أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-7-2017
2872
التاريخ: 27-7-2017
4128
التاريخ: 25-03-2015
2417
التاريخ: 30-09-2015
2368
|
يبقى
الشاعر من أشد الناس حساسيةً وتأثراً بما يجري حوله وفي داخله؛ فهو البصيرة على
نفسه والعالم، المتأثر والمعبّر والمؤثّر، وهو الذي ينفذ من خلال التعدُّد
والاختلاف إلى الجوهر فيلامس حقيقة الإنسان في تجرّده عن الزمان والمكان. إنه عاشق
الإنسان والطبيعة وما وراءهما، المدرك لمسؤوليته الرّسولية في الوجود، وُجدانُ
البشرية العميق والأمين، القادر على التغلغل إلى الخفايا، ونقلها بصدقٍ وإخلاص...
من
هذه الطبيعة الشاعرية تجلّت فيما بعد الحرب الثانية غنائية رومانسية قوامها الحزن
والألم والاحتجاج والسوداوية كموقفٍ تجاه الماضي المأساوي؛ ثم ما لبث الشعر أن
تكيف مع المتغيرات المستجدة والمتسارعة في تيارات الرياح الكونية المعاصرة والهموم
اليومية والطبيعية المعقدة للحياة المطصخبة الجديدة التي تمتد فيها الصراعات في
عالم الفكر والعقيدة والاقتصاد والسياسة والمجتمع؛ وكان الشاعر هو الباحث الأول عن
الحقيقة الجوهرية المحتجبة بين غيوم العصر.
لقد
دمّرت الذرة مدينتين بما فيهما، فهل ستقف عند هذا الحدّ؟ وها هي نُذُر الشرّ في الآفاق...! وتقدَّم العلم والاختراع بسرعة هائلة فهل جلب ذلك السّعادة
أم أسْهَمَ في نشر الظلم والتحكّم والرعب؟ وأذهلت الناس كشوف الفضاء، فماذا
وراءها؟ إن أشباح الإبادة والموت والدمار والبؤس ماتزال تطلّ بعيونها الشريرة
المرعبة على نفوس الشعراء فتزيدهم قلقاً وعذاباً.. إنها طبيعة العصر وطبيعة الشعر،
ومهما يكن من أمر ذلك الأسى العالميّ فإنه لم يستطع كبت العاطفة وقمع الفكر وكبْحَ
الأمل وسدَّ المنافذ. فالتغير واقعٌ وممكن، وهو إنما ينطلق من الإنسان، والإنسان
هو المفتاح لحل كل لغز منذ أوديب ووحش طيبة....
لقد نقّب الشعراء في الجذور الروحية واستعانوا بمغازي الأساطير وتجولوا في الظواهر
الشعبية للوصول إلى الجوهر الوجودي لحياة الشعب، ووجهوا اهتمامهم لإنقاذ الإنسان
والأخذ بيده إلى درب السعادة، السعادة التي قد تلوح في السماء على الأرض... ولنذكر الشعراء المعاصرين من أمثال (إليوت وبريخت وستاندبرغ
وشعراء الواقعية الاشتراكية ولوركا...). وهكذا
ينبجس التفاؤل من صميم الكرب ويبقى دوماً في (صندوق باندورا) شيء اسمه الأمل. ومع
الإحباط يولد حزم ومع الضيق يأتي فرج ومع الشر يوجد خير...!
كان
هذا وجهَ الشعر من حيث مادّتهُ وأطروحاته؛ أما من حيث شكله فقد جسّد في أشكاله
الغزيرة المتنوعة تلك النزعة التحرّرية وتجاوز الأقنية والسّدود دون أن يفارقها
تماماً. إن روح التمرد والثورة على ما تبقى من آثار الماضي وقيوده، والشعور بفرح
الحرية الفردية كان الباعث إلى ولادة تجارب جديدة في الشعر تناسب طبيعة المرحلة،
فلم يتبع الشعراء منهجاً واحداً أو مذهباً بعينه، ومع التجارب الحديثة لم تُطلَّق
المعطيات الماضية. وكان الشعر الأمريكي الأسبق إلى خلع الأثواب الطقوسية وارتداء
الملابس البسيطة والتجوال في آفاق جديدة رحبة؛ فقد حاكى النثرَ بشعرٍ مُرْسَل لا يضحّي
بالموسيقا، التي مزجها بالرموز والأساطير (والت ويتمان). وجاء في إثر هذه التجربة
شعراء أمريكا اللاتينية وأوروبا فوسعوها (نيرودا) مع الاحتفاظ بتقنيات ورثوها من
القرن التاسع عشر، وهكذا تجاورت أصداء الرمزية (من صوب رامبو وأبو لينير)
والمستقبلية بنت القرن العشرين (مايا كوفسكي) وتوظيف الأسطورة والتاريخ والدين
(ت.س إليوت) ومعطيات اللامعقول. والرومانسية السوداوية والبرناسيّة التقليدية
والكلاسيكية الجديدة... فكانت أشكال شعرية جديدة شديدة التنوع.... وكان البحث الدائم عن الجديد، فوجدنا الميل إلى التكثيف
والاقتصاد بالكلمات والإقلال من الأفعال والروابط، بل ونبذها أحياناً اكتفاءً
بالصور التي تنبعث من الكلمات وتتوالى في شريط متلاحق مثيرة معاني عميقة وأصداء
غامضة، وتخلق جوّاً معبراً ومخيماً على الروح، ووجدنا جرأةً لغوية بإبداع كلماتٍ
جديدة وتركيبات غير مألوفة...
وهكذا
تآلفت في الشعر الجديد التجديدات الجريئة والوثبات الحرة مع معطيات المدارس
القديمة في وسطٍ من التجريب والبحث لاكتشاف ذرا لم تستشرف من قبل... إنها الحداثة المتسارعة على إيقاعات نبض العصر في حركته
وتغيراته.