أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-11-2016
8963
التاريخ: 9-11-2016
3575
التاريخ: 9-11-2016
1802
التاريخ: 9-11-2016
1700
|
تعريف:
1ـ اسم كليب الحقيقي وائل وإنما لقب (كليبا) لأنه كان إذا سار أخذ معه جرو صغير فإذا مرّ بروضة أو موضع يعجبه عشبه أو منظره أو ماؤه وضع الجرو فيه والشيء الطبيعي لمثل هذا الجرو الصغير أن يملأ جو ذلك المكان عواء وصياحاً وعواؤه هو إعلان للناس بأن لا يقربه أحد من الناس والويل ثم الويل لمن اقترب إلى ذلك الموضع، لأن معنى الاقتراب من المكان الذي يعوي فيه الجرو هو إعلان الحرب على سيد العرب كليب .. وكان يقال له: كليب وائل ثم اختصر وأصبح كليبا بحذف وائل وكليب هو رئيس تغلب وقد توسع سلطانه لأن يكون سيد العرب بما فهيم قبيلة بكر رحمه.
2ـ مرة هو رئيس قبيلة بكر.
3ـ جليلة هي بنت مرة وقد تزوجها كليب.
4 ـ جساس هو ابن مرة.
5 ـ همام هو ابن مرة أيضاً.
6ـ مهلهل. أخو كليب واسمه الحقيقي عدي. وقيل اسمه امرؤ القيس وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي وإنما لقب مهلهلاً لأنه أول من هلهل الشعر ونظم القصائد.
7ـ البسوس وهي بنت منذر التميمية خالة جساس بن مرة.
8ـ إن رجلاً يقال له: سعد بن شميس بن طوق الجرمي وقد نزل عند البسوس وهي مجيرة له وكان عند الجرمي ناقة اسمها (سراب) وهي التي ضرب العرب بها المثل فقالوا: أشأم من سراب وأشأم من بسوس !! .
كانت العداوة متمكنة بين أخوين من أولاد الحارث بن عمرو آكل المرار أعظم ملوك كندة وهما: شرحبيل ملك بكر بن وائل وأخوه مسلمة ملك قبائل قيس عيلان، وكانت بين الأخوين حرب طاحنة ومعها حوار طويل وقد انتهت بقتل شرحبيل وبقاء مسلمة وحده من أولاد الحارث. وقد عزم على أن يغزو قبائل نزار ومن تعاهد معها من القبائل اليمنية التي كانت الصولة والجولة لها فجمع ما استطاع أن يجمعه من المقاتلين لغرض الغزو والإنتقام ممن قتل إخوته !!
وعرفت بالنية والجموع قبائل نزار فاتفق منهم بنو عامر بن صعصعة وبنو وائل من بكر وتغلب وجعلوا عليهم ملكاً كليب بن ربيعة ليتصدى لأهل اليمن الذي جمعهم مسلمة .. وأخذ الفريقان يستعدون للمجابهة والقتال.. فسار بهم كليب وجعل على مقدمته رجلاً من التغلبيين يقال له: السفاح التغلبي وأمره أن يتقدمه ويصعد إلى جبل (خزاز) وهو واقع بين مكة واليضمرة .. وأوصى كليب السفاح التغلبي أن يصعد الجبل ولا يحس به أحد وأن يقيم عليه ويبقى هناك يترقب فإذا شعر بقدوم العدو أن يوقد على راس الجبل نارين .. وبقي في ترقب ولم تمض من الليل ساعات حتى أطلت جموع العدو فأسرع وأشعل نارين على رأس الجبل وهو الإعلام عن قدوم العدو! .
ولما رأى كليب النارين هو وقومه توجه بجيشه وأحاط به عند الصباح ونشبت معركة شديدة بين الطرفين وانتهت في المرحلة الأولى بانتصار النزاريين وانهزام اليمنيين.
وكان يوم (خزاز) يوم كليب ربيعة لأنه مكن ملكه وأكسبه جامعاً كبيراً وثقة واسعة بين القبائل العربية الأخرى وامتد سلطان كليب إلى جميع نواحي الجزيرة.
وقد جوزي كليب أحسن جزاء فاجتمعت الكلمة عليه وتوجوه في الملك واختصوه بالرئاسة طول حياته وقد اختفى اسم مسلمة من الوجود ولم يعد له ذكر في القبائل وبذلك زالت آثار ملك الحارث بن عمرو ولم يبق له ولد يشار إليه أو يذكر اسمه، وعم الفرح والسرور الجزيرة بكبيرها وصغيرها ونسائها وأطفالها لما كان لهذا البيت من غطرسة على العباد وظلم وتحدٍ واستبداد. وعم البشر من ناحية ثانية في تتويج كليب الذين يأملون أن يكون عهده عهد عدالة ومساواة ونصفة وأن يعيشوا فيه بحرية واطمئنان وسعادة ينسيهم مآسي الحارث وأولاده.
وانفرد كليب بالسلطان وأصبح سيد العرب، وبدأ حياته الجديدة ـ أول ما بدأ ـ بالعدل والسيرة الحسنة والقول الجميل والفعل الأجمل ومشى الناس وراءه مكبرين مقدرين مع تقديم الطاعة المطلقة له..
ولكن سرعان ما تبددت الأحلام وامحت الأماني لأن تلك الظاهرة الكريمة منه في بدء عهده لم تطل وقد كان عمرها عمر الورود وما أسرع أن جاءها الخريف فعراها من كل ثوب وسلبها كل زينة حتى أصبحت جرداء يابسة لا تصلح إلا للوقود.
لم تخيب الآمال كليباً كان رئيس عشيرة فأصبح رئيس عشائر وسيد قبائل، وكان محصوراً في دائرة ضيقة فأمسى مطلقاً في أراض فساح ومساحات فيها جبال وبطاح. غير أن الجاهل يعمل بنفسه ما لا يعمله العدو بعدوه والأحمق يسلط الخنجر على نحره وهو يحسب ويظن أنه يسلطه على خصمه. والسكران يخيل إليه أنه في قصر شامخ محاط بالحدائق والرياض والأوراد وهو في الحقيقة في مستنقع نتن كريه!! .
مضت الفترة القصيرة والظاهرة الكريمة ليحل محلها مزاجه الذي أظهره على حقيقته السلطان المشرف الذي قدم إليه من ناس طيبين كرام برغبة وطيب نفس!.
إنه رجع إلى أصلة الذي نشأ عليه وتربى فيه وإن تربية رؤساء القبائل من ذاك اليوم حتى إلى هذا اليوم تربية الامتيازات والظلم والاستغلال والعبودية قد عاد هذا اللئيم إلى طبيعته الأولى وأصبح يهزأ ويحتقر شعباً طيباً جعله ملكاً عليه.
إنه يحكم بدافع شهوة وعلى طلب هواه فالعدل بين شفتيه وحسب هواه، والناس كلهم عبيد له مسخرون وقد احتكر كل شيء في مملكته له ولمن ينتسب إليه.
المراعي الخصبة في البلاد هي لإبله وخيوله وبقية حيواناته والعذاب كل العذاب لمن دنا منها أو قرب إليها. ماء السماء الذي بعثه الله ليحيي الأرض والاس والحيوانات عامة هي ملك له ولدوابه .. والعشب الذي نبتته الأرض من أجل الإنسان، كل الإنسان والحيوان كل الحيوان، هي ملكه وخاصة به والويل ثم الويل لمن دنا وقرب.
وقد أصبح هذا الصعلوك الذي سماه أجلاف العرب ملكاً إذا جلس لا يستطيع أحد أن يمر بين يديه إجلالاً واحتراماً وإذا جلس وكان حوله حشد من الناس فلزام عليهم أن يظلوا واقفين إجلالاً له واحتراماً فالجلوس في هذه الحال له وحده لا شريك له. وليس لأحد من الناس أن يسعى وراء رزقه وقوت عياله إلا بإذنه. وليس لإبل أحد أن ترد الماء مع إبله ولا توقد نار مع ناره الموقودة وليس لبكري أو تغلبي أن يجير إنساناً إلا بإذنه، وأما العرب الذين يقصدون العشب والماء من أجل عيالهم وحيواناتهم لا يستطيعون الإقامة أو الارتحال إلا بإذنه وقد يغنيه عن ألف دليل جرو الكلب الذي ذكرناه في الأرقام الأولى. تعرف فيه الروح اللئيمة عند هذا الأحمق وقد ضربت الأمثال في هذا الجرو حتى قيل (أعز من كليب وائل).
وإليك مثلاً من الأمثال التي كانت من الأسباب المهمة التي قتل من أجلها جساس كليباً. وهي تعطيك صورة كاملة عن نفسية كليب وطغيانه .. علم كليب بأن بني بكر مروا على غدير ليسقوا إبلهم فمنعم عنه كليب وقال: لا يذوقون منه قطرة واحدة ثم ارتحلوا إلى غدير آخر فاتبع آثارهم وأبعدهم عنه وهو يقول: (لا وربي لا يذوقون من مائه قطرة) ثم انتقلوا إلى غدير آخر فلحقهم ومنعهم عنه ومنع إبلهم .. فحاروا في أمرهم وهم لا يدرون إلى أين يتجهون؟ ومن أين يشربون وتشرب إبلهم وقد أحرق العطش أحشاء الإبل حتى نحف الأطفال من شدة العطش وأوشكوا على الهلاك وهاجت الإبل من شدة العطش وأشرف الجميع على الهلاك.. وأخذوا يفكرون ويفتشون عن ماء لا يصلها كليب فاهتدوا إلى غدير يمسى غدير (الذنائب) في هضاب نجد وكليب لا يزال يلاحق آثارهم هو وجنوده حتى عرفوا الغدير والمكان فلحقهم ومنعهم. هذا وجساس يسجل في قلبه كل شيء.
عرفت أن كليباً تزوج بنت مرة من قبيلة شيبان البكرية وهي معروفة بذكائها وشجاعتها وعقلها وجمالها في عصرها وكان لأبيها مرة عشرة بنين وكان جساس أصغرهم وأشجعهم وأكثرهم إباء وقد لقبه قومه: بحامي الجار ومانع الذمار.
دخل كليب على امرأته جليلة يوماً فقال لها: إي يا جليلة! هل تعلمين في الدنيا أحداً أمنع مني ذمة وأعظم جواراً؟ فسكتت جليلة ولم تجبه بشيء.. ثم أعاد عليها ثانية نفس السؤال فسكتت فغضب كثيراً من سكوتها وأحس أن في نفسها شيئاً لا تريد أن تصارح به..
فأعاد السؤال نفسه مرة ثالثة: يا جليلة إن سكوتك عن الجواب يؤلمني بيني ما فينفسك وأصدقيني الخبر: هل تعلمين على وجه الأرض واحداً أمنع مني ذمة؟ فأجابته جليلة بأنف وكبرياء على مستوى اعتزازه وغروره. أجابت: نعم أخي جساس وأصحابه.
سكت كليب وفي نفسه أشياء ولكنه لم يجبها بشيء.. ومضت أيام ولم يفاتحها بهذا الأمر غير أن الألم أكل قلبه لأنها فضلت أو ساوت بين أخيها جساس وأصحابه به.
وذهب يوم وجاء آخر كانت فيه جليلة تغسل رأسه وتسرح شعره فاجأها بالسؤال: من هو أعز الرجال في قبيلة وائل فقالت من غير تفكير: أخواي جساس وهمام. فأفلت رأسه من يدها وخرج غاضباً وفي نفسه كل شيء من الألم .. ومن هنا سيبدأ الشر وسيكون الانتقام وسيتحول الحقد أعمالاً تحس وأفعالاً يعرفها الناس.
كانت لجساس خالة اسمها: البسوس وقد نزل عليها رجل يقال له سعد بن شميس بن طوق الجرمي وكان للجرمي ناقة اسمها: (سراب) ترعى مع نوق جساس فخرج كليب يوماً يتعهد الإبل ومراعيها فأتاها وأخذ يتجول فيها وكانت إبله وإبل جساس مختلطة فنظر كليب إلى الناقة فأنكرها ثم سأل عنها فقال له جساس وكان معه هذه ناقة جارنا الجرمي فقال كليب: لا تعد هذه الناقة إلى الحمى فقال جساس لا ترعى إبلي مرعى إلا وهذه معها .. فقال كليب: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها .. فقال جساس لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن سنان رمحي في لبتك!! ثم تفرقا .. ورجع إلى بيته وأعاد على امرأته سؤاله المكرر سابقاً: أترين في العرب رجلاً مانعاً مني جاره؟ قالت: لا أعلمه إلا جساساً فحدثها الحديث وكان بعد ذلك إذا أراد الخروج إلى الحمى حاولت منعه وناشدته الله ألا يقطع رحمه وكانت بالوقت نفسه تنهى أخاها جساساً أن يسرح إبله مع إبل كليب.
وفي اليوم الثاني خرج كليب إلى الحمى وجعل يتفحص الإبل فرأى ناقة الجرمي فرمى ضرعها فأنفذه فولت هاربة ولها عجيج حتى بركت بساحة دار صاحبها .. فلما رأى ما بها صرخ بالذل وسمعت البسوس صراخ جارها فخرجت إليه فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها ثم قالت واذلاه، وجساس يرى ويسمع فخرج إليها وأخذ يهدئها بلطف ويطلب منها أن تسكن الجرمي، وقال لها سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً وغلا هو فحل إبل كليب لم يكن له نظير في عالم الفحول ولم ير في زمانه مثله. نعم، إن جساساً قال لهما سأقتل غلالاً ولكنه يضمر أنه سيقتل صاحب غلال سيقتل الذي أدمى وأتلف ضرع سراب، سيقتل كليباً نفسه، لأنه أصبح معبأ من كليب ومن كثرة تحدياته ومن طغيانه ومضايقته لجساس وقبيلته حتى الماء منعه عنهم وليس الضرع الذي سيقتل كليباً كما يفهم القارئ بل أصبحت القضية مع كليب قضية حياة أو موت!؟ .
وكان لكليب جاسوس فيحي جساس فسمع ورأى كل ما كان فذهب رأساً ونقل لكليب تفاصيل ما سمع وما شاهد، وقال له بالوقت نفسه إن تهديد جساس ووعيده ويمينه الذي أقسمه كان موجهاً لقتل غلال الفحل ولم يكن بالحسبان أبداً أن غلالاً هو رمز وتمويه ..
وصمم جساس على تنفيذ الإرادة وأخذ يراقب بعين ساهرة وبقلب واع تحركات كليب ..
علم يوماً أن كليباً خرج آمناً مطمئناً على عادته إلى الحمى وراقبه حتى بعد عن البيوت وعيون الناس، ركب جساس فرسه وحمل رمحه وتوجه مسرعاً نحو كليب فلحقه قبل أن يصل إلى هدفه، وما أن أحس كليب بأن وراءه جساساً وقف في محله فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك، يعني خذ حذرك وتهيأ للبراز ها أنا جئتك لأنتقم منك لا من غلال. فقال له كليب إن كنت صادقاً فأقبل إليّ من أمامي، قال كليب ذلك ولم يلتفت إلى الوراء أبداً .. ولما لم يفده الذر ولم يعبأ لكلام جساس طعنه بالرمح طعنة أرداه بها عن فرسه يعالج الموت ويتخبط بدمائه .. فقال كليب يا جساس: أغثني بشربة ماء فذكره جساس بملاحقته من غدير لغدير ليمنعه هو وإبله وأهله من الماء ومما قال له: الآن أحسست أن الماء ضروري للإنسان وكان مع جساس رفيق فنزل عن فرسه وسقاه ماء وبعد أن شرب مات فأمر جساس الرجل الذي سقاه وهو رفيق جساس اسمه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان، أمره أن يجعل عليه أحجاراً حتى لا تأكله السباع .. وفي ذلك قال مهلهل بن ربيعة أخو كليب:
قتيل ما قتيل المرء عمرو
وجساس بن مرة ذي صريم
أصاب فؤاده بأصم لدن
فلم يعطف هناك على حميم
فإن غدا وبعد غد لرهن
لأمر ما يقام له عظيم
جسيماً ما بكيت به كليبا
إذا ذكر الفعال من الجسيم
سأشرب كأسها صرفا وأسقي
بكأس غير منطقة مليم
ولما قتل جساس كليباً انصرف على فرسه مسرعاً وقد بدت ركبتاه فلما نظر أبوه مرة إلى ذلك قال: لقد أتاكم جساس بداهية ما رأيته قط بادي الركبتين إلى اليوم .. فلما وقف على أبيه قال: مالك يا جساس؟ قال: طعنت طعنة يجتمع بنو وائل لها غداً رقصا. قال: ومن طعنت؟ لأمك الثكل! قال: قتلت كليباً، قال: أفعلت؟ قال: نعم، قال: بئس والله ما جئت به قومك فقال جساس:
تأهب عنك أهبة ذي امتناع
فإن الأمر جل عن التلاحي
فإني قد جنيت عليك حربا
تغص الشيخ بالماء القراح
فلما سمع أبوه قوله خاف خذلان قومه لما كان من لائمتهم إياه فقال يجيبه:
فإن تك قد جنيت عليّ حرباً
تغص الشيخ بالماء القراح
جمعت بها يديك على كليب
فلا وكل ولا رث السلاح
سألبس ثوبها وأود عني
بها عار المذلة والفضاح
ثم إن مرة دعا قومة إلى نصرته فأجابوه وجلوا الأسنة وشحذوا السيوف وقوموا الرماح وتهيأوا لحرب لا يعرف مداها ..
وكان همام بن مرة أخو جساس ومهلهل أخو كليب في ذلك الوقت يشربان فبعث جساس إلى همام جارية لهم تخبره الخبر ولما وصلت إليهما أشارت إلى همام فقام إليها فأخبرته الخب فاضطرب وتغير لونه فقال له مهلهل: ما قالت لك الجارية؟ وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئاً فذكر له ما قالته الجارية وأحب أن يعلمه ذلك في مداعبة وهزل فقال له مهلهل: إست أخيك أضيق من ذلك! فاقبلا على شربهما. فقال له مهلهل: إشرب فاليوم خمر وغداً أمر. فشرب همام وهو حذر خائف ولما سكر مهلهل عاد همام إلى أهله وعاد مهلهل إلى أهله. وعرف الناس كلهم بقتل كليب فذهبوا إليه ودفنوه.. ولما دفن شقت الجيوب وخمشت الوجوه وخرج الأبكار وذوات الخدور وقمن للمآتم. فقالت النساء لأخت كليب: أخرجي جليلة أخت جساس عنا فإن وجودها فيه شماتة وعار علينا، وجليلة هي زوجة وأخت جساس كما عرفت فقالت لها أخت كليب: أخرجي عن مأتمنا فأنت أخت قاتلنا وشقيقة واترنا فخرجت حزينة ذليلة فلقيها أبوها مرة وقال لها: ما وراءك يا جليلة فقالت: ثكل العدد وحزن الأبد وفقد خلل وقتل أخ عن قليل وبين هذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد .. فقال لها: أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات؟ فقالت: أمنية مخدوع ورب الكعبة. ألبدن تدع لك تغلب دم ربها؟! .
ولما خرجت جليلة من المأتم قالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويل غداً للآل مرة من الكرة بعد الكرة.. فبلغ قولها جليلة فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها، أسعد الله أختي ثم أنشدت قصيدة، منها:
يا ابنة الأقوام إن لمت فلا
تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينت الذي
يوجب اللوم فلومي واعذلي
فعل جساس على وجدي به
قاطع ظهري ومدن أجلي
يا قتيلاً قوض الدهر به
سقف بيتي جميما من عل
إنني قاتلة مقتولة
ولعل الله أن يرتاح لي
وأما مهلهل فإنه لما صحا لم يرعه إلا النساء يصرخ ألا إن كليباً قتل فقال من قصيدة في هذه الحادثة:
كنا نغار على العواتق أن ترى
بالأمس خارجة عن الأوطان
فخرجن حين ثوى كليب حسرا
مستيقنات بعده بهوان
فترى الكواعب كالظباء عواطلا
إذ حان مصرعه من الأكفان
كان الذخيرة للزمان فقد أتى
فقدانه وأخل ركن مكاني
ثم انطلق إلى المكان الذي قتل فيه فرأى دمه وأتى قبره فوقف عليه ثم قال:
إن تحت التراب حزماً وعزماً
وخصيمً ألد ذا عملاق
حية في الوجار أن بد لا ينـ
فع منه السليم نفث الراقي
ثم جز شعره وقصر ثوبه وهر النساء وترك الغزل وحرم القمار والشراب وجمع إليه قومه وأرسل رجالاً منهم إلى بني شيبان فأتوا مرة بن ذهل بن شيبان وهو في نادي قومه فقالوا له: إنكم أتيتم عظيماً بقتلكم كليباً بناقة وقطعتم الرحم وانتهكتم الحرمة وإنا نعرض عليك خلالاً أربع لكم فيها مخرج ولنا فيها مقنع، إما أن تحيي لنا كليباً أو تدفع إلينا قتله جساساً فنقتله به أو هماماً فإنه كفء له أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاء لدمه فقال لهم: أما إحيائي كليباً فلست قادراً عليه وأما دفعي جساساً إليك فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة وكلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل فما أتعجل الموت. ولكن عندي خصلتان أما إحداهما فهؤلاء أولادي الباقون فخذوا أيهم شئتم فاقتلوه بصاحبكم وأما الاخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر. فغضب القوم وقالوا: قد أسأت ببذل هؤلاء وتسومنا به اللبن من دم كليب؟.
ورجعوا ولم يستفيدوا شيئاً، فسألهم المهلهل: ماذا صنعتم؟ فأجابوه بما حدث. فقال: والله ما كان كليب بناقة لها ثمناً، وإن الدم لا يغسله إلا الدم، أما البكريون فمنهم من أيد بني تغلب وقالوا: لقد أنصف القوم بطلبهم وهؤلاء كرهوا مساعدة بني مرة ووقفوا بعيدين عن القتال .. ومنهم من غلبت عليه العصبية القبلية.
وأما الحارث بن عباد أحد سادات بكر ومن فرسانها المعدودين فقد عز عليه قتل كليب واعتزل بأهله وأولاده وأقاربه وحل وتر قوسه ونزع سنان رمحه وأقسم أن لا يدخل حرباً مع قومه لأنهم هم المعتدون .. وقد دار حوار طويل ومناقشا كثير بينه وبين وجوه الذين أصروا عليه في أن يدخل الحرب معهم ولكنهم لم يفلحوا فنشبت الحرب وظل بعيداً عنها.
وابتدأت الحرب بصورة متقطعة بين رجل ورجل أو بين رجلين ورجلين وقد تعدى الرجلين إلى أكثر بأن تكون أربعة أو خمسة.
وأول حرب جدية مخيفة كانت على غدير يقال له: (النهي) كان بنو بكر نازين عليه وفيهم أولاد مرة وعند الفجر فاجأهم المهلهل ببني تغلب وكان قتال مرير انتصر فيه التغلبيون وكثر القتلى في صفوف البكريين، أما بنو مرة فلم يصب منهم أحد في هذه المعركة .. ثم التقوا مرة ثانية بغدير الذنائب فكانت الغلبة لتغلب أيضاً .. ثم التقوا بالواردات فظفرت كذلك بنو تغلب .. والتقوا في بعض الليالي فإذا أبو نويرة أحد اسياد تغلب يفاجئ جساساً وهو يصول على جواده ويحرض قومه على القتال فاستوقفه وقال له: إي جساس، إلى أين المفر؟ اختر إما الصراع باليدين أو الطعان بالرمح أو القراع بالسيف فاختار جساس الصراع فاصطرعا وطال بينهما الصراع دون أن يتمكن أحدهما من الآخر.. ولما أبطأ كل واحد منهما على أصحابه خرجوا يطلبونهما فوجدوهما يصطرعان وقد كاد جساس أن يصرع أبا نويرة ففرقوا بينهما .. ثم التقوا بمكان يقال له القصيبات وكان أعنف قتال في ذلك اليوم منذ بدأت الحرب بين الفريقين فغلبت بكر وانهزمت من الميدان وطاردهم فرسان تغلب يقتلون كل من ظفروا به وهم ينادون: يا لثارات كليب .. وأخذ المهلهل يتفقد بنفسه القتلى وكان كلما رأى رجلاً معروفاً أو سيداً قتيلاً التفت إلى من معه وقال: كل هؤلاء لا يغنون عن كليب شيئاً وبينما هو يتفحص فإذا به يصيح بصوت متحرق: هذا: هو همام هذا صديقي ونديمي في الحياة ويل لقاتله: ما ان أغناك يا همام عن أتخوض الحرب ضد صاحبك .. وغدا يقبل رأسه ووجهه ويمسحه بيديه والدموع تنهمر من عينيه فأمر بحمله إلى مضاربه عزيزاً مكرماً، ووقف على قبره وقال: والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز عليّ منك ... ثم أخذ بنو تغلب يطلبون جساساً ويلتمسون أخباره من هنا وهناك .. ولما عرف أبوه مرة أن القوم لن يتركوه بأية حال قال لولده. يا ولدي إنك رأيت أن القوم جادون في طلبك ولن يكفوا حتى يريقوا دمك. فقال جساس ماذا أفهم من كلامك يا أبي؟ فقال مرة: إن العاقل من ابتعد عن مواقع الخطر. فغضب جساس وقال: أتحملني يا أبي على الهرب؟ أأترك قومي تمزقهم سيوف الأعداء ورماحهم وأنا لا أشاركهم في قتالهم؟ وطال الحوار بين جساس وأبيه وبعد إلحاح كبير من مرة على ولده جساس اقتنع جساس بأن يمتثل لأمر أبيه ويذهب إلى الشام حيث أخواله هناك فبعثه أبوه إلى الشام وبعث معه خمسة رجال فعرف المهلهل بارتحال جساس إلى الشام فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون مقاتلاً من أبطال تغلب فساروا مجدين حتى أدركوا جساساً وهو في طريقه إلى الشام فقاتلهم جساس أشد قتال وقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق منهم إلا رجلان وقد جرح في هذه المعركة جساس ومات متأثراً بجراحه وقتل أصحابه أيضاً وسلم منهم رجلان فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه فلما سمع مرة بقتل ولده جساس قال إني أحون إذا قتل هو ولم يقتل منهم أحداً فقال الرجلان اللذان كانا معه وسلما: إن جساساً قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم وقتل بيده ـ كذلك ـ منهم خمسة عشر رجلاً ما شاركه في قتلهم منا أحد ونحن قتلنا الباقين منهم.
ولما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف وأصلح ذات البين فهو أصلح للحيين فلم يجب مهلهل إلى ذلك! .. وكان الحارث بن عباد قد اعتزل الحرب كما عرفت فلما قتل جساس وهمام ابنا مرة بعث ابنه بجيرا إلى مهلهل وبعث معه كتاباً قال فيه: إنك قد أسرفت في القتل وأدركت ثأرك سوى ما قتلت من بكر وقد أرسلت إليك ابني فإما أن تقتله بأخيك فتكون أصلحت بين الحيين وإما أن تطلقه فتكون أصلحت ذات البين فقد هلك من الحيين في الحروب من كان بقاؤه خيراً لنا ولكم فلما قرأ الكتاب أخذ بجيرا فقتله وقال هذا بشسع نعل كليب فلما سمع أبوه بقتله ظن أنه قتله من أجل الصلح فارتاحت نفسه ولكنه لما عرف أنه قال: هذا بشسع نعل كليب غضب وقال:
قربا مربط النعامة مني
لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني
شاب رأسي وأنكرتني رجالي
لم أكن من جناتها علم اللـ
ـه وإني بحرها اليوم صالي
فأتوه بفرسه النعامة ولم يكن في زمانها مثلها فركبها وولي أمر بكر وشهد حربهم وكان أول يوم شهده يوم (قضة) وهو يوم تحلاق اللمم وسمي كذلك لأن بكراً حلقوا رؤوسهم ليعرف بعضهم بعضاً.
وقاتل يومئذٍ الحارث بن عباد قتالاً شديداً فقتل في تغلب مقتلة عظيمة وفيه يقول طرفة:
سائلوا عنا الذي يعرفنا
بقوانا يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسوفها
وتلف الخيل أفواج النعم
وفي هذا اليوم أسر الحارث بن عباد مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له: دلني على مهلهل وأنا أطلق سراحك فقال له المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه قال: نعم قال: فأنا مهلهل. فجز ناصيته وتركه وقال:
لهف نفسي على عدي ولم أعر
ف عديا إذا أمكتني ايدان
وكانت الأيام التي اشتدت فيها الحرب بين الفريقين خمسة: يوم عنيزة تكافؤا فيه وتناصفوا واليوم الثاني يوم واردات امتازت فيه تغلب عن بكر واليوم الثالث (الحند) امتازت فيه بكر عن تغلب واليوم الرابع يوم القصيبات كانت الغلبة فيه لتغلب واليوم الخامس يوم (قضة) وتساوى فيه الفريقان ثم كانت أيام غبر الخمسة منها يوم (النقية) ويوم الفصيل كانت الغلبة لبكر ثم لم يكن بينهما زحف وإنما كانت إغارات ودامت الحرب بينهما أربعين سنة.
ثم إن مهلهلاً قال لقومه قد رأيت أن تبقوا على قومكم ونجعل لهذه الحرب نهاية وإن قومكم يحبون صلاحكم وما لمتكم على ما كان من وتركم. فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ونائحات لا تزال تصرخ في النواحي ودموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن وسيوف مشهورة ورماح مشروعة وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواسوا فكان كما قال.
ثم قال مهلهل: أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر إلى اليمن.
وفارقهم وسار إلى اليمن ونزل يجنب وهي حي بن مذحج فخطبوا إليه ابنته فرفض فأجبروه على تزويجها وساقوا إليها جلوداً من أدم فقال في ذلك:
أعز على تغلب بما لقيت
أخت بني الأكرمين من جشم
أنكحها فقدها الأرقم في
جنب وكان الحباء من أدم
لو بأبانين جاء يخطبها
ضرج ما أنف خاطب بدم
الأراقم بطن من جشم بن تغلب يعني حيث فقدت الأراقم وهم عشيرتها تزوجها رجل من جنب أدم.
ثم إن مهلهلاً عاد إلى ديار قومه فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة البكري أسيراً بنواحي هجر فأحسن إساره فمر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر وكان صديقاً لمهلهل فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكراً وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له عمرو فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بما كان يقوله من الشعر وينوح به على أخيه كليب فسمع منه عمرو ذلك فقال: إنه لرين والله لا يشرب عند ماء حتى يرد زبيب وهو فحل كان له لا يرد إلا خمساً في حمارة القيظ فطلب بنو مالك زبيباً وهم حراص على أن لا يهلك مهلهل.
ولما تقدمت بالمهلهل السن أصابه الضعف والخرف وانصرف عنه الناس وتركوه يبكي أخاه وحده. وقد كان له عبدان يخدمانه فسئما من خدمته وخرفه وتمنيا موته وفي يوم من الأيام خرج بهما إلى السفر ولما وصلوا إلى الصحراء عزما على قتله والتخلص منه فأحس بنيتهما من خلال تحركاتهما فكتب على خشبة رحله هذا البيت:
من مبلغ الحيين أن مهلهلاً
لله دركما ودر أبيكما
ولم يزد على ذلك شيئاً وحين رأى العبدان الفرصة مؤاتية لقتله هجما عليه وقتلاه ورجعا إلى قومه يبكيان وينحبان ويصيحان: لقد مات مهلهل .. مات المهلهل ودفناه في الفلاة لكن بنته قرأت ما على الخشبة وبقيت حائرة: ماذا أراد المهلهل من هذا الشعر؟ وعند ذلك صاحت بقومها، إن المهلهل لا يقول هذا الشعر وحده وإنما هو أراد:
من مبلغ الحيين أن مهلهلاً
أمسى قتيلاً في الفلاة مجدلا
لله دركما ودر أبيكما
لا يبرح العبدان حتى يقتلا
فضربوا العبدين حتى أقرا بقتله.. وهكذا انتهت حياة الجبار العتيد الذي شغل عرب الجزيرة أربعين سنة في حروب طاحنة مهلكة حتى ضجت الجزيرة وسئمت الحياة.
من هذه الحروب التافهة التي يضحى بآلاف من الشباب الأبرياء من أجل ضرع ناقة أو من أجل فرس سبق رساً أو من أجل عجوز خرفة صاحت وا ذلاه لأمر وضيع وغير ذلك من الترهات والسفاسف من هذه السخافات في الجاهلية تستطيع أن تعرف قيمة الإسلام ومبادئه واحترامه للإنسان، الإسلام الذي جاء ليكون حرباً على تلك التقاليد البالية التي لا تعترف بها حتى شريعة الغاب ..
وكانت الحروب التي حدثت بعد الإسلام بين المسلمين أنفسهم لا تقل في الجرائم عن جرائم عرب الجاهلية..
النبي[صلى الله عليه وآله] فوق رؤوسهم والقرآن بين أيديهم والعدل في ألواحهم وهم مع هذا كله كان بينهم ما لم يكن بين الوحوش الضواري فلا شيم يرتعدون بمعناه ولا تقاليد عادلة يعملون بها، ولا دين يصغون إلى تعاليمه. فالجاهلي عاش بين ناقته وفرسه وشاته يستوحي كل حياته وتقاليده من هذ العناصر، فلا قائد سليم، ولا نبي يوحي إليه ولا شريعة يصغي إليها ولا تربية توجهه إلى الخير. أما المسلم فكل شيء متوفر له بغير تعب ولا شقاء وهو حتى اليوم في عصر الكهرباء وانفلاق الذرة يحيا حياة الوحوش في قلبه ونواياه وتصرفاته لم يستفد من الإسلام وهو المسلم بعض ما جاء به الإسلام لمصلحته الخاصة ولم يستفد من الغرب صاحب الأعاجيب إلا ما كان في الغرب من فجور وسيئات وتهتك أما المعاني السامية التي جاء بها الغرب وعمل فيها في بلاده فالمسلم العربي أجنبي عنها بكل معانيها وفي الجملة العربي هو العربي قبل الإسلام وبعده، ولا أظن أنه سيوفق في يوم من الأيام ليكون في صفوف الإنسان الذي أراده الله ورسله والإنسان !!.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|