنا: إن اختلاف الكلمة في موقعها من الصورة يؤثر فيها، ويمنحها مضمونًا آخر يختلف مع السابق في صورة أخرى، وهذا يدل على قوة التلاحم بين اللفظ ومعناه، وامتزاجهما معًا في بوتقة واحدة، من أجل الفكرة المطلوبة والغرض المنشود.
ولعل هذا هو الذي حذر منه د. غنيمي هلال حيث يقول: "على أننا نحذر من اتخاذ المضمون والشكل معيارًا للتحليل الأدبي، إذ كثيرًا ما يستخدم هذا التقسيم لتحليل العمل الأدبي إلى شطرين تحليلًا تحكميا؛ لأنا إذا أمعنا النظر، وجدنا بعض عناصر الشكل داخلة في المضمون ... واحتراسًا من هذا اللبس في التحليل، وتجنبًا للتحكيم في تقسيم العمل الأدبي نرى العدول عن اتخاذ المضمون والشكل أساسًا للتحليل الأدبي"(4).
ومع أنه حذر منه فقد سار على التفريق بينهما أثناء دراسته، وفي كتابه المعنى الذي ورد فيه قوله السابق ولم ينص على ذلك. وليس هذا محلًّا للمناقشة هنا.
ولكن ما أعنيه هنا، ويهمنا في هذه القضية، أنني أتفق معه في أن الفصل بين الشكل والمضمون يجب أن نحذر منه، وكما قلت: إنه عسير وشاق، لكني أختلف معه أثناء التحليل الأدبي فيهما ونقدهما، وحين التقويم لإنتاج الشاعر، يلزم الفصل بينهما، ولو على نحو ما. وعلى الدارس للشكل والصورة أن يجعلهما معًا العمدة في بحثه، وتأتي دراسة المضمون تبعًا لذلك، وتصبح أبواب البحث وفصوله خاضعة لتكوين الصورة والشكل، ومثل ذلك حينما يتناول الدارس قضية الوحي في الصورة، فإنه -لا شك- سيبين إيحاءها، ويوضح أثره في المضمون وهكذا.
وهذا الاتجاه يعين الدارس على التعمق في الجزئية التي يدرسها، مما يؤدي إلى التخصص والدراسة الموضوعية الرأسية المنتجة، لا الدراسة الأفقية المستعرضة التي يتناول فيها الدارس الصورة والمضمون والغاية، وأثر الشاعر في كل ذلك، وهذه طريقة جامدة لا تعين على النهضة، ولا تربية الذوق عند الناقد.
هذا ومكان الصورة الأدبية من قضية اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون وعلينا الآن أن نوضح مفهومها في النقد الحديث، وما نراه في ذلك من خلال آراء النقاد فيها، حتى يكون هذا المفهوم الذي سأنتهي إليه هو المقياس، الذي أعرض عليه كل جزئية من أجزاء البحث، والميزان الدقيق الذي يتأثر بكل ما دق أو عظم فيه.

__________
(1) النقد الأدبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال ص377.
(2) المرجع السابق ص358.
(3) الديوان المخطوط ورقة 339 ج4.
(4) النقد الأدبي الحديث: د. غنيمي هلال 366-367.





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.