في استحباب الاكتساب
المؤلف:
الشيخ عبد الله المامقاني
المصدر:
مرآة الكمال
الجزء والصفحة:
ج2/ ص107-112
2025-06-08
793
إنّه لا ريب في استحباب الاكتساب ، وطلب الرّزق الحلال ، ورجحانه شرعا ، وعقلا ، وقد ورد الأمر به في آيات عديدة ، وكفاك منها قوله عزّ من قائل[1] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[2]، وأيضا فهو عمل الأنبياء ، وأوصيائهم والأولياء ، فقد روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ آدم عليه السّلام كان حرّاثا ، وإدريس عليه السّلام خيّاطا ، ونوح عليه السّلام نجّارا ، وهود عليه السّلام تاجرا ، وإبراهيم عليه السّلام راعيا أو زارعا ، وداود عليه السّلام زرّادا ، وسليمان عليه السّلام خوّاصا ، وموسى عليه السّلام أجيرا راعيا ، وعيسى عليه السّلام سيّاحا ، وشعيب عليه السّلام راعيا ، ولوط عليه السّلام زراعا ، وأمير المؤمنين عليه السّلام كذلك ، وكان النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عاملا لخديجة ، وسلمان خوّاصا ، وميثم تمّارا . . وهكذا .
والنصوص في فضل طلب الرزق متجاوزة عن حدّ التواتر ، وقد روى الصّادقان عليهما السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال : العبادة سبعون جزءا ، أفضلها طلب الحلال[3]. وفي عدّة أخبار أنّ التّجارة تزيد العقل[4]، وتركها يذهب المال ، وينقص العقل ويقلّله[5].
وورد الحثّ على التّجارة حتّى مع وجود ما يكفيه مدّة العمر العادي ، معلّلا بأنّ ترك التّجارة مذهب للعقل[6]. وقال الصّادق عليه السّلام لمن كفّ عن التّجارة لوجود ما يكفيه عنده : انّه كذلك تذهب أموالكم ، لا تكفّوا التّجارة ، والتمسوا من فضل اللّه عزّ وجلّ[7]. وقال عليه السّلام : إن رأيت الصّفين قد التقيا فلا تدع طلب الرّزق في ذلك اليوم[8]. وروى مولانا الباقر عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم انّه قال : البركة عشرة أجزاء ، تسعة أعشارها في التّجارة ، والعشر الباقي في الجلود ، يعنى الغنم[9].
وورد انّ التّاجر الّذي يترك التّجارة ويمضي إلى الصّلاة في وقتها أعظم أجرا من غير التّاجر إذا حضر الصّلاة في وقتها[10]. وعن أبي جعفر عليه السّلام انّه قال : من طلب الدّنيا استعفافا عن النّاس وسعيا عن أهله وتعطّفا على جاره لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر[11].
وعن أبي الحسن موسى عليه السّلام انّه قال : من طلب الرّزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه[12].
وعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : إنّ من بات كالا من طلب الحلال بات مغفورا له[13].
ويستحبّ الاستعانة بالدّنيا على الآخرة ، ففي عدّة أخبار عن الصّادق عليه السّلام أنّه قال : نعم العون الدّنيا على الآخرة[14]. وعنه عليه السّلام انّه قال : لا خير فيمن لا يحبّ جمع المال من حلال ، يكفّ به وجهه ، ويقضي به دينه ، ويصل به رحمه[15].
ثمّ لا يخفى عليك أنّه ليس الكسب وجمع المال وصرفه على العيال ووفاء الدّين وصلة الرّحم ونحو ذلك من طلب الدّنيا المذموم . فقد ورد أنّ محمّد بن المنكدر خرج إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقى مولانا الباقر عليه السّلام - وكان عليه السّلام رجلا بادنا ثقيلا - وهو متكّي على غلامين أسودين أو موليين وهو يتصابّ عرقا ، فقال له : أصلحك اللّه شيخ من أشياخ قريش في هذه السّاعة على هذه الحالة في طلب الدّنيا ؟ ! أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ؟ ! فقال عليه السّلام : لو جاءني الموت وأنا على مثل هذه الحالة جاءني وانا في طاعة من طاعة اللّه عزّ وجلّ ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن النّاس ، وانّما كنت أخاف لو أن جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه ، فقال : صدقت يرحمك اللّه ، أردت أن أعظك فوعظتني[16].
وقال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام : إنّا لنطلب الدّنيا ونحبّ أن نؤتاها .
فقال : تحبّ أن تصنع بها ما ذا ؟ فقال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصدّ بها ، وأتصدّق بها ، وأحجّ وأعتمر . فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام : ليس هذا طلب الدّنيا ، هذا طلب الآخرة[17].
بل يكره ترك طلب الرّزق للنّواهي الأكيدة عنه ، وعدّهم عليهم السّلام تارك طلب الرّزق - وان اشتغل بعبادة اللّه عزّ وجلّ والصّلاة والصّوم معتمدا في الرّزق على الرّبّ تعالى - من الّذين لا تستجاب لهم حاجة[18]، مشيرا بذلك إلى قول النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : انّ أصنافا من أمّتي لا يستجاب لهم دعاؤهم : رجل يدعو على والديه ، ورجل يدعو على غريم ذهب له بماله فلم يكتب له ولم يشهد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل اللّه عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده ، ورجل يقعد في بيته ويقول : يا ربّ ارزقني ، ولا يخرج ولا يطلب الرّزق ، فيقول اللّه عزّ وجلّ : عبدي ألم أجعل لك السّبيل إلى الطّلب والضّرب في الأرض بجوارح صحيحة ، فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطّلب لاتّباع أمري ، ولكيلا تكون كلّا على أهلك ، فان شئت رزقتك ، وإن شئت قتّرت عليك ، وأنت غير معذور عندي ؟ ! ورجل رزقه[19] اللّه مالا كثيرا فأنفقه ثمّ أقبل يدعو : يا ربّ ارزقني ، فيقول اللّه عزّ وجلّ : ألم أرزقك رزقا واسعا ؟
فهلا اقتصدت فيه كما أمرتك ، ولم تسرف ، وقد نهيتك عن الإسراف ، ورجل يدعو في قطيعة رحم[20].
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في فضل طلب الرّزق الحلال والتّكسّب للصّرف في الطّاعات ، والحثّ عليه ، لكن ذلك انّما هو في حقّ غير طالب العلم ، وامّا هو فليس عليه إلّا أن يتوكّل على اللّه ، ويفوّض أمره إليه ، ولا يعتمد على الأسباب فيوكل إليها ، وتكون وبالا عليه ، ولا على أحد من خلق اللّه تعالى ، بل يلقي مقاليد أمره إلى اللّه سبحانه في الرّزق وغيره ، فإنّه إن فعل ذلك ظهرت له من نفحات قدسه ولحظات أنسه ما يقوم به أوده ، ويحصل مطلبه ، ويصلح به أمره . وقد ورد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّ اللّه تعالى قد تكفّل لطالب العلم رزقه خاصّة عمّا ضمنه لغيره ، بمعنى أنّ غيره محتاج إلى السعي على الرّزق حتّى يحصّله غالبا ، وطالب العلم لا يكلّفه اللّه تعالى بذلك ، بل بطلب العلم ، وكفاه مؤونة الرّزق إذا أحسن النّيّة وأخلص العزيمة ، وقد فسّر قوله عزّ وجلّ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[21] بطالب العلم .
[1] سورة الجمعة آية : 10 .
[2] مجمع البيان : 5 / 289 عن الصادق عليه السّلام قال : انّي لأركب في الحاجة التي كفاها اللّه ، ما اركب فيها الّا التماس ان يراني اللّه أضحى في طلب الحلال ، أما تسمع قول اللّه عزّ اسمه : فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أرأيت لو انّ رجلا دخل بيتا وطيّن عليه بابه ، ثم قال رزقي ينزل عليّ ، كان يكون هذا ؟ ! اما انّه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم ، قال : قلت من هؤلاء الثلاثة ؟ قال : رجل تكون عنده امرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له ، لأنّ عصمتها في يده لو شاء ان يخلّي سبيلها لخلّى سبيلها ، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقّه ، فيدعو عليه فلا يستجاب له ، لأنه ترك ما أمر به ، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله ، فيدعو فلا يستجاب له . وفي الكافي : 5 / 73 باب ما يجب من الاقتداء بالأئمة في التعرض للرزق بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : انّ محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت اظنّ [ أرى خ ل ] انّ علي بن الحسين عليهما السّلام يدع خلقا أفضل منه حتى رأيت محمد بن علي عليهما السّلام فأردت أن أعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بايّ شئ وعظك ؟ فقال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر محمد بن علي عليهما السّلام - وكان رجلا بادنا ثقيلا وهو متّكي على غلامين أسودين أو موليين - فقلت في نفسي : سبحان اللّه ! شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا ، اما انّي لأعظنّه ، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ عليّ بنهر ( ببهر خ ل ) وهو يتصابّ عرقا ، فقلت : أصلحك اللّه ! شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا ، لرأيت لو جاء اجلك وأنت على هذه الحال ، فقال : لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة اللّه عزّ وجلّ ، اكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس ، وانّما كنت أخاف لو أن جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه ، فقلت : صدقت يرحمك اللّه ، أردت أن أعظك فوعظتني .
[3] الكافي : 5 / 78 باب الحث على الطلب والتعرض للرزق حديث 6 .
[4] الكافي : 5 / 148 باب فضل التجارة حديث 2 .
[5] التهذيب : 7 / 3 باب 1 حديث 1 و 2 ، والكافي : 5 / 148 باب فضل التجارة حديث 4 .
[6] الكافي : 5 / 148 باب فضل التجارة والمواظبة عليها حديث 6 .
[7] الكافي : 5 / 149 باب فضل التجارة والمواظبة عليها حديث 11 .
[8] الكافي : 5 / 78 باب الحث على الطلب والتعرض للرزق حديث 7 .
[9] الخصال : 2 / 445 البركة في عشرة أجزاء حديث 44 .
[10] الفقيه : 3 / 119 باب 61 برقم 508 .
[11] ثواب الأعمال / 215 ثواب طلب الدنيا استعفافا عن الناس حديث 2 . والكافي : 5 / 78 باب الحث على الطلب والتعرض للرزق حديث 5 .
[12] الكافي : 5 / 88 باب من كدّ على عياله حديث 1 و 2 و 3 .
[13] وسائل الشيعة : 12 / 13 باب 4 حديث 16 .
[14] الكافي : 5 / 72 باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة حديث 8 .
[15] الكافي : 5 / 72 باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة حديث 5 .
[16] الكافي : 5 / 73 باب ما يجب من الاقتداء بالأئمة عليهم السّلام في التعرض للرزق حديث 1 .
[17] الكافي : 5 / 72 باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة حديث 10 .
[18] الكافي : 5 / 84 باب الرزق من حيث لا يحتسب حديث 5 .
[20] وسائل الشيعة : 12 / 15 باب 5 حديث 6 .
[21] سورة الطلاق آية : 2 و 3 .
الاكثر قراءة في أخلاقيات عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة