أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-09-2015
2762
التاريخ: 26-03-2015
4806
التاريخ: 26-03-2015
1552
التاريخ: 26-03-2015
3173
|
وهو
أن يأتي الكلام متحدرا كتحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ، حتى يكون
للجملة من المنثور والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس
لغيره، مع خلوه من البديع، وبعده عن التصنيع. وأكثر ما يقع الانسجام غير مقصود،
كمثل الكلام المتزن الذي تأتى به الفصاحة في ضمن النثر عفواً كمثال أشطار، وأنصاف،
وأبيات وقعت في أثناء الكتاب العزيز ورويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن وقع
من ذلك في غير القرآن بيتان فصاعداً سمى ذلك شعراً وإن لم يقصد، وأما القرآن
العزيز فلم يقع فيه إلا مثال النصف، أو البيت الواحد، والبيت المفرد لا يسمى
شعراً، وعلى ذلك أدلة لا يتسع هذا المكان لذكرها، وقد أتيت بها مستقصاة في كتابي
المنعوت بالميزان الذي شرعت في عمله، أرجح فيه بين كلام قدامة وبين كلام خصومة،
ولم يتكلم.
ومثال
الانسجام الذي وقع في الأشعار المقصودة قول الإمام أبي تمام: [بسيط]
إن
شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح
الطلل
وكقوله
أيضاً [كامل]:
نقل
فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وكقول
البحتري [طويل]:
فيا
لائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين، وأخرى قبلها لتجنب
تحاول
مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهباً غير مذهبي
وكقول
إسحاق بن إبراهيم الموصلي [طويل]:
على
عصر أيام الصبابة والصبا ... ووصل الغواني والتذاذي
بالشرب
سلام
امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة
القلب
ومن
هذا الباب للمتقدمين أكثر لامية الشنفري كقوله [طويل]:
وفي
الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى
متحول
وكقول
امرئ القيس [طويل]:
أغرك
مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمر القلب يفعل
ولم
أسمع في الانسجام كقول عبد الصمد بن المعذل يرثي الأمير سعيد بن سلم بقوله [خفيف]:
كم
يتيم خبرته بعد يتم ... وعديم نعشته بعد عدم
كلما
عضت الحوادث نادى ... رضي الله عن سعيد بن سلم
والبيت
الثاني أردت.
وكقول
شاعر الحماسة [طويل]:
ألا
ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع
من الأمر
قضى
الله حب المالكية فاصطبر ... عليه، فقد تجري الأمور
على قدر
وقد
يحصل الانسجام مع البديع الذي أتت به القريحة عفواً من غير استدعاء ولا كلفة، كقول
أبي تمام [بسيط]:
إن
شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح
الطلل
فأنت
ترى انسجام هذا الكلام مع كون البيت قد وقع فيه المبالغة، والتعليق، والإشارة،
فإنه علق عدم صبر المصطبرين برؤية الطلل على تلك الحالة، وأشار بقوله: على
أي حال أصبح الطلل إلى أحوال كثيرة لو عبر عنها بلفظها لاحتاجت إلى ألفاظ
كثيرة، وعلق أحد الأمرين بالآخر، إذ جاء بلفظ الشرط والمشروط.
ومن
الانسجام في الكتاب العزيز قوله تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ) والآية التي بعدها. وقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)،
وقوله
سبحانه: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وأكثر القرآن من شواهد هذا
الباب.
ومن
الانسجام في السنة قول رسول الله صلى الله عليه[وآله] وسلم في وصف القرآن:
إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجراً، وسنة خالية ومثلاً مضرباً، فيه نبأكم،
وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول المدد، ولا تنقضي
عجائبه، هو الحق، ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن
قسم به أقسط ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من
غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنور المبين،
والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن
ابتعه، لا يعوج فيقوم، ولا يريغ فيستعتب .
فانظر
إلى انسجام هذه العبارة وما جاء فيها من البديع غير مقصود، تشهد الخواطر السليمة
أنه كلام مسترسل غير مرو ولا مفكر، فصلوات الله وسلامه على من بعث بجوامع الكلم،
وأوتى هذه الفصاحة الرائعة، وعلى آله وصحبه وسلم.