أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-9-2019
1733
التاريخ: 11-3-2016
2348
التاريخ: 8-1-2021
2659
التاريخ: 25-06-2015
2252
|
هو حسّان بن ثابت بن المنذر بن حرام الخزرجي، كان أبوه من سادة قومه وأشرافهم وكان الحاكم بين الأوس والخزرج في يوم سميحة، وهو من أيّامهم المشهورة. حدّد بعض الباحثين سنة ولادته بعام 563م. اعتماداً على مقولة سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان الذي ذكر أنّ عمر جدّه كان ثلاثاً وخمسين سنة عند مقدم الرسولo. وكان لقبيلته شأن كبير قبل الإسلام وبعده حين نصروا رسول اللهo وآزروه. وكان شعر حسّان لسان حال قومه، يفخر بهم، ويعدّد أمجادهم، ويعلّي شأن رؤسائهم وفرسانهم في الجاهلية. وقد وصل إلينا من شعره الجاهلي شعر كثير إذا قسناه بما وصل إلينا من شعر عبدالله بن رواحة مثلاً كما أنّ ما وصل إلينا منه يعدّ كافياً ــ إلى حدّ ما ــ بحيث يمكن موازنته بمجموع شعره.
كانت لحسّان قبل الإسلام أشعار قائمة على الفخر والمديح معاً، شأنه في ذلك شأن الشعراء العرب الذين تغنّوا بأمجاد قبائلهم، وفخروا بدورهم في إعلاء شأنها والإسهام في سيرورة أمجادها بين القبائل.
يذكر أبو الفرج الأصفهاني أكثر من رواية تبيّن أنّ أوّل اتّصال حسّان بالغساسنة كان بعمرو بن الحارث الغسّاني أو جبلة بن الأيهم الغسّاني، وإنّه تمّ بحضور النابغة الذبياني وعلقمة الفحل وأنّ الممدوح حين سمع قصيدتيهما عرض على حسّان أمرين: أن ينشد كما أنشدا، أو يسكت، وآثر حسّان أن ينشد، فأنشد قصيدته التي مطلعها:
أسألت رسم الدار أم لم تسأل |
|
بين الجوابي فالبضيع فحومل |
وحين انتهى منها علّق الأمير الغسّاني بأنّ قصيدة حسّان ليست دون قصيدتي النابغة وعلقمة، أو أنّه قال: هذه والله البتّارة التي قد بترت المدائح.
ومن يراجع علاقة حسّان بالغساسنة يشعر بصدق مدائحه في كثير من قصائده، ولعلّ صلة القرابة التي تربطه بهم عكست صدق فخره بقومه ومديحه لهم، وقد ترك (1)
جمال دمشق أثره في شعر حسّان الذي قاله في الغساسنة. وكان طبيعياً أن يترك هذا الجمال أثره في نفسه، وأن تطلق الخمر لسانه، فيتغنّى بما رأى ما شاء الله أن يتغنّى في شعر هو صورة لما أُحيط به من جمال وعذوبة لفظ، وزين جرس، وروي موسيقى، ورقّة غزل، وإبداع في الخمريات والوصف. والواقع انّ هذا الوصف الجميل لشعر حسّان يصدق على بعض أشعاره التي قالها قبل الإسلام، وإن خلت أشعاره الأُخرى منها، وتفاوتت بين الجمال والنظم والإبداع في الوصف إلى التقرير والأوصاف الجامدة والركّة في التعبير وما إلى ذلك ممّا سنحاول الوقوف عنده في مقارنة أشعاره الجاهلية والإسلامية.
وقد قيل إنّ لحسّان أشعاراً في المناذرة لثبوت الأخبار التي وصفت وفوده عليهم. وليس في ديوانه ولا فيما نسب إليه من شعر شيء أفرده لمدح النعمان أو المناذرة عامّة كما كان يفعل مع الغساسنة، وهذا ممّا يدعو إلى الظنّ بأنّ شعره فيهم قد تناوله الضياع حتّى أبياته التي ذكر أنّها قيلت في فخره بفكّ أسير من قومه لدى الغساسنة نرجّح كونها من شعره الإسلامي لأنّ محقّق الديوان ــ البرقوقي ـ علّق عليها بقوله: (وقال رضي الله عنه لرجل من الأنصار أسرته غسّان يقال له أبي).
ويدخل حسّان بن ثابت الإسلام ولا نعرف بالضبط سنة إسلامه، إلّا أنّ اسم أخيه أوس بن ثابت يرد ضمن من شهد بيعة العقبة الثانية من الأوس والخزرج: ويذكر له أوّل ما قاله من شعر رادّاً فيه على ضرار بن الخطّاب الذي فخر بأسره سعد بن عبادة بعد بيعة العقبة الثانية:
تداركت سعداً عنوة فأخذته |
|
وكان شفاء لو تداركت منذرا |
ولو نلته طلّت هناك دماؤه |
|
وكان حرياً أن يهان ويهدرا |
وقد كان سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو من نقباء قومهم في تلك البيعة، فلحقت بهم قريش وأسرت سعداً وربطت يديه إلى عنقه، وأُدخل مكّة وعذّب وضرب. وأمّا المنذر بن عمرو فقد هرب منهم ونجا. وهنا يردّ حسّان على ضرار في أوّل شعر قاله في الإسلام: (2)
لست إلى عمرو ولا المرء منذر |
|
إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمّرا |
ولولا أبو وهب لصرّت قصائد |
|
على شرف الورقاء يهوين حسّرا |
فأنا ومن يهدي القصائد نحونا |
|
كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا |
إلى آخر الأبيات التي يفخر فيها بشعره، ويردّ على ضرار فخره بأسره سعداً، ولم يتجاوز هذه المعاني إلى الأفكار الإسلامية الجديدة التي آمن بها. بعد هذا الحادث نستطيع أن نتابع أشعار حسّان متابعة تاريخية من خلال التعليقات التي سبقت أشعاره، ودلّت على زمن قوله أو من خلال إشاراته إلى الحدث الذي اقتضى أن يقول فيه الشعر. وقد بدا فيها حسّان مشغولاً شغلاً تامّاً بالدعوة الإسلامية يردّ على شعراء المشركين ويهجو فعالهم ويفخر بالمآثر الإسلامية، يخلّد انتصارات المسلمين، ويمدح الرسولo مديحاً يربأ به أن يكون مديحاً شخصياً غالباً، إنّما جعله قرين الوحي والنبوّة والرسالة الخالدة.
وقد عرّف الرسولo مكانة حسّان وشعره ودوره في الردّ على المشركين حين خاطب الأنصار بقوله: ما يمنع القوم الذي نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال: حسّان بن ثابت: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه، وقال: والله ما يسرّني به مقول بين بصرى وصنعاء، ولو شئت لفريت به المزاد، فقال: كيف تهجوهم وأنا منهم؟. فقال: إنّي أسلك منهم كما تسلّ الشعرة من العجين. قال: فاذهب إلى أبي بكر، فليحدّثك حديث القوم وأيّامهم وأحسابهم واهجهم وجبريل معك.
ويكفي حسّان فخراً ومكانة أن جعل رسول الله شعره معضداً بالوحي وبجبريل، وبروح القدس بياناً لمكانته ودفاعه عن الدعوة الإسلامية. وفي ديوانه قصائد يردّ فيها على المشركين، كقوله رادّاً على أبي سفيان بن حرب في فخره بقتل رجال من المسلمين في أُحد، ومجيباً هبيرة بن أبي وهب المخزومي بقوله:
سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم |
|
إلى الرسول فجند الله مخزيها |
وله قصائد يردّ فيها على عبدالله بن الزبعرى وأبي سفيان بن الحارث. وقصيدة حسّان الهمزية تمثّل رائعة من روائع شعره الحماسي الذي استطاع من خلاله أن يعيش حدث الفتح الإسلامي بعاطفة وحماس كبيرين يكاد ينسيك ما اتّهم به من جبن(3)
أو عدم مشاركة في القتال الفعلي، ممّا سنعرض له في تحليل القصيدة.
وإذا كان حسّان في أهاجيه قد جمع بين شتم قريش بقيم ما قبل الإسلام، وتسفيه رأيها بالمبادئ الإسلامية، فإنّه في الرثاء بدا صادقاً في دعم الدعوة الإسلامية من حيث ربطه بالمفاهيم الإسلامية الجديدة التي تحوّل حرقة بكاء فراق القتلى إلى بشر بفوزهم بالجنّة وحزن على فراق موقّت حيث يجمع الله تعالى المؤمنين يوم الحساب. من ذلك رثاؤه لقتلى مؤتة الذي يقول فيه:
تأوّبني ليل بيثرب أعسر |
|
وهم إذا ما نوّم الناس مسهر |
لذكرى حبيب هيّجت ثمّ عبرة |
|
سفوحاً وأسباب البكاء التذكر |
بلاء وفقدان الحبيب بلية |
|
وكم من كريم يبتلى ثمّ يصبر |
ويذكر بعد هذه المقدّمة الشهداء الذين وقعوا في هذه المعركة، فسبقوه إلى الموت المقدّر المكتوب:
رأيت خيار المؤمنين تواردوا |
|
شعوب وقد خلّفت فيمن يؤخّر |
فلا يبعدنّ الله قتلى تتابعوا |
|
بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر |
إلى أن يقول:
فصار مع المستشهدين ثوابه |
|
جنان وملتف الحدائق أخضر |
وكنّا نرى في جعفر من محمّد |
|
وفاءً وأمراً حازماً حين يأمر |
فما زال في الإسلام من آل هاشم |
|
دعائم عزّ لا ترام ومفخر |
أمّا مراثيه لرسول اللهo فقد أخذت طابعاً آخر، إنّها تمثّل حزناً حقيقياً لفقد النبي الموجّه لحياة المسلمين جميعاً، والمرشد الموجّه لحسّان نفسه، ففقده إن كان قد عمّ المسلمين حقّاً، فقد ترك في نفس حسّان فراغاً كبيراً حين كان يجعل شعره شغله الشاغل بين يدي رسول اللهo فضلاً عن وصفه الرائع للفراغ الذي أحسّ بهوله المسلمون جميعاً. فموت الرسولo انقطاع عن الوحي وحامل الرسالة ... وإذا كان حسّان قد ذكر الرسوم في مطلع مراثيه فإنّها رسوم وأطلال تختلف عن رسوم الناس الآخرين، لأنّ آياتها خالدة، ولكنّها في الوقت نفسه تجدّد الحزن عليه: (4)
بطيبة رسم للرسول ومعهد |
|
منير وقد تعفو الرسوم وتهمد |
ولا تنمحي الآيات من دار حرمة |
|
بها منبر الهادي الذي كان يصعد |
وواضح آيات وباقي معالم |
|
وربع له فيه مصلّى ومسجد |
بها حجرات كان ينزل وسطها |
|
من الله نور يستضاء ويوقد |
معالم لم تطمس على العهد آيّها |
|
أتاها البلى فالآي منها تجدّد |
وحين يهمّ بتعداد مآثر الرسولo يشعر بتبلّد نفسه وحيرتها فيما تذكره وتعدّده، لأنّ مآثرهo أكثر من أن تحصى ..
وإذا كان المسلمون قد غيّبوا جسده الشريف في القبر فإنّما يغيبون خلقاً عظيماً من الحلم والعلم والرحمة، ومن ثمّ فالحزن عام شمل جميع المسلمين شهدته السماوات والأرض:
ظللت بها أبكي الرسول فأُسعدت |
|
عيون ومثلاها من الجفن تسعد |
تذكر آلاء الرسول وما أرى |
|
لها محصياً نفسي، فنفسي تبلّد |
مفجّعة قد شفّها فقد أحمد |
|
فظلّت لآلاء الرسول تعدّد |
إلى أن يقول:
لقد غيّبوا حلماً وعلماً ورحمةً |
|
عشية علّوه الثرى لا يوصد |
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيّهم |
|
وقد وهنت منهم ظهوراً وأعضد |
يبكون من تبكي السماوات يومه |
|
ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد |
ويستمرّ في هذه القصيدة في رثاء الرسولo جامعاً بين شعوره الشخصي بالحزن عليه، والشعور الجماعي بفقد النبي الهادي، معدّداً صفات القيادة التي اتّسم بها الرسولo والتي وجّه فيها المسلمين في حياتهم الدينية وسلوكهم اليومي، خاتماً قصيدته بأمله الكبير باللقاء بهo يوم البعث في جنّة الخلد التي وعد بها المتّقون:
وليس هوائي نازعاً عن ثنائه |
|
لعلّي به في جنّة الخلد أخلد |
مع المصطفى أرجو بذاك جواره |
|
وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد |
وهكذا يستمرّ حسّان بن ثابت في قصائده الأُخرى الراثية للرسولo مؤكّداً (5)
نوازعه الثلاثة، ألم شديد لفراق الرسولo، وشموخ خلقه، وخولد الرسالة التي حملها وبيان عاطفته، ولهفته في أن يلقاه في الجنّة مصوّراً عبر ذلك حزن المجموعة الإسلامية والفراغ الذي أحسّ به المسلمون حين فوجئوا بموتهo.
أمّا مكانة شعر حسّان من الناحية الفنّية فقد ذكرت فيه أقوال كثيرة قديمة وحديثة وبنيت عليها آراء نقدية لعلّ أهمّها ما له صلة بضعف لغة الشعر في الإسلام أو قوّتها.
قال أبو عبيدة: فضل حسّان الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبيo في النبوّة وشاعر اليمن كلّها في الإسلام.
ونصّ أبو عبيدة على تفضيل حسّان على شعراء الحضر، وهو رأي أبي عمرو بن العلاء أيضاً.
قال أبو عمرو بن العلاء: (أشعر أهل الحضر حسّان بن ثابت).
وقال أبو عبيدة: أجمعت العرب على أنّ حسّاناً أشعر أهل المدر.
أمّا ابن سلام فقد عدّ فحول المدينة الخمسة أوّلهم حسّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة وقيس بن الخطيم وأبو قيس بن الأسلت. وأشعرهم حسّان بن ثابت وقال عنه: هو كثير الشعر جيّده. وقد ذكر ابن سلام مقالة أحدهم بوصف بيت قاله حسّان بأنّه لو مزج به ماء البحر لمزجه، وتابعه على ذلك أبو الفرج الأصفهاني.
أمّا الأصمعي فقد ذكر عنه أكثر من رأى عن حسّان سبّب نقاشاً وخلافاً بين الباحثين، فقد ذكر عنه أنّه وصفه بأنّه أحد فحول الشعراء ولكنّنا إذا راجعنا رسالته المسمّاة بفحولة الشعراء لم نجد فيها ذكراً لحسّان بن ثابت، ومع ذلك نجد محاورة بينه وبين أبي حاتم السجستاني الذي يروي عنه كتابه فحولة الشعراء يذكر فيها الأخير أنّ في أشعار حسّان ليناً، فيجيبه الأصمعي: تنسب إليه أشعار لا تصحّ عنه. وهذا يعني أنّ بعض أسباب الضعف والركّة في شعر حسّان مردّها إلى شعره الموضوع عليه. وقد أكّد هذه الفكرة ابن سلام أيضاً حين أشار إلى كثرة الوضع على شعر حسّان.
وذكر رأي آخر عن الأصمعي وهو تمييزه بين شعر حسّان الذي قاله قبل (6)
الإسلام وبعده، فهو يرى أنّ شعر حسّان قبل الإسلام من أجود الشعر ... وهذا يعني أنّ شعره في الإسلام أقلّ منه جودة. فإذا بحثنا عن سبب ذلك برأي الأصمعي وجدناهم ينسبون إليه تعليلاً مفاده: (الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان ألا ترى أنّ حسّان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام، فلمّا دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي وحمزة وجعفر وغيرهم لان شعره. وطريق الشرّ هو طريق الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحلة والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار، فإذا أدخلته في باب الخير لان). أنّ أهمّ ما يمكن ان نناقش به هذا النصّ ان صحّت نسبته إلى الأصمعي ما يأتي:
لم يكن شعر حسّان قبل الإسلام في باب الشرّ حتّى يقال إنّه علا في الجاهلية فإذا دخل في خير الإسلام لان، لأنّه لم يؤثر عن حسّان اشتراكه في حروب قومه، وقوّة شعره تبعاً لذلك، لأنّ حياة حسّان قبل الإسلام كانت حياة وادعة مترفة، حياة شاعر يسكن الحضر فهو بين يثرب ودمشق وما في المدينتين من ترف واستقرار يؤدّيان بالتأكيد إلى سلاسة لغته الشعرية.
2 ــ أنّ شعر حسّان الذي قاله قبل الإسلام لم يكن على نمط واحد، لم يكن كلّه بمستوى الإبداع والجودة الذي قد نتخيّله إذا سمعنى برأي الأصمعي، إنّما شعره متفاوت بين الجدّة والإبداع والركّة والسهولة، وكذا كان شعره الإسلامي. وانّك لتجد الفرق كبيراً من حيث الجزالة وخفّة الألفاظ وجمال التصوير وتتابع المعاني الواردة في قصيدته اللامية التي قالها قبل الإسلام وبين قصيدة أُخرى قالها في الوقت نفسه يردّ على قيس بن الخطيم. يقول حسّان في رائعته الأُولى:
لله درّ عصابة نادمتهم |
|
يوماً بجلّق في الزمان الأول |
يمشون في الحلل المضاعف نسجها |
|
مشي الجمال إلى الجمال البزّل |
الضاربون الكبش يبرق بيضه |
|
ضرباً يطيح له بنان المفصل |
والخالطون فقيرهم بغنيّهم |
|
والمنعمون على الضعيف المرمل |
أولاد جفنة حول قبر أبيهم |
|
قبر ابن مارية الكريم المفضل |
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم |
|
لا يسألون عن السواد المقبل (7) |
ويستمرّ على هذا النمط الجميل من التغنّي بالفخر بقومه ومديح الغساسنة الذين يفخر بصلته بهم أيضاً، حتّى ليكاد كلّ بيت من أبيات القصيدة أن يشمخ بنفسه رقّة وجمالاً وتصويراً. وقد وصف ابن سلام هذه القصيدة بأنّها من شعره الرائع الجيّد.
فإذا قارنت هذه القصيدة بأُخرى قالها رادّاً على قيس بن الخطيم وجدت بوناً واسعاً وفرقاً كبيراً في اللغة الشعرية وبنية القصيدة وأخيلتها، ممذا يجعلنا نؤكّد كون حسّان بن ثابت من الشعراء الذين تفاوتت أشعارهم اجادة وإبداعاً وانحطاطاً أو ضعفاً وهذه ملاحظة تصديق أيضاً على شعره الإسلامي الذي تجد فيه صدق عاطفة وجمال تعبير وحلاوة عبارة ترفع أشعاره إلى درجة الفحول من شعراء الإسلام، وتجد أبياتاً أُخرى دون ذلك أو فلنقل أبياتاً اتّسمت بالركّة والضعف لغة وأُسلوباً وخيالاً. ولا دخل في ذلك لمسألة كون شعره في الإسلام قد ضعف بسبب افتقاده الكذب والتزيّف.
3 ــ إنّ كثيراً من أشعاره التي بدت ضعيفة ركيكة يمكن أن تدرج تحت الشعر الموضوع الذي نصّ القدماء على كثرة وضعه على لسان حسّان لسبب من أسباب الانتحال المعروفة.
4 ــ أنّ الدراسة التحليلية لمراثي حسّان في الرسولo أو في شهداء المسلمين توكّد خلاف رأي الأصمعي، لأنّنا وجدنا في بعضها صدقاً في العاطفة، واندفاعاً في تسخير هذه المراثي في سبيل الدعوة الإسلامية، وهذا مبدأ ما كان يدفع حسّان في مراثيه التي قالها قبل الإسلام، والتي بدا بعضها خالياً من الروح والعاطفة.
5 ــ يضاف إلى كلّ هذا أنّ التفاوت في شعر حسّان مردّه إلى طبيعة الدعوة الإسلامية التي عاشت ظروفاً صعبة ومختلفة جعلت الشعر أحد وسائلها، وقد عرف عن حسّان أنّه كان يرتجل في كثير من المواقف، وهذا الارتجال قد يبدع فيه حسّان أو قد لا يتجاوز فيه النظم والردّ على المشركين، فمقتضيات الأمر تتطلّب منه الوقوف إلى جنب المسلمين والدفاع عنهم إزاء أبيات قيلت فيهم. قد يصيب فيها حسّان في الإجادة الفنّية أو قد يخطأ، ولكنّه يبقى ملتزماً فيما وجّه إليه، ممّا جعل شعره سلاحاً بنّاء يخدم الدعوة والمسلمين. (8)
قصيدة وتحليل
قال حسّان بن ثابت:
عفت ذات الأصابع فالجواء |
|
إلى عذراء منزلها خلاء |
ديار من بني الحسحاس قفر |
|
تعفّيها الروامس والسماء |
وكانت لا يزال بها أنيس |
|
خلال مروجها نعم وشاء |
فدع هذا ولكن من لطيف |
|
يؤرّقني إذا ذهب العشاء |
لشعثاء التي قد تيّمته |
|
فليس لقلبه منها شفاء |
كأنّ سبيئة من بيت رأس |
|
يكون مزاجها عسل وماء |
على أنيابها أو طعم غض |
|
من التفّاح هصّره الجناء |
إذا ما الأشربات ذكرن يوماً |
|
فهنّ لطيّب الراح الفداء (9) |
نولّيها الملامة إن ألمنا |
|
إذا ما كان مغث أو لحاء |
ونشربها فتتركنا ملوكاً |
|
وأُسداً ما ينهنهها اللقاء |
عدمنا خيلنا إن لم تروها |
|
تثير النقع موعدها كداء |
يبارين الأعنّة مصعدات |
|
على أكتافها الأسل الظماء |
تظلّ جيادنا متمطرات |
|
تلطمهنّ بالخمر النساء |
فأمّا تعرضوا عنّا آعتمرنا |
|
وكان الفتح وانكشف الغطاء |
وإلّا فاصبروا لجلاد يوم |
|
يعزّ الله فيه من يشاء |
وجبريل أمين الله فينا |
|
وروح القدس ليس له كفاء |
وقال الله قد أرسلت عبداً |
|
يقول الحقّ إن نفع البلاء (10) |
شهدت به فقوموا صدّقوه |
|
فقلتم: لا نقوم ولا نشاء |
وقال الله: قد يسّرت جنداً |
|
هم الأنصار عرضتها اللقاء |
لنا في كلّ يوم من معدّ |
|
سباب أو قتال أو هجاء |
فنحكم بالقوافي من هجانا |
|
ونضرب حين تختلط الدماء |
ألا أبلغ أبا سفيان عنّي |
|
فأنت مجوّف نخب هواء |
بأنّ سيوفنا تركت عبداً |
|
وعبد الدار سادتها الإماء |
هجوت محمّداً فأجبت عنه |
|
وعند الله في ذاك الجزاء |
أتهجوه ولست له بكفء |
|
فشركما لخيركما الفداء |
هجوت مباركاً برّاً حنيفاً |
|
أمين الله شيمته الوفاء (11) |
فمن يهجو رسول الله منكم |
|
ويمدحه وينصره سواء |
فإنّ أبي ووالده وعرضي |
|
لعرض محمّد منكم وقاء |
فإمّا تثقفنّ بني لؤي |
|
جذيمة إنّ قتلهم شفاء |
أُولئك معشر نصروا علينا |
|
ففي أظفارنا منهم دماء |
وحلف الحارث بن أبي ضرار |
|
وحلف قريظة منّا براء |
لساني صارم لا عيب فيه |
|
ويجري لا تكدرّه الدلاء (12) |
التحليل والنقد:
ورد في إحدى نسخ ديوان حسّان أنّه قال هذه القصيدة قبل فتح مكّة يهجو أبا سفيان بن الحارث وقال بعضهم أنّها أوّل ما جرى به لسان حسّان حين سلّه على قريش.
وهناك من ذكر أنّها قيلت يوم فتح مكّة وربّما كان هذا القول معتمداً على عبارة وردت في السيرة النبوية ... وكان ممّا قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسّان بن ثابت. وهذا القول غير كاف لأنّ ابن هشام ذكر بعد رواية القصيدة ما يؤكّد قول حسّان لها قبل الفتح قائلاً: قالها حسّان قبل يوم الفتح. ويبدو أنّ عبارة ابن هشام الأُولى أراد بها ما أنشد يوم الفتح، فقد قيل انّ الرسولo رأى يوم فتح مكّة النساء يضربن وجوه الخيل بخمرهنّ. فقالg: صدق حسّان. والأبيات نفسها تدلّنا دلالة قاطعة على أنّ معظمها قيل قبل الفتح، هجا فيها حسّان بن ثابت أبا سفيان وهدّد فيها قريشاً كلّها بالفتح ناقلاً رغبة المسلمين وتشوّقهم إلى زيارة الكعبة وأداء العمرة سلماً، وإلّا فلتستعدّ قريش لحرب المسلمين، لأنّها بذلك تخالف بنداً من بنود صلح الحديبية المشهور.
إذا تابعنا المعاني التي قامت عليها القصيدة أمكننا تقسيمها على ستّة أقسام:
1ــ المقدّمة الطللية.
2ــ التهديد.
3ــ الفخر الجماعي.
4ــ الهجاء الشخصي والقبلي.
5ــ مديح الرسولo.
6ــ الفخر الشخصي. (13)
أمّا المقدّمة الطللية فهي تقع في عشرة أبيات وقف فيها الشاعر على مواضع في بلاد الشام يبكي أطلالها المقفرة التي كانت أنيسة من قبل بأهلها، وما يملكون من نعم وشياه، وسرعان ما ينتقل من وصف الديار إلى تذكّر خيال الحبيبة الذي يلحّ في اقتحام مخيّلته فيؤرّقه، ثمّ يسترسل في وصف صاحبة الخيال، وهذا يتيح له الانتقال إلى معنى آخر من خلال تشبيه رضابها بالخمر، فيصف الخمرة ويمجّدها. فهو وقومه يلجأون إلى شربها إذا ما أثيروا لقتال أو مهاجاة فتثير فيهم النخوة والحمية، وتجعلهم ملوكاً لا يهابون الحرب والقتال.
وهنا لابدّ للقارئ أن يقف موقف المتسائل عن حديث حسّان عن الخمر في موقف حاسم من حياة المسلمين، وهو توقّع الحرب لفتح مكّة مع ما هو معروف من توجيهات القرآن الكريم والرسولo في تحريم الخمر ...
ويبدو أنّ الالتفات إلى هذه المقدّمة التي بدت غير ملائمة للجو الذي قيلت فيه قد حدث في زمن حسّان إذ قيل أنّه هجم يوماً على فتيان من قومه يشربون الخمر، فنقم منهم ذلك، وأنكره، فقالوا: يا أبا الوليد ما أخذنا هذا إلّا منك، وإنّا لنهمّ بتركها فيثبّطنا عنه قولك:
ونشربها فتتركنا ملوكاً |
|
وأُسداً ما ينهنها اللقاء |
فقال حسّان: والله لقد قلتها في الجاهلية وما شربتها منذ أسلمت.
وقد صرّح مصعب الزبيري في خبر نقله ابن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب ما يؤكّد كون مقدّمة القصيدة قد قيلت قبل الإسلام بقوله (هذه القصيدة قال حسّان صدرها في الجاهلية وآخرها في الإسلام: عدمنا ...).
ووفق هاتين الروايتين تكون المقدّمة الطللية من نظم حسّان قبل الإسلام، وانّه حين أراد أن يقول شعراً في الردّ على أبي سفيان وتهديد قريش لم يشأ أن ينظم مقدّمة، فأتى بأُخرى جاهزة مع ما فيها من معان تخالف روح الإسلام، لأنّه يعرف حقّ المعرفة أنّ المسلمين يقدرون كونها تقليداً لطريقة الشعراء المعروفة فيما يقولون بمقدّمات عرفت فيما بعد بالمقدّمات الطللية. (14)
أنّ متابعة قصائد حسّان التي قالها في الإسلام تؤكّد لنا صدق الرأي السابق فهو لم يعد ملتزماً بشكل المقدّمات الطللية كما كان يفعل قبل الإسلام، وكأنّه أحسّ أنّ المواقف السريعة المستجدّة في حياة المسلمين لم تعد تسمح له نفسياً في الانصراف لنظم مقدّمة، والخطر نفسه يفرض خطورته على الشاعر والموقف، فيجد الحديث عن أي شيء خارج القصيدة، تافهاً لا ينسجم مع الظروف الصعبة. وبهذا يمثّل شعر صدر الإسلام بداية بسيطة لتطوير بنية القصيدة العربية ومقدّمتها الطللية بالذات، ولكنّه تطوّر محدود يوافق طبيعة العصر الذي عاش فيه حسّان، حيث لم يكن هناك شاعر يفكّر في الخروج من الاطار العامّ للقصيدة العربية. والواقع أنّ فكرة الخروج على شكل القصيدة العربية لم تكن ببال حسّان أو غيره من شعراء الدعوة إلّا أنّ الظروف الملحّة التي دفعتهم إلى نظم الأشعار جعلتهم يختصرون بعض مقدّماتها الطللية، وبذا يكون حسّان سابقاً لأبي نؤاس في دعواه إلى نبذ عادة الوقوف على الأطلال.
إنّ متابعتنا لقصائد حسّان الإسلامية ــ ويصدق هذا على بعض مقدّمات كعب بن مالك ــ تدلّنا على أنّ هناك نعين من المقدّمات الغزلية في أشعاره:
1ــ مقدّمة غزلية عفيفة.
2ــ مقدّمة طللية تجتزئ بسرعة.
لقد بدأ حسّان إحدى قصائده الإسلامية بذكر الديار المقفرة، ثمّ تغزّل غزلاً عفيفاً، ليخلص منه إلى الفخر بقومه، ولم يخرج فيه عن الفخر بالقيم العربية المعهودة من مجد وسؤدد وكرم حتّى يصل إلى الفخر بالقيم الإسلامية كفخره بنصر قومه للرسولo معدّداً مواقفهم في صدّ عدوان مشركي قريش يوم بدر وأُحد ويوم الطائف ... ويختمها بفخر شخصي. ونختار من هذه القصيدة ما يوضّح طريقة حسّان في افتتاحيات قصيدته، وهو قوله:
أهاجك بالبيداء رسم المنازل |
|
نعم قد عفاها كلّ أسحم هاطل (15) |
وجرّت عليها الرامسات ذيولها |
|
فلم يبق منها غير أشعث مائل |
ديار التي راق الفؤاد دلالها |
|
وعزّ علينا أن تجود بنائل |
لها عين كحلاء المدامع مطفل |
|
تراعي نعاماً يرتعي بالخمائل |
ومثلها قصيدته التي قالها ذاكراً أصحاب اللواء يوم أُحد، إذ افتتحها أيضاً بمقدّمة غزلية عفيفة.
أمّا الضرب الثاني من المقدّمات. فهو السائد في قصائده الإسلامية التي يجتزئ فيها الحديث بلفظ (دع)، ليردع نفسه عن الاسترسال في الحديث الشخصي، ويبدأ بموضوعه مباشرة، وهذا نفسه يسوغ كون القصيدة الهمزية قد وضع لها حسّان مقدّمة جاهزة ممّا كان قد نظمه قبل الإسلام، لأنّ الظرف النفسي والاجتماعي الذي كان يعيش فيه لا يدع له مجالاً لنظم مقدّمة تقليدية للقصيدة.
إنّ استعمال لفظ (دع) وسيلة حسنة للتخلّص من المقدّمة التي تكبل أحاسيس الشاعر، وتقيّد خطواته للقول في موضوعه مباشرة فيكتفي بذكر بيتين أو ثلاثة تصلح أن تكون بداية لمقدّمة طللية، ولكنّه سرعان ما يتذكّر الحدث الملم الذي ملك نفسه وكيانه، فيشيح بوجهه مسرعاً عن هذه المقدّمة، ويدخل في موضوعه مباشرة. لقد بدأ حسّان قصيدته التي قالها إثر معركة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون بثلاثة أبيات تحدّث فيها عن ديار زينب الداثرة التي لم يبق منها إلّا آثار كآثار الخط الباهت، ثمّ يتذكّر عمران هذه الديار. وقبل أن يسترسل في الذكرى فيصف صاحبته ينتقل انتقالاً طريفاً بإيراد لفظ (دع) أيضاً، وكأنّه يزجر نفسه عن تذكّر مواقف تخصّ المسلمين جميعاً ويعبّر عن مشاعرهم فيها، وفرحهم بما أصاب المسلمين من نصر عظيم يوم بدر: (16)
عرفت ديار زينب بالكثيب |
|
كخطّ الوحي في الورق القشيب |
تعاورها الرياح وكلّ جون |
|
من الوسمي متّهم سكوب |
فأمسى رسمها خلقاً وأمست |
|
يباباً بعد ساكنها الحبيب |
فدع عنك التذكّر كلّ يوم |
|
وردّ حزازة الصدر الكئيب |
وخبّر بالذي لا عيب فيه |
|
بصدق غير أخبار الكذوب |
بما صنع المليك غداة بدر |
|
لنا في المشركين من النصيب |
فهو في البيت الرابع يريد أن يقول أنّ تذكّر الأحبّة قد يكون ذكرى كاذبة، وقد يكون حديثاً يستحيا منه ويعاب عليه، فالأولى به أن يتحدّث حديث الصدق الذي لا يكذبه فيه أحد لأنّه الواقع الذي شهده الناس جميعاً، وكان سبباً في نزع الحزن والأسى من قلوب المسلمين، ألا وهو نصر الله لهم في بدر. أمّا قصيدته البائية الثانية التي مطلعها:
هل رسم دارسة المقام يباب |
|
متكلّم لمحاور بجواب (17) |
فانّه اكتفى بالمطلع وببيت آخر، ليخلص منهما بلفظ (دع) في سياق أكثر وضوحاً، يبيّن رغبته في الإعراض عن المقدّمة الطللية وما فيها من هموم شخصية، لينصرف إلى الحديث عن الهموم الجماعية هموم المسلمين التي يشكوها إلى الله تعالى بسبب تألّب المشركين وقوى الشرّ المعاندة لحرب المسلمين:
فدع الديار وذكر كلّ خريدة |
|
بيضاء آنسة الحديث كعاب |
وآشك الهموم إلى الإله وما ترى |
|
من معشر متألّبين غضاب |
أموا بغزوهم الرسول وألّبوا |
|
أهل القرى وبوادي الأعراب |
هذه طريقة حسّان بن ثابت في مقدّمات شعره الإسلامي، ولا نرانا بحاجة إلى موازنتها بمقدّمات قصائده التي قالها قبل الإسلام، لأنّ قصيدته الهمزية هذه قد استعار لها مقدّمة جاهزة ممّا كان قد قاله في الجاهلية. وهذا يعني أيضاً انّ الجزء الثاني أو تتمّة الهمزية التي قالها قبل الإسلام قد ضاع، ولم يصل إلينا بسبب شيوع قصيدته الهمزية الإسلامية.
إنّ هذه المقدّمات تمثّل بداية تطوّر للقصيدة العربية ومقدّماتها وقد وجدنا لها صدى عند كعب بن مالك الذي بدأ إحدى قصائده في رثاء الخليفة عثمان (رض) بتعجّبه ممّن يبكي على الدمن والآثار:
ياللرجال لأمر هاج لي حزنا |
|
لقد عجبت لمن يبكي على الدمن |
إنّي رأيت قتيل الدار مضطهداً |
|
عثمان يهدى إلى الأجداث في كفن (18) |
وبعد مقدّمة القصيدة يبدأ حسّان جوها وموضوعها المباشر الذي بدأه بتهديد شديد اللهجة، تهديد من وثق بجماعته ونصر الله لها حتّى سبق خياله في هذه الأبيات الأحداث التي حدثت فيما بعد فتح مكّة ونصر الله للمسلمين:
عدمنا خيلنا إن لم تروها |
|
تثير النقع موعدها كداء |
لقد تخيّل حسّان بن ثابت خيول المسلمين التي تقتحم شعاب مكّة تاركة الخوف والهلع في النفوس، فالنساء يتّقين سنابك الخيل وضرباتها بخمورهنّ.
وقد عمد حسّان فيها إلى نقل صورة سريعة الحركة توحي لنا بتوقّعه النصر المؤكّد، وبهذا يبتعد عن الأُسلوب المباشر الذي نجده في كثير من أشعاره.
ويخيّر حسّان بن ثابت قريشاً من موقع القوّة والثقة بالله ونصره، بين أمرين. إمّا أن تدع المسلمين يؤدّون العمرة بسلام، أو تنتظر بلاء اليوم العظيم الذي يعزّ الله فيه المسلمين بالنصر والفتح. ويبدو حسّان في هذا التهديد صادق اللهجة، واثقاً ممّا يقول، ناقلاً لصورة المسلمين الجماعية صورة العزم على الفتح والتشوّق إلى العمرة وزيارة مكّة. ويمهّد بعد هذا التهديد إلى فكرة الفخر بالجماعة الإسلامية نفسها، فهو يهدّد قريشاً بالمسلمين واثقاً من نصر الله لهم، لأنّ الرسولo أمينهم ويسندهم جبريل بالوحي .. الرسول فيهم وهم يصدّقونه ويطيعونه. أمّا أنتم معشر قريش فقد أبيتم إلّا تكذيبهo وخذلانه فقد عوّض الله نبيّه عنكم بالأنصار الذين دافعوا عنه وعن الدين بسيوفهم وألسنتهم. والأبيات في هذا من 16 ــ 21 تدور كلّها في فلك المعاني الإسلامية والفخر بالجماعة المسلمة بغضّ النظر عن القبلية الضيّقة، أو الحسب المحدود، الفخر بالمسلمين من الأنصار الأوس والخزرج الذين وقفوا بالمرصاد لكلّ من يهجو الرسولo ودافعوا عنه حين احتدمت المعارك. وبذا ينتقل إلى المقطع الرابع وهو هجاء أبي سفيان هجاءً شخصياً من البيت 22 ــ 27.
ألا أبلغ أبا سفيان عنّي |
|
فأنت مجوّف نخب هواء (19) |
ولكي يبرز شخصية أبي سفيان الخاوية من الفطنة والكيس يجرّده من جماعته التي يفخر بها فهو فارغ لا علم، ولا رأي صائب له. ودليل هذا ما أشار به أبو سفيان يوم أُحد بشأن اللواء الذي حمله جماعة من بني عبد الدار فكلّما حمله واحد، قتل بيد واحد من المسلمين. وقد قيل إنّ أوّل من أخذ اللواء من بني عبد الدار ــ وهو بطن من قريش ــ طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان، فقتله سعد بن أبي وقّاص، ثمّ أخذه عثمان بن أبي طلحة فقتله حمزة، ثمّ أخذه سعيد بن أبي طلحة فقتله سعد بن أبي وقّاص، ثمّ أخذه مسافع بن طلحة فقتله حمزة، وهكذا قتل كلّ من حمل اللواء، فكان آخر من حمل لواء قريش عبد لبني عبد الدار، فقتل وهو بيده، ثمّ أخذته امرأة منهم ... وبذا يجمع حسّان بين الهجاء الشخصي والقبلي، فلا فخر يفخر به أبو سفيان، لأنّ بني عبد الدار قد ضيّعوا اللواء الذي حملوه. وقد مرّ بنا رفض د. وليد عرفات نسبة هذا البيت لحسّان في هذه القصيدة.
إنّ حسّان بن ثابت يقابل صورة أبي سفيان المهجوة بصورة الرسولo البرّ الحنيف الوفي .. ويقول بعفوية صادقة (فشرّكما لخيركما الفداء)، فأبو سفيان فداء لرسول اللهo، وهو ليس بكفء له وبذلك لا قيمة لمن يهجو الرسولo لأنّo محاط بالمسلمين الذين يفتدونه بأموالهم وأعراضهم، وهذا حسّان نفسه يعلن في البيت (28) بأنّه يقي الرسولo بوالده وعرضه، وهنا يتحوّل الأُسلوب إلى لغة تقريرية أقرب إلى الكلام المباشر الذي لم يعمد فيه إلى الصنعة الفنّية.
بعد هذه الأبيات يتطرّق حسّان إلى هجاء قبلي، فيخفت فيه صوت عاطفته، وتبدو الأبيات من 29 ــ 31 خالية من الروح الفنّية أو العاطفة والانفعال وتبقى مجرّد أبيات منظومة يعدّد فيها أسماء من تحالف من مشركي قريش ضدّ المسلمين.
ويختم القصيدة ببيت واحد يفخر فيه بلسانه الصارم وشاعريته التي لا تغلب، ويبدو هذا البيت غريباً بعد الأبيات السابقة، وكأنّي أحسّ بضياع بيتين أو أكثر ينتقل فيها حسّان من ذكر حلف قريش مع المشركين واليهود إلى الفخر بلسانه ودفاعه عن الدعوة: (20)
لساني صارم لا عيب فيه |
|
ويجري لا تكدّره الدلاء |
ولعلّ هذا هو وراء قول د. عرفات بأنّ القصيدة قد تكون أكثر من قسمين وإنّها قد قيلت في أوقات متفاوتة. ولأنّنا نحسّ بتفاوت أُسلوبها قوّة وضعفاً، صدق عاطفة وانعدامها.
إذا عدنا إلى قصيدة حسّان مرّة أُخرى لدراسة تعابيرها ــ بعد حذف مقدّمتها ــ فإنّنا نتبيّن فيها تطوّر اللغة الشعرية عند حسّان أوّلاً وشعراء الدعوة عامّة، ونجد هذه القصيدة بالذات ممثّلة لتطوّر اللغة الشعرية مفردة وأساليب ومعاني.
فالشاعر حسّان يستخدم أُسلوب التهديد الذي يتماشى مع الظروف الحرجة التي كان يمرّ بها المسلمون، ويتمثّل هذا بكثرة إيراده لمفردات الحرب والسلاح وما يتعلّق بهما مثل الألفاظ:
11ــ عدمنا خيلنا.
النقع (وهو الغبار وهذه من متعلّقات الخيل لأنّ سنابكها تثيره).
12ــ الأعنّة، الأسل (وهي الرماح).
13ــ الجياد.
15ــ جلاد.
19ــ جند، اللقاء.
20ــ قتال.
21ــ الدماء.
22ــ سيوفنا.
29ــ قتلهم.
30ــ نصروا.
واعتمد أيضاً أُسلوب الخطاب، خطاب الجماعة أو الفرد ممثّلاً بأبي سفيان، (21)
وهذه الخطابية سمة من سمات شعر الدعوة، لأنّه أُسلوب من أساليب الحماس الذي تثيره القصيدة.
11ــ تروها.
14ــ فأمّا تعرضوا.
15ــ وإلّا فاصبروا.
16ــ فقلتم لا نقوم.
22ــ ألا أبلغ .. فأنت.
24ــ هجوت.
25ـ أتهجوه.
وثمّة تطوّر آخر في لغة القصيدة يتمثّل باستخدام الشاعر لغة الجماعة في الفخر، وإذا كان هذا الاستخدام موجوداً من قبل، فإنّ حسّان بن ثابت لا يعني به هنا جماعة القبيلة، وإنّما جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين، وهو يستخدمها حتّى في وصف الخيول، والتهديد بها بخيل المسلمين:
11ــ عدمنا خيلنا.
12ــ يبارين.
13ــ تظلّ جيادنا.
كما انّه استخدم ضمير الجماعة تعبيراً عن الروح الجماعية الجديدة التي أوجدها الإسلام للأُمّة مثل قوله:
16ــ رسول الله فينا.
20ــ لنا في كلّ يوم.
21ــ فنحكم بالقوافي.
ولا يستخدم لغة المفرد إلّا في الأبيات التي تخصّه هو، لكونه شاعراً.
26ــ هجوت ... فأجبت.
أو فخره بأنّه سيدافع عن الرسولo بعرضه ولسانه.
28ــ فإنّ أبي ووالده وعرضي. (22)
أو إعلانه بقوّة أشعاره التي سخّرها لخدمة الدعوة الإسلامية.
32ــ لساني ... وبحري.
أمّا الروح الإسلامية المتمثّلة في أبيات قصيدة حسّان فإنّها تظهر في إيراد الألفاظ الإسلامية: العمرة، الفتح، جبريل، رسول الله، روح القدس، الشهادة (شهادة الا إله إلّا الله).
وأمّا إيراده الأفكار الإسلامية فتظهر في الأبيات: 14ــ كان الفتح وانكشف الغطاء، النصر من الله فتح مكّة، وظهر الحقّ، وانتصار المسلمين.
15ــ يعزّ الله فيه من يشاء.
وهنا لا يسمّي حسّان الرسولo بصفة من الصفات الدنيوية التي يوصف بها ملوك الأرض وعظماؤهم، وإنّما يصفه كما ورد في القرآن الكريم والتوجيهات النبوية (عبدالله)، لأنّ العبودية لله وحده. فالله تعالى هو الذي يرسل جنوداً يقوّي بهم المسلمين وينصرهم.
24ــ وعند الله في ذاك الجزاء.
وهكذا نستطيع أن ننطلق من دراسة لغة الشعر عند حسّان إلى لغة الشعر عامّة في صدر الإسلام، إذ شهد العصر تطوّراً في اللغة الشعرية لا من حيث المفردات لأنّ الكلمة وحدها مجرّدة لا تعني شيئاً، وإنّما هو تطوّر في الفكر الذي أداته الكلمة مفردة أو مركّبة في سياق وصورة. لقد كثرت في هذا العصر مفردات تتعلّق بالحساب ثمّ الثواب والجزاء أو العقاب والعذاب ومفردات الجنّة والنار من المؤمنين الخالدين والشهداء والصدّيقين إلى الكفّار والدرك الأسفل من النار وعذاب السعير ... الخ.
وكثرت في أشعار الدعوة الألفاظ المتعلّقة بالحرب والسلاح ولكنّها لم ترد على شاكلة ألفاظ الحرب قبل الإسلام لأنّها اقتربت بأجواء هيمن عليها الإيمان والاستبسال في القتال رغبة في الشهادة والثواب.
والملاحظة الأُخرى أنّ لغة الشعر عامّة صارت أقرب إلى لغة الحاضرة السهلة السلسلة البعيدة عن الغرابة أو التعقيد، المؤدّية إلى المعنى بيسر وسهولة وسبب ذلك(23)
يعود بالدرجة الأُولى إلى كون شعراء الدعوة عامّة هم من شعراء القرى العربية، مكّة والمدينة الذين شهدوا الدعوة ودافعوا عنها أو وقفوا ضدّها. أمّا شعراء البادية فقد ظلّوا غالباً بعيداً عن أوار المعارك الفعلية أو الفكرية حتّى من قدم منهم المدينة الإسلامية، وشهد بعض أحداثها، فقال شعراً يمثّل امتداداً لأشعار الجاهلية في لغته، ومفرداته وأحياناً في أفكاره وأخيلته. كما سنجد ذلك عند الحطيئة ومتمّم بن نويرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) شرح نهج البلاغة 1/285 .
(11) تاريخ الطبري 4/3،17، فتوح البلدان ق 2/229 ،309، 303.
(12) أنساب الأشراف 5/46 ،115 ،116 .
(13) تاريخ الطبري 5/140 ، الاقتباس من القرآن الكريم ،113 فما بعدها .
(14) الإمامة والسياسة 1/47 ،شرح نهج البلاغة 1/80 ،78.
(15) الوثائق السياسية 10.
(16) نفسه 20.
(17) التنبيه والإشراف 259، صبح الأعشى 6/219-220 .
(18) نفسه .
(19) نفسه ، وانظر قول سعيد المري في الاستفتاح بالبسملة ، وأنها أول شيء كتب في المصحف ،و أول ما كتب به سليمان بن داود .
(20) صبح الأعشى 6/376 .
(21) نفسه.
(22) نفسه 6/225.
(23) نفسه .
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|