أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-11-21
895
التاريخ: 2023-10-27
904
التاريخ: 2023-11-12
1017
التاريخ: 2023-10-21
958
|
يمثل عصر النهضة الاوروبية في عملية التطور الانساني امتدادا طبيعياً لما سبقه من تيارات فلسفية واقتصادية وعلمية وادبية عرفتها اوروبا في العصور الوسطى. فمن الناحية الزمنية يبدأ عصر النهضة بتراجع مؤسسات القرون الوسطى وانحلالها منذ القرن الرابع عشر ليمتد حتى يشمل القرن السابع عشر. وقد تفاوتت النهضة بين دول اوروبا باختلاف مقوماتها الاساسية. فحيث عرفت بعض دول ومدن غرب اوروبا النهضة مند القرن الرابع عشر، كإيطاليا مثلاً ، فإن مجتمعات اخرى في شمال وشرق اوروبا ظهرت فيها النهضة متأخرة عن هذه الفترة بمدة طويلة ولما كان التعريف السائد لقيام نهضة معينة في عصر ما يقتصر على وضع مؤلفات علمية وأدبية وفلسفية وما يحيط بهذا العمل من نشاط اجتماعي افقي، يقتصر على فئة معينة تشتمل على حاشية البلاط وفئة المتعلمين ؛ فقد اطلق بعضهم اسم « نهضة » على ما قام به شارلمان من نشاط ثقافي لم يتعد فئة قليلة من الناس بهدف تحقيق مآربه السياسية والدينية، فان النهضة الاوروبية التي بدأت في القرن الرابع عشر او قبل هذا التاريخ بزمن قصير او بعيد لم تؤت ثمارها الحقيقية الا بعد القرن السادس عشر عندما بدأت تتحطم الحواجز الثقافية والعلمية بين طبقات المجتمع الاوروبي. وقد تجلت هذه الاستفادة عبر الثورات الدينية، والمصالح القومية، وفي الثورات التي قامت ضد استبدادية الملوك والامراء وضد التفاوت الاجتماعي. ولهذا تعتبر الثورة الفرنسية اعلاناً خاتمة عصر النهضة عن اكثر مما تعتبر اعلاناً عن بداية عصر جديد. حيث نجد فيشر يذكر أنه: قد لا يوجد بلد في اوروبا كان أكثر اطراحاً للعصور الوسطى من بريطانيا، ومع ذلك فقد بقيت نظم العصور الوسطى في المدن الانجليزية دون أي تغيير حتى عام 1835 بما تحمل من مثالب بهيجة خلابة، لتفسح المجال للنموذج الديموقراطي المألوف الذي يتمشى والانقلاب الصناعي والتسوية بين الناس (1). إذن فالنهضة التي ولدت في احضان البورجوازية وبفضلها، لم تمتد إلى جميع الطبقات الاجتماعية بل انها اقتصرت على بطانة الامراء والملوك وعلى الارستقراطيين والمثقفين وهم قلة. اما الانسان العادي فاستمر يقوم بالأعمال الزراعية واعباء العيش المرهق بعيداً عن مظاهر النهضة، تسيطر عليه اوهام العصور الوسطى وخرافاتها حتى ما بعد القرن السابع عشر بكثير من الوقت. فعلى الصعيد الاقتصادي فان عصر النهضة شهد تحولاً وتبدلاً جذرياً بين ما كان سائداً في اوروبا في العصور الوسطى من اقتصاد »عيني » إلى اقتصاد نقدي الأمر الذي ساعد على انهيار الاقطاعية التي كان يتعارض وجودها مع تشكل البورجوازية النامية. ونتيجة للثراء الفاحش الذي اصاب طبقة البورجوازية التجارية المرابطة في المدن، فقد اخذ الفكر الاقتصادي يشهد استقلالاً عن المفاهيم الدينية التي كانت سائدة قبلاً. فأقيمت المصارف وظهر الرأسمال الربوي وانتشر التعامل بالصكوك والعقود المكتوبة ووضعت قوانين اقتصادية تحدد علاقة المواطن بالدولة، وتتوافق مع متطلبات الطبقة الوسطى. وأضحت التحالفات والمنازعات الدولية تقوم على اساس المصلحة الاقتصادية دون مراعاة للمذهب الديني، كما حدث في حروب الثلاثين عاماً الدينية عندما وقفت «فرنسا الكاثوليكية، الى جانب التحالف البروتستانتي. أما الكشوف الجغرافية فقد ساهمت في تنشيط الحركة التجارية الاستعمارية، بعد ان شلها التوسع العثماني، بإقامة محطات ثابتة في الاماكن المكتشفة كما حدث في الشرق الاوسط اثناء الحركة الصليبية. كما ساهمت حركة الكشوف ايضاً في عملية التوسع التجاري ففتحت امام الاوروبيين اسواقاً جديدة تدفقت منها الاموال على اوروبا. فامتلكت بفضلها دول اوروبا كميات وافرة من الذهب والفضة مما كان له اثر كبير على نمو البورجوازية التي كان لها الفضل الاول في قيام النهضة. ولما كان الانتاج الحرفي في العهد الاقطاعي ملازماً لأعمال الفلاحة فقد شهد عصر النهضة تطوراً عظيماً للحرفة على اثر تزايد الحاجة إلى الانتاج السلعي. فازدهر نظام المشاغل (manufacture) بعد أن انفصلت الحرفة عن العمل الزراعي وظهرت ورشات العمل الكبيرة التي قامت البورجوازية بدفعها وتنظيمها بتقديم الرأسمال مقابل العمل الذي يقوم به العامل. وهكذا ساعد ظهور المشاغل في تسريع عملية التوسع الصناعي وازدهاره. فظهرت صناعة الكتب، وازدهرت صناعة التعدين وازداد الاعتماد على القوى المائية. فانتشر استعمال المحراث الحديدي المتطور في الاعمال الزراعية ونشطت الدول في استثمار مناجم الفحم الحجري والفضة وحجر الشب كما تطورت صناعة المنسوجات بمختلف انواعها. أما على الصعيد الفكري فقد ظهرت في عصر النهضة تبدلات فكرية تختلف عن مفاهيم العصور الوسطى. وان هذه التبدلات قامت اساساً على أنقاض التي كانت سائدة: فامتلك الفرد شخصية مستقلة مشكلاً الخلية الاساسية في المجتمع بعد ان كانت الضيعة أو القومون أو النقابة هي التي تمثل اساس تكوين وبناء المجتمعات. كما تمتع انسان النهضة بالفردية والجرأة الفكرية واحتقار الضعف والوهن والاعراف والتقاليد والخرافات والتحلل من سيطرة رجال الدين وديكتاتورية الكنيسة الروحية وتوجيه النقد للبابوات أنفسهم حتى شهد القرن الرابع عشر هبوطاً للسلطة الروحية. وامتاز القرن السادس عشر بقيام حركة الاصلاح الديني وقيام الكنائس القومية الموجهة ضد السلطة البابوية والقوى الاقطاعية المتحالفة معها. وقد شهد عصر النهضة ايضاً قيام الحكومات المركزية ونمو الاتجاهات القومية للأمة. الأمر الذي ساعد على تقوية الحكومات الملكية ورسوخ الاعتقاد الشائع بسلطة الملوك المستمدة من الحق الالهي. ولما كانت البورجوازية وما زالت في عصر النهضة في نضال مستمر مع الارستقراطية فقد وقفت إلى جانب الملوك في فرض سيطرة الدولة على جميع طبقات المجتمع وبالأخص على النبلاء والاكليروس. فوجدت الحدود القومية للدولة ونظمت الواردات والضرائب ووحدت التشريعات القضائية والقوانين. وزاد في توطيد سلطة الملكية واستبداديتها خاصة في فرنسا واسبانيا الحروب التي اشعلها الملوك داخل اوروبا وخارجها بسبب التنافس على المستعمرات عبر المحيطات في الهند وفي القارة الاميركية. لقد كانت البورجوازية أكثر الفئات استفادة من تبدل الاوضاع الاقتصادية التي حصلت في عصر النهضة. فازدادت ثرواتها الاقتصادية مع الزمن حتى تم لها منذ القرن السادس عشر السيطرة التامة على الطبقة الثالثة التي تنتمي اليها عرفاً وقانوناً. فاستغلت تمثيل هذه الطبقة لمصلحتها إلى ابعد الحدود ضد امتيازات النبلاء في مساندة الثورات الدينية وضد استبدادية الملوك بعد القرن السابع عشر في اعلان ثوراتها السياسية التي تتوافق ومصالحها. وهكذا تم للبورجوازية خلال عصر النهضة القضاء على امتيازات النبلاء والاكليروس بتقوية ومساندة السلطة الملكية من جهة وتشييد الكنيسة القومية من جهة ثانية. كما تم لها ايضاً تحطيم الاستبداد الملكي المرتكز على نظرية الحق الالهي للملوك في الحكم بواسطة الفئات الشعبية حتى اصبحت في اواخر القرن التاسع عشر سيدة الموقف في جميع دول اوروبا دون استثناء أما الغنى والثراء الفاحش اللذين تمتعت بهما البورجوازية خلال عصر النهضة فقد أديا إلى الاسهام في عملية الانفاق المادي التي تمثلت في الاقبال عن مباهج الحياة. فصرفت الاموال الطائلة على تشجيع الفنون واقامة المدارس والاكاديميات واقتناء المخطوطات والمكتبات وتشييد القصور والكنائس الضخمة واقامة الجنائن والتماثيل واغواء الشعراء والادباء والعلماء والفنانين للإقامة في بلاطات الامراء ليضفي هؤلاء على حكمهم الصفة الشرعية بعد ان ساهمت النهضة في احلال الالجاركيات التجارية والدكتاتوريات العسكرية - خاصة في ايطاليا - محل حكومات المدن الجمهورية المستقلة (2). ففي فلورنسا مثلاً ازدهرت حركة النهضة حول اسرة مدتشي التي كانت تسيطر على الاقتصاد وتوجهه. وفي البندقية تمركزت حول الطبقة التجارية وفي ميلانو عند ادواق آل سفورزا وفيسكونتي وفي فيرونا نمت النهضة برعاية اسرة سكاليجر وفي پدوا قامت بتشجيع آل كراريسي (Carraresi) وفي روما قامت النهضة ايضاً في بلاطات بابوات عصر النهضة الذين اشتهر منهم نقولا الخامس (1447 - 1455) وليو العاشر (1513 - 1521). اما في فرنسا وانكلترا فقد نمت النهضة في المدارس والكاتدرائيات والجامعات. وهكذا قامت النهضة الأوروبية بمساعدة سكان الحواضر من الطبقة البورجوازية. وازدهرت بتشجيع الملوك والامراء والادواق حتى عمت فيما بعد جميع طبقات المجتمع الاوروبي. أما على الصعيد السياسي فعلى الرغم من نمو الشعور القومي الذي ساد وروبا في عصر النهضة فقد واجهت ايطاليا تفككاً سياسياً نتيجة لظهور قوة الامارات التي اسسها الامراء ورجال الدين ثم للتنافس الاستعماري الذي نشأ بين اسبانيا وفرنسا وأدى إلى قيام الحروب الايطالية. كما ادت النهضة ايضاً إلى ظهور عدة نظريات سياسية واتجاهات في الحكم كان لها اثر بعيد في الحياة السياسية التي عرفتها اوروبا في العصور الحديثة. وقد ظهرت هذه النظريات في کتاب (الأمير) لمكيافللي الذي اباح للحاكم جميع الوسائل لتحقيق اهدافه في فرض سيطرته وفي (كتاب رجل البلاط) لكاستليوني الذي رسم فيه انموذجاً الرجل البلاط وما عليه ان يتمتع به من الثقافة والادب والالمام بجميع الفنون ثم في كتاب (عالم الكمال) للسياسي الانجليزي توماس مور الذي يبين فيه أهداف الحكومة المثالية وانظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي حكومة تخيلها المؤلف لتقوم في جمهورية حرة ديموقراطية. وهكذا طبعت النهضة المجتمع الاوروبي الذي قامت فيه بطابع خاص ومميز. فأدت إلى خلق مجتمع جديد انصرف افراده الى الانغماس في حياة المجون والتمتع بملذات الحياة وتقديس الجمال والبحاحة المحرمات. فتحطمت قيود الاخلاق والتقاليد والاعراف واقبل انسان النهضة على التلذذ بالأطعمة الشهية المختلفة واقتناء الألبسة الفاخرة، ولازمه حب جارف نحو سماع الموسيقى وقراءة الشعر والادب الرفيع والاطلاع على مجادلات الفلاسفة، واعمال النحاتين والمصورين والمهندسين. هذه الرغبة الزاخرة بحب الحياة ميزت انسان النهضة عن انسان العصور الوسطى المتزمت الزاهد المتمسك بالفضيلة والمكبل بأغلال الكنيسة والعادات والتقاليد المتخلفة. واخيراً فالنهضة الأوروبية حسب تعبير ديورانت قامت من الناحية المادية على الاستغلال الاقتصادي للكثرة الساذجة على ايدي القلة البارعة ذلك ان ثروة رومة البابوية قد جاءت من النقود الصغيرة التي تبعث بها آلاف الآلاف من بيوت الصالحين الاتقياء في اوروبا وان بهاء فلورنس كان مصدره عرق الدهماء المغمورين الذين كانوا يكدحون الساعات الطوال. وليس لهم حقوق سياسية، ولم يكونوا يمتازون عن رقيق الأرض في العصور الوسطى الا باشتراكهم في زهو وخيلاء في مجد الفن المدني ولآلئه، وفي حياة المدنية الثائرة وما فيها من دوافع ومغريات.
............................................
1- فيشر هـ: اصول التاريخ الاوروبي الحديث ترجمة زينب عصمت راشد دار المعارف بمصر 1965 ص 8.
2- ول ديورانت: قصة الحضارة الجزء (21) ص357.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|