أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-3-2021
2030
التاريخ: 11-5-2020
1944
التاريخ: 19-8-2020
2105
التاريخ: 3-3-2021
2362
|
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): "يا علي: طوبى لصورة نظر الله اليها تبكي على ذنب لم يطّلع على ذلك الذنب أحد غير الله" (1).
أسرار الانسان:
كلّ إنسان له أسرار يحتفظ بها لنفسه منها ما هو مفرح وذو فائدة ومنها ما هو محزن وذو نتائج وخيمة وهذه الأسرار لا يطلعُ عليها أحداً، وإذا كتمها وشدّد في كتمانه ربّما لا يتمكّن أيّ أحد من اكتشافها والاطلاع عليها، إلّا لله سبحانه فإنّه {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
فالسرّ هو ما أخفيته في نفسك وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته (2).
وما هذه الأسرار التي لا ينبغي للإنسان الإفصاح عنها والبوح بها للآخرين؟ هي الذنوب فإنّ الله سبحانه ستّار العيوب ويحبّ الساترين أيضاً والله سبحانه جعل للأشياء أسباباً ومظاهر فكلّ شيء له سبب وله مظهر أيضاً مثلاً النار سبب للإحراق ومظهرها الحرارة والدخان والشمس سبب لطلوع النهار ومظهرها النور هذا في الأمور الكونية المادية وفي المعنويات فإنّ التوبة والاستغفار سبب لغفران الذنوب والبكاء ندماً على الذنب مظهر لغفران الذنب والله سبحانه يحب العبد الخشوع الذي تهمل عيناه ندماً على ذنوبه ولهذا ينظر الله سبحانه إلى صورة العبد الذي يبكي على ذنبه الذي أخفاه عن كل أحد ولم يطلع عليه سوى الله سبحانه، ويجازيه بطوبى التي هي من أفضل أشجار الجنّة.
قال تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] إنّ طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبي (صلى الله عليه وآله) وفي دار كلّ مؤمن منها غصن.. (3).
ومن الواضح:
إنّ الله سبحانه ينظر إلى صورة العبد الباكي على ذنبه الذي أخفاه عن الناس لأنّ الندم والبكاء على هذا الذنب يكون خالياً من الرياء ممّا يجعل التوبة والندم خالصين لله سبحانه ولذا فإنّ الله سبحانه يتقبّل من المخلصين.
وأمّا إذا بكى الإنسان من ذنوبه التي اطّلع عليها الناس فربّما لا يكون بكاؤه منها ناشئاً عن الإخلاص والتوبة الحقيقيّة.
إذن البكاء من خشية الله سبحانه ندماً على الذنوب من المظاهر التي يحبّ أن يراها الله سبحانه على العبد، ومن هنا رأينا من المناسب أن نتحدث عن البكاء وأبعاده وفوائده الشخصية والاجتماعية بمقدار ما يسمح به الوقت.
أسباب البكاء:
البكاء حالة تظهر على الإنسان عادة نتيجة سببين أحدهما مادي والآخر معنوي.
أمّا المادّي: فهو البكاء نتيجة التناقض الحاصل عند أهل المعاصي بين نزاهة الفطرة وصيحة الضمير الحرّ اللذين يدعوانه إلى الخير أبداً وبين سلوكه الخارجيّ وما يرتكبه من ذنوب ومعاصٍ تلوّث الفطرة وتقمع صوت الضمير.
إنّ النفس عندما تقتحم المعاصي والرذائل تفقد الرادع عن ارتكاب الذنوب فتقوم بظلم الناس وسلب حقوقهم والاعتداء عليهم والغش في المعاملات والكذب وما شابه من المرديات، لذا فإنّها تصاب بالعقد النفسية لأنّ الذنب أو المعصية لا ينسجم مع فطرة الإنسان التي تشير إليه إشارات لطيفة إلى فعل الخير، فيعيش تناقضاً داخليّاً بينه وبين فطرته، وهذا التناقض يخلق عقداً وتنافراً داخل النفس فلذا تكون هذه النفس مريضة لا تستلذ بالحياة وتكون مصدراً لكلّ شرّ وإجرام وإذا عادت هذه النفس إلى فطرتها وأرادت التخلّص من هذه العقد تصطدم بالذنوب التي ارتكبتها ونتيجة هذا التصارع تتولّد حالة البكاء المادّي إذ تنفجر دموع الإنسان ويحترق قلبه ليقضي على العقد النفسيّة ويغسل حالة الشرّ ويخلق حالة سلام ووئام وتوافق بين الإنسان وذاته.
التائب عتيق الله:
جاء في تفسير الصافي: إنّ أحد الشبّان جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبكي بكاء الثكلى على ولدها فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما يبكيك يا شاب؟ قال: كيف لا أبكي وقد ارتكبت ذنوباً إن أخذني الله عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم، ولا أراني إلا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً!! وكلّما ذكر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) للشاب ذنباً قال الشاب: إنّ ذنبي أعظم منه، فقال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ويحك ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟
قال: بلى أخبرك.
إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين أخرج الأموات وأنزع الأكفان فماتت جارية من بعض بنات الأنصار وعندما دفنت ذهبت إلى قبرها ونبشته وجرّدتها من أكفانها ثم جامعتها وتركتها عارية مكانها، فقال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): تنحَّ عنّي يا فاسق. فذهب الشاب فأتى المدينة وتزوّد منها ثم أتى بعض جبالها فتعبّد فيها ولبس مسحاً وغسل يديه جميعاً إلى عنقه ونادى يا ربّ هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول، يا ربّ أنت الذي تعرفني، وزلّ منّي ما تعلم سيدي، يا ربّ إنّي أصبحت من النادمين وأتيت نبيّك تائباً فطردني وزادني خوفاً فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي، سيدي ولا تبطل دعائي ولا تؤيسني من رحمتك، ولم يزل هكذا أربعين ليلة حتّى تاب الله عليه ولمّا جاءه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه ليبلغوه، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسود وجهه وتساقطت أشفار عينيه من البكاء، فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) منه فأطلق يديه من عنقه ونفض التراب عن رأسه وقال يا بهلول أبشر فإنّك عتيق الله من النار (4).
بكاء الخشية:
أمّا البعد المعنوي: وهو بكاء الخشية.
إنّ معرفة الإنسان بأحوال الدنيا والآخرة وبهول يوم القيامة والعلاقة مع الخالق تعالى تبعث النفس على الخشية والبكاء طلباً للقرب والزلفى لديه سبحانه وليس من الضروري هنا أن يكون الإنسان مذنباً إذ إنّ الأنبياء والأئمة المعصومين قد اشتركوا في هذا البكاء لمعرفتهم بمقام الخالق تعالى وما عنده من النعيم والدرجات العلى وقد حثّت آيات القرآن الكريم والروايات على البكاء وذلك لأمور منها:
أولاً: تكوين علاقة بين الإنسان وخالقه تعالى، إذ بالبكاء يتقرّب الإنسان إلى ربّه حينما يبكي محبّة وشوقاً إليه وإلى طاعته وخشوعاً له، قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
وقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]
وفي الحديث الشريف أوصى الله تعالى نبيّه موسى (عليه السلام): «يا موسى أبلغ قومك أنّه ما يتقرّب إليّ المتقرّبون بمثل البكاء من خشيتي» (5).
فالبكاء سبب لتوثيق العلاقة بين الإنسان وربّه وإذا وثّقت العلاقة يعيش الإنسان في لذّة الطاعة ويسلّم لله تعالى أمره ويقف أمام الابتلاءات والامتحانات الإلهيّة صبوراً وجلوداً ولا يرهق في الحياة.
التسليم لأمر لله تعالى:
جاء في المرويّات: إنّ موسى سأل الله تعالى أن يدلّه على أعبد أهل الأرض فأرشده الله أن يذهب إلى ساحل بحر فيرى هناك أعبدهم.
فجاء موسى (عليه السلام) ومعه جبرائيل (عليه السلام) فلم يجد أحد إلا رجلاً هو أبرص وأجذم ومقعد.
فقال موسى لجبرائيل (عليه السلام) أين ذلك الرجل؟
قال: هو هذا يا نبي الله.
فقال موسى (عليه السلام): كنت أحبّ أن أراه صوّاماً قوّاماً.
فقال جبرائيل (عليه السلام): انظر إنّي مأمور بأخذ كريمتيه - أي عينيه - فانظر ماذا يقول؟
يقول: فأشار جبرائيل (عليه السلام) إلى عينيه فسالتا على خديه فأخذ الرجل يقول: يا ربّي متّعتني بهما حيث شئت، وسلبتني إياّهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك طول الأمل يا بارّ ويا وصول.
فتعجّب موسى (عليه السلام) وأقبل إليه، قال: يا عبد الله أنا رجل مجاب الدعوة إن شئت دعوت الله لشفائك.
فقال: لا، إنّ ما يختاره لي ربّي أحبّ لي ممّا تختاره لي نفسي.
فقال له موسى (عليه السلام): سمعتك تقول يا بارّ ويا وصول.
قال: نعم إنّ ربّي هو البارّ بي وهو الذي يصلني حيث ليس في هذه القرية غيري يعبده.
فالخشوع والمعرفة بالخالق تعالى جعلت هذا الإنسان يسلّم أمره إلى الله تعالى والبكاء من الأمور والحالات التي تقوي الخشوع عند الإنسان وتنميه وذلك لانكسار النفس وتذلّلها أمام عزّة الجبّار سبحانه وتعالى.
الأمن يوم القيامة:
ثانياً: إنّ البكاء يعطي الإنسان الأمن يوم القيامة وهو اليوم الذي تقف فيه الخلائق أمام خالقها للحساب صفّاً صفّاً وفي الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «كلّ عين باكية يوم القيامة غير ثلاث: عين سهرت في سبيل الله، وعين فاضت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله» (6).
"وقال موسى (عليه السلام): يا إلهي فما جزاء من دمعت عينه من خشيتك؟ قال تعالى: يا موسى أقي وجهه من حرّ النّار، وآمنه يوم الفزع الأكبر" (7).
ولربّما قطرة من دمع جرت خشية لله تعالى وخوفاً من يوم الحساب تطفىء على قلّتها بحاراً من نار.
ولربّما يكون بكاء العبد في أمّة أو مدينة سبباً لرحمة تلك الأمة بفضل بكائه قال الإمام الباقر (عليه السلام): «ما من شيء إلّا وله وزن أو ثواب إلّا الدموع، فإنّ القطرة تطفىء البحار من النار، فإن اغرورقت عيناه بمائها حرّم الله سائر جسده على النار، وإن سالت الدموع على خدّيه لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة، ولو أنّ عبداً بكى في أمّة لرحمها الله» (8).
وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) أيضاً: «.. وإنّ الباكي ليبكي من خشية الله في أمّة فيرحم الله تلك الأمّة ببكاء ذلك المؤمن فيها» (9).
وأقرب ما يكون العبد إلى الخشية من الله تعالى وهو ساجد يبكي، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ أبي كان يقول: أقرب ما يكون العبد من الربّ وهو ساجد يبكي» (10).
أراقد أنت أم رامق:
عن حبّة العرنيّ قال بينا أنا ونوف نائمَينِ في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين (عليه السلام) في بقيّة من الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] قال: ثمّ جعل يقرأ هذه الآيات ويمرّ شبه الطائر عقله. فقال لي: أراقد أنت يا حبّة أم رامق؟ قال: قلت: رامق هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن. قال: فأرخى عينيه ثمّ بكى ثم قال لي: يا حبّة ولنا بين يديه موقفاً لا يخفى عليه شيء من أعمالنا يا حبّة إنّ الله أقرب إليّ وإليك من حبل الوريد يا حبّة إنّه لا يحجبني ولا إيّاك عن الله شيء.
قال: ثمّ قال: أراقد أنت يا نوف، قال: لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد وقد أطلت بكائي هذه الليلة.
فقال: يا نوف إن طال بكاؤك في هذه الليلة مخافة من الله تعالى قرّت عيناك غداً بين يدي الله عزّ وجلّ.
يا نوف إنّه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية الله إلّا أطفأت بحاراً من النيران، إنّه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله تعالى من رجل بكى من خشية الله تعالى وأحبّ في الله وأبغض في الله.
يا نوف إنّه مَن أحبّ في الله لم يستأثر على محبّته، ومَن أبغض في الله لم ينل ببغضه خيراً عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان..» (11).
بكاء المواساة:
ثالثا: البكاء يساعد على توثيق العلاقة بين الإنسان ومجتمعه وذلك بمشاركة الأصدقاء والأصحاب أحزانهم ومواساتهم، فإنّ الذي يهمّه أمر النّاس هو ذلك الذي يبكي لآلامهم ومصائبهم، وبما أنّ النّاس تنجذب نحو مَن يواسيهم في محنهم ويشاركهم أفراحهم ومصائبهم لذا تتولّد علائق وثيقة بين أبناء المجتمع وتؤدّي إلى تماسكه وترابطه المتين، وقد ارتبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصحابه ارتباطاً وثيقاً وواساهم في كلّ أمورهم حتّى المحزنة منها فبكى لاستشهاد حمزة (عليه السلام) في معركة «أحد» ولاستشهاد جعفر الطيّار (عليه السلام) وغيرهم من الأصحاب ليوثّق العلائق الودّية بين أصحابه ومن خلال هذا العمل استطاع الإسلام أن يقف راسخاً بمبادئه الحقّة وينتشر انتشاراً واسعاً لما فيه من أواصر عظيمة وجليلة يتمنّاها أبناء البشر في مسيرة حياتهم، وبكى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمظلوميّة أبي ذرّ الغفاريّ حين جرى عليه ما جرى من عثمان (12) وبكى (عليه السلام) على المقداد حين شكى إليه جوع أهله (13).
وبكى أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما استأذنه عمّار بن ياسر للقتال في صفّين ولمّا استشهد عمّار جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) رأس عمّار على فخذه ثم بكى وأنشأ يقول:
ألا أيّها الموت الذي ليس تاركي *** أرحني فقد أفنيت كلّ خليل
أراك بصيراً بالذين أحبّهم *** كأنّك تنحو نحوهم بدليل (14).
وبكت الزهراء (عليها السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى طلب منها أهل المدينة الكفّ عن البكاء فكانت تخرج إلى المقابر، مقابر الشهداء فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف.
وبكى الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) على مصرع الإمام الحسين (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة وبكى جميع الأئمة (عليهم السلام) على مصاب الحسين (عليه السلام) وعلى أصحابه المخلصين.
حتّى مولانا صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) بكى جدّه الحسين (عليه السلام) ولا زال يبكي حتّى يحكم الله له بالظهور فيأخذ بثأر المولى سيد الشهداء.
قال في الزيارة الناحية: "فلأندبنّك صباحاً ومساءً ولأبكينّ لك بدل الدموع دماً (15).
ومن هنا أفتى بعض فقهائنا العظام أنّ من المستحبّات الشرعيّة أنّ الإنسان إذا رأى جنازة تحمل في الطريق أن يجلس ويبكي عليها وإن كان لا يعرف صاحبها، وذلك لتأكيد الترابط والتماسك الروحيّ بين المجتمع، وترسيخا لشعور المواساة.
إزالة العقد النفسية:
رابعاً: الأمر الذي يوجده البكاء أيضاً هو تصحيح العلاقة بين الإنسان ونفسه وذلك لأنّ في البكاء كما قلنا فائدة معنويّة وهي رفع العقد النفسيّة بعد تطهير القلب من المعاصي.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «البكاء مِن خشية الله ينير القلب ويعصم من معاودة الذنب» (16).
وأيضاً البكاء دواء لجسد الإنسان كما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): للمفضّل: «واعرف يا مفضّل ما للأطفال في البكاء من المنفعة. واعلم أنّ في أدمغة الأطفال رطوبة، إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثاً جليلة وعللاً عظيمة، من ذهاب البصر وغيره، والبكاء يسيل تلك الرطوبة من رؤوسهم فيعقبهم ذلك الصحّة في أبدانهم والسلامة في أبصارهم» (17).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من علامات الشقاء جمود العين وقسوة القلب» (18).
وهذه بعض الفوائد التي يوجدها البكاء المعنوي في تكوين علاقة مع الخالق تعالى والخشية منه وتوثيق العلاقة مع المجتمع وإزالة العقد النفسيّة فإنّها معانٍ كبيرة تشمل جميع مفردات حياة الإنسان ولو فهمها الناس وعرفوا قدرها لسعوا دائماً إلى فعل الخير وعمل الفضيلة للفوز بالكمال والسعادة.
مظاهر وعلامات:
تلك كانت فوائد البكاء ودوافعه وأيضاً للبكاء مظاهر وعلامات عدّة منها:
العاطفة:
1 - البكاء مظهر للعاطفة:
وبيان ذلك أنّ العاطفة حالة نفسانيّة لا يمكن مشاهدتها أو الإحساس بها إلّا من خلال المظاهر الحسّية كالخشية والشفقة والرحمة والشجاعة، وتتميّز العاطفة بميزتين:
أ- يتأثّر القلب بها وتحصل له تغيرات أثناء بروز الحالة العاطفيّة يصفها العلماء «تدرك ولا توصف» وهو ما يسمّى في علم الطب «بالإنقباض القلبي» أو ما نسمّيه بالانفعالات نتيجة عروض حالات محزنة أو مخيفة أو محببة على النفس فيتأثّر بها القلب وينفعل مع التفاوت في الظهور بحسب الزمان والمكان والأفراد إذ إنّ البعض تجذبه المناظر الخلّابة بسرعة ويظهر أثر ارتياحه واضحاً والبعض الآخر يتأثّر بنسبة أقل.
ب - الميزة الثانية سريان أثر العاطفة إلى الآخرين كما لو سمع إنسان بأخبار مفرحة عن أحبائه فيتأثّر بذلك ويفرح لهم وكذلك لو سمع بأخبار محزنة فإنّه يغتمّ بذلك وهذه الحالة كثيراً ما يتأثّر بها الجنود في مواقع القتال وساحات الحرب فإذا ما أصاب الرعب جمعاً منهم انتقل سريعاً إلى الآخرين وعلى العكس، فإنّ الأشعار الحماسيّة وإشاعة أخبار النصر بينهم تثبتهم في مواقعهم
فالذي يبكي إذن يتبيّن أنّ عنده حالة نفسيّة تأثّر بها وعبّر عنها بالبكاء وأنّ ذلك الإنسان يمتلك العاطفة، والعاطفة ممدوحة بالإسلام بحدود الرابطة بين الإنسان وربّه وأهله وأصحابه ومجتمعه لا من أجل فوات مصلحة دنيويّة، كما أنّ جمود العين علامة على قسوة القلب وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما جفّت الدموع إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب» (19).
فيبدو أنّ البكاء مظهر لرقة القلوب وعدم البكاء مظهر لقسوتها فالإسلام مدح البكاء بما هو مظهر للتخلص من الذنوب ورقة القلوب وذم جمود العين بما هو مظهر لعدم رقتها وقسوتها.
قسوة القلب:
من الذين قست قلوبهم لكثرة ذنوبهم ولم يعرفوا مكاناً للعاطفة: المنصور العباسيّ لقد سلبت الرحمة من قلبه فلا يعرف لها فيه موضعاً، وكان يقف أمام المشاهد المحزنة موقف رجل لا تؤلمه مناظر البؤس أو تزعجه مواقف الشقاء. يمرّ موكبه عندما أراد الحج بابنة عبد الله بن الحسن (عليه السلام) وكان أبوها تحت أسره وقد حمل مع من حمل من العلويّين فأرادت استعطافه، والرفق بحال أبيها فأنشأت تقول:
ارحم كبيراً سنّه متهدم *** في السجن بين سلاسل وقيود
وارحم صغار بني يزيد إنّهم *** يتّموا لفقدك لا لفقد يزيد
إن جدت بالرحم القريبة بيننا *** ما جدّنا من جدّكم ببعيد
فكان جواب المنصور:
أذكرتنيه - ثم أمر به، فأحدر في المطبق - أي هدم سقف السجن عليه -وكان آخر العهد به - أي مات ـ » (20).
وهناك الكثير من أمثال هؤلاء الطواغيت من حكّام بني أمية وبني العباس قست قلوبهم فلم تعرف الرحمة نتيجة المعاصي والذنوب واللهو وشرب الخمور.
المظلومية:
2 ـ البكاء مظهر للمظلومية:
والبكاء علامة المظلوميّة وشعارها الصامت وهو أفضل وسيلة أيضاً لتحريك عواطف الناس سواءً كان التحريك لأجل الحق أو للباطل. وقد استخدمه أعداء أهل البيت (عليهم السلام) في إثارة عواطف الناس البسطاء وتأليبهم للباطل فقد استخدم طلحة والزبير وعائشة البكاء لتأليب الناس على أمير المؤمنين. فقد جاء في كتب التاريخ:
عن ابن أبي مليكة قال: خرج الزبير وطلحة فضلاً ثم خرجت عائشة فتبعها أمهات المؤمنين إلى (ذات عرق) فلم ير يوم كان أكثر باكياً على الإسلام أو باكياً له من ذلك اليوم. كان يسمّى (يوم النحيب) (21).
وكان بفضل إثارتهم للعواطف بالبكاء أن زاد عدد جيشهم من الألف إلى ثلاثة آلاف.
وهكذا فعل معاوية، قال نصر: فلما نزل علي النخيلة متوجهاً إلى الشام وبلغ معاوية خبره وهو يومئذ بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مختضباً بالدم وحوّل المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله، فخطبهم وحثّهم على القتال فأعطوه الطاعة وانقادوا له وجمع إليه أطرافه واستعدّ للقاء علي (عليه السلام) (22).
فللبكاء إذن الأثر المهم في الإعلام لإثارته العواطف فهو سلاح ذو حدّين فقد يستعمله المغرضون لأغراضهم الباطلة وقد يستخدم لنصرة الحق كما هو بكاء الزهراء (سلام الله عليها) بعد رحيل أبيها (صلى الله عليه وآله) لبيان مظلومية أمير المؤمنين (عليه السلام).
وبكى الإمام السجاد (عليه السلام) مدّة طويلة لبيان مظلوميّة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «بكى علي بن الحسين (عليه السلام) عشرين سنة وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إنّي أخاف أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة.
وفي رواية: أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: «ويحك إنّ يعقوب النبي (صلى الله عليه وآله) كان له اثنا عشر ابناً فغيّب الله واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي، وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟!» (23).
البكاء على الحسين (عليه السلام):
أمّا مسألة البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فقد جاءت بياناً وإعلاماً لمظلوميّة كاملة ولكن من أجل إحقاق الحق فلم تكن ثورة الحسين (عليه السلام) لأجل منصب أو مصلحة شخصيّة أو ما شابه وإنّما كانت ثورة لتصحيح المسار ولإنقاذ البشر من الضلال إلى الحق وإرساء دعائم الحرية بل هي أمر إلهي، والبكاء عليها فيه الثواب العظيم وغفران الذنوب فقد روى أبو حمزة الثمالي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (عليهما السلام) فإنّه فيه مأجور» (24).
فبكاؤنا على الإمام الحسين (عليه السلام) من أجل عقد رابطة عاطفيّة وروحيّة، ونفسيّة بيننا وبين الإمام الحسين (عليه السلام) أو بين مبادىء الإمام (عليه السلام) لأنّ في قضية الإمام الحسين جانبين من العاطفة:
1 - جانب المأساة.
2 - جانب الحقوق الضائعة.
لذا يقول الإمام الحسين (عليه السلام): «أنا قتيل العبرة» (25).
وهذه الدمعة المسكوبة لها قيمة كبيرة روحيّاً وعاطفيّاً؛ لأنّها تأتي نتيجة انشداد بين الباكين وبين الحق المضيع والانزجار عن الباطل فهي مرتبطة دائماً بقضيّة مبدئيّة وقضيّة دينيّة لأجل بيان مظلوميّة كاملة تعرّض لها الإسلام وتعرّض لها الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم في فاجعة تاريخيّة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً قتل فيها ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبناؤه وأصحابه رضوان الله عليهم ومُثّل بأجسادهم وقُتل فيها أطفال ونساء عطاش غرباء، وحُملت رؤوسهم على الرماح وسُبيت نساؤهم، كلّ ذلك ليس من أجل مصالحهم وإنّما من أجل أمّتهم وعقيدتهم ومن حقّهم علينا أن نحزن عليهم ونجزع بالبكاء لنرتبط بهم ونردّ لهم الجميل ومن هنا جاءت كلمات مولاتنا العقيلة زينب الكبرى ليزيد بن معاوية وهي سبية: "كد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا يدحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيّامك إلا عدد وجمعك إلا بدد» (26).
والتاريخ حفظ لها هذه الكلمات وسطرها لصحة ما جاء فيها إذ إنّ الواقعة الحسينيّة تعيش في قلوب الناس وذكراها لا تنمحي من صدورهم وأصحابها مخلدون مبدئاً وعقيدةً وجسداً وها هي المقامات الشريفة لهم شامخة وتحيط بها الناس من كلّ جانب وتصرف الأموال وتبذل النفوس من أجل التبرك بها، أمّا أعداؤهم الذين اتّخذوا عواطف الناس والبكاء من أجل مصالحهم فهم إلى بدد فأين طلحة؟ وأين الزبير؟ وأين معاوية لعنة الله عليه؟ وأين يزيد لعنة الله عليه؟ وأين عمر بن سعد لعنة الله عليه؟ لم يذكرهم التاريخ إلا باللعن والسخرية فهذا هو الباطل دائماً إلى زوال وإن كانت له قوة فهي آنيّة سرعان ما تنكشف للناس وتضمحل.
إقامة المجالس الحسينية:
«روي أنّه لمّا أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة (عليها السلام) بقتل ولدها الحسين (عليه السلام) وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة بكاء شديداً، وقالت يا أبت متى يكون ذلك؟ قال: في زمان خالٍ منّي ومنك، ومن علي، فاشتد بكاؤها وقالت: يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي: يا فاطمة إنّ نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل، في كلّ سنة فإذا كان القيامة تشفعين أنتِ للنساء وأنا أشفع للرجال وكلّ من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنّة، يا فاطمة كلّ عين باكية يوم القيامة، إلّا عين بكت على مصاب الحسين فإنّها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة» (27).
فيا لها من بشرى لمن يعظّم شعائر الله تعالى ويقيم العزاء يبكي.. على الإمام المظلوم فقد بكته الملائكة والأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
«عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي، قال: فأنشدته فبكى ثم أنشدته فبكى قال: فوالله ما زلت أنشده ويبكي حتّى سمعت البكاء من الدار..» (28).
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «.. إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام» (29).
وبكاء الأئمة (عليهم السلام) وبكاء المحبّين لهم ولمصيبة الحسين (عليه السلام) هو مظهر من مظاهر إنكار الباطل واتّباع الحقّ والسير على نهج أهل الحق والولاية سلام الله عليهم أجمعين ولا ريبَ ولا شكَّ أن هذا البكاء يعدّ إعلاماً للمظلوميّة الحقّة وانتصاراً لها.
فطوبى لمَن بكت عيناه من خشية الله تعالى وجزعاً لمصاب الحسين (عليه السلام) وطوبى لمَن بكى على ذنب اقترفه ولم يعلم به أحد سوى الله تعالى فإنّ هذه الصورة ينظر لها سبحانه وتعالى بكلّ رحمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تحف العقول: ص15.
(2) هذا المعنى مرويّ عن الإمامَين الباقر والصادق (عليهما السلام): راجع مجمع البيان، المجلّد الرابع، ص 3.
(3) راجع مجمع البيان: المجلّد الثالث، ص 291، وفي معنى طوبى معانٍ عشرة وما ذكرناه هو المرويّ عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام).
(4) تفسير الصافي: ج 1، ص 353، ط ـ الأعلمي، سورة آل عمران؛ الآية: 136 (بتصرّف).
(5) البحار: ج90، ص 332، باب 19، ح 17، ط ـ بيروت.
(6) البحار: ج 7، ص 195، باب 8، ح 62، ط ـ بيروت.
(7) روضة الواعظين: ج2، ص 451، مجلس في ذكر الحزن والبكاء.
(8) البحار: ج9، ص 335، باب 19، ح 28، ط ـ بيروت.
(9) المصدر السابق: ح 29.
(10) المصدر السابق: ص 334، ح25.
(11) سفينة البحار: ج 1، ص 95، باب بكى.
(12) البحار: ج 22، ص 397، باب 12، راجع تمام الحديث.
(13) سفينة البحار: ج 1، ص 96، باب بكى.
(14) البحار: ج33، ص 19، باب 13، ط ـ بيروت.
(15) زيارة الناحية المقدسة.
(16) تصنيف غرر الحكم: ص 192، ط 1.
(17) توحيد المفضّل: ص 16، ط ـ بيروت.
(18) البحار: ج67، ص 52، باب 44، ح1.
(19) البحار: ج 70، ص 354، باب 137، ح 60.
(20) الإمام الصادق (عليه السلام) والمذاهب الأربعة: ج 1، ص 43.
(21) البحار: ج 32، ص 145.
(22) البحار: المجلّد 32، ص 416، باب بغي معاوية ط ـ بيروت.
(23) البحار: ج 46، ص 108، باب 6، ح 1، ط ـ بيروت.
(24) البحار: ج 44، ص 291، باب 34، ح 32.
(25) المصدر نفسه: ص280، ح12.
(26) المجالس السنيّة: ج1، ص 147، المجلس 85.
(27) البحار: ج 44، ص 293، باب 34، ح 37.
(28) نفس المصدر: ص 282.
(29) نفس المصدر: ص 284.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|