أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-08-01
484
التاريخ: 2023-11-09
842
التاريخ: 2023-10-05
949
التاريخ: 2024-07-12
385
|
وَجُوبِهَ يوستنيانوس في أول عهده بثورةٍ داخلية كادت تَدُكُّ عرشه دكًّا، وهي التي عُرفت بثورة النصر «نيكا» باليونانية، ولا بأس في تفصيل نبأ هذه الثورة من التوقُّف والرجوع قليلًا إلى الوراء؛ ذلك أنه كان يقوم في قلب العاصمة ملعبٌ فسيحٌ لسباق الخيل يُدعى اﻟ Hippodrome، وارتاحت نفوسُ سكان العاصمة إلى سباق الخيل في الهيبودروم ونشِطوا لمراقبة هذه السباقات وتَحَمَّسُوا لها، وكان على سائِقِي عربات السباق أن يتزيَّوْا بواحدٍ مِن أربعة ألوان: إما الأخضر أو الأزرق أو الأبيض أو الأحمر، فانقسم النظارة مِن سُكَّان العاصمة إلى أحزابٍ رياضية أربعة: الخضر والزرق والبيض والحمر، وانتظمتْ هذه الأحزابُ، وتكتل أفرادها وتكاتفوا، فأنشئوا لكلٍّ منها صندوقًا خاصًّا؛ لتشجيع السائقين وشراء الجياد السبَّاقة والعناية بها، ولا نعلم بالضبط كيف وقع الاختيار على هذه الألوان التي تسمت بها هذه الأحزاب، ولكننا نعلم أنها قديمةٌ جدًّا وأن رومة الجديدة ورِثَتْها عن رومة القديمة، ويرى بعضُ رجال الاختصاص أنها رُبَّما أشارت — في الأصل — إلى العناصر الأربعة: الأرض والماء والهواء والنار، الأرض الخضراء، والماء الأزرق، والهواء الأبيض، والنار الحمراء (1) ،ثم نتج عن هذا التضامُن في حقل الرياضة تضامنٌ في السياسة والاجتماع، وانضم البيضُ إلى الخُضرِ والحمرُ إلى الزرق، فأصبح في العاصمة حزبان سياسيان اجتماعيان، حزب الخضر وحزب الزرق، وأيَّد الزرق الأرثوذكسية فأيد الخضر القول بالطبيعة الواحدة، وكان قد سبق في عهد أنسطاسيوس أن حلَّ بالزرق اضطهادٌ شديدٌ؛ لأن هذا الإمبراطور كان يَميل إلى القول بالطبيعة الواحدة، فهرع الزرق إلى الهيبودروم ونادَوا بسقوط أنسطاسيوس، وكاد أن يتم ذلك لولا اتزان الإمبراطور واستعطافه الرأي العام، فلما رقي يوستينوس ويوستنيانوس العرش دَبَّ إلى عُرُوق الزرق النشاط ولكن ثيودورة عطفت على الخضر، فانقسم البلاطُ نفسُهُ إلى أزرق وأخضر(2)، ويجوز القول أيضًا إن الزرق كانوا في الغالب من طبقات الشعب العُليا، وأن الخضر جاءوا من الطبقات السفلى بحيث أصبح الصراعُ بينهما في بعض الأحيان صراعًا طبقيًّا(3). وقد تعددت أسباب ثورة النصر التي نشبت في السنة 532، فبعضها كان دينيًّا عقائديًّا نشأ عن اضطهاد من قال بالطبيعة الواحدة، وبعضها كان مَرَدُّهُ إلى تنافُس الأسر على العرش وحرمان أقارب أنسطاسيوس من الملك، وبعض هذه الأسباب كان عموميًّا، وهو الأقوى. وتفصيل الأمر: أن يوستنيانوس اعتمد في أول عهده على تريبونيانوس في القضاء، وعلى يوحنا القبدوقي في الإدارة، وطغى الاثنان وتجاوزا الحد في ابتزاز المال وفي القسوة، فهبَّ الزرق والخضر معًا وهرعوا جميعًا إلى الهيبودروم، ثم انطلقوا منه يخربون ويحرقون، وسادت كلمة النصر على أفواههم «نيكا» فسُميت بها حركتُهُم هذه، وفاوضهم يوستنيانوس فلم يرضوا ونادَوا بأحد أنسباء أنسطاسيوس إمبراطورًا، فخشي يوستنيانوس العاقبة وجمع أخصاءه وشاورهم في الفرار من العاصمة، وكادوا يجمعون على ذلك ولكن ثيودورة انتصبتْ بينهم وقالتْ كلمتَها التاريخية: «يستحيل على امرئٍ يجيء هذا العالم ألَّا يموت، ولكنَّ مَنْ يُمارس السلطة لا يُطيق النفي، وإن تشأ أيها الإمبراطور أن تنقذ نفسك فلن تجد صعوبة والبحر قريب، والمراكب مجهزة، والمال موفور، ولكن تريثْ قليلًا، وسَلْ نفسك: ألن تندم بعد فرارك ووصولك إلى ملجأ أمين فتود لو كنت آثرت الموت على الأمان؟ أما أنا فأرى أن الأرجوان لا بأس به كفنًا) (4). فانتعش يوستنيانوس، وأمر بليساريوس أن يُخضع الثائرين بالقوة بعد أن مضتْ على ثورتهم ستةُ أيام، فأحاط بهم بليساريوس بجنوده ولزَّهم حتى أكرههم على اللجوء إلى الهيبودروم، ثم فتك بهم فتكًا، فقتل ثلاثين أو أربعين ألفًا بينهم أنسباءُ أنسطاسيوس وثبَّت هيبة السلطة (5). وكان قد ظهر في آسية الصغرى ومصر وغيرهما من أجزاء الإمبراطورية عددٌ مِنْ أصحاب العقارات الكبيرة الذين استغلوا الظروفَ السياسيةَ والإداريةَ، ففرضوا ملكيتهم فرضًا، واغتصبوا أملاك الدولة، وعبثوا بالسلطة المركزية فأحاطوا أنفسهم بالحراس، وجرُّوا وراءَهم الجماهير، وسَدُّوا أفواه الولاة بالذهب (6) ،وأشهرُ مَن اشتهر من هؤلاء في مصر أسرة الأبيون، فكان الواحدُ منهم يملك القرية بعد القرية، ويفرض ضرائبه الخاصة ويجبيها على يد جباته ويعيش عيشة الملوك (7)، واتسعت كذلك أملاك الأديرة والكنائس وتَمَتَّعَ أصحابُها بسلطة واسعة. ورأت الحكومة في هذا كله تحديًا لا مبرر له، فقاومتْه مقاومة طويلة الأمد، تذرعتْ في أثنائها بشتى الوسائل، كأنْ تتدخل في حق الإرث أحيانًا، أو أن تُكره أحيانًا أخرى بعضَ الكبار على وقف أملاكهم على الإمبراطور، أو أن تُصادر بعض الأملاك بداعي عدم الدليل على الملكية، أو أن تتهم ديرًا من الأديار بالزندقة فتحوِّل أرزاقه إلى الدولة، ولكن برغم هذا كله لم يتمكن يوستنيانوس من القضاء على هذه الطبقة. ولمس يوستنيانوس عيوب الإدارة ومواطن الخلل فيها كبيع الوظائف وتبديد الأموال والسرقة والبلص، وعلم — حق العلم — أن هذه النقائص تؤدي حتمًا إلى الفقر والخراب، وإلى إثارة الفتن والمشاكل، ورغب كل الرغبة في إزالة الضرر وإصلاح الحال، وشعر بالمسئولية المُلقاة على عاتقه، وكان يقول بالحُكم المطلق، فرأى أَنَّ أفضل الوسائل لمُداواة الحال هي السعي لتقوية الحكومة المركزية وانتداب رجال أكفاء للقيام بمهام الحكم. وعني — بادئ ذي بدء — بمالية الدولة فذكَّر بنفقات الحرب وطلب إلى الرعايا أن يؤدوا ما وجب دفعُهُ بإخلاصٍ وعلى الوجه الأكمل، وأمر الموظفين أن يعاملوا الرعايا بعطفٍ أُبَوِيٍّ وأن يرفعوا عنهم الظلمَ ويمتنعوا من الرشوة ويعدلوا (8)،ثم عاد فذكَّر الموظفين بوجوب السعي لتغذية الخزينة (9)، واجتهد يوستنيانوس اجتهادًا حثيثًا في سبيل الإصلاح على أساس هاتين القاعدتين: أمانة الموظف وإخلاص المكلف، ولكنه رأى — بعد وقت — أَنَّ ذلك لم يَكْفِ لتغذية الخزينة، فلجأ إلى إنقاص النفقات بإنقاص الجيش وابتياع رضا الخصم على الحدود، ولم يفطن إلى أَنَّ مثل هذه الخطة يؤدي إلى الاضطراب في الداخل وضعف الهيبة في الخارج، فضلًا عن نقص الموارد وازدياد النفقات. ومما زاد في الطين بلة انتشارُ الأوبئة في عهده وحلول الزلازل، وأشهر الأوبئة: طاعون السنة 542، فإنه ظهر في مصر وانتقل إلى سورية ولبنان، فالقسطنطينية، فبَرِّ الأناضول، فما بين النهرين، ففارس. ثم عبر البحر إلى صقلية وإيطالية، ودام انتشارُهُ في العاصمة أربعة أشهر، وتزايد فَتْكُهُ، فهجر السكان المدن والقرى ووقف الحرث والزرع وعمَّ الجوع فاضطربت الدولةُ بأسرها (10) وتعددت الزلازل، وأشهرها زلزال السنة 551، وفيها اهتز الساحل اللبناني من أرواد حتى صور وعمَّ الخراب، وأصاب بيروت السهم الأوفر، وقيل إن البحر فيها ارتد ميلًا ثم عاد بطغيان هائل فأغرق سفنًا عديدةً وألوف الناس. ويقول أغاثيوس المؤرخ: «إن بيروت زهرة فينيقية ذوت بعد هذه الزلزلة العظيمة، وتقلص ظل جمالها، ودُكت أبنيتها الشامخة البديعة، فتقوضت، ولم يبقَ منها إلا ردم وخراب، وهلك تحت أنقاضها جمٌّ غفيرٌ من الأهلين والأجانب، واختطف الموت نخبة الشبان الأشراف الذين كانوا قد قدموا بيروت لدرس الحقوق الرومانية في مدرستها الشهيرة التي كانت فخرًا لها وتاجًا على مفرقها تباهي بها أخواتها من المدن العظمى. (11) ». واتخذ يوستنيانوس الفسيلفس ما بين السنة 525 والسنة 536 طائفةً من الإجراءات؛ لتعزيز السلطة المحلية، مع تثبيت نفوذٍ للسلطة المركزية، وكان قسطنطين الكبير — كما سبق أن أشرنا — قد جزَّأ الولايات الكبيرة إلى ولايتين أو أكثر وفصل السلطة الإدارية في الولايات عن السلطة العسكرية؛ ليأمن شَرَّ التمرد والعصيان، ولكن يوستنيانوس أراد أن يبسِّط الأمور ليسهِّل عمل الإدارة، فقلَّل عدد الولايات وأنقص عدد الموظفين وزاد في رواتبهم ووضع السلطتين العسكرية والإدارية في يدٍ واحدة (12)، وأنعم باللقب «يوستنياني» على الحكام فزادهم فخرًا ووقارًا. وعني يوستنيانوس عنايةً خاصةً بإدارة العاصمة، فعين عددًا من الحكام «برايتوريوس الشعب» في السنة 535 للنظر في السرقات والاغتيالات وحوادث الزنى، وفي السنة 539 أنشأ وظيفة الكوايسيتور Kuaesitor لمراقبة الذين كانوا يفدون على العاصمة من أبناء الولايات بلا موجب فيعقدون أحيانًا مشاكلها بتصرفهم، ونزولًا عند رغبة ثيودورة أعاد تنظيم وظيفة المحافظين على الآداب العامة وأمرهم بالتشديد على المقامرين والمجدفين وعلى «أولئك السفلة الذين لم ينتظروا سدول الليل ليستروا بها معاصيهم»، واهتمت ثيودورة لأمر الزانيات فجعلت من قصر قديم على ضفة البوسفور الآسيوية ديرًا للتائبات منهن أسمته دير التوبة، ومنع يوستنيانوس سباق الخيل في الهيبودروم وأمر بمراقبة الأحزاب الرياضية السياسية مراقبةً شديدةً (13). وحضَّ يوستنيانوس الحكام وألزمهم أن يُحافظوا على الطرقات والجسور وأقنية المياه والأسوار وأمدَّهم بالمال، فنشطوا لتحقيق هذا الواجب وأنشئوا طرقات جديدة وشيدوا لها الجسور وحفروا الآبار والأحواض على جوانبها؛ ليؤمنوا المياه للقوافل وأبناء السبيل، وجرُّوا المياه إلى المدن وبنَوُا الحمامات. وعملًا برغبة يوستنيانوس قامت مُدُنٌ جديدةٌ في بعض الأنحاء، تحمل لقب يوستنيانة، اعترافًا بفضل الإمبراطور. وبذل يوستنيانوس بذلًا سخيًّا لإغاثة أنطاكية بعد الكارثة التي حَلَّتْ بها في السنة 540، فجدد الأقنية والمجارير وأنشأ الحمامات ودُور اللهو والساحات العامة، ولم يُقَصِّرْ في البذل عندما حلَّت الكارثة في السنة 551 ببيروت وغيرها من مُدُن لبنان وسورية، وفي السنة 532 بدأ بتشييد كنيسة الحكمة الإلهية في القسطنطينية بإشراف إسيدور الملطي وأنثيميوس الترلِّي، واستمر العمل فيها خمس سنوات حتى تم بناؤها في السنة 537، فجاءت آية من بدائع الآيات أتحف بها يوستنيانوس عالم الفن، وهي ما زالت قائمة راسخة موطدة بارزة جريئة واضحة نقية. وأنشأ في السنة 538 القصر المقدس بمدخله الفخم وقاعة عرشه العظيمة Consistorium التي بهرت العيون بألوان معادنها الثمينة ودقائق فنها الخالص، وعنيت ثيودورة بكنيسة الرسل وبعدد كبير من المستشفيات للمرضى والأنزال للمسافرين، ولا تزال أحواض بره بتان سراي «القصر الغائر» وبيك بر ديرك «ألف عمود وعمود» تنطق بالعمل الجبار والجهود المتواصلة التي بذلها يوستنيانوس لتوفير المياه على العاصمة.
........................................
1- Guerdan, R., Vie, Grandeur et Misères de Byzance, (Paris, 1954) , 45–58.
2- uspensky, Th., Hist. of Byz. Emp., I, 506
3- Manojlovic, M., le Peuple de Constantinople, (Byzantion, 1936) , 617–716.
4- De bello persico, I, 24, 35–37; éd. Haury, I, 130; éd. Dewing, I, 230–233.
5- Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 156-157
6- Novelle, 30, (44), 5, éd. Zacharia von Lingenthal, I, 268.
7- Bell, H., Byz. Servile State in Eg, Journal of Eg. Arch. IV, 101-102.
8- Novella, 8, (16), 8, 10; éd. Von Lingenthal, I, 102, 104.
9- Novella, 28, (31), 5; von Lingenthal, I, 197
10- Zinsser, H., Rats, Lice, and History, 144–149
11- Patrologia Graeca, éd. Migne, 88; 1359
وعلي أثر هذه الزلزلة انتقل الأساتذة إلى صيدا؛ ريثما يتجدد بناءُ بيروت، ثم عادوا إليها بعد سنين قليلة، ولكن نارًا شبت بها في السنة 560، فالتهمت معاهدها وعددًا كبيرًا من دُور السكن فيها.
12- ألغى وظيفة النواب Vicarii ورفع حكام بعض الولايات ومنها سورية وأرمينية إلى رتبة برايتوريوس praetorius.
13- Diehl. Ch., Justinian’s Govt. in the East. Cambridge Med. Hist., II, 39.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|