أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-8-2017
7660
التاريخ: 3-8-2017
4457
التاريخ: 3-8-2017
4801
التاريخ: 14-3-2017
6314
|
إن القاعدة العامة التي تحكم مقدار التعويض تتمثل بأن يكون مساوياً لقيمة الضرر المباشر فلا ينقص عنها ولا يزيد(1) ، ويبدو لنا أن المقصود بالمساواة هنا هي المساواة التقريبية ، وإلاّ فأن تعويض الضرر على نحو يحقق المساواة التامة بينه وبين التعويض أمراً صعب التحقيق ، ولهذا فإن الهدف من التعويض هو جبر الضر كله بحيث يلتزم المسؤول بتحمل نتائج فعله الخاطئ ، إلاّ أنه من المعروف أن الأضرار تختلف فيما بينها من حيث تقويمها . فالإصابات البدنية أو المعنوية ، تنطوي على صعوبة بالغة في تقدير التعويض عنها ، وهو أمرٌ يجعل التعويض المساوي على نحو كامل في مجال الواقع العملي أمراً فوق طاقة المحاكم القضائية ، إذ كيف يمكن لقاضي أو خبير أو عدد منهم أن يصل إلى تقويم عادل للآلام النفسية التي حدثت نتيجة لخطأ المسؤول ، ومع حساب تأثير هذا الاعتداء وهذه الآلام ، على انصراف المتضرر عن عمله وإخفاقه أو نجاحه في هذا العمل ، ثم كيف يمكن جبر هذه الآلام النفسية ، إن ما يعلنه الفقه القانوني الحديث من أن الهدف وراء تقرير التعويض هو محو آثار الاعتداء كلية ورفع الضرر بالكامل والعودة بالمتضرر إلى الوضع الذي كان عليه قبل حدوث الضرر أمر غير مسلم به على الإطلاق(2). وعلى هذا الأساس ينبغي أن ينصرف معنى التعويض إلى المعنى التقريبي له وليس المساواة المطلقة بينه وبين الضرر المعنوي ، وفي هذا الإطار يجب على القاضي أن يقدر التعويض تقديراً كافياً لجبر الضرر وإعادة المضرور إلى الحالة التي كان عليها قبل وقوع الفعل الضار ، شرط أن يقترن هذا التقدير ببيان عناصر الضرر(3). إن التساؤل الذي يثور هنا هو هل يمكن للمضرور الجمع بين مبلغ التعويض الذي يقدره له القاضي والمبالغ الأخرى التي يحصل عليها من الغيـر كمبلغ التأمين والراتب الوظيفي ؟ بالنسبة إلى مبلغ التأمين ، إذا كان المضرور مؤمناً على نفسه ضد ما قد يصيبه من حوادث يكون له او لورثته الجمع بين مبلغ التامين ومبلغ التعويض ، وذلك لأن مبلغ التأمين ليس له صفة التعويض ، ومن ثم لا يؤدي إلى اجتماع تعويضين عن ضرر واحد ، بل هو مقابل لأقساط التأمين التي دفعها المضرور لشركة التأمين وهذا الحكم أخذ به المشرع العراقي بقوله ((في التأمين على الحياة ، لا يكون للمؤمن الذي دفع مبلغ التأمين حق في الحلول محل المؤمن له أو المستفيد في حقوقه قبل من تسبب في الحادث المؤمن منه أو قبل المسؤول عن هذا الحادث)) (4). وكذلك نجد أن المشرع العراقي في قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات ، أعطى للمتضرر حقاً مباشراً تجاه المؤمن ، ولم يجز الاحتجاج عليه بالحالات التي يجوز فيها للمؤمن أن يرجع بالتعويض على المؤمن له أو الغير(5). وحسناً فعل المشرع العراقي في هذا الصدد وذلك لانعدام العلاقة بين مرتكب الضرر المعنوي وبين طرفي عقد التأمين إذ هو أجنبي عنه ، كما أن مبلغ التأمين الذي يحصل عليه المضرور هو كما قلنا مقابل الأقساط التي دفعها ، ومصدرها عقد التأمين ، وكذلك فإن مبلغ التأمين غالباً ما يقل عما يجب تقديره للضرر , وذلك لأن شركة التأمين لا تدفع إلاّ المبلغ المحدد في وثيقة التأمين بغير موازنة بينه وبين ما وقع من ضرر(6). بينما نجد أن مبلغ التعويض الذي يحصل عليه المضرور أو ورثته يكون مصدر أساسه العمل غير المشروع(7). والتعليل السابق يصدق أيضاً على حالة ما إذا كان المضرور مؤمناً على ماله ، غير أننا لا نستطيع مع ذلك القول بجواز الجمع بين مبلغ التعويض ومبلغ التأمين نظراً لما نص عليه المشرع العراقي من أنه ((يحل المؤمن قانوناً محل المستفيد بما يدفعه من تعويض عن الحريق قبل من تسبب بفعله في الضرر الذي نجمت عنه مسؤولية المؤمن وتبرأ ذمة المؤمن قبل المستفيد من كل التعويض أو بعضه ، إذا أصبح هذا الحلول متعذراً لسبب راجع إلى المستفيد)) (8). ونحن بدورنا لا نرى أن هناك سبباً قانونياً مقنعاً للتمييز بين حالة التأمين على الحياة وحالة التأمين على الأموال ، ففي كلا الحالتين ، نجد أن مرتكب الضرر شخص أجنبي عن العقد ومسؤوليته تقصيرية بينما نلاحظ أن مسؤولية المؤمن هي مسؤولية عقدية ، ولهذا نقترح تعديل النص العراقي بما يمنع حلول المؤمن محل المؤمن له في حالة التأمين على الأشياء . وترك الحق للمتضرر بمطالبة محدث الضرر سواء كان من الأفراد أم من الهيئات الإدارية بالتعويض المناسب بالإضافة إلى ما يستحقه بموجب عقد التأمين . أما بخصوص الجمع بين مبلغ التعويض والإعانة التي تمنحها الإدارة لأحد موظفيها الذي يصاب بحادث أثناء قيامه بواجبه ، فإن القاعدة العامة هنا تقضي بأنه لا يجوز للمضرور الجمع بين تعويضين ، وذلك لأن العمل غير المشروع لا يجوز أن يكون سبباً لإثراء المضرور على حساب الإدارة،وعلى هذا الأساس تكون للمكافئة أو المعاش الاستثنائي صفة التعويض ، لأن الحق فيه لم ينشأ إلاّ بسبب الضرر الذي لحق بالمضرور، ومن ثم فلا يجوز له الجمع بينه وبين أي تعويض آخر(9). وفي هذا الصدد نجد أن محكمة التمييز ((النقض)) السورية تقول أنه ((لا يجوز مساءلة الحكومة مرتين بسبب الحادث نفسه ، والجمع بين التعويض على أساس القانون المدني ، والتعويض على أساس قانون التقاعد (الإعانة الحكومية) لاتحاد الغاية في التعويضين)) (10). كما أننا نجد أن محكمة التمييز ((النقض والابرام)) المصرية قررت بأن ((… المكافأة الاستثنائية التي تمنحها الحكومة لأحد موظفيها طبقاً لقانون المعاشات … كتعويض عن الإصابة التي لحقته وأقعدته عن … العمل في خدمتها لا تحول دون المطالبة بحقه في التعويض الكامل الجابر للضرر الذي لحقه ، إذ أن هذا الحق يظل مع ذلك قائماً وفقاً لأحكام القانون المدني إذا كانت الإصابة قد نشأت عن خطأ تسأل عنه الحكومة ، إلاّ أنه لا يصح للمضرور أن يجمع بين التعويضين لأن هذين الالتزامين متحدان في الغاية وهي جبر الضرر جبراً متكافئاً له ولا يجوز أن يزيد عليه)) (11). إلاّ أننا نجد بعض المحاكم المصرية خالفت هذه القاعدة ، إذ هي لا ترى في التشريع الخاص بالمعاشات يَجُبّ القواعد العامة الخاصة بالمسؤولية في علاقة الموظف بالإدارة التابع لها ، ولهذا فإذا كان مقدار المعاش الاستثنائي أو المكافأة التي حصل عليها الموظف أو ورثته عما أصابه من أضرار معنوية أثناء تأدية وظيفته ، أقل من الضرر الحقيقي الذي لحق به ، كان له أن يرفع دعوى التعويض بالباقي على المتسبب في الضرر حتى ولو كان الإدارة التابع لها ذاتها(12).
وكذلك نجد أن مجلس الدولة الفرنسي يقرر بأنه إذا كان الشخص المضرور موظفاً أو مستخدماً وكان له الحق في أن يتقاضى بحسب القوانين واللوائح مكافأة أو معاشاً معيناً عن إصابته فهذا لا يمنعه من الرجوع الى الغير أو الجهة الإدارية الأخرى التي تسببت في الضرر المعنوي بالجزء الباقي من التعويض ، إذ قلما يغطي مقدار المعاش أو المكافأة المصروفة الضرر المعنوي الحال به . ولكن نلاحظ أنه إذا كانت الجهة المتسببة في الضرر هي الإدارة نفسها التابع لها الموظف ، فتكون المكافأة أو المعاش عندئذٍ هي أقصى ما يمكن دفعه له أو لورثته على سبيل التعويض ، بحيث لا يحق له بعد ذلك أن يرجع عليها بشيء آخر استناداً إلى قواعد المسؤولية الإدارية . وعلة هذا التمييز بين ما إذا كان الشخص الإداري الملزم بالمعاش هو نفسه المتسبب في الضرر المعنوي أم لا ، أن المشرع في وضعه لأحكام قانون المعاشات والمكافآت عن الحوادث والإصابات التي تقع للموظفين أثناء تأديتهم أعمالهم ، وتقديره لذلك ، يكون أنه قدر قطعياً وبصفة إجمالية نهائية مبلغ التعويض الجائز في هذه الحالات ، فيما يتعلق بعلاقة الموظف بالإدارة التابع لها . وهذا الأمر لا ينطبق على علاقة الموظف بالغير أو الجهات الإدارية الأخرى التي لا تكون ملزمة بمنح المعاش أو المكافأة(13). وفي العراق نلاحظ أن القضاء العادي لا يجيز مطالبة المضرور بالتعويض عن الأضرار المعنوية التي تتسبب بها الإدارة له إذا كان موظفاً لديها أو في الدولة بشكل عام ، أي بعبارة أخرى أنه لا يسمح بالجمع بين الحقوق التي يستحقها المضرور بموجب قانون التقاعد المدني أو أي نظام قانوني آخر ومبلغ التعويض وفقاً لقواعد المسؤولية التقصيرية . ومن تطبيقاته بهذا الشأن حكمه الذي جاء فيه ما يأتي ((لدى التدقيق والمداولة وجد أن … المدعي المميز موظف لدى دائرة المدعى عليه وأصيب أثناء الوظيفة لذا فإن ما يستحقه من حقوق وتعويضات … يتقرر بمقتضى قانون التقاعد المدني رقم 33 لسنة 1966 وقانون العجز الصحي للموظفين رقم 11 لسنة 1999 ولا سند قانوني لمطالبته بالتعويض وفق قواعد المسؤولية التقصيرية)) (14). وفي حكم آخر ورد ما يأتي: ((… لا يصار إلى تطبيق أحكام التعويض في المسؤولية التقصيرية إذا كان المصاب أحد منتسبي الدولة وتعرض للإصابة في دائرته جراء العمل لذا قرر تصديق الحكم المميز…))(15).
وعلى النهج ذاته يسير القضاء الإداري ، إذ جاء في أحد أحكامه ما يأتي : ((لدى التدقيق والمداولة وجد أن المدعي … أوضح دعواه بما يلي : 1- طلب التعويض من قبل المدعى عليهم جراء إصابة ساقه عندما كان موظفاً بسبب العمل ومن جرائه … وتجد هذه المحكمة أن النظر في طلب التعويض الذي يريده المدعي أمر يخرج عن اختصاص هذه المحكمة ذلك أن قانون التقاعد المدني رقم 33 لسنة 1966 ونظام التقاعد بسبب العجز رقم 4 لسنة 1941 قد حددا كيفية تعويض الموظف الذي يتعرض لحادث أثناء الخدمة ومن جرائها وبإمكان المدعي مراجعة دائرة التقاعد المدني لهذا الغرض …))(16). نخلص من ذلك أن القضاء في العراق يرى بأن ما تقرره القوانين الخاصة من حقوق استثنائية لمن يتعرض لأضرار معنوية تتسبب بها الإدارة من شأنه أن يجبّ أو يمنع مطالبته بالتعويض وفقاً لقواعد المسؤولية التقصيرية ، حتى ولو كانت هذه المبالغ أقل من قيمة الضرر المعنوي . ونحن بدورنا لا نؤيد هذا الاتجاه ونرى ضرورة السماح للمضرور بالمطالبة بالتعويض طبقاً لقواعد المسؤولية التقصيرية إذا كانت المبالغ التي حصل عليها في القوانين الخاصة لا تعادل قيمة الأضرار المعنوية التي أصابته . ولذلك ندعو قضاءنا العادي والإداري إلى تبني هذا الحل إذ هو أكثر تمشياً مع مقتضيات العدالة وأرحم بالموظفين وورثتهم ، كما أن هذا الحل ينسجم مع المبادئ الأساسية التي يقوم عليها تقدير التعويض ومنها مبدأ التعويض الكامل(17). أما الجمع بين التعويض والمعاش أو الراتب الاعتيادي ، فهو جائز لأن هذا الراتب ليست له صفة التعويض ، بل هو مقابل الاستقطاعات الدورية التي أُخذت من راتب الموظف فهو بذلك كمبلغ التأمين(18).
وارتباطاً بالموضوع المتقدم فإن المسألة الأخرى التي تثار هنا أيضاً أنه إذا تمكن القاضي الإداري من تحديد عناصر تقدير التعويض فهل يحسب مبلغ المال المخصص للتعويض منسوباً إلى تاريخ وقوع الضرر أم في تاريخ صدور الحكم ؟ للإجابة عن ذلك نقول أننا لاحظنا فيما تقدم أن تعويض الضرر ينشأ وقت وقوع الضرر وتحقق أركان المسؤولية الإدارية الأخرى ، إلاّ أن الأمر هنا مختلف فإذا قلنا أن الحكم بالتعويض عن الضرر المعنوي هو كاشفٌ للحق وليس منشئاً له ، فإن من شأن ذلك أن يحسب التعويض على أساس الأسعار وقت وقوع الضرر المعنوي . إلاّ أن هذه الفكرة يجب أن تستبعد في هذا المجال ولهذا فإن طبيعة الحكم وكونه كاشفاً وليس منشئاً لا تحسم لنا الأمر ، مما يقتضي منا الأخذ بالمبدأ العام القاضي بضرورة أن يكون التعويض جابراً لكل الضرر . ومقتضى هذا المبدأ أن الضرر قد يتفاقم أو يتناقص كما أن قيمة النقود قد تتغير بين فترة وقوع الضرر ووقت صدور الحكم ، ولذلك يجب أن يحسب التعويض حسب الحالة التي وصلها وقت الحكم النهائي وكذلك حسب الأسعار السائدة في هذا الوقت . والقول بغير ذلك قد يؤدي إلى حرمان المضرور من بعض حقه أو منحه تعويضاً أكثر مما ينبغي ، وفي الحالين مخالفة للمبدأ الذي يجب أن يسود عند حساب التعويض الجابر للضرر المعنوي(19). وهذه المبادئ يطبقها القضاء والفقه في القانون المدني ، ولم يحدث أن ثار الشك حولها ، وعليه فإن القاعدة العامة التي تسير عليها اليوم المحاكم العادية هي أنه أياً كانت طبيعة الحكم كاشفاً أو منشئاً وأياً كانت طبيعة الضرر أخل بمصلحة مالية أم مصلحة معنوية ، فإن قيمة الضرر يجب أن تتحدد وقت إصدار الحكم اشتد الضرر أو خف أي أن التعويض يتم حسب الحالة التي وصل إليها الضرر يوم الحكم وحسب الأسعار السائدة في هذا الوقت ، ومن ثم فلا يدخل في الحساب عند تقدير التعويض ما يحدث من اشتداد حالة الضرر بسبب لا يرجع إلى خطأ المسؤول(20). وفي ذلك تقول محكمة التمييز ((النقض)) الفرنسية ((إن مرتكب العمل غير المشروع يلتزم بتعويض الضرر الذي نتج عن خطئه تعويضاً كاملاً ، وعلى هذا الأساس فإن التعويض يجب أن يحسب بناءً على قدر الضرر يوم صدور الحكم الذي يقرر الدين المستحق للمضرور)) (21). كما أننا نجد أن محكمة التمييز ((النقض والإبرام)) المصرية تقول أنه ((إذا كان الضرر متغيراً تعين على القاضي عند الحكم بالتعويض النظر في هذا الضرر لا كما كان قد وقع بل كما صار إليه عند الحكم مراعياً التغيير في هذا الضرر ذاته من زيادة راجعة أصلها إلى خطأ المسؤول ، … ومراعياً كذلك التغيير في قيمة الضرر بارتفاع ثمن النقد أو انخفاضه بزيادة أسعار المواد اللازمة لإصلاح الضرر أو نقصها)) (22). هذا وأن تقدير قيمة الضرر حسب حالته يوم الحكم وحسب القيمة النقدية للأسعار هبوطاً وارتفاعاً يسري على المسؤولية الإدارية بنوعيها التقصيرية والعقدية . أما موقف مجلس الدولة الفرنسي ، في هذا الشأن فيتعين التمييز فيه بين مرحلتين : المرحلة الأولى قبل عام 1947 ، والمرحلة الثانية بعد عام 1947 ، ففي المرحلة الأولى كان مجلس الدولة الفرنسي مستقراً على تقدير الضرر سواء أصاب الأشخاص أم الأموال ، يوم وقوعه وليس يوم صدور الحكم ، تأسيساً على أن الحق في التعويض نشأ في هذا الوقت ، ومن ثم يتعين أن يكون التقدير منسوباً إلى هذا التاريخ (23). غير أن هذا المسلك من جانب القضاء الإداري الفرنسي تعرض للنقد ، وذلك لأن كثيراً من القضايا يتأخر الحكم فيها سنوات طويلة ، والأوضاع الاقتصادية لاسيما عقب الحرب العالمية الثانية في تغير مستمر ، وكثيراً ما تتدخل الدولة نفسها لتخفض قيمة العملة الوطنية ، ولهذا فليس من العدل أن يتحمل المتقاضون تأخير العدالة(24). وبصدور حكمي مجلس الدولة الفرنسي في قضيتي (( Aubry – Lefevre )) الصادرين في 21/3/1947 ، بدأت المرحلة الثانية ، حيث أخذ مجلس الدولة الفرنسي بتقدير التعويض وقت صدور الحكم بحيث يدخل في اعتباره المتغيرات والعوامل التي طرأت من وقت حدوث الضرر إلى وقت صدور الحكم ، ويبدو لنا أن الدافع لهذا الرجوع هو التمسك بالمبدأ العام وهو ضرورة جبر الضرر جبراً كاملاً(25). ومع ذلك فإن قضاء مجلس الدولة الفرنسي لم يكن شاملاً للأضرار المعنوية التي تصيب الأشخاص وتلك التي تنتج عن المساس بالأموال ، إذ أنه ميز في هذه المرحلة بين الأضرار التي تحدث للأشخاص وتلك التي تحدث للأموال . ففيما يتعلق بالأضرار التي تصيب الأفراد ، فإن المجلس يقدر التعويض بيوم صدور الحكم ، إلاّ أنه ظل يعتمد في تقدير التعويض عن الأضرار التي تصيب الأموال على تاريخ حدوث الضرر . وقد توالت أحكام مجلس الدولة الفرنسي في مجال التعويض عن الأضرار التي تصيب الأشخاص متبعة هذا المبدأ الجديد المستقر في القضاء العادي ، وبذلك أصبح على القاضي الإداري أن يأخذ بالاعتبار التعديلات التي حدثت على الأسعار والمرتبات والأجور والنفقات وغيرها من العوامل التي تؤثر في مقدار التعويض(26). إلاّ أنه يستثنى من هذه القاعدة حالة تراخي المضرور وإهماله في اتخاذ الإجراءات اللازمة لإصلاح الضرر مع قدرته على القيام بها . فإذا ارتفعت الأسعار بعد ذلك فإن المضرور يتحمل الفرق بين الأسعار وقت وقوع الفعل الضار والأسعار وقت صدور الحكم ، غير أنه يشترط في هذه الحالة أن يكون قيامه بالإصلاح ممكناً ، أما إذا كان من المستحيل عليه القيام بالإصلاحات فإن القاضي الإداري يرجع إلى التاريخ الذي أصبح في إمكانه أن يقوم فيه بالإصلاح ، والأمثلة على استحالة قيام المضرور بالإصلاح كثيرة منها الاستحالة القانونية الناتجة عن وجود نظام أو لائحة تمنع عليه القيام بذلك ، ومنها الاستحالة المادية نتيجة لظروف الحرب أو بسبب إعسار المضرور(27). وكذلك حال تأخر المضرور في رفع دعوى التعويض ، أو رفضه ما عرضته الإدارة عليه من تعويض مناسب ، ففي هذه الحالات يقدر القاضي الإداري التعويض في اليوم الذي كان من الممكن صدور حكم التعويض فيه ، وهذا كله تطبيق للقواعد العامة التي تُحاسب المضرور عن خطئه وتراخيه(28). هذا وقد أبدى الفقه الفرنسي أسفه لموقف مجلس الدولة الفرنسي تجاه تقدير تعويض الأضرار التي تصيب الأموال بتاريخ حدوث الضرر لتناقضه مع مبدأ ضرورة أن يكون التعويض معادلاً للضرر المعنوي ، فضلاً عن أن التفرقة بين الأضرار التي تصيب الأشخاص وتلك التي تلحق بالأموال ومعاملة كل منها معاملة مختلفة أمر لا مسوغ له ، ولهذا فقد دعا الفقه والقضاء الإداري الفرنسي إلى تصحيح موقفه حتى لا يشعر المضرورون من نشاط المرافق العامة أن التعويض الذي يحصلون عليه هو تعويض غير حقيقي أو وهمي(29). ونتيجة لذلك فقد اتجه مجلس الدولة الفرنسي في أحكامه الحديثة إلى الأخذ بالقاعدة السابقة وهي تقدير الضرر يوم صدور الحكم(30). وفي مصر ولبنان نجد أن الفقه والقضاء الإداري هناك يعتد في تقدير التعويض بيوم صدور الحكم سواء اشتد الضرر أم خف(31).ومما لاشك فيه أن تحديد التعويض بيوم صدور الحكم يتماشى مع قواعد العدالة ، ولهذا فإننا نؤيد ذلك ، كما وندعو قضاءنا العادي والإداري إلى ضرورة أخذ كل الاعتبارات التي حدثت بين وقت وقوع الضرر وتاريخ صدور الحكم ، كما عليه أن يأخذ بنظر الأعتبار الأستثناءات السابقة حفاظاً على المالية العامة قدر الإمكان لحاجة الإدارة العامة لها في تسيير المشروعات الإنتاجية المخصصة للمصلحة العامة . وأخيراً إذا لم يتمكن القاضي الإداري من تقدير قيمة عناصر تقدير الضرر المعنوي ، فيكون له أن يحكم له بتعويض مؤقت ، كما يكون للمصاب الحق في إستكماله بعد تحقق زيادة الضرر وفقاً لما نص عليه القانون المدني العراقي بقوله ((إذا لم يتيسر للمحكمة أن تحدد مقدار التعويض تحديداً كافياً فلها أن تحتفظ للمتضرر بالحق أن يطالب خلال مدة معقولة بإعادة النظر في التقدير)) (32).
_________________
1- ينظر في ذلك الدكتور سليمان مرقس : الوافي في شرح القانون المدني ، المجلد الثاني ، الفعل الضار والمسؤولية المدنية ، القسم الأول ، الأحكام العامة ، الطبعة الخامسة ، مطبعة السلام ، القاهرة ، 1988 ، ص541 .
2- ينظر في ذلك الدكتور عبد الله مبروك النجار : الضرر الأدبي ، دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون ، مطابع المكتب المصري الحديث ، دار المريخ للنشر ، الرياض ، 1995 ، ص342 .
3- ينظر في ذلك الدكتور سليمان مرقس : مصدر سابق ، ص541 . وكذلك الدكتور عبد الله مبروك النجار : مصدر سابق ، ص342 .
4- ينظر في ذلك المادة ((998)) من القانون المدني العراقي .
5- ينظر في ذلك المادة ((14)) من قانون التأمين الإلزامي رقم ((52)) لسنة 1980 .
6- ينظر في ذلك المادة ((989)) من القانون المدني العراقي . وكذلك الدكتور سعدون العامري: تعويض الضرر في المسؤولية التقصيرية، مطبعة وزارة العدل ، منشورات مركز البحوث القانونية ، بغداد ، 1981 ص53 .
7- ينظر في ذلك عماد ثابت الملا حويش : تعويض الأضرار الناشئة عن العمل غير المشروع ، رسالة ماجستير ، كلية القانون ، جامعة بغداد ، 1980 ، ص73، 286 وما بعدها .
8- ينظر في ذلك المادة ((1001)) من القانون المدني العراقي .
9- ينظر في ذلك الدكتور أنور سلطان : مصادر الالتزام في القانون المدني الأردني ، الطبعة الأولى ، منشورات الجامعة الأردنية ، عمان ، 1987 ، ص362 . وكذلك الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري : الوسيط في شرح القانون المدني ، الجزء الأول ، مصادر الالتزام، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، مصر، 1964 ، ص1119 .
10- ينظر في ذلك قرار محكمة التمييز السورية المرقم ((605)) في 15/6/1972 ، منشور في مجلة المحامون السورية ، العدد التاسع والعاشر ، 1972 ، ص354 .
11- ينظر في ذلك قرار محكمة التمييز المصرية في 21/3/1955 ، أشار له الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري : مصدر سابق ، ص1120 .
12- ينظر في ذلك الدكتور وحيد فكري رأفت : رقابة القضاء لأعمال الدولة ، رقابة التضمين ، الطبعة الثانية ، مكتبة عبد الله وهبة ، 1942 ، ص458.
13- ينظر في ذلك الدكتور وحيد فكري رأفت : مصدر سابق ، ص456-457 .
14- ينظر في ذلك قرار محكمة التمييز المرقم ((788)) مدنية ثالثة ، في 21/3/2001 ، غير منشور . وكذلك الحكم المرقم ((2059)) مدنية أولى منقول ، في 2/8/1999 ، غير منشور . والحكم المرقم ((805)) مدنية أولى منقول ، في 21/6/2000 ، غير منشور . والحكم المرقم ((202)) مدنية أولى منقول ، في 7/1/2001 ، غير منشور . والحكم المرقم ((177)) مدنية أولى منقول ، في 10/4/2001 ، غير منشور .
15- ينظر في ذلك قرار محكمة التمييز المرقم ((1196)) مدنية أولى منقول ، في 4/9/2001 ، غير منشور . وكذلك الحكم المرقم ((470)) مدنية ثالثة ، في 1/3/2000 ، غير منشور . والحكم المرقم ((1263)) ، مدنية ثالثة ، في 20/7/2000 ، غير منشور .
16- ينظر في ذلك قرار محكمة القضاء الإداري المرقم ((78)) قضاء إداري ، في 1/8/1995 ، غير منشور .
17- بشأن هذا المبدأ ينظر الدكتورة سعاد الشرقاوي : المسؤولية الإداية ، الطبعة الثانية ، مطابع دار المعارف ، القاهرة ، 1972 ، ص232 . والدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله : القضاء الإداري ومجلس شورى الدولة اللبناني ، الدار الجامعية للطباعة والنشر ، بيروت ، 1999 ، ص735-736 .
18- ينظر في ذلك الدكتور أنور سلطان : مصادر الالتزام في القانون المدني الأردني ، الطبعة الأولى ، منشورات الجامعة الأردنية ، عمان ، 1987 ، ص363 . والدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري : مصدر سابق ، ص1120 .
19- ينظر في ذلك الدكتورة سعاد الشرقاوي : مصدر سابق ، ص248 .
20- ينظر في ذلك الدكتورة سعاد الشرقاوي : مصدر سابق ، ص248 . والدكتور مقدم السعيد : مصدر سابق ، ص249-250 .
21- ينظر في ذلك قرار محكمة النقض الفرنسية في 15/7/1943 ، أشارت له الدكتورة سعاد الشرقاوي : قضاء الإلغاء وقضاء التعويض ، دار النهضة العربية ، من دون تاريخ نشر ، ص292 هامش رقم ((3)) من ذات الصفحة .
22- ينظر في ذلك قرار محكمة التمييز ((النقض)) المصرية في 17/4/1947 ، أشار له حسين عامر وعبد الرحيم عامر : المسؤولية المدنية التقصيرية والعقدية ، الطبعة الثانية ، دار المعارف ، القاهرة ، 1979 ، ص561 . والدكتور محمد حسين عبد العال : تقدير التعويض عن الضرر المتغير ، دراسة تحليلية مقارنة ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 2000 ، ص34 وما بعدها .
23- ينظر في ذلك الدكتورة سعاد الشرقاوي : المسؤولية الإداية ، الطبعة الثانية ، مطابع دار المعارف ، القاهرة ، 1972 ، ص249 . وكذلك: Laubadere A. , Op. Cit. P.779-780 .
24- ينظر في ذلك الدكتور سليمان محمد الطماوي : القضاء الإداري ، قضاء التعويض وطرق الطعن في الأحكام ، الكتاب الثاني ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1986 ، ص494 . وكذلك ينظر :
Marcel Waline. , Droit administratif , 5em edition , recueil sirey , Paris , p.547 .
25- ينظر في ذلك الدكتورة سعاد الشرقاوي : مصدر سابق ، ص249 . والدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله : مصدر سابق ، ص740 .
26- ينظر في ذلك الدكتورة سعاد الشرقاوي : مصدر سابق ، ص249 . والدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله : مصدر سابق ، ص740 .
27- ينظر في ذلك الدكتورة سعاد الشرقاوي : مصدر سابق ، ص249 .
28- ينظر في ذلك الدكتور انور أحمد رسلان : مسؤولية الدولة غير التعاقدية ، الطبعة الثانية ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1982 ، ص302 . والدكتورة سعاد الشرقاوي : مصدر سابق ، ص249 .
29- ينظر في ذلك الدكتورة سعاد الشرقاوي : مصدر سابق ، ص249-250 .
30- ينظر في ذلك الدكتور أنور أحمد رسلان : مصدر سابق ، ص302 .
31- ينظر في ذلك الدكتورة سعاد الشرقاوي : مصدر سابق ، ص250 . والدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله : مصدر سابق ، ص741-742 . وكذلك حكم مجلس شورى الدولة اللبناني المرقم ((111)) في 16/3/1992 ، منشور في المجلة العربية للفقه والقضاء ، العدد السادس عشر ، أكتوبر – تشرين الأول ، جامعة الدول العربية ، 1994 ، ص356 .
32- ينظر في ذلك المادة ((208)) من القانون المذكور ، وتقابلها المادة ((170)) من القانون المدني المصري . وفي بيان ذلك ينظر الدكتور سليمان مرقس : مصدر سابق ، ص545 . والدكتور عبد الله مبروك النجار : الضرر الأدبي ، دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون ، مطابع المكتب المصري الحديث ، دار المريخ للنشر ، الرياض ، 1995 . ص343 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|