أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-7-2022
1474
التاريخ: 7-11-2017
3930
التاريخ: 2-04-2015
4074
التاريخ: 2024-08-17
245
|
مقدّمة التحقيق:[1]
الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيّين، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم ومن والاهم أجمعين، من الآن إلى قيام يوم الدّين.
أمّا بعد..
الحديث عن السياسة والسياسيّين، بالمفهوم العامّ والمطلق وعلى مرّ العصور، يعني الحديث عن تجاذبات ومشادّات واختلافات في وجهات النظر المتباينة بين هذا وذاك، سواء بين جماعتين مختلفتين، أو بين أنصار الجماعة الواحدة، وذلك بسبب الاختلاف الحاصل في الآراء والأفكار والرؤى التي تتبنّاها كلّ جهة أو كلّ شخص.
ومن أجل أن يمرّر كلّ طرف سياسته الخاصّة، أو يفرض آراءه ومعتقداته وأفكاره، عليه أن يعتمد على مبدأ المناورة والتلاعب بالألفاظ، وقد يصل الأمر أحياناً إلى حدّ التنازل عن القيم والمبادئ التي يؤمن بها، واعتماد مبدأ (الغاية تبرِّر الوسيلة) من أجل الوصول إلى ما يصبو إليه.
وقد نقل لنا التاريخ القديم والحديث كيف أنّ الذين اشتغلوا بالأُمور السياسيّة والقضايا السلطويّة كانت لهم أساليب وطرق نستطيع أن نعدّها غير شرعيّة - والمقصود بغير الشرعيّة هنا إمّا أن تكون مخالفة للشرائع السماويّة، أو للقوانين الوضعيّة المانعة لمثل هذه الأساليب، وهذا ممّا يمكن القول عنه بالمصطلح الرياضيّ الحديث: "الضرب تحت الحزام" - للوصول إلى المناصب العليا والتبختر ببهرج السلطة والصول.
وهذه السياسات المتّبعة للوصول إلى السلطة وسدّة الحكم تدفع بالفرد إلى التشبّث بها والاستماتة من أجلها، ولو كان الثمن هو تحوّله إلى "دكتاتور" ومجرم وقاتل للنفس المحترمة ومرتكب لكلّ كبيرة، كما فعل ملوك بني أُميّة وبني العبّاس.
فهذا يزيد بن معاوية ارتكب أبشع الجرائم، واستباح كلّ محرّم، من أجل الحفاظ على تركة أبيه وسلطانه، والجلوس مجلسه، وهذا هارون الرشيد الخليفة العبّاسيّ يقول لابنه وفلذة كبده: "والله لو نازعتني الملك لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم"[2].
وعصرنا الحاضر مليء بمثل هذه الأُمور، فمعظم الثورات والانقلابات - إنْ لم نقل كلّها - التي تحدث هنا وهناك من أنحاء العالم، وبالأخصّ عالمنا العربيّ والإسلاميّ، قوامها القتل والتدمير والعنف وسفك الدماء وإزالة الخصوم والمعارضين لهم بشتّى الوسائل، فكلّ الأُمور التي ذكرناها هي ضمن سلوك وسياسة أُناس عاديّين تتحكّم فيهم الأهواء، انطلاقاً من الأنانيّة، وتؤثّر فيهم المطامع الدنيويّة والمصالح الشخصيّة، وهوى النفس.
أمّا عندما يكون الحديث عن سياسة وسلوك رجل مثل الإمام الحسين عليه السلام, الذي عصمه الله تعالى من كلّ خطأ وزلل، بنصوص قرآنيّة وأحاديث نبويّة شريفة لا تكاد تخفى على ذوي العقول النيّرة والضمائر الحيّة البعيدة عن التعصّب الجاهليّ، فالأمر يكون مختلفاً تماماً.
فالإمام الحسين عليه السلام ليست السلطة مبتغاه، ولا الحكم غاية مناه، فهو كالكعبة يؤتى ولا يأتي، وأفعاله لا تكون انعكاساً لنزواته وشهواته الدنيويّة وأهوائه، أو طبقاً لدوافع عاطفيّة أو عشائريّة ناتجة من خلاف بينه وبين بني أُميّة، أو غيرهم: فإنّ كلّ هذه الأُمور لا تعني عند الإمام الحسين عليه السلام شيئاً، وإنّ ما يعنيه هو:
1- موقفه الشرعيّ من بني أُميّة الّذين تسلّقوا إلى قمّة السلطة، وتربّعوا على كرسيّ الحكم، واتّخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، دون أن يكونوا أهلاً لقيادة هذه الأُمّة. أضف إلى ذلك علمه سلام الله عليه بمدى أثر هذا الأمر على جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لم يُرَ مبتسماً بعد أن أراه الله عزّ وجلّ نَزوَ بني أُميّة على منبره نَزوَ القردة[3].
2- خوفه على مستقبل الإسلام وشريعة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الشريعة التي أصبحت عرضةً للتحريف والتزييف من قبل حكّام الجور والظلم، ولا سيّما بني أُميّة، هذه الشريعة التي ضحّى من أجل تثبيت دعائمها جدّه وأبوه وأخوه، روحي وأرواح العالمين لهم الفداء، فقد قال عليه السلام في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة حين أراد الخروج من المدينة...: "وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام, فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَوْلى بالحقّ، ومَن ردَّ علَيَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين"[4].
ومن هنا, فإنّ سياسة الإمام عليه السلام كانت مدروسة بدقّة، وخطواته كانت بأوامر إلهيّة، فهو ممّن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ قال سلام الله عليه، عندما حاول بعضهم أن يثنيه عن المسير- وذلك لقصور أفكارهم وعدم إدراكهم مقاصده السامية - أو الخروج والمسير دون أخذ العيال والنساء معه، قال: "إنّ الله شاء ذلك، وجدّي أمرني به", وقال عليه السلام مبرِّراً لأخذه العيال معه: "إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا".
فتشكيك المشكّكين بسياسة الإمام عليه السلام ما هو إلّا وجهات نظر ضيّقة لا تتعدّى كونها من أشخاص ينظرون إلى الإمام عليه السلام كنظرتهم لأيّ قائد عسكريّ فاشل، لم يحسب لمعركته مع يزيد بن معاوية الحسابات الدقيقة والصحيحة، دون النظر إلى عصمته ومنزلته ومكانته الإلهيّة.
أو من أشخاص يحاولون تبرير ما قام به حكّام بني أُميّة من تدمير للمبادئ وللقيم السماويّة ومكارم الأخلاق التي بُعِثَ النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ليتمّمها، وضحّى من أجلها بولده وريحانته الحسين عليه السلام.
وبسبب هذه الأفكار القاصرة والرؤى الضيّقة ترانا نسمع، بين حين وآخر، تساؤلات لا ترقى إلى مستوى تضحية الإمام الحسين عليه السلام, تساؤلات لو فكّر بها أصحابها بعيداً عن التعصّب والهوى لكانوا قد وفّروا على أنفسهم عناء البحث عن أجوبة مقنعة لها؛ لأنّ للإمام الحسين عليه السلام سياسة واضحة كوضوح الشمس، لا تحتاج إلى مزيد من التفكير للوصول إلى مغزاها.. فهو عليه السلام لم يستخدم وسائل غير شرعيّة ولا أسلحة محرّمة دوليّاً في حربه من أجل الدفاع عن شريعة جدّه، بل استخدم سلاح التضحية بالنفس - والجود بالنفس أقصى غاية الجود - والأولاد والأموال من أجل رفع كلمة الإسلام وجعلها هي العليا، ودحض كلمة الباطل المتمثّلة بيزيد وأعوانه وجعلها هي السفلى.
ومن بين الّذين وقفوا في وجه هؤلاء المشكّكين - بالأدلّة والبراهين القاطعة- الشيخ كاشف الغطاء قدّس سرّه، الذي عُرف بمواقفه العظيمة في الدفاع عن مذهب ونهج أهل البيت عليهم السلام, من خلال قلمه السيّال، الّذي ما انفكّ يردّ المشكّكين وأصحاب العقول المتحجّرة.
فكانت هذه الرسالة التي بين أيدينا من جملة رسائله التي سارع فيها للدفاع عن حقيقة السياسة الحسينيّة، هذه الحقيقة التي حاولت يد الغدر والخيانة - من أصحاب الأقلام المأجورة من قبل ملوك بني أُميّة وبني العبّاس، ومَن لفّ لفّهم، وإلى يومنا هذا - تشويهها وطمس معالمها، لكي لا يتسنّى للناس معرفة مقدار التضحية العظيمة التي ضحّى بها الإمام الحسين عليه السلام من أجل الحفاظ على بيضة الإسلام، ولكي لا يطّلع الناس على سوءات بني أُميّة.
ونتيجةً لهذه المحاولات الدنيئة نرى أنّ بعض ضعاف النفوس أخذوا يتخبّطون في وصفهم لقيام الإمام الحسين عليه السلام .. فمنهم من جعلها خروجاً عن طاعة الإمام، حتّى ولو كان هذا الإمام جائراً وفاسقاً وفاجراً.
ومنهم من جعلها إلقاءً للنفس بالتهلكة: لأنّه كيف لمثل الحسين وأنصاره الذين لا يتجاوزون السبعين نفراً أن ينتصروا على يزيد وجيش يزيد البالغ- على رأي المقلّين- 18 ألف نفر؟!
ومنهم من جعلها صراعاً على السلطة بين بني هاشم وبين بني أُميّة: لذا لا ينبغي التدخّل في صراع نشب بين أبناء العمومة.
فجاءت هذه الرسالة لتضع حدّاً لهذه الشكوك، ولتزيل الغشاوة عن أعين الناظرين إلى السياسة الحسينيّة، هذه السياسة التي أصبحت منهجاً لكلّ ثوار العالم الذين يرفضون الخضوع للظلم والظالمين على مرّ العصور والقرون.
ترجمة المؤلّف[5]:
هو: الشيخ محمّد حسين بن الشيخ عليّ بن محمّد رضا بن موسى بن الشيخ جعفر- صاحب "كشف الغطاء"- ابن الشيخ خضر بن يحيى، الذي يرجع نسبه إلى مالك الأشتر، وهو من خاصّة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام .
وُلد في النجف الأشرف في العراق سنة 1294 هـ، الموافق 1877 م.
بدأ دارساً المقدّمات - من نحو، وصرف، وبلاغة، ومنطق - على أساتذة هذه العلوم يومذاك في المساجد والمدارس الحاشدة بالجموع الغفيرة من روّاد العلم على اختلاف قوميّاتهم، فقد كانت النجف الأشرف مصدر إشعاع علميّ تشدّ له الرحال من أقطار نائية، وبدأ يتقدّم في هذا الميدان وكأنّه في حلبة سباق يطمح أن يحوز على قصب السبق، وأنهى هذه العلوم في مدّة زمنيّة قياسيّة قلّ نظيرها، وأصبح مؤهّلاً بعد اجتيازه لهذه العلوم - المقدّمات - أن يرقى إلى علم الأُصول الذي هو - في الحقيقة - الجهاز الذي من خلاله يستنبط الفقيه فتاواه لتحديد سلوك مقلّديه وفق الشريعة الإسلاميّة. درس الفقه على فقيهين كبيرين يشهد لهما القاصي والداني بغزارة علمهما، وهما: الملّا رضا الهمدانيّ والسيّد محمّد كاظم اليزديّ، وتتلمذ في الأُصول على الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ، صاحب "كفاية الأُصول"، الذي هو بدوره صاحب مدرسة أُصوليّة.
وافته المنيّة يوم الاثنين18 ذي القعدة1373 هـ، الموافق 1954 م، في إيران، في مدينة (كرند) التي سافر إليها وهو يحمل معه آلام المرض، وحُمل جثمانه من إيران إلى مدينة النجف الأشرف حيث وادي السلام مقبرة النجف الأشرف، ودُفن في قبره الذي أعدّه لنفسه عندما شعر بدنوّ أجله وقرب ساعته.
وأرّخ وفاته الشيخ عليّ البازيّ قائلاً:
مدينةُ العلم بكتْ قطبَها الحجّة العظمى، مثال التقى أبا حليم كيف يجدي البُكا؟ الدينُ قد أصبح ينعاك، والأيّام قد فقدت خيرة تأريخها ومَن إلى الإسلام إنسان عين فقيه شرع، شافع النشأتين عليك والنوح وصفق اليدين؟!
التي بها انجلى كلّ رين وافتقدت فيك الإمام الحسين منهجيّة التحقيق:
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على النسخة المطبوعة في قم، الصادرة عن دار الكتاب للطباعة والنشر، والمطبوعة بالأُوفسيت على نسخة الكتاب الصادرة عن المطبعة الحيدريّة في النجف عام 1368 هـ، واقتصرتُ في ذلك على الخطوات الآتية:
1- ضبط النصّ، من حيث التقطيع والتوزيع والتصحيح.
2- تصحيح الأخطاء المطبعيّة والإملائيّة الواضحة بدون الإشارة إليها.
3- استخراج الآيات القرآنيّة.
4- استخراج النصوص والأقوال الأُخرى الواردة في الرسالة من المصادر المنقولة عنها مباشرة أو بالوساطة، وقد اقتصرت فيها على ذِكرِ بعضِ أهمّ المصادر المخرِّجة لها: إذ لو أردنا التوسّع في ذِكر المصادر لخرج بنا المقام عن هدف الرسالة المؤلّفة لأجله، والتفصيل موكول إلى مظانّه، ممّا أُلّفَ في خصوص منهج وسياسة الإمام أبي عبد الله الحسين، عليه السلام .
5- استخراج الأبيات الشعريّة التي وردت في الرسالة، مع ترجمة مختصرة لقائلها.
6- التعريف ببعض الأعلام والوقائع المذكورة في الرسالة.
7- توضيح المطالب المهمّة، بشرحها والتعليق عليها، أو إحالتها على مصادرها الأصليّة.
8- شرح معاني الكلمات الغامضة والغريبة.
9- أدرجتُ عدّة عناوين لتوضيح رؤوس المطالب، ووضعتها بين العضادتين.
10- ألحقتُ بأصل رسالتنا هذه رسالةً صغيرةً كانت قد وردت إلى الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء، قدّس سرّه، من مدينة مشيغن في أمريكا،بتاريخ شهر ربيع الآخر سنة1358 هـ، من المدعوّ عبد الله برّي، وردّ الشيخ، قدّس سرّه، عليها، الذي كتبه بتاريخ27 ربيع الآخر سنة1358 هـ: المنشورين في كتابه "جنّة المأوى": لصلتهما الوثيقة بموضوع رسالتنا، إتماماً للفائدة.
11- أبقيتُ على الهوامش التي أدرجها الشيخ كاشف الغطاء والسيّد القاضي الطباطبائيّ[6]، وألحقت بالأُولى جملة "منه قدّس سرّه"، وأضفت إليها التخريجات الجديدة وفق المصادر التي اعتمدتها في التحقيق، وجعلتها بين العضادتين.
وفي الختام:
أُسدي جزيل شكري إلى كلّ من أسهم وأعان في نشر هذه الرسالة إلى الملأ العلميّ، ولا سيّما الأخ الشيخ علاء السعيديّ، الذي لفت نظري إلى هذه الرسالة القيّمة وضرورة تحقيقها ونشرها، وإلى سماحة العلّامة السيّد عليّ الخراسانيّ لِما أتحفني به من ملحوظاته النافعة، وإلى الأخ المحقّق السيّد محمّد عليّ الحكيم، الذي أعانني في إبراز الرسالة بما يليق بها.
ولا يفوتني أن أشكر هيئة تحرير مجلّة "تراثنا" لِما بذلوه في هذا المجال..
داعياً المولى العليّ القدير أن يوفّقنا جميعاً لِما فيه خدمة المذهب الحقّ مذهب أهل البيت عليهم السلام, وبثّ علومهم ونشرها، إنّه نِعم المولى والمجيب، وآخر دعوانا أنِ.. "اللّهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة، وفي كلّ ساعة، وليّاً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتّى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتّعه فيها طويلا".
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجبين، وسلّم تسليماً كثيراً.
عليّ جلال باقر الداقوقيّ
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
كتاب الشيخ عبد المهدي مطر
دفع إليَّ[7] حضرة الإمام الحجّة - والدي - دامت بركاته، كتاباً كان قد ورد إليه، هذا نصّه: من الناصريّة، 20 شوّال سنة 1348 هـ.
سيّدي حجّة الإسلام، ومرجع الأنام، آية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء مُدّ ظلّه.
إنّ بعض المواضيع التي ليست بذات أهمّيّة ربّما تعرض عليها عوارض التشكيك وطوارئ النقد فتكون أهمّ نقطة يوجّه إليها السؤال، فالعفو إن كان السؤال في هذا شيء من الركّة في البصيرة، أو الضعف في العارضة، إذا كانت الظروف قد طوّرته إلى هذا الحدّ.
مولاي! يسأل المشكّك أو الناقد عمّا إذا كان الحسين عليه السلام عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء وسبي عياله، فقد عرَّضَ بعِرْضِهِ إلى الهتك، وليس في تعريضه هذا شيء من الحسن العقليّ المعنويّ يوازي قبح الهتك، وكُنْتُ قد أجبتُ: أنّ الهتك فيه مزيد شناعة لأعمال الأُمويّين، لم تكن تحصل بقتل الحسين، عليه السلام, فحسب، وكانت الغاية للحسين عليه السلام في خروجه إطفاء نائرة الأُمويّين، والبروز في المظلوميّة بكلّ مظاهرها، من قتل، وحرق، وسبي.
غير أنّ المشكّك لم يقنع أن تكون وسائل الإطفاء قد قلّت على الحسين، عليه السلام, وهو بذلك المظهر الدينيّ، حتّى احتاج إلى عرض عائلته على الهتك.
فالأمل أن تفيضوا علينا من فيوضات أنواركم وجليّ بيانكم: ليقف المشكّك والناقد على صراط الاعتقاد.
خادمكم عبد المهدي
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
(جواب الشيخ عبد الحليم كاشف الغطاء)
وعلمت أنّ هذا الكتاب من الفاضل الأديب الشيخ عبد المهديّ مطر دام فضله، وبعد أن استوفيته بالنظر أمرني الوالد أن أكتب في هذا الموضوع جواباً عن ذلك السؤال، وأن أعتمد على نفسي بدون الاستعانة بكاتب أو كتاب، إلّا ما يقضي به التاريخ، فكتبت ما يلي: الشكّ علّة البدع، ومنشأ الفساد، واختلاف العقائد، ما من أمر إلّا معرّض له[8]، كثيراً ما يطرأ على فكر المرء فيغيّر مجراه ويفسد عليه معتقده، حتّى من البعيد أن يخلو منه امرؤٌ في هذه الحياة الدنيا: لذلك من الصالح للمرء إزالته بأن ينظر فيه من هو أحصف عقلاً، وأثبت رأياً، وأسمى فكراً.
ومن تلك التي تلاعبت دول الشكّ في أسبابها، وكثر اللغط بها: هي الواقعة الشهيرة، وحقّاً إنّها الواقعة، جلّت وعظمت[9]، وبالحريّ أن تداولتها الشكوك، وتلاعبت بها الأفكار، وشخصت إليها الأنظار.
والآن، فلنداول فكرنا فيها إجابة للطلب، وإن كنّا لسنا من أصحاب الأفكار السامية والآراء الثاقبة، لكنّ الفكر يظهر من الردّ والبدل على نتيجة ناجعة.
فنقول: إنّا إذا نظرنا إلى تاريخ الحروب والوقائع نرى منها ما ظهر باسم الحقّ والواجب الدينيّ، وهي التي تقع بين منتحلي الأديان والفرق وأصحاب الحقوق والسيادة، وهي محلّ البحث ومجال النظر.
ومنها ما ظهر بمظهر حربيّ سياسيّ صرف، وهي الحروب السياسيّة التي تقع بين الأُمم.
وبما أنّ واقعة الطفّ واقعة مذهبيّة داخليّة ظهرت باسم الحقّ والواجب الدينيّ، لا يمكن الغور في البحث عنها إلّا بعد أن نبيّن ذاتيّة الحسين، عليه السلام, من الجهة الدينيّة عندنا، ونجعلها مقياس البحث.
فالمعتقد فيها أنّها ذاتٌ مقدّسةٌ لا يعتبر بها الخطأ والزلل، تَعْلَمُ بالمغيّبات قبل وقوعها بإذن الله، وهذا الاعتقاد هو داعي البحث ومجلس الشكّ.
فالحسين، عليه السلام, كما كان عالماً بقتله في خروجه، كذلك كان عالماً بقتله في بقائه: إذ من المعلوم ما للأُمويّين من الضغائن والأحقاد القديمة على بني هاشم، فهم يتطلّبون أدنى حجّة وفرصة للفتك بهم.
فيزيد[10] الجائر لمّا رأى ما للعلويّين من التعصّب والتصلّب عليه، تأهّب للانتقام، فأوصى جميع ولاته وعمّاله بالحسين، عليه السلام, شرّاً حتّى ولو وُجد متعلِّقاً بأستار الكعبة، لكنّ لين العمّال وتردّدهم في اقتحام مهلكة جهنّميّة كهذه ممّا أمهل الحسين، عليه السلام, أن يصل إلى كربلاء، ولذلك ترى يزيد أكْثَرَ من عزل الولاة والعمّال أيّام الحسين عليه السلام, وأنّ الحسين خاطر الموت قبل أن يصل إلى كربلاء مرّتين، ولكنّ قضاء الله حال دون ذلك:
أوّلاً: في المدينة، وذلك أنّ خالد بن الحكم أو الوليد بن عتبة[11]والي المدينة أرسل إلى الحسين وابن الزبير رسولاً، فذهبا معاً إليه، وكان عنده مروان بن الحكم، فقالا للحسين عليه السلام : بايع!
فقال: "لا خير في بيعة سرّاً".. إلى آخره.
فقال مروان: أُشدد يدك يا رجل فلا يخرج حتّى يبايعك، فإن أبى فاضرب عنقه.
وقال الزبير: قد علمت أنّا كنّا قد أبينا البيعة إذ دعانا إليها معاوية، وفي نفسه علينا ما لا نجهله، ومتى ما نبايعك ليلاً على هذه الحالة ترى أنّك قد أغصبتنا على أنفسنا، دعنا حتّى نصبح وتدعو الناس إلى البيعة فنأتيك ونبايعك بيعة سليمة، ولم يزالا به حتّى خلّى عنهما وخرجا.
فقال مروان: تركتهما؟! والله لن تظفر بمثلها منهما أبداً!
فقال: ويحك! أتشير علَيَّ أن أقتل الحسين؟! فوالله ما يسرّني أنّ لي الدنيا وما فيها، وما أحسب أنّ قاتله يلقى الله بدمه إلّا خفيف الميزان يوم القيامة.
فقال مروان مستهزئاً: إن كنت إنّما تركت ذلك لذلك فقد أصبت[12].
وعلى أثر ذلك عُزل خالد، أو الوليد[13].
ثانياً: لمّا صادف، عليه السلام, الحرّ الرياحيّ وعارضه، وقال له الحسين، عليه السلام : "ثكلتك أُمّك".. إلى آخره[14].
وما ذكرنا ذلك إلّا ليطّلع الناقد على تشدّد يزيد في طلب الحسين، عليه السلام , وأن لا بُدّ من قتله ما دام ممتنعاً!
وبما أنّ القتل كان عند العرب أمراً هيّناً لا أثر له في نفوسهم، آثر الحسين، عليه السلام القتل في خروجه مع الهتك، لِما له من التأثير العظيم على نفوس العرب، ومن العاقبة الوخيمة على بني أُميّة، حذراً من أن يقتل في حرم جدّه، ويذهب دمه هدراً بلا تأثير عظيم على العالم الإسلاميّ، ولا الحصول على شرف خالد يستحقّ تمام الإعظام للعلويّين، أو الحصول به على أتباع يتظلّمون لهم ويتطلّبون بحقوقهم[15]، وأمّا ما قلت من أنّه ليس هناك حسن معنويّ يوازي قبح الهتك..
فهل هناك حسن معنويّ أكبر من تلك المحاسن التي تقدّمت، من شرف خالد، وإظهار مظلوميّته، والحصول على أتباع، إلى غير ذلك؟! والهتك - وإن كان قبيحاً في حدّ ذاته - لم يظهر هنا للعالم بمظهر القبح، بل ظهر بمظهر المظلوميّة.
وأمّا ما قلت: إنّ وسائل الإطفاء لم تك قد قلّت على الحسين، عليه السلام ..
فذلك صحيح، لم تك قد قلّت عليه، لكنّ تلك الوسائل لا تلبث أن يتلاشى أثرها بزوال الحسين كأن لم تك شيئاً: فإنّا إذا نظرنا إلى الوسائل التي يتّخذها الثائر بحدّها تنحصر:
أوّلاً: بوسيلة سياسيّة: دعايةً تكون في بادئ أمرها سلميّة تجعل الأُمّة تستفزّ من تلك الدولة حتّى تثور عليها، وذلك بأن تنشر بينها مثالب تاريخ تلك الدولة وفظائع أعمالها، وهذه لا تكون إلّا بعد مضيّ مدّة من الزمن على الدولة، حتّى تتراكم عليها مثالب التاريخ، وأنّه يحتاج في نشرها وتشكيل جمعيّتها إلى زمن غير قصير، وأنّها تحتاج إلى سياسة ودهاء وكذب، وهذه لا يمكن أن يقوم بها رجل كالحسين، عليه السلام,
ظاهر في أوائل الدولة، مُعَرَّضٌ- بامتناعه عن البيعة - للقتل، غير لائق به الكذب.
ثانياً: بوسيلة حربيّة: وهي تقوم بإشهار السيف، وهي التي لا مَفَرَّ للحسين منها، وهو أن يشهر السيف في مكّة والمدينة، فيذهب مع أصحابه الثائرين من أهل المدينة ليس له أثر في التأريخ عظيم، فإنّه لا يلاقي من تلك الفجائع التي تأخذ بالقسط الأوفر من التأثير على النفوس، فيذهب الحسين في المدينة كما ذهب أصحابه، من عبد الله بن الزبير وغيره من أهل المدينة، لا أثر لهم في صفحات المجد والتأريخ، فقط أنّه يمتاز منهم بما له من الحسب الشريف، وهذا لا يزيد كفّة الميزان شيئاً يُذكر ما لم يباشره شيء آخر.
فيتّضح من ذلك للناقد أن لا سبيل له في الانتقاد على الحسين، عليه السلام, في خروجه، وهو يرى أنّ الوسائل التي بيد الحسين عليه السلام لا تضع أثراً خالداً، ويرى أن لا بُدّ له من القتل، وإذا قتل بصورة بسيطة غير مفجعة لم تؤثّر في النفوس أثراً كبيراً، فنقول: قُتل كأصحابه، وأكثر العرب يموت قتلاً.
وهذا آخر ما تفضّل به عَلَيَّ الفكر: والسلام.
عرض الجواب على الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء
ثمّ إنّي رفعت هذا البيان وعرضته على مطالع والدي، الحجّة السامية، وبعد أن استوفاه بالنظر، قال: إنّه وإن كان على مقربة من الصواب، ولكن لا أحسب أنّ الخصم أو المشكّك يقنع به، ولا تُزاح عنه به العلّة، ولا تنقطع به الخصومة، والمسألة تحتاج إلى تشريح من البيان أوسع من هذا.
ثمّ أوعز بالحضور لديه في أوقات فراغه، والجلسات التي ينتهزها من متراكم أشغاله، بالبحث والمطالعة والتدريس وفصل الخصومات، فأملى علَيَّ في عدّة مجالس عدّة وجوه حاسمة للشبهة، وقاطعة للحجاج، فجاءت رسالة من أبدع ما يكون في بابها، بل هي باكورة الإبداع في موضوعها.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
جواب الشيخ كاشف الغطاء
قال، دامت بركاته وامتدّت فيوضاته:
كَتَبْتَ إليَّ أيّها الفاضل - مدّك الله منه بالعون والعناية - تذكر سؤال الناقد المشكّك عن الحسين، عليه السلام, إذا كان عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء وسبي عياله، فقد عَرَّضَ بِعِرْضِهِ إلى الهتك.
وأنّك أجبت: بـ "أنّ الهتك فيه مزيد شناعة لأعمال الأُمويّين لم تكن تحصل بقتله فحسب"، وذكرت أنّ المشكّك لم يقنع بهذا الجواب، وطلبت منّا جليّ البيان ليقف المشكّك على صراط الاعتقاد.
فنقول والله المستعان:
أوّلاً: إنّ هذا السؤال وأمثاله من البحث والنظر الذي يتمخّض عن الاعتراض والتحدّي لأعمال الأئمّة، بل ولأعمال رسول الله وخلفائه المعصومين سلام الله عليهم، لا موقع له على أُصول مذهبنا معشر الإماميّة، الّذين قادنا الدليل والبرهان إلى القول بعصمة أُولئك النفر المخصوص[16].
فليس عندنا في مناهجهم الخاصّة، وأعمالهم التي تصدر عنهم طول حياتهم بين البشر، إلّا كمثل رَجُل عَرَفَ مِنْهُ المَلِكُ تمام الكَفاءَةِ، وأحْرَزَ مِنْهُ صِدْقَ الطاعةِ، فأرسلَه سفيراً إلى قوم، يَبُثُّ بينهم الدعاية، ويقوم فيهم بالإرشاد والهداية، وزوّده بمناهج مخصوصة، وألزمه أن لا ينحرف عنه قيد شعرة.
ولكلّ واحد من الأنبياء والأئمّة سجلٌّ خاصٌّ به، من بدء قيامه بالسفارة والدعوة إلى منتهى أجله، حسب المصالح ومناسبات الظروف الخاصّة، والحِكَمِ التي اقتضت لذلك المَلِك الحَكيم أن يسجّلها على ذلك السفير، مِن قتل، أو سمّ، أو أسر، أو غير ذلك من قضايا التضحية والمفاداة.
وعبء السؤال وعبء البحث عن تلك الحِكَم والأسرار مطروحٌ عن الرعية، وهو تكلّفٌ زائد، بل ربّما يكون نفس السفير غير واقف عليها تماماً، إنّما يجد في سجلّ أحواله: عليك أن تبذل نفسك للقتل في الوقت الفلاني: فيقول: سمعاً وطاعة: وليس له حقّ السؤال والمراجعة عن الحكمة أو المصلحة بعد أن كان من اليقين على مثل ضوء الشمس أن قضايا ذلك الحَكَم17[17] وعزائِمَهُ كُلَّها مُنبَعِثَةٌ عن أقصى ما يمكن من الصلاح ومعالي الحكمة، ليس في الإمكان أبدع ممّا كان.
وكلّ هذه النظريّات سلسلة عقائد يبتني بعضها على بعض، وكلّها مدعومة بالحجّة والبرهان ممّا تمخّضت عن عقول الفلاسفة وآراء الحكماء من معاهد العلم والتأريخ، وكلّها فروع أصل واحد، ينتهي إليه البحث والجدل، وتنقطع عن الخصومة.
وما هو إلّا إثبات العناية الأزليّة والقوّة القاهرة الشاعرة، وأنّها هي المدبّرة لهذه العوامل، لا الطبيعة العمياء والمادّة الصمّاء الفاقدة للحسّ والشعور[18]، وبعد إثبات تلك العناية ورسوخ الاعتقاد بها يهون ويسهل إثبات ما يتفرّع عليها من تلك النظريّات.
وأنّ مِنْ لازم تلك العناية، بعث الهُداة والمُرشدين البالغين أقصى مراتب الكمال البشريّ: لتكميل الناقصين من بني جنسهم، ولا يتسنّى التكميل والاهتداء إلّا بالتسليم والانقياد لهم، واليقين بعصمتهم عن الخطأ والخطيئة، وأنّهم مؤيّدون بتلك العناية.
وبعد الإلزام بكلّ هاتيك المبادئ عن براهينها، لا يبقى مجال للشكّ والارتياب، والنقد والاعتراض في شيء من أعمالها مهما كانت في الفظاعة والاستنكار في مطارح العقول المحدودة والأفكار المحجوبة.
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾[19].
ولعلّ إلى ذلك أشاروا، سلام الله عليهم، بقولهم - إنْ صحّ الحديث -: "نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشريّة: يا سلمان! أنزلونا عن الربوبيّة ثمّ قولوا فينا ما استطعتم، فإنّ البحر لا ينزف، وسرّ الغيب لا يُعرف، وكلمة الله لا تُوصف، ومن قال هناك: لِم؟ وممَّ؟ وبمَ؟ فقد كفر"[20].
ولعلّ المراد بالكفر معناه الأوّل، وهو الظلام إِنْ صَحَّ أَنَّ الْلَّيلَ كَاْفِرْ[21]
يعني: إنْ تعرّضَ لتلك الاعتراضات فقد ظَلمَ وأظلمَ كمن خاض في لُجّ من الظلمات. وما ذكرتُ هذه النبذة إلّا للإشارة إلى جواب ذلك السؤال من الوجهة الدينيّة محضاً, وإن كنت أعلم أنّ ذلك ممّا لا يُعَوِّل عليه المشكّك الناقد، ولا يعتدّ به المُعْتَرِضُ المُتَحَيِّر، سيّما لو كان ممّن لا يعرف الحسين، عليه السلام, كما تعرفه علماء الشيعة وخواصّها، إماماً معصوماً لا يتطرّق إليه العبث والعيث[22]، فضلاً عن الغلط والاشتباه، بل غاية ما يقول فيه أنّه من عَلِيّةِ الرجال وأفاضلهم، نسباً ونفساً وشجاعة وبراعة، لكن لا يمنع كُلُّ ذلك مِنْ أنْ يجري عليه ما يجري على غيره مِن نوابغ الدهر، وأفذاذ البشر، من الصواب تارة، والخطأ أُخرى، والاستقامة أحياناً، والالتواء حيناً، وكرم سجاياه وعظم مزاياه لا يقع سدّاً بين العقول وبين النقد عليه في بعض سيرته وسياسته، إن لم يكن في كلّها: والكمال لله. وحينئذ فلنفرض الحسين، عليه السلام - كما يفترضه السائل - زعيماً من الزعماء، يرى نفسه بما أُوتي من شرف الحسب والنسب أَوْلى بالخلافة من يزيد، وأحقّ بالمُلكِ منه، ولا جرم أنّه يبذل كلّ ما في وسعه لاستعادة ذلك الحقّ المغصوب منه ومن أبيه.
أوّلاً: فعلى الأقلّ أنّه لا يبايع يزيد ويصير رعيّة له، مع ما هو المعلوم من المجاهرةِ بإحياءِ كُلِّ رذيلة، وإماتةِ كُلِّ فضيلة[23].
وعليه: فالجواب الذي ذكرته إذا كُسي حلّة أُخرى من البيان لم يكن للخصم، لو أنصف أن لا يقتنع به.
وهل من سبيل إلى الكشف عن نفسيّة يزيد وخسّة طبعه وعدم أهليّته، من حيث لؤم عنصره، وخبث سريرته، وقبح سيرته- مع قطع النظر عن الدّين والشرع- أقرب وأصوب وأعمق أثراً في النفوس عامّة والعرب خاصّة والمسلمين بالأخصّ، من هتك حرم النبوّة صلى الله عليه وآله وسلم وودائع الرسالة، وجلبهم أُسارى من بلد إلى بلد، ومن قفر إلى قفر؟! وهل أعظم فظاعة وشناعة من التشفّي والانتقام بالنساء والأطفال بعد قتل الرجال؟! وأيُّ ظفر وغلبة على يزيد أعظم من إشهار هذه الجرائم عنه؟!
أمّا القتل: فقد كان عند العرب أهون شيء، وهو أمر معتاد متعارف لا شيء فيه من الفظاعة والغرابة، فكان الحسين، عليه السلام, أعرف أنّ يزيد وابن زياد من خبث الذات وسوء الملَكة مستعدّان لتلك الجرائم: فأراد أن يبرزها منهم إلى الوجود وتكون الناس منهم على بيّنة محسوسة، ثمّ يكون الغالب بعدها هو المغلوب، والقاهر هو المقهور.
نعم، يزيد قتل الحسين، عليه السلام, وأنصارَه، ولكنّ الحسين قتل يزيد وكلَّ بني أُميّة بأعظم من قتلهم له بألف مرّة: قتلهم يزيد يوماً واحداً، وقتلوه وقومه إلى آخر الأبد: فأيّ الظفرين أعظم؟! وأيّ القتلين أكبر؟!
وهذه الفلسفة قد أدركها حتّى الباحثون من الأجانب عن الإسلام، وقد ألمح إليها المستشرق الألمانيّ المسيو ماربين، حيث قال: "لمّا كان الحسين يعلم عداوة بني أُميّة وبني هاشم، ويعرف أنّه بعد قتله يأسِرونَ عياله وأطفاله، وذلك يؤيّد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيّما العرب، كما وقع ذلك، جلبهم معه وجاء بهم من المدينة...".
إلى أن قال: "ولمّا كانت أنظار المانعين محدودة، وأفكارهم قاصرة، ولا يدركون مقاصد الحسين العالية، وآخر ما أجابهم به: إنّ الله شاء ذلك، وجدّي أمرني به[24]، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال؟ فقال: إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا"[25].انتهى[26].
أقول: وهذا الجواب ليس كما تخيَّلَهُ المستشرق جواباً إقناعيّاً، ودفعاً وقتيّاً، بل له مقامه الراهن من الحقيقة، ولعلّ الله سبحانه، وجدّه صلى الله عليه وآله وسلم، إنّما أمراه بذلك كي يُفتضَح يزيد ويظهر حاله للناس، نحن لا نقول: إنّ الطريق لهتك يزيد انحصرت بهتك العيال: ولكن نقول: إنّه كان أحد الطرق التي لها التأثير الكبير في المقصود. والقول: إنّه لا يجوز في الدِّين أن يُعَرِّضَ نساءه للهتك مهما كان الأمر: فهو منبعث عن البساطة والسذاجة، فإنّ الذي لا يساعد عليه الدِّين، بل ولا تسمح به الغيرة، هو تعريض الإنسان عِرْضَهُ للهتك الموجب لِما يمسّ الشرف، ويخدش رواق العفّة والصيانة، وسرادق النجابة والحصانة.
أمّا الهتك الذي تستحكم به عرى القدس والطهارة والعزّة والمنعة، فذلك ممّا لا يشين ولا يهين، وتلك الحرائر، صلوات الله عليهنّ، مهما سَفِرْنَ فَهُنَّ محجّبات، ومهما تَبَذَّلْنَ فهنّ مَصونات، وهنّ بحيث النجم من يد المتناول[27]
يَشُعُّ عَلَىْ وَجْهِ الْبَرَاْقِعِ نُوْرُهَا فَيَحْسَبُ رَاْءٍ أَنَّهُنَّ سَوَافِرُ[28]
والغرضُ: أنّ هذا الجواب محكم رصين، وله حظّه من الحقيقة، وإذا لم يقنع به الناقد والمشكّك فهناك:
وجه ثان وجيه أيضاً، وهو: أنّ الحسين عليه السلام, في كلّ أدواره وأطواره، ومنذ نشأ وشبّ إلى آخر نفَس من حياته، كانت شيمته الشمم والشهامة، وعزّة النفس والإباء والكرامة، تتجلّى وتشعّ من جميع حركاته وسكناته، وكلّ أحواله وملَكاته، ولو ذهبنا إلى سرد الشواهد على هذا لجاء كتاباً مفرداً، ومجموعاً وافياً.
ويخطر لي أنّ الحسن عليه السلام, لمّا صالح معاوية على الشروط التي لم يفِ بشيء منها، وكان قد حضر عند معاوية مع خواصّ أصحابه للبيعة، فبايع الحسن ومن معه، وطلب معاوية البيعة من الحسين عليه السلام, فقال: دعه! فإنّه لا يبايع، ولكن لا يأتيك منه سوء.
فقال: حسبنا منه ذلك[29].
وبعد أن تمّ الأمر لمعاوية كان الحسين عليه السلام إذا اجتمع به في حشد من محافل الشام أو الحجاز يناضله ويناظره فيرضخه من القول بالصَّلادِم[30]، ويصكّ جبهته بما هو أمضّ من الصَّوارِم[31] - ورُبّ قول أنفذ من صول[32] -، ومعاوية يحتمل كلّ ذلك منه لِما يعلم من عزّة نفسه وشدّة شكيمته.
مرّ على الحسين عشرون عاماً- مدّة خلافة معاوية- ما ذاق فيها طعم الخضوع والاستكانة، حتّى إذا هلك معاوية وامتنع عن البيعة ليزيد، ورأى من السداد الهجرة عن المدينة: ليعرف العالم الإسلاميّ امتناعه عن البيعة، فخرج من المدينة بأهل بيته قاصداً مكّة، ولزم الطريق الأعظم الدرب السلطانيّ، فقيل له: "لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير؟ فقال: لا والله لا أُفارقه أو يقضي الله ما هو قاض"[33].
فالحسين- وعلى ذِكره السلام، هو يحمل بين جنبيه هذه النفس الكبيرة - لمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق أبت نفسه الكريمة، وأنفت همّته القعساء[34] أن يخرج هو وولدانه وغلمانه على ظهور خيولهم خروج المتشرّد الخائف، والنافر الفزع، ولم يرض لنفسه إلّا أن يظهر بأسمى مظاهر الأُبَّهَةِ والهَيْبَةِ والجَلالِ والحِشْمَةِ في الموكب الملوكيّ، وفخامة الملك والسلطان. ومن المعلوم أنّ لحمل الحرم والعائلة من لوازم الفخامة والعظمة، وشوكة المناطق والسرادق، ما لا يحصل بدونها، ولو خرج سلام الله عليه من أوطانه وترك عقائله في عقر دارهم لكان خروجه أشبه ما يكون بصعاليك العرب وأهل الغزو والغارات والمتلصّصين، وحاشا لسيّد أهل الإباء أن يرضى لنفسه بتلك المنزلة والخطّة السافلة، بل سار بأهله وذراريه ليكون على مهاد الدّعة والسكينة والهدوء والطمأنينة، كَسَيْر أكبر ملك من ملوك الدنيا وأوسعهم في القدرة والسلطان.
ولا تخالنّ في كلمتي هذه ضرباً من الخيال، أو شيئاً من المبالغة والغلوّ: كلّا، فإنّك لو نظرت إلى بعض الخصوصيّات في سيره لوجدت منها أوثق شاهد لك على ما ادّعيناه.
أنْعِمِ النظر في قصّة الحرّ التي اتّفقت على نقلها أرباب المقاتل وأُمناء التاريخ والسيَر[35]، حيث التقى بالحسين في قفر من الأرض لا ماء فيه ولا كلاء, وقد أمضّ به وبأصحابه العطش، وَهُمْ زُهاءَ ألف فارس على ألف فرس، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه: "اسقوا القوم وأوردوهم الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً"، ففعلوا وأقبلوا يملأُون القِصاع[36], والطِساس[37]من الماء، ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقي آخر حتّى سقوها عن آخرها.
فانظر أوّلاً، واعجب ما شئت بهذا الحنان والرحمة والعطف والإشفاق، فإنّ القوم الّذين سقاهم الحسين عليه السلام, كانوا أعداءه، وقد جاءُوا مِنْ قِبَل ابن زياد للقبض على الحسين عليه السلام, حتّى إنّ عليّ بن طعّان المحاربيّ- وهو عراقيّ من أصحاب الحرّ-لم يعرف كيف يشرب من الراوية[38] وكيف يخنث[39] السقاء كما يفعله الحجازيّ، فكان يشرب والماء يسيل على أشداقه وثيابه، فنزل الحسين عليه السلام, بنفسه وخَنَثَ السِّقاء حتّى شرب وارتوى[40].
واعجب ثانياً، لإيثاره بالماء في بادية قحلاء وصحصحان أجرد[41]، والماء فيه أعزّ من الذهب، وقد لا يجدونه في يومين أو ثلاثة أو أكثر، فأيُّ سخاء هذا السخاء؟! وأيُّ نفس تلك النفس؟! وأعجب ثالثا ً- وهو محلّ الغرض - كم كانت سعة ذلك الموكب السلطانيّ وإدارة ذلك الركاب الملوكيّ؟! وكم كان يحمل من الماء؟! حيث سقى نفسه وأعداءه، سقى ألف فارس وألف فرس، وعلى أقلّ تقدير أنّ النفوس التي كانت مع الحسين عليه السلام, من أولاده وأنصاره وعيالاتهم ألف نفس، وحمولهم[42] المِكارَهْ التي تحمل خيامهم وأمتعتهم، وما إليها من قدور وقصاع وطساس، ونحو ألفين من الخيل والبغال غير الإبل، فتكون النفوس المحتاجة إلى الإرواء بالماء في ذلك الموكب - على أقلّ التقادير- خمسة آلاف أو أربعة آلاف نسمة، غير الفضلة الاحتياطيّة التي سقى منها الحرّ وأصحابه وخيولهم. فالموكب الذي يحمل من الماء ما يروي ستّة آلاف أو سبعة آلاف نسمة، كم ترى يكون ضخامة ملكه وفخامة سلطانه؟! وإذا صحّ ما رواه الطريحيّ في "مجمع البحرين" من أنّ الحسين عليه السلام, لمّا نزل كربلاء اشترى أرض نينوى والغاضريّة من بني أسد بستّين ألف درهم، واشترط عليهم أن يدلّوا زوّاره على قبره ويضيّفوهم: انتهى بمعناه[43]: فكم كان معه من الأموال والنقود التي يكون فضلتَها ستّون ألفاً؟! وأزيدك شاهداً على ذلك من عظمة الملك والسلطان قضيّة محمّد بشير الحضرميّ[44] الذي رواه السيّد ابن طاووس وغيره حين قيل له ليلة عاشوراء ليلة القلق والأرق، الليلة التي كانت المَنايا فيها على الحَوايا[45]، والحِمام يحوم فيها على الخيام قيل له: إنّ ابنك أُسر في ثغرَي الريّ: فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما أُحبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده: فسمع الحسين عليه السلام قوله، فقال له: "رحمك الله، أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك". فقال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك. قال: "فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه". فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار[46].
وعليه: فيكون قيمة كلّ ثوب مئتي دينار، مئة ليرة ذهب.
وأنا لا أدري ما كانت تلك الثياب التي قيمة الواحد مئة ليرة؟! وكم كان معه مثلها؟! ولماذا يحملها وأمثالها معه في تلك المراحل؟! هذه سؤلة لعلّك في غنىً عن الجواب عنها، ولكن أيّها الناقد المشكّك!
أتحسب أنّ الحسين عليه السلام, كان صعلوكاً من صعاليك العرب، ولئيماً من لئامها، كابن الزبير، الذي يقول لجنده: أكلتم تمري وعصيتم أمري؟![47] ويقول للوافد عليه، المستجدي منه، بعد أن قال له: إنّ ناقتي قد نَقِبَت[48].
فقال: ارقعها بِهُلْب[49]، واخصفها بِسِبْت[50].فقال الوافد: لعن الله ناقةً حملتني إليك. فقال: إنّ وراكبها[51].
لا يا هذا! الحسين أكبر ممّا تظنّ, الحسين أكبر من أن يتخلّص من طواغيت بني أُميّة الّذين أرادوا سفك دمه في حرم الله فتنتهك به حرمة الحرم، كما فعل ابن الزبير وفعلوا به، هو أكبر من أن يخلص بنفسه ويترك عياله يشرئبّون إليه ويتطلّعون إلى أخباره ويناشدون الركبان عنه.
وأمّا ما تخيَّلْتَهُ من أنّ هتك الحريم لا يقدم الغيور عليه مهما كان الأمر، فهو وَهمٌ زائف، وقد عرَّفناك أنّ الهتك المُشين هو الذي يلمس أذيال العفّة، ويمسّ ذلاذل[52] الشرف، لا الذي تستحكم به أسوار الصون وسياج العفاف.
وبعد هذا كلّه، فهل أقنعك هذا الوجه، وعرفت كيف كانت منزلة الحسين عليه السلام من عظمة الشأن وسموّ السلطان؟!
وهناك وجه ثالث لحمل العيال، وهو: كما كانت العرب عليه من أنّهم إذا أرادوا أن يستميتوا في الحرب، ويصبروا للطعن والضرب، جعلوا الحريم خلفهم، واستقبلوا العدوّ، فإمّا الحتف أو الفتح، ويستحيل عندهم النكوص أو الفرار، وترك الحريم للذلّ والإسار، ويشهد لهذا عدّة وقائع لا تغيب عن الضليع في تاريخ العرب[53]، عليه حَمَلَ العيال كي يستميت أصحابه دونها، وينالوا درجة السعادة بالشهادة كما فعلوا.
وهناك وجه رابع لعلّه أوجه من تلك الوجوه، وأقربها إلى الحقيقة، وإنْ كانت للحسين عليه السلام, ملحوظة وراء التعبّد والانقياد والرضا والتسليم للمشيّة القاهرة، وكانت سياسة عن فلسفة نظريّة، وتدابير بشريّة، فهي هذه الملاحظة التي سوف نبديها ونشير إليها على الجملة حيث لا سعة للتفصيل.
تقول أيّها الناقد: "إنّ الحسين عليه السلام, كان يعلم أنّه يقتل..".
نعم، وأنا أقول كذلك، بل يعلم أنّ جميع مَنْ معه مِن الرجال، بل وكثير من الأطفال يُقتلون حتّى الرضيع[54]، ولا يفلت إلّا وَلَدهُ زين العابدين من أجل العلّة والمرض.
فلمّا عَلِمَ ذلك كُلّه، وَعَلِمَ أنّ بني أُميّة وأشياعهم سوف يموّهون، بل كانوا قد موّهوا على المسلمين أنّ الحسين عليه السلام, خارج على إمام زمانه، وهو يزيد المنصوب بالنصّ عليه بالاستخلاف من الخليفة الذي قبله وهو معاوية، فالحسين عليه السلام, بخروجه باغ، وحكم الباغي القتل فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله[55]، فتكون هذه الفتوى وهذا التمويه أعظم على الحسين مِن قتله.
وهذا الطلاء المبهرج، وإنْ كان لا يخفى على العارفين والنياقدة، ولكنّهم بالضرورة خاضعون للسلطة، قد شملتهم الذلّة، وأخملتهم القلّة، وألجمهم الخوف والتقيّة، سيّما بعد الفراغ من أمر الحسين عليه السلام, فلا رحمة لأحد بعده ولا حرمة، والناس كما قال هو سلام الله عليه، يوم الطفّ، وكما هو حالهم اليوم: "عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم"[56]، فمن ذا يقدر أن ينبسُ[57]بالحقيقة، فضلاً عن الإصحار[58] بها, وسيوف يزيد وابن زياد فوق أرؤسهم، وأموالهم نصب أعينهم؟!
وتعلم كيف يلعب الرجاء والخوف في النفوس, فحينئذٍ فلا يمرّ حول أو حولان إلّا وقد سجّل التاريخ أنّ الحسين عليه السلام - وأستغفر الله- باغٍ عاتٍ وقد قُتل بحكم شريعة جدّه.
وبَعّدَ الناقدُ فريتَه بقوله: هلاّ بايع كما بايع أخوه الحسن عليه السلام, ودفع عن نفسه وأهله القتل؟!
كيف؟! وقد قال بعض النواصب في القرون الوسطى: إنّ الحسين قتل بسيف شريعة جدّه[59].
وهذه عند الحسين- وهو عَلَمُ الحقّ، ومنارُ الهُدى، وجسمُ روحِ الغيرة والإباء- رزيّة لا رزيّة فوقها، ومصيبة لا مصيبة أعظم منها.
فعلى من يعتمد الحسين عليه السلام, في دفع هذه الغائلة[60]، وتفنيد هذه الضلالة، وإنقاذ المسلمين من هذه الورطة المهلكة؟!
أَعَلى رجال وكلّهم سوف يقتلون معه بعلم منه؟!
أم على زين العابدين، وهو أسير مشغول بعلّته، وقتله أهون عليهم من قتل ذبابة؟!
فمَن يقوم للحسين بهذه المهمّة بعد قتله؟!
ومَن ذا يقرع بالحجّة، ويوضح المحجّة، ويكشف الحقيقة، ويتعقّب القضيّة، ويخطب في النوادي الحاشدة، والجوامع الحافلة، تلك الخطبة البليغة، والحجج الدامغة؟!
تصوّر ذلك العصر مليّاً، واستوسع التأمّل في تلك الأوضاع، وانظر هل كان من الممكن أن يقوم بشيء من ذلك أكبر رجل باسل؟!
وهَبْ أنّ الممكن أن يفادي رجلٌ بنفسه للحقّ وإبداء الحقيقة، ولكن هل يُمهلونه إلى أن يستوفي الغرض ويبلغ الغاية؟!
أَوَليس عبد الله بن عفيف الأزديّ، ذلك البصير الذي ذهبت عيناه، واحدة يوم الجمل والأُخرى بصفّين: نعم، ذهبت عيناه، ولكن فتح الله له في قلبه عشر عيون، وسقط الجهاد عنه بيده، ولكن جاهد في لسانه بعشرة أسياف إلى أن أحرز الشهادة في هذا السبيل!
فإنّه لمّا سمع خطبة ابن زياد على منبر الكوفة بعد قتل الحسين عليه السلام وهو يقول: الحمد لله الذي نصر أمير المؤمنين يزيد وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب، نهضت به الحميّة والحماية للحقّ، وفادى بنفسه في ذلك الحشد الرهيب، فقام وقطع عليه خطبته قائلاً له: "إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت ومن استعملك يا عدوّ الله, تقتلون أولاد النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين".
فغضب ابن زياد وقال: من هذا المتكلّم؟!
فقال: "أنا المتكلّم يا عدوّ الله!
أتقتل الذرّيّة الطاهرة الّذين أذهب الله عنهم الرجس، وتزعم أنّك على دين الإسلام؟!
وا غوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمّد صلى الله عليه وآله وسلم[61]؟!", فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجه، وقال: عَلَيَّ به! فقام الجلاوزة فأخذوه، وقامت الأشراف من الأزد عشيرته فخلّصوه، وانطلقوا به إلى منزله. ولكن هل خلص ونجا من ذلك الطاغية؟! وهل كان آخر أمره إلّا أن أُحضر بين يديه فضرب عنقه صبراً وصلب جثمانه في السبخة[62] في قصّة طويلة، وما ظفر ابن زياد به إلّا بعد حرب سجال وتحريش منه خبيث بين اليمانية والمضرية على قاعدة التفرّق[63]. نعم، ما أنكر على ابن زياد إلّا عبد الله بن عفيف رضوان الله عليه، وإلّا ذلك الصحابيّ الضعيف بكلّ مواقع الضعف، ألا وهو زيد بن أرقم، فإنّه حين رأى رأس الحسين عليه السلام بين يدَي ابن زياد وهو يضربه بعوده، قال له: "ارفع عودك عن هاتين الشفتين! فوالله لطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبّلهما".
ثمّ بكى زيد، فقال له ذلك الخبيث: أتبكي لما فتح الله للأمير؟! لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لأخذت الذي فيه عيناك! فخرج زيد وهو يقول: "ملَكَ عبدٌ حرّاً، أنتم يا معشر العرب عبيد بعد اليوم، قتلتم ابن بنت رسول الله وأَمَّرْتُم ابن مرجانة"[64]. ولا أستحضر مُنْكِراً على ابن زياد غير هذين الرجلين، وكلماتهما وإنْ كانت ذات قيمة ثمينة في مثل تلك الأيّام العصيبة والمواقف الرهيبة، ولكن أيّ شيء لها من التأثير؟! وما ميلها في تلك التيّارات الجارفة والزوابع القاصفة؟! وهل هي إلّا كلمات قيلت وذهبت أدراج الرياح؟! وهل كانت تكفي لإيجاد بواعث الثورة، وتكوين الانقلاب على بني أُميّة وتحرير النفوس وغليان الأفكار وتأجيج النّار لطلب الثار؟! كلّا ثمّ كلّا، فإنّ الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى المثابرة والتعقيب في الخطب الرنّانة والكلمات المهيّجة، وتشهير المثالب والمساوئ، ونقد السيّئات ونعيها على تلك الدولة الغاشمة والسلطة الظالمة والحكومة الجائرة. فإنّ بهذا ومثله تتكوّن في الأُمّة روح ثورة وانفجار يكتسح ظلم الظالمين، وتقتلع عروق الجور والاستبداد. قل لي برأيك، أيّها الناقد، أيّ رجالات ذلك العصر كان يقدر على القيام بتلك المهمّة، ويقوى على النهوض بذلك العبء؟! أليس قصارى أمره، مهما كان من البسالة والجرأة، أن يقول الكلمتين والثلاث، فيقال: خذوه فاقتلوه فاصلبوه في السبخة أو في الكناسة؟! أليس زين العابدين عليه السلام مع أنّه عليل أسير- والأسير لا يُقتل - قد أمر ابن زياد بقتله لجواب خفيف وقول طفيف، فإنّ ابن زياد بعد أن فرغ من تحدّي زينب وأخرجته بقوّة العارضة والبيان من الميدان مكعوماً[65] بالخزي والخذلان التفت إلى زين العابدين، فقال: من هذا؟! فقيل له: هو عليّ بن الحسين عليه السلام .
فقال: أليس قد قتل الله عليّاً؟!
فقال سلام الله عليه: "كان لي أخ يقال له عليٌّ قتله الناس".
فقال ابن زياد: بل الله قتله!
فقال الإمام: "الله يتوفّى الأنفس حين موتها"[66]. فقال له: أَوَبِكَ جرأةٌ على ردّ جوابي؟! يا غلمان! خذوه فاضربوا عنقه! فتعلّقت به زينب، وقالت: يا بن زياد! حسبك من دمائنا ما سفكت، فإن عزمت على قتله فاقتلني معه. فقال الطاغية: عجباً للرحم! فوالله لَوَدَّتْ أن تموتَ دونه، اتركوه لِما به[67]. وما تركه رحمةً لها، ولكن قد رأى أنّ العلّة والإسار والأغلال والجامعة[68] ستقضي عليه وتكفي ابن زياد مؤنة قتله. فإنّ سلامة زين العابدين وبقاء حياته كان من خوارق العادة، وعلى خلاف مجاري الأسباب، ولو قُتل أو مات في تلك البرهة لانقَطَعَ نسل الحسين، ولكنّ مشيئة الله سبحانه وقضاءه السابق بأنّ الأئمّة من ذرّيّته لا يردّ ولا يُغلب، وكانت زينب هي السبب في حفظه على الظاهر. فليكن هذا وجهاً خامساً لحمل العيال، فلعلّ الحسين عرف أنّ العلّة والمرض لا يكفي في سلامة ولده، وأنّهم قد يقتلونه على مرضه، وأنّ لزينب موقفها الباهر في المفاداة والدفاع عنه.
وكلّ غرضنا من سحب أذيال هذا المقال، أن يتجسّم لديك كيف كان الحال في كمّ الأفواه، وعقل الألسن، وإرجاف القلوب، ومشق الحسام لضرب الهام على أقلّ الكلام.
إذاً فمَن يَردّ تلك الأمانة ويؤدّي تلك الوديعة، وديعة الحقّ، وأمانة الصدق، والانتصار للحقيقة، وإزهاق الباطل؟!
نعم، قُمْنَ بكلّ تلك الوظائف على أوفى ما يرام، وأتمّ ما يحصل به الغرض، قامت به ودائع النبوّة وحرائر الوحي والرسالة، نهضن بتلك الأعباء الثقيلة التي تعجز عنها الأبطال وأُسود الرجال.
كأنّ الحسين عليه السلام علم - ولا شكّ أنّه علم - أنّه سيُقتل هو وجميع أهل بيته وأنصاره، ولا يبقى رجل يتسنّى له الكشف لجمهرة ذلك الخلق التعس عن فظاعة تلك الجناية وشناعة تلك الجرائم السيّئة، ولو أهمل هذه الناحية المهمّة لذهب قتله سدًى، ولفات الغرض والغاية، فلم يجد بُدّاً من حمل تلك المصونات معه لتكميل ذلك المشروع الذي ابتذل نفسه ونفوس أعزّته في سبيله. وعلم، سلام الله عليه، أنّ بني أُميّة، مهما بلغوا في خرق النواميس وهتك الحرمات والتجاوز على الشناشن[69] العربيّة، والشرائع الإسلاميّة، ولكنّهم لا يقدرون على قتل النساء: لا يقدرون على قتل امرأة مصابة مفجوعة تكلّمت بشيء من الكلام تبريداً وتسكيناً للوعتها. ويوم الطفّ وإنْ قَتَلَ حزبُ بني أُميّة عدّةً من النساء الوديعات[70]، كما قتلوا الأطفال[71]، ولكنّ الحربَ لها أحكام وشواذّ لا تجري في غيرها.
لا، وكلّا، لا يستطيع ابن زياد - مهما طغى وتجبّر- أن يقتل ساعة السلم امرأة عزلاء، أسيرة بين يديه، لا تحمل من السلاح إلّا قلبها ولسانها، قلبها درعها، ولسانها سيفها، لا يستطيع أن يقتل امرأة مهما تجرّأت عليه، بل ولا يستطيع أن يمدّ يده إليها فيضربها[72] إنّ زينب العقيلة لمّا سوّدت وجه ابن زياد ولطمته تلك اللطمة السوداء بقولها: "ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة!"، اسودّت الدنيا في عينه، حيث عرف والحاضرون ما أرادت، فَهَمَّ أن يضربها، ولكنّ عمرو بن حريث، وهو من أكبر القوّاد في جند ابن سعد، وكان أميراً على الرجّالة بعد أن كان من خواصّ أمير المؤمنين في صفّين، أنكر عليه وجاءه بحجّة، وهي أنّها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، فقال ابن زياد: أما تراها كيف تجرّأت علَيَّ؟![73].
كان الحسين وأنصاره قد وقفوا يوم الطفّ موقفاً تجسّمت فيه روح الشجاعة والبسالة، وأصبح المثل الأعلى للعزم والإقدام والاستهانة بهذه الحياة في سبيل العزّ والإباء، ودون موارد الذلّ! وقفوا موقفاً ما حدّثنا التاريخ بمثله، ولا سمع الدهر بنظيره! وقف سبعون رجلاً في مقابل سبعين ألفاً، ومددهم إلى الكوفة, بل إلى الشام متواصل، وهؤلاء لا مدد لهم، هؤلاء على شاطئ النهر يكرعون منه، وينتهلون كلّ حين، وأُولئك قد حُبسوا عن الماء يومين أو ثلاثة، والعطش وحرّ الهجير ورمال الصحراء أحرق أجسادهم، وفتّت أكبادهم، وأطفالهم يتصارخون من العطش نصب أعينهم، وعلى احتفاف أضعاف ذلك الرزايا والمحن بهم. نعم، ومع كلّه ما هانوا ولا استكانوا، ولا فشلوا ولا ذلّوا، بل كانوا يزدادون بشراً وطلاقة، وعزماً وصلابة، وعزّاً وشهامة. حقّاً إنّه لموقف باهر، ومقام قاهر، وحديث مدهش، ونفوس غريبة، بل وفوق الغرابة بمكان! ولكن ألا أدلّك على أدهى من موقف أنصار الحسين عليه السلام, وأدهش وأبهى وأبهر؟! هو موقف عقائل النبوّة في مجلس يزيد وابن زياد! أتستطيع أن تستحضر في نفسك، وتتمثّل في أُمّ رأسك مجلس ابن زياد في قصر الإمارة بالكوفة وقد أَدْخَلوا عليه السبايا والرؤوس، وفيهنّ الحرّة الحوراء زينب الكبرى، وهو سكران بنشوة الفتح والظفر، ورؤساء الأرباع والأسباع[74]، ورؤوس القبائل مثول بين يديه، والدنيا مقبلة بكلّ وجهها عليه؟! دخلت عليه تلك العقيلة وجلست ناحية متنكّرة، فأبت نفسه الخبيثة أن يصفح صفح الكرام، ويغضي إغضاء الأماجد، أبت نفسه إلّا إظهار الشماتة، ولؤم الملَكة، وخبث الظفر، وسوء الاستيلاء، وقبيح الأثرة، فسأل- ولا شكّ أنّه.....[75] ، ويهتكها - وهو المهتوك - وقال: مَن هذه المتنكّرة؟! فقيل له: هي زينب بنت عليّ عليها السلام .
فقال لها قول الشامت الشاتم: أرأيت كيف صنع الله بأخيك الحسين والعتاة المردة من أهل بيته؟! فقالت - قول الثابت الجَنان، المتدرّع بدلاص[76] اليقين والإيمان، المستحقر له ولكلّ ما له من قوّة وسلطان: "ما رأيت إلّا جميلاً، أُولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن الفَلْج؟![77] ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة!", فلمّا لطمته بهذه اللطمة السوداء لم يجد سبيلاً للتشفّي منها والانتقام إلّا بأسوأ الكلام من السباب والشتيمة، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم، وأكذب أُحدوثتكم.
فقالت- غير طائشة ولا مذعورة -: "إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر، وهو غيرنا".
وقف الحسين وأنصاره ظهيرة عاشوراء وهم على خيولهم الجياد، وفي أيمانهم البيض الحداد[78]، وعلى متونهم السمر الصِّعاد[79]، قد رفلوا بأبراد العزّ، وتكلّلوا بتيجان الشرف، لا يُقتل منهم واحد حتّى يَقتلوا ألفاً من عدوّهم[80]، وهم ضاحكون مستبشرون، ثقة بما يصيرون إليه بَعدُ من منازل الفردوس الأعلى في دار النعيم.
كان هذا موقف الحسين وأنصاره يوم الطفّ.
ووقفت زينب بنت عليّ عليه السلام, والخفيرات من أهل بيتها في مجلس ابن زياد وهم في قيد الإسار، وذلّ الصغار، لا ترى أمام عينها إلّا عدوّاً شاتماً، أو كاشحاً[81] شامتاً، أو قاتلاً لحُماتها وسُراتها، واليتامى والأيامى حولها، كلّ هذه الشؤون والشجون ممّا تذيب القلب، وتذهل اللبّ، وتطيش عندها الأحلام، وتخرس الألسنة، وتموت الفطنة، ولا يستطيع أجلد إنسان أن ينبس بكلمة في مثل تلك الكوارث.
أفهل تخشى - لو تصوّرت مزايا تلك الرزايا لزينب - أن تقول: إنّ موقفها عند ابن زياد كان أعظم من موقف أنصار الحسين يوم الطفّ عند جند ابن سعد؟! قل ولا تخف، وعلَيَّ الإثبات. هل أحسستَ في تلك الساعة الرهيبة من زينب أمام عدوّها القاسي الظالم الشامت الشاتم أن تلجلج لسانها؟! أو اضطرب جَنانها؟! أو ظهر عليها ذرّة من الذلّ والاستكانة؟! أو خضعت فانقطعت؟! أو عجزت عن ارتجال الخطب البليغة التي لو جاء بها الوادع الساكن والمطمئنّ الآمن بعد ليال وأيّام لكانت آية من آيات الإبداع، ورمزاً من رموز البراعة؟! فكيف وقد اندفعت بها في حشد الرجال على سبيل الارتجال، وهي على ما عرفتَ من الوضع: عنه يقال في الشدّة: "بين ذِرَاعَيْ وجبهة الأسد"[82]، تتقاذفها لهوات الكُرب، وتلوكها وتمضغها أنياب النوب، حتّى إنّ ابن زياد أعجَمَ عُودَها[83]، فرآهُ صلباً مرّاً، لا يلين لغامز، ولا يلذّ لماضِغ، وأنّها لا تنقطع ولا تكلّ، ولا تعرف للرهبة وللخوف معنىً، وخشي أن لا تُبقي من هتكه وفضيحته باقية، وأن تقلب عليه الرأي العامّ، وتُحْدِث في جماعته فتقاً لا يُرتق، غيَّرَ من خطّته، وتنازل عن غُلوائه[84] وشدّته، فكان آخر كلامه معها بعد أن شفت غليلها منه: لعمري إنّها لسجّاعة، ولقد كان أبوها أسجع منها؟![85] لا يا بن مرجانة! ما هي بسجّاعة، هي أُمثولة الصبر والثبات، ورمز غلبة الحقّ على الباطل، واحتقار الحكم الزائف والملك الزائل، وسلطنة الخداع والمكر.
لا يا بن مرجانة! هذه زينب بنت عليّ الذي عَلَّمَ الناس الفصاحة، والبراعة، والشجاعة، والسجاعة.
هذه زينب بنت الزهراء البتول، لا كمرجانة وسميّة ذَوَاتَيْ الأعلام في الجاهليّة والإسلام[86].
هذه زينب بنت الطاهرة العذراء، لا كهند الخرقاء[87]، صاحبة القارعة[88] والفاكّة[89]، التي يقول فيها حسّان شاعر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
لِمَنِ الْصَّبِيُّ بِجَاْنِبِ الْبَطْحَاْءِ ......................
البيتين[90].
وما كانت تلك الشجاعة منها، سلام الله عليها، في مرّة أو مرّتين، بل كانت كلّما ضاق الأمر، واشتدّت المحنة، وتجمهر المتفرّجون عليهم عند دخولهم الكوفة، وعند خروجهم منها، وفي قصر الإمارة، وفي مجلس ابن زياد: في كلّ ذلك تتحدّى فتُدْهش، وتحتجّ فتُفْلج، وتخطب فتُعْجب، تخطب خطبة البليغِ المُدِرِّ[91]، والمِصْقَعِ[92]المُفَوَّهِ[93] الذي تهيّأت له كلّ أسباب الدَّعَة[94] والراحة والفراغ والطمأنينة.
دخل السبي إلى الكوفة بحال يذوب الصفا منها ويشجي المحصبُ[95]، فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون، فقال عليّ بن الحسين، عليه السلام, وقد أنهكته العلّة: "تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحَكَمُ بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء"[96]. ثمّ تعاظمت الفجيعة فصار الرجال والنساء يبكون معاً، فقال عليه السلام : "أتبكون وتنوحون لنا؟! فمن قتلنا؟"[97]. قال بشر بن خزيم الأسديّ[98]: ونظرت إلى زينب بنت عليّ، عليه السلام, يومئذ فلم أرَ خفرة قطّ أنطق منها كأنّما تنطق عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام, وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس[99]، ثمّ قالت: "الحمد لله، والصلاة على أبي محمّد وآله. أمّا بعد.. يا أهل الكوفة! يا أهل الختل[100] والغدر! أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مَثَلُكُم كمَثَلِ التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً"[101].
واندفعت كالسيل المنحدر، إلى أن قالت: "أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها[102]. ويلكم! أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيَّ كريمة له أبرزتم؟!
وأيَّ دم له سفكتم؟! أفعجبتم أن قطرت السماء دماءً ولعذاب الآخرة أخزى[103] وأنتم لا تُنصرون، فلا يستخفنّكم الجهل، فإنّه لا يحفزه البِدار[104]، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد". قال: فوالله لقد رأيت الناس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً يبكي حتّى اخضلّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يذلّ ولا يُخزى[105]. ثمّ خطبت أُمّ كلثوم بخطبة بليغة[106]. ثمّ خطبت فاطمة الصغرى بخطبتها التي تقول في أوّلها: "الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى.."[107] إلى آخر ما قالت.
هذا كلّه وهم سائرون يُساقون في السبي على الهوادج والمحامل، وفي الكوفة، وعند ابن زياد.
ولكن هلمّ معي ندخل مع هذا السبي إلى الشام، وننظر كيف دخوله على يزيد ووقوفهم بين يديه، ولنستبق إلى مجلس يزيد نتبوّأ لنا موقفاً منه قبل ازدحام المتفرّجين وتزاحم النظّارة.. ووقفنا في حاشية النادي الأُموي نتطلّع..
هذا يزيد جالس على السرير فوق المصطبة العالية، وهو مخمور يرنّح[108] أعطافه[109] من خمرتين خمرة العُقار[110]، وخمرة الانتصار, ومنتشٍ بنشوتين: نشوة الملك، ونشوة الفتح والظفر[111]، ودونه طواغيت بني أُميّة من الأعياص والعنابسة[112]من بني عبد شمس، وهم على كراسي الذهب والعاج، يرفُلون[113]بحلل الديباج..وهذه أقداح الشراب والخمور، ونخب الفرح والسرور تدار عليه وعليهم، والأعواد والمزامير تضرب لديهم.. فبينما(هم) ومثله، إذ أدخلوا سبي آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مربَّقين[114]بالحبال، بين نساء وأطفال.. هناك استفزّته نشوة الأُنس والطرب، وتمنّى حضور أشياخه قتلى بدر، من عتبة وشيبة والوليد[115], ليشاهدوا أخذه بثأرهم، وقيامه بأوتارهم، وأنّه زاد على أخذ الثار بقتل الرجال وسبي العيال، قائلاً:
لَيْتَ أَشْيَاْخِيْ بِبَدْرٍ شَهِدُوْا ......................
هنالك قامت العقيلة زينب فقالت، واسمع ما قالت، وانظر كيف خطبت، وهل راعها أو هالها شيء من تلك المظاهر الهائلة، وتأمّل في فقرات خطبتها التي قصمت بها الفَقار[116]من ظهر يزيد، وكانت أشدّ عليه من ضرب الحسام في يد الضرغام، وانظر كيف صيّرته- وهو بتلك الأُبّهة - أحقر من قُلامة[117]، وأقذر من قُمامة، قامت صلوات الله عليها فقالت: "صَدَقَ اللهُ كَذلِكَ حينَ يَقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾[118].
أَظَنَنْتَ يا يَزيد حَيْث أَخَذْتَ عَلَيْنا أَقطارَ الأَرْضِ وَآفاقَ السَماءِ، فَأصْبَحْنا نُساقُ بَيْنَ يَدَيْكَ كَما تُساقُ الأُسارى، أنّ بِنا عَلى اللهِ هَواناً وَبِكَ عَلَيهِ كَرامَة، وَأنّ ذلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ عِنْدَه؟! فَشَمَخْتَ بِأنْفِكَ، وَنَظَرْتَ في عطْفِكَ، جَذلان مَسْروراً، حَيْث رَأيْتَ الدُنْيا لَكَ مُستَوْسِقة[119]، وَالأُمور مُتّسقَة، وَحِينَ صَفا لَكَ مُلْكُنا وَسلطانُنا.
فَمَهْلاً مَهْلاً! أَنَسيتَ قَولَ اللهِ عَزّ وَجَلّ: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[120]؟!.
أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرُك حرائرَك وإماءك، وسَوْقُكَ بنات رسول الله سبايا؟! قد هُتكت ستورهنّ، وأُبديت وكيف يُرتجى مراقبة مَن لفظ فوه أكبادَ الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!
ثمّ تقول غير مستعظم ولا متأثّم:
لَأَهَلُّوْا وَاسْتَهَلُّوْا فَرَحاً ....................
تهتف بأشياخك، زعمت أنّك تناديهم، فلَتَرِدَنَّ وشيكاً مَورِدَهُمْ، وتودّنّ أنّك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت، حسبك بالله حاكماً، وبمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين بئسَ للظالمين بدلاً[121]وأيُّكُم شرٌّ مكاناً وأضعف جنداً[122].
أقول: ألا بحرمة الإنصاف والحقيقة قل لي: أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثّل أن يمثّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه، وزهوّه بعطْفه، وسروره وجذله باتّساق الأُمور وانتظام الملك، ولذّة الفتح والظفر، والتشفّي والانتقام، بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل؟! وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدمغ خصمه بتلك الكلمات، وهي على الحال الذي عرفت؟! ثمّ لم تقنع منه بذلك حتّى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل وعزّة الحقّ، وعدم الاكتراث والمبالاة بالقوّة والسلطة، والهيبة والرهبة.
أرادت أن تُعَرِّفَهُ خِسَّةَ قدره، وضعة مقداره، وشناعة فعله، ولؤم فرعه وأصله، وتعاليها عن حواره، وترفّعها عن مخاطبته، فقالت وتعاظمت بحقّ واستطالت:
"ولئن جرّت علَيَّ الدواهي مخاطبتك أنّي أستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء".
ثمّ أرادت أن تجسّم له عياناً مقام العزّة، وموضع الصبر والجلد والثبات والسكينة..أرادت أن تعرِّفَهُ والناسَ جميل النظر في العاقبة، وأنّ الأُمور بعواقبها، والأعمال بخواتمها، وأنّ شرف الغاية- كما يقال - يبرِّر الواسطة[123].
أرادت أن تعرّفه شرف آبائها وأبنائها، وأنّ القتل والشهادة ما زادهم إلّا فخاراً، وما جلب لعدوّهم إلّا عاراً وناراً، فقالت وما أبلغ ما قالت: "فكِد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذِكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا تَرْخُصُ عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين؟!
فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل"[124].
هذا قليل من كثيرِ تلك الخطبة، التي هي آية في البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان!
وهل يختلجك الشكّ والريب بأنّ كلّ فقرة منها كانت على يزيد أشدّ من ألف ضربة؟!
وهل تشكّ أنّ هذه الخطبة وأمثالها كانت هي الضربة القاضية على مُلك يزيد ومعاوية؟!
وهل أبقت لهم من باقية؟!
وهل يبقى لك شكٌّ بعدُ أنّ مواقف زينب وأُمّ كلثوم وفاطمة الصغرى ورباب وسكينة، في الكوفة والشام، بل في كلّ موقف ومقام، كانت لا تقصر- إنْ لم تتفوّق- على موقف حُماتهنّ وسُراتهنّ يوم الطفّ؟!
وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين، سلام الله عليه، لو قُتل هو ووُلْدُهُ، ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جُبارا[125]، ولم يطلب به أحد ثاراً، ولضاع دمه هدراً، ولم يكن قتله إلّا قتل عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب وأمثالهما ممّن خَمَدَ ذِكرهم وضاع وترهم؟!
نعم، لا يرتاب لبيب عارف بأسباب الثورات، وتكوين انقلابات الأُمم، وتهييج الرأي العامّ، أنّ أقوى سبب لذلك هو الخطابة والسحر البيانيّ الذي يؤثّر في العقول وينير العواطف!
وإذا استحضرت واقعة الطفّ المفجعة وتوالبها[126]، تعلم حقّاً أنّه ما قلب الفكرة على بني سفيان، وانقرضت دولة يزيد بأسرع زمان، إلّا من جرّاء تلك الخطب والمقالات التي لم يقدر أيّ رجل في تلك الأوقات الحرجة والأوضاع الشاذّة على القيام بأدنى شيء منها، فقد تسلسلت الثورات والفتن على يزيد من بعد فاجعة الطفّ إلى أن هلك.
بل ما نهضت جمعيّة التوّابين، وتلاهم قيام المختار لأخذ الثار[127], وتعقّبتها واقعة الحرّة[128]، التي هلك بعدها يزيد بأيّام قليلة, ما كان كلّ ذلك إلّا من أثر تلك المواقف المشهودة لزينب وأخواتها.
فكان الحسين عليه السلام يعلم أنّ هذا عمل لا بُدّ منه، وأنّه لا يقوم به إلّا تلك العقائل، فوجب عليه - حتماً - أن يحملهنّ معه، لا لأجل المظلوميّة بسبيهنّ فقط، كما شرحناه في الجواب الأوّل[129]، بل لنظر سياسيّ وفكر عميق، وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام وتعود الناس إلى جاهليّتها الأُولى!
فقد أصبح الدّين على عهد يزيد هو دين القرود والفهود، دين الخمور والفجور، والضرب بالعود والطنبور، وأوشك أن يذهب دين محمّد، صلى الله عليه وآله وسلم، أدراج الرياح، وتكون نبوّته كنبوّة مسيلمة[130] وسجاح[131]، ونظرائهما[132].
إذاً، فجزى الله تلك الحرائر بحسن صنيعهنّ عن الإسلام أحسن الجزاء، وكلّ مسلم مدين بالشكر لهنّ وللحسين، عليه السلام, إذا كان مسلماً حقّاً ويرى للإسلام حقّاً عليه.
وعلى هذا، فيحقّ للجنس اللطيف - كما يسمّونه اليوم - أن يفخر على الجنس الآخر بوجود مثل تلك العليّات العلويّات فيه، وقد تجلّى واتّضح أنّ هذا الجنس الشريف قد يقوم بأعمال كبيرة يعجز عنها الجنس الآخر، ولو بذل كلّ ما في وسعه، وأنّ له التأثير الكبير في قلب الدول والممالك، وتحوير الأفكار، وإثارة الرأي العامّ.
وهذه نكتة واحدة من نكات السياسة الحسينيّة، وغور نظره في الشؤون الدوليّة لو قطعنا النظر عن الوحي والإمامة، وجعلناه كواحد من الناس قد ثار على عدوّ له متغلّب عليه، يريد الانتقام منه، يريد أن ينقله من عرشه إلى نعشه، ومن قصره إلى قبره، ومن ملكه إلى هلكه، ويريد أن يقضي على دولة أبيه ودولته، ولا يدع حظّاً في الملك لولده وذرّيّته.
ومن تصفّح سيرة معاوية، وجهوده العظيمة، وتدابيره العميقة مدّة عشرين سنة، يعرف عظيم مساعيه، وكم كان حريصاً على توطيد دعائم الملك ليزيد، وحبسه أبداً عليه وعلى ولده، حتّى دسّ السمّ إلى الحسن، عليه السلام, وقتله مقدّمة لاستخلاف يزيد، وكم استعمل العامِلَين القويَّين السيف والدينار، والرغبة والرهبة، في تمهيد عرش يزيد وإعطائه صولجان الملك وتاج الخلافة الذي انتزعه من بني هاشم، وأعمل التدابير المبرمة في أن لا يعود إليهم أبداً.
ولكنّ الحسين، وعلى ذِكره آلاف التحيّة والسلام، بتفاديه وتضحيته، وتدابيره الفلسفيّة، وإحاطته بدقائق السياسة، ثَلَّ[133] ذلك العرش, وهدم ذلك البنيان الذي بناه معاوية في عشرين سنة، هدمه في بضعة أيّام، وما أثمر ذلك الغرس الذي غرسه معاوية ليزيد إلّا العار والشنار، والخزي المؤبّد، واللعنة الدائمة، وصار معاوية المثل الأعلى للخداع والمكر، والظلم والجور، والرمز لكلّ رذيلة، ومعاداة كلّ فضيلة.
كلّ ذلك بفضل السياسة الحسينيّة وعظيم تضحيته، وصار هو وأهل بيته – إلى الأبد - المثل الأعلى لكلّ رحمة ونعمة، وبركة وسلام، فما أكبره وما أجلّه!
وقد بقيت هناك دقائق وأسرار لم يتّسع الوقت لنظمها في هذا السلك، ولقد كنت أتمنّى منذ عشرين سنة أن أنتهز من عمري فرصة، وآخذ من مزعجات أيّامي مهلة، لأكتب كتاباً في دقائق السياسة الحسينيّة، وأسرار الشهادة, بما لم يكتبه كاتب، ولا حامَ حول شيء منه مؤلّف، ولا تفوّه وألَمّ خطيبٌ ببعضه، ولكنّ حوادث الأيّام وتقلّبات الصروف لا تزال تدفعني من محنة إلى محنة، ومن كارثة إلى أُخرى
كَأُرْجُوْحَةٍ بَيْنَ الْخَصَاْصَةِ... وَمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْشَّقَاْوَةِ وَالْعَمَىْ
حتّى أصبحت كالآيس من الحصول على تلك الأمنيّة، ولا يأس من روح الله.
وهذا الذي ذكرنا هنا طرف من سياسة الحسين، عليه السلام, وناحية من نواحيها، ذكرنا منه ما يتعلّق به الغرض في الجواب، ودفع الشكّ والارتياب.
وفي الختام، أرجع فأقول: ما أدري، هل اندفع بهذه الوجوه الأربعة أو الخمسة اعتراض الناقد أو المشكّك على الحسين، عليه السلام, في حمل العيال؟!
وهل انكشف الستار عن تلك الأسرار[134]؟!
فإنْ كان كلّ ذلك البيان لم يقنعه، ولم يدفع شكّه وريبه، فأمره إلى الله، ولا أحسبه إلّا ممّن قال فيه سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾[135], والله وليّ التوفيق لنا ولهم، وبه المستعان.
ربيع 2 سنة 1358 هـ
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
سؤال من أمريكا
مشيغن
سيّدي الحجّة آل كاشف الغطاء
أُتيح لي أن أطّلع على كتاب "السياسة الحسينيّة"، لجامعه: ولدكم المحروس عبد الحليم، وما دار به من بحوث حول الحسين وسياسة الحسين عليه السلام, فخرجت من هذه المطالعة على وشك الاعتقاد الراسخ من أنّ الحسين لم يُقتل إلّا لأجل شيء معنويّ، وهذا الشيء المعنويّ لا يزال مجهولاً عند الباحثين عن تأريخ الحرب الأُمويّة، وعند أتباع الحسين عليه السلام, الّذين يتحرّون جميع الأساليب المؤثّرة، ويزيدونها على النواجيد[136] الحسينيّة إثارة للذكريات الدفينة[137] التي تمجّد موقف الحسين عليه السلام, وتخذل موقف يزيد والأُمويّين الّذين عاصروه ومشوا على مبادئه وسننه الظالمة.
إنّ الحسين لم يُقتل لأجل الدّين الإسلاميّ، كما تقول الشيعة بذلك، ولم يُستشهَد طلباً للمُلك والسلطان، بل قُتل، عليه السلام, محافظاً على معنويّاته الهاشميّة التي هي علّة وجود الأُمّة العربيّة وبعثها من جديد، متمتّعة بجميع أساليب الثقافة ووسائل النجاح الاقتصاديّ المادّي.
وهذه القَتْلَةُ التي يقولون عنها: إنّها كانت في سبيل الله، وسبيل المحافظة على معنويّة آل محمّد في سبيل الله أيضاً، هي الشيء المعنويّ الذي لا يزال مخبّأً عن أعين الباحثين. ونحن إذا قلنا: إنّ الحسين، عليه السلام ,مات دفاعاً عن شرف الدّين, نكون قد أسأنا إلى الدّين الإسلاميّ نفسه، الذي ليس يقوم على قَتْلة الحسين، عليه السلام, أو استشهاد أيّ نبيّ من الأنبياء، وليس هو صورة مادّية يملكها فرد من البشر، لتموت بموته وتحيا بحياته. والأفضل لكلّ مقتصد، أن يجعل هذه القضيّة قضيّة عائليّة تتفاوت عن حدّ وقوعها بين سموّ مبادئ الحسين وبين انحطاط مبادئ يزيد.
وقد أدرك ولدكم - حرسه الله - في جوابه على كتاب الشيخ عبد المهديّ شيئاً من هذا, إذ قال: إنّ الذي عرّض الحسين للقتل هو تمنّعه عن المبايعة ليزيد، وفي عدم القيام بهذه المبايعة يتعرّض الحسين لأن يقتل بسيوف الأُمويّين، حتّى ولو كان في عقر داره، دون أن يضطرّ إلى الخروج لمحاربة يزيد وأتباعه، وأن يعرّض نساءه وأطفاله للهتك الذي هو صورة القبح عند طبقات الأشراف الّذين منهم الحسين، كما زعم غير واحد في افترائه على الحسين وعائلة الحسين.
إنّ هذا الافتراض ممكن الوقوع أكثر من غيره، ومبايعة الحسن لمعاوية التي ظلّت أسبابها مغمضة في بحثكم[138]، هي التي أجّلت وقوع الحرب الأُمويّة إلى ما بعد وفاة معاوية، ويظهر أنّ الحسن بتعهّده لمعاوية أنّه لا يرى من الحسين شيئاً- كما جاء برسالة سماحتكم - وقف وقفة المشفق الذي لا يريد أن يُفجَع بأخيه وهو حيّ، أراد بمبايعته أن يحجب دماء الأبرياء التي أباحها يزيد في تعنّته وطغيه وفساده واعتدائه على أخيه الحسين. ولكنّ السياسة لعبت دورها يومذاك: إذ مات معاوية الذي كان عنده مخافة من الله أكثر من ولده يزيد[139]، وإذا توفّي الحسن- الذي يعدّ بحقّ نبراس السياسة الهاشميّة المؤدّية إلى إعمال السلام القوميّ- الذي وقف حائلاً في حياته دون وقوع حرب طاحنة كالحرب الأُمويّة، فيما لو ضمّ صوته إلى صوت أخيه الحسين في زمن معاوية، الذي تعود مبايعته لهذا السبب الوفاقيّ- على ما أظنّ- لا لأسباب الخوف والوجل الذي عزاه كثير من ضعفاء العقول والنوايا[140] السيّئة للحسن.
أمّا قضيّة العادة العربيّة التي قلتم- سماحتكم-: إنّها دفعت بالحسين إلى أن يصحب أولاده ونساءه معه مستميتاً في سبيل الكرامة والشرف, فهذه تخضع- على خروجها عن قلم سماحتكم- لضروب النقد والاعتراض, إذ كان الدّين الإسلاميّ، أو التعاليم الإسلاميّة- بتعبير أصحّ - حرمت المرأة من مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم إلّا من وراء الحجاب، وأرجعتها إلى بيتها حيث تقوم بتربية وتهذيب أولادها وتدبير شؤون منزلها، الذي يعدّ نصف الحياة الزوجيّة - إذا لم يكن كلّها- في نظر قانون الزواج المدنيّ والدينيّ، فكيف بالحسين خرق حجاب هذا النظام وأصحب عائلته وتابعيه معه جرياً على العادة العربيّة المعروفة قبل ظهور الإسلام وبعده؟!
وتعلمون أنّ العادة التقليديّة غير حكم الدّين التشريعيّ، فحكم الدّين أسمى مكانة في نفس الحسين من عاطفة العادة، فهل هناك ضرورة حيويّة دفعت بالحسين، أن لا يكترث بتعاليم الدّين، ويتّبع ما أوحته عاطفة العادة التي تعدّ ملغاة بحكم هذه التعاليم؟!
هذا ما نريد الإجابة عنه مفصّلاً.
وهناك شيء آخر يخضع للنقد الشخصيّ، وهو: أنّ الخمسة الأثواب التي أعطاها الحسين إلى محمّد بن بشير الحضرميّ[141] كان يزيد ثمن الواحد منها على المئة ليرة عثمانيّة، لا يتوافق اقتناؤها بهذا الثمن الباهظ من قبل الحسين مع دواعي الزهد التي كانت متجسّمة في أبيه وجدّه سيّد الرسل, إذ عرفنا عن طرق الأحاديث المرويّة أنّ عليّاً والد الحسين كان يرتدي الصوف على بدنه داخلاً ويلبس الأطمار الرخيصة خارجاً، دلالةً على زهده وورعه وتقواه، أو تقليداً للنبيّ الذي هو المثل الأعلى للأُمّة الإسلاميّة، والذي جعل بهذا الارتداء أُمثولة عزاء للفقير الذي لا يستطيع أن يلبس ثوباً يساوي ثمنه مئة ليرة عثمانيّة ونحوها، كما استطاع الحسين أن يلبس[142] مثل هذا الثوب ويهب خمسة على غراره إلى أحد أتباعه من الفقراء؟!
إنّ هذه الرواية - على ما فيها من استقراء في النقل - تصوّر لنا الحسين مسرفاً، طامعاً في خير الدنيا أكثر من خير الآخرة، بينما لو رجعنا إلى استقصاء ورع الحسين وزهده وتقواه لوجدنا ذلك أنّه لا يتوافق ورغبة الحسين في تضميد عواطف الفقراء المجروحة، والترفيه عن كلّ بائس محتاج!
ولو أنّ راوياً عزا ذلك إلى الحسن، الذي كان له مَيلٌ خاصٌّ وصِفةٌ خاصّة بهذا الثراء الدنيويّ لأمكننا أن نصدّق ذلك, بدليل أنّ الحسن نشأ على الأُبّهة والمجد في زمن جدّه وأبيه.
وأمّا الحسين فمن المعروف عنه أنّه كان لا يعرف قيمة للدنيا، ولو عرف لها قيمة لبايع يزيد، وبذلك كان أضاف إلى ثرائه ثراءً آخرَ يدفعه له يزيد بدلاً من تلك المبايعة، التي كانت منعت هذه الحرب وذلك الهتك، وحوّلت معنويّة الحسين من رجل شريف نزيه حافظ على مبدأ أجداده، ومعنويّة هذا المبدأ إلى رجل مادّي عبث بكلّ شيء، وخضع لكلّ شيء بتأثير المادّة[143].
ورواية أُخرى لا تتوافق وصحّة النقل - وهي واردة بجواب سماحتكم - من أنّ زيد بن أرقم قال ليزيد يوم كان يضرب رأس الحسين بعوده: ارفع عودك عن هاتين الشفتين! فوالله طالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبّلهما, إذ إنّه من المعروف أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبّل الحسين في نحره على اعتبار أنّه سيموت مقتولاً، ويقبّل الحسن في فمه على اعتبار أنّه سيموت مسموماً، فكيف تناقض المعنى الذي وقع فعلاً كما أشار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟! وكيف انتقل تقبيل فم الحسن إلى فم الحسين الذي مات منحوراً على قفاه، ولم ينتقل تقبيل نحر الحسين إلى نحر الحسن الذي مات مسموماً في فمه[144]؟!
وفي الاستعراض الدينيّ لأهل البيت نجد اعتراضاً على الحديث الذي ورد بلسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال مخاطباً سلمان الفارسيّ: "نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشريّة.
يا سلمان! أنزلونا عن الربوبيّة ثمّ قولوا فينا ما استطعتم، فإنّ البحر لا يُنزف، وسرّ الغيب لا يُعرف، وكلمة الله لا تُوصف، ومن قال هناك: لِمَ؟! وممَّ؟! وبمَ؟! فقد كفر".
إذ إنّ من يتأمّل المعاني الاستهلاليّة من الحديث، يجد أنّ منها ما يعدّ استكباراً في الأرض، وهو يخالف بمنطوقه إرادة الله التي جاءت في القرآن، فمحت آية الاستكبار الخليقة بالمستضعفين من الناس.
ويجد أنّ كلمة "أسرار الله المودعة" التي عمّت جميع "هياكل البشريّة" تتعرّض للشرّ حيناً، وللخير حيناً آخر، وتنقل من الزهد والتقوى دوراً، وإلى الفساد والإثم والفوضى دوراً آخر، حيث كانت هياكل البشر الطاهرة فيها.
فهل كان الرسول يعني أنّه هو وذرّيّته سرّ الله المودع في هياكل البشريّة الطاهرة فقط؟! أو في جميع الهياكل؟! سواء كانت طاهرة أو خبيثة، مجرمة أو مصلحة، مدنّسة أو غير مدنّسة؟! هذا سؤال نطرحه أمام سماحتكم من الشطر الأوّل من الحديث.
وأمّا الشطر الآخر، فيه: "ومن قال: لِمَ؟! وممّ؟! وبِمَ؟! فقد كفر"، فيكفينا أن نقول: إنّ فيه حَجْراً لعقل الإسلام الذي خُلق حرّاً طليقاً بحكم التشريع الإسلاميّ، ونتساءل كيف أباح النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لنا إدراك الله عن طريق العقل بعد التفكير والتكييف والمقارنة والمشابهة والظنّ والشكّ والريبة وما أشبه ذلك، ثمّ تكون هذه الأشياء كلّها شرعيّة بنظر القانون الإسلاميّ، ولم يبح لنا إدراك كنه "أسرار الله المودعة، وسرّ الله الذي لا يعرف، وكلمة الله التي لا توصف" المتجسّمة في شخصه وشخص ذرّيّته من بعده؟!
إنّ هذا المنع المجرّد عن العقل والرويّة يعرّض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- إذا كان صادراً عنه - إلى عدّة انتقادات عقليّة، أهمّها: إنّه أباح للعقل أن يدرك الله تعالى عن طريق الظنّ والتفكير الذي حرّمه لإدراك شخصه، وبذلك جعل نفسه فوق الله تعالى، وإنْ كانت هذه النفس هي خليقة الله والخاضعة لأمر الله!
هذا، فضلاً عن أنّ هذا الادّعاء المتجسّم في كلمة "سرّ الغيب الذي لا يعرف، وكلمة الله التي لا توصف" يجعل للشكوك والأوهام سبيلاً للوقوف حائلاً بين حكم العقل وعاطفة الاعتقاد، ولماذا لا يُعرف رسول الله الذي هو كلمة الله، وله أعمال وأقوال تدلّ على شخصه وتنمّ عن سجاياه وأخلاقه؟!
ومتى كانت أعمال الرجل وأقواله وتصرّفاته الدينيّة والاجتماعيّة بين أيدينا، يمكننا أن نحكم على شخصيّته من أنّها شخصيّة صالحة إذا كانت أعماله وأقواله توافق الصلاح، وأن نحكم على هذه الشخصيّة من أنّها شخصيّة مجرمة فاسدة فيما إذا كانت أعماله وأقواله تأتي الفساد، وترتكب الإجرام والفوضى الاجتماعيّة!
لا أعتقد أنّ هذا القول يصدر عن نبيّ- كمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم - كان متواضعاً جدّاً، وهو كإنسان بسيط يمشي في الأسواق، ويأكل ويشرب، فكيف به كنبيّ يقول مثل هذا القول الذي هو من صفات الإلهيّة؟!
بل أعتقد أنّ هذا الحديث من جملة الأحاديث التي دسّتها اليهود دسّاً في كتب الإسلام, انتقاصاً من قيمة الدعوة المحمّديّة، التي هي أسمى من كلّ شيء ظهر على وجه الأرض.
أمّا إذا كان هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بصحّتها، فأرجو من سماحتكم أن تتفضّلوا ببيان ذلك ولو مفصّلاً.
من مدرسة كاشف الغطاء الكبرى في النجف الأشرف
27 ربيع 2 سنة 1308 هـ
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد والمجد
إلى الحبر الفاضل، بل الإنسان الكامل، وما أعزّ الكمال في الإنسان!
كان قد وردني منك كتاب فيه شيء من الإطناب، ذكرت فيه بعض الملاحظات على بعض مندرجات "السياسة الحسينيّة"، ووعدتك أن أُجيبك، إن لم يكن عن كلّها فعن بعضها على الأقلّ, في كتاب أرجو أن يكون قد وصل إليك في البريد مع كتاب "أصل الشيعة"، هديّة للسيّد فائز حسين، أمين النهضة العربيّة الهاشميّة، حرسه الله وإيّاك. تقول - أيّدك الله - في كتابك: ونحن إذا قلنا: إنّ الحسين عليه السلام مات دفاعاً عن شرف الدّين، نكون قد أسأنا إلى الدّين الإسلاميّ..." إلى آخر ما أبديت في هذا الموضوع، وكأنّه غاب عنك أنّنا حيث نقول: مات أو قتل دفاعاً عن الدّين, لا نريد أنّ الدّين الإسلاميّ يموت بموته ويحيا بحياته، بل نريد العكس، يعني أنّ الدّين يحيا بموته ويموت باستبقاء حياته وهذه حال جميع من قتل في سبيل الله، الّذين يقول الله جلّ شأنه عنهم: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[145]، مثل: حمزة، وجعفر، وعبيدة بن الحارث، وسعد بن الربيع[146]، وأمثالهم، ممّن بذلوا حياتهم في الدنيا لحياة الدّين، فوجدوا خيراً من تلك الحياة عند الله تعالى, فهم عند الله أحياء غير أموات وإن كانوا بالنظر إلى الدنيا أمواتاً غير أحياء.
ولا يلزم من هذا أن يكون الدّين الإسلاميّ صورة مادّية يملكها فرد من البشر كما تخيّلت، ضرورة أنّ الدّين هو عبارة عن تلك الأحكام والقوانين التي جاء بها الرسول الأمين من ربّ العالمين، وحياتها وموتها بالعمل بها وعدم العمل بها.
ولمّا سلك يزيد، في خلافته، مسلكاً يوجب إبطال العمل بشرائع الإسلام، حيث صار يجاهر بشرب الخمور وارتكاب الفجور وترك الصوم والصلاة، والناس يتّبعونه طبعاً, لأنّ "الناس على دين ملوكهم" كما قيل[147]، وكأنّه بهذا يريد القضاء على الإسلام وموته, لذلك ضَحّى الحسين عليه السلام بحياته وحياة خيرة أهل بيته وأصحابه، إنكاراً على يزيد، وإبطالاً لمساعيه، وإحياءً للدّين، ولحمل الناس على العمل بشرائعه، كما قال سلام الله عليه، أو قيل عنه:
إن كان دينُ محمّد لم يستقم إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني!
فحقّاً أنّ الحسين - سلام الله عليه - ما بذل نفسه إلّا دفاعاً عن شرف الدّين وتفادياً للمبدأ المقدّس، ولا نكون بهذا قد أسأنا إلى الدّين، بل أحسنّا إليه، حيث جعلناه فوق نفس الإمام المعصوم، وأنّه يُفدى بأعزّ النفوس.
ومن الغريب قولك - حرسك الله - على قولنا: "أنّ العادة العربيّة دفعت بالحسين عليه السلام أن يصحب أولاده ونساءه معه مستميتاً في سبيل الكرامة والشرف، فقلتم: إنّ التعاليم الإسلاميّة حرمت المرأة (من) مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم إلّا من وراء حجاب! أليس من الغريب أن تقول - وأنت بهذه الثقافة -: إنّ الدّين الإسلاميّ حرم المرأة من مخالطة الرجال، فتجعل ذلك وصمة شنعاء ولطخة سوداء في جبين الدّين الإسلاميّ؟!
كيف يقال هذا وهذه الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام بنت مشرّع الدّين الإسلاميّ، خطبت في المسجد النبويّ في حشد المهاجرين والأنصار تلك الخطبة البليغة الغرّاء التي تستغرق ما يقرب من ساعة، وكلّهم يسمعون ويشهدون[148].
وهذه عائشة ما زالت مدّة عمرها تخطب[149]، وتحدّث الرجال بالأحاديث النبويّة، وإذا نظرت إلى كتب صحاح إخواننا السُنّيّين تجد الربع أو الثلث تقريباً ينتهي سنده إلى عائشة، حتّى نسبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "خذوا ثلث دينكم من الحميراء"[150].
دع عنك هذا! وراجع كتاب "بلاغات النساء" وأمثاله، وانظر إلى النساء اللاتي كنّ يخطبن في الجيوش في صفّين ويحرّضن أهل العراق على حرب أهل الشام[151]!
وانظر إلى كلام الوافدات [152]على معاوية بعد أن تمّ الأمر له، وكيف كانت تلك النسوة أجرأ من اللبوة، وأقوى قلباً من الصخور.
أُنظر إلى الخنساء[153] يوم حرّضت أولادها الأربعة في بعض حروب المسلمين حتّى قُتلوا جميعاً[154]. وبعد هذا، فهل تجد من الصحيح قولك: "إنّ الإسلام حرم المرأة من مخالطة الرجال"؟!
ألم تكن النساء تضمّد الجرحى وتسقي العطاشى، وتزغرد وتهلهل وتحرّض المقاتلين على الهجوم في حرب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحرب الوصيّ عليه السلام ؟!
دع وانظر إلى صفايا النبوّة وحرائر الرسالة وبنات سيّد الموحّدين ويعسوب الدّين عليه السلام, من زينب وأُمّ كلثوم وسكينة وخطبهنَّ في كربلاء والكوفة والشام، وفي مجلس يزيد وابن زياد، وفي النوادي والمجتمعات، فهل مع هذا كلّه تقول: إنّ التعاليم حرمت المرأة من مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم وأرجعتها إلى بيتها؟!
أمّا آية الحجاب، فهي واردة في خصوص نساء النبيّ عليه السلام , وكان الأعراب الّذين أخبر الله جلّ شأنه عنهم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾[155] يؤذون نساء النبيّ بالهجوم عليهنّ في منازلهنّ، فنهاهم الله عن ذلك، راجع سورة الأحزاب[156]. نعم، إنّ التعاليم الإسلاميّة حرّمت على النساء مطلقاً التبرّج وإظهار الزينة للرجال: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾[157]، وأين هذا من حرمة المخالطة؟!
ولو سلّمنا تنازلاً بحرمة المخالطة، فأيّ منافاة بهذا لِما أبديناه وأريناه من أنّ حمله لنسائه وأولاده استماتة في سبيل الكرامة والشرف؟! فإنّ حمله لهنّ لا يستلزم المخالطة بوجه، وإلاّ لَما جاز لامرأة أن تسافر من محلّ إلى آخر أبداً!
وأغرب من ذلك، بل وأعجب جدّاً قولك - أيّدك الله وسدّدك: "وهناك شيء آخر يخضع للنقد الشخصيّ، وهو أنّ الخمسة الأثواب يزيد ثمن الواحد منها على مئة ليرة عثمانيّة لا يتوافق اقتناؤها مع دواعي الزهد التي كانت متجسّمة في أبيه وجدّه سيّد الرسل..." إلى آخر ما أفضت به وأفدت في هذه الناحية. وكأنّك - عافاك الله - تحسب أنّ الزهد هو الفقر والفَلاكة[158] وعدم الوجدان، وأنّ الغناء والثروة تنافي الزهد؟! لا يا عزيزي، أعزّك الله! حقيقة الزهد هو عدم الحرص على المال، وعدم المبالاة في الدنيا، وأن يكون وجود المال وعدمه عنده سواء, وقد جمع الله الزهد في كلمتين: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾[159]، وحقيقة الزهد لا تظهر ولا تتجلّى إلّا مع توفّر النعم وغزارة المال وبذله، وعدم الحرص، والتعفّف عن رذيلة الشحّ والبخل ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[160].
أمّا الفقير المعدم، الذي لا يجد ولا يملك شيئاً، فأيّ زهد له؟! وأيّ فضيلة له بذلك الزهد القهريّ؟! وقد سئل الحسن البصريّ: "أنت أزهد أم عمر بن عبد العزيز- وهو خليفة المسلمين -؟ فقال: عمر بن عبد العزيز أزهد منّي, لأنّه وجد فعفّ، وتمكّن فكفّ, ولعلّ الحسن لو وجد وتمكّن لاستخفّ، وأكل فأسرف[161].
وأمّا رسول الله وأمير المؤمنين - صلوات الله عليهما وآلهما - حيث كانا يأكلان الشعير ويلبسان الصوف، فليس لأنّهما كانا لا يتمكّنان من المآكل الطيّبة والملابس الليّنة، ولكنّهما كانا يحتقران الدنيا ونعيمها الفاني، ويقولان عن أهل الدنيا: "أُولئك قومٌ عجّلت لهم طيّباتهم، ونحن أُخّرت طيّباتنا"[162]. ولأمير المؤمنين عليه السلام, في نهج البلاغة كلام مع العلاء بن عاصم، الذي ترك الدنيا ولبس الصوف، فقال له: "يا عُدَيَّ[163] نفسه! لقد استهام بك الخبيث" يعني: الشيطان. فقال: يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟! قال: "ويحك! إنّي لستُ كأنت، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس, كي لا يتبيّغ[164]بالفقير فقره"[165].
وللباقر والصادق عليهما السلام مع سفيان الثوريّ وأصحابه من متقشّفة ذلك العصر ومتصوّفة تلك الأيّام، حيث كانوا يعترضون على الأئمّة عليهم السلام إذا وجدوا عليهم بعض الملابس الفاخرة قائلين: "إنّ جدّكم رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما ما كانا يلبسان هذه الملابس؟! فيقول لهم الإمام: "ذاك حيث إنّ الزمان قلّ، أمّا إذا درّت الدنيا أخلافها فأَوْلى الناس بها أولياء الله", أو ما هو بهذا المضمون[166]. وللرضا عليه السلام كلامٌ عال شريفٌ في هذا الموضوع[167]. ولقد كان لأمير المؤمنين عليه السلام في المدينة من الضياع والبساتين والمزارع، كعين أبي نيزر والبغيبغة وغيرها[168]، ما يدرّ كلّ سنة بأُلوف الدنانير، وقد أوقفها جميعاً في سبيل الله، وكان يضرب بالمسحاة بيده في عقار الله، لا حرصاً على الدنيا والأموال، ولكن حرصاً على الإنفاق في سبيل الله والإحسان على الضعفاء من عباد الله[169].
وكانت قِنية[170] تلك الأثواب الثمينة تمسّ ورع الحسين عليه السلام وزهده لو كان يشحّ بها ويحرص عليها، أمَا وقد بذلها في فكّ الأسير المجاهد في سبيل الله فتلك فضيلة للحسين، عليه السلام, وكرامة تزيد في علوّ ورعه وزهده، ورغبته في تضميد عواطف الفقراء المجروحة، والترفيه عن كلّ بائس محتاج. ولعلّك - عافاك الله - حسبت أنّ الحسين، عليه السلام, يلبس تلك الثياب ويتظاهر فيها بالبذخ والخيلاء، أو نحو ذلك ممّا ينافي تلك القدسيّة السامية!
كلاّ يا عزيزي! فإنّ الحسين، سلام الله عليه، لو ملَكَ الدنيا كلّها لوهبها لحظة واحدة في سبيل الله، وفي سبيل البرّ والمعروف، وما كان يضع شيئاً من تلك الثياب على بشرة بدنه الشريف، وإنّما يقتنيها ليجود بها ويعطيها ويضعها في مواضعها اللائقة بها.
وقد ورد في بعض الأخبار أنّه سلام الله عليه لمّا استُشهد كان عليه من الدّين سبعة آلاف دينار ذهباً، أو سبعون ألفاً، وأنّ عليّ بن الحسين لمّا رجع إلى المدينة امتنع عن الطعام والمنام إلى أن قضاها عن أبيه[171].
والخلاصة: أنّ الزهد هو قطع العلاقة عن الدنيا، وعن حبّ المال، لا عدم وجود المال، وليس الزهد هو لبس الثياب الممزّقة والأطمار المرقّعة والمآكل الخشنة! واسمح لي - يا نور عيني - أن أقول لك: إنّ أكثر الناس لا يعرفون من حقيقة الزهد شيئاً، والموكب العظيم الذي سار فيه الحسين عليه السلام من الحجاز إلى العراق، وسقى في قفر الأرض بِحَرّ الهجير ألف فارس وألف فرس[172]أعظم من قضيّة الثياب الخمسة.
أمّا زيد بن أرقم وقوله: "إرفع عودك عن هاتين.." إلى آخره..
فلعلّ تقبيل رسول الله شفتَي الحسين، عليه السلام, من جهة أنّه تعالى أعلمه أنّهما موضع ضرب يزيد وابن زياد الّلذَيْن قرعا ثغر الحسين عليه السلام بالخيزرانة[173].
وأمّا حديث: "نحن أسرار الله المودعة.." إلى آخره..
فحيث إنّه من الأسرار التي لا يليق إفشاؤها[174]، مضافاً إلى ضيق المجال وطول المقال، فالأجدر عدم الخوض فيه. ونسأله تعالى أن يعصم أفهامنا وأقلامنا من الهفوات.
وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلت وإليه أُنيب.
محمّد الحسين آل كاشف الغطاء
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] تأليف المرجع والعلاّمة الكبير, الشيخ محمّد حُسين كاشف الغطاء قدّس سرّه, المتوفّى سنة 1373 هـ, تحقيق عليّ جلال باقر.
[2] انظر: الاحتجاج ج 2 ص 166, عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 86.
[3] انظر تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن)، سورة الإسراء7 : 60, في تفاسير الفريقين.
[4] بحار الأنوار: ج 44 ص 329- 330.
[5] انظر ترجمة الشيخ مفصّلاً في: مقدّمة جنّة المأوى، ومقدّمة المراجعات الريحانيّة، والعبقات العنبريّة في طبقات الجعفريّة، وشعراء الغريّ، ومصادر كثيرة أُخرى.
[6] هو: السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ التبريزيّ، وُلد في تبريز سنة 1331 هـ، عالم فاضل، درس المقدّمات في تبريز عند والده السيّد محمّد القاضي وعمّه السيّد أسد الله القاضي وغيرهما من أساتذة الحوزة العلميّة هناك، ثمّ سافر إلى مدينة قمّ المقدّسة سنة 1357 هـ، فأخذ عن علمائها حتّى مرحلة البحث الخارج، وفي سنة1369 هـ, وبعد أن أكمل مرحلة السطوح شدّ الرحال إلى مدينة جدّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام, إلى حيث القبّة التي يرقد تحتها باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إلى النجف الأشرف، للاغتراف من نمير علمائها، والارتشاف من مناهل فطاحلها، ثمّ عاد إلى مدينته تبريز سنة1372 هـ, بعد أن حاز على درجة الاجتهاد، واتّجه نحو التأليف والتحقيق وإقامة صلاة الجماعة مع أداء واجباته الدينيّة الأُخرى. له مؤلّفات عديدة، منها: كتاب في علم الكلام، أجوبة الشبهات الواهية، رسالة في إثبات وجود الإمام عليه السلام في كلّ زمان، عائلة عبد الوهّاب، حديقة الصالحين. ومن أعماله: جمع وترتيب كتاب "جنّة المأوى" لأُستاذه الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء، مع إضافة بعض البحوث العلميّة والتاريخيّة والتعليقات النافعة إليه، وسعى في طبعه ونشره لأوّل مرّة في تبريز. استشهد، قدّس سرّه، في تبريز في:11 ذي الحجّة 1399 هـ.
[7] المتحدّث هو: الشيخ عبد الحليم ابن الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.
[8] كذا في الأصل، ولعلّ الأقرب إلى الصواب: ما من امرئ إلّا معرّضٌ له، أو ما من أمر إلّا عرضةٌ له، أي: عرضةٌ للشكّ.
[9] أي واقعة الطفّ الأليمة في كربلاء، في عاشوراء سنة 61 هـ.
[10] هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وُلد سنة22 وقيل سنة 27 هجريّة، ثاني ملوك الدولة الأُمويّة، ترعرع في تدمر فنشأ نشأة بدويّة، وكان دائم الشغل بالصيد والعبث واللهو والشراب، يدخل المغنّين إلى قصر معاوية "الخضراء" في جوف الليل مع علم معاوية. أُمّه: ميسون بنت بحدل بن حنيف الكلبيّة، و"كلب" قبيلة كانت نصرانيّة، أسلمت بعد الفتح الإسلاميّ للشام.
كان يزيد أوّل من سنّ الملاهي في الإسلام، وآوى المغنّين، وأظهر الفسق وشرب الخمر، وكان ينادم عليها جون- مولاه- والأخطل الشاعر، وظهر الغناء بمكّة والمدينة في أيّامه، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان يفعل فعل المجوس من نكح الأُمّهات والمحارم، ويتّخذ الغلمان والقيان.
ذكر المؤرّخون أنّه أمر مسلم بن عقبة باستباحة المدينة ثلاثة أيّام في وقعة الحرّة، وقتل أهلها الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ وحتّى بقيّة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأمر أيضاً الحصين بن نمير بإحراق الكعبة بالمنجنيق ورميها بالنّار والحجارة حتّى هدّمت وأُحرقت البنية. إضافة إلى كلّ هذه الأفعال الشنيعة، فإنّه ارتكب جريمة يندى لها جبين البشريّة ووجه التاريخ إلى يوم القيامة، ألا وهي جريمة قتل سبط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عليه السلام, وأخذ عياله ونسائه سبايا، فهذه الجريمة النكراء هي وحدها كافية بأن تخرج يزيد اللعين من الدّين والملّة.
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعدج 4 ص 212, أنساب الأشراف ج 5 ص 229- 376, الإمامة والسياسة ج 1 ص 234, وج 2 ص 5- 17, تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 154, تاريخ الطبريّ ج 5 ص 623, الفتوح- لابن أعثم- ج 3 ص 180- 188, البدء والتاريخ ج 2 ص 241- 244, العقد الفريد ج 3 ص 362, مروج الذهب ج 3 ص 67- 72, الأغاني ج 8 ص 336, البداية والنهاية ج 8 ص 181- 189, وللمزيد من التفصيل راجع: كتاب "يزيد في محكمة التاريخ" لجواد القزوينيّ.
[11] الصحيح هو: الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولّاه معاوية على المدينة سنة 58 بعد أن عزل عنها مروان. بعث له يزيد بن معاوية رسالة يطلب فيها منه أن يأخذ البيعة له من الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام بعد هلاك أبيه. انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 252, تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 154, الكامل في التاريخ ج 3 ص 377.
[12] انظر: تاريخ خليفة بن خيّاط ص177, أنساب الأشراف ج 5 ص 313- 317, تاريخ الطبريّ ج 3 ص 269- 270, مقتل الحسين- لابن أعثم الكوفيّ- ص 15- 20, مقتل الحسين- للخوارزميّ- ج 1 ص 268, البداية والنهاية ج 8 ص 118, تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 24, الملهوف على قتلى الطفوف ص 96- 98.
[13] الصحيح هو: الوليد، كما سبق أن أشرنا، وقد عزله يزيد عن المدينة وولّى بدلاً عنه عمرو بن سعيد الأشدق. انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 304, حوادث سنة 60 هـ, الكامل في التاريخ ج 3 ص380 حوادث سنة 60 هـ، تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 25, حوادث سنة 60 هـ.
[14] انظر تفصيل الحوار الذي دار بين الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام وبين الحرّ بن يزيد الرياحي في: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 305- 306, حوادث سنة 61 هـ، مقتل الحسين-لابن أعثم ص 89- 96, مقتل الحسين- للخوارزميّ ج 1 ص 329- 333.
[15] لقد أورد ابن عساكر حديثاً أحببت أن أذكره هنا لمناسبته للمقام، قال: و(حدثنا) موسى بن إسماعيل، (حدثنا) جعفر بن سليمان، عن يزيد الرشك، قال: حدّثني من شافه الحسين، قال: رأيت أبنية مضروبة بفلاة من الأرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه لحسين. قال: فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن، قال: والدموع تسيل على خدّيه ولحيته، قال: قلت: بأبي وأُمّي يا بن رسول الله! ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟! فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليَّ، ولا أراهم إلّا قاتليَّ، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلّا انتهكوها، فيسلّط الله عليهم من يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأمَة: يعني منفعتها. انظر: تاريخ دمشق ج 14 ص 216, ترجمة الإمام الحسين ابن عليّ عليه السلام .
أقول: فوالله ما التفرّق والذلّ الذي يعيشه المسلمون عامّةً، والعرب خاصّةً، من بعد ذاك اليوم إلى يومنا هذا، وإلى يوم الوقت المعلوم، إلّا نتيجة الجريمة الشنعاء التي ارتكبها يزيد وأعوانه، بقتلهم سيّد شباب أهل الجنّة ابن بنت رسول الله وريحانته الإمام الحسين عليه السلام , وخذلان غيرهم، ورضا وسكوت آخرين، من قبل وقعة الطفّ الفظيعة وحتّى زماننا هذا، فحقّ عليهم دعاؤه عليه السلام : " اللّهمَّ إنْ متّعتَهم إلى حين فَفَرِّقْهم فِرَقاً، واجعلْهم طَرَائقَ قِدَداً، ولا تُرْضِ الولاةَ عنهم أبداً: فإنّهم دَعَونا لِيَنْصرونا، ثمَّ عَدَوْا علينا فقتلونا". انظر: الإرشاد ج 2 ص 110- 111.
[16] راجع مباحث الإمامة في: دلائل الصدق ج 4 ص 205 وما بعدها.
[17] كذا في الأصل، والظاهر أنّه تصحيف: "الحكيم"، بقرينة: "الملِك الحكيم" التي جاءت قبل عدّة أسطر.
[18] إشارة إلى المادّيّين الّذين يسلّمون بوجود المادّة وحدها، وبها يفسّرون الكون والمعرفة والسلوك، ويقولون بأنّ الطبيعة هي المدبّرة لعوامل الكون.
[19] سورة النساء الآية 65.
[20] اللمعة البيضاء- للتبريزيّ ص 64- 65 عن معاني الأخبار، الأنوار اللامعة في شرح الزيارة الجامعة- للسيّد عبد الله شبّر ص 210.
[21] عجز بيت من قصيدة للشاعر بهاء الدّين زهير، المتوفّى656 هـ، وتمامه في الديوان، ص 156: إنْ صحَّ أنّ الليلَ كافِرْ لي فيكَ أجرُ مجاهِد والكَفر- لغةً-: ستر النعمة، وأصله الكَفر- بالفتح, أي: الستر، ومنه سُمّيَ المزارع كافراً لستره البذر، وقيل: الليل كافر, لأنّه يستر بظلمته كلّ شيء، وكَفَر الليلُ الشيءَ، وكَفر عليه بمعنى غطّاه. انظر: تفسير الطبريّ ج 1 ص 143, فيض القدير في شرح الجامع الصغير ج 1 ص 22, لسان العرب ج 12 ص 120, مادّة "كفر"، تاج العروس ج 7 ص 452, مادّة "كفر". - العَيْثُ: مصدر عاثَ يعيثُ عَيثاً وعُيوثاً وعَيثاناً: أفسد وأخذ بغير رفق، وقيل: هو الإسراع في الفساد. انظر: لسان العرب ج 9 ص 491, مادّة "عيث".
[22] العَيْثُ: مصدر عاثَ يعيثُ عَيثاً وعُيوثاً وعَيثاناً: أفسد وأخذ بغير رفق، وقيل: هو الإسراع في الفساد. انظر: لسان العرب ج 9 ص 491, مادّة "عيث".
[23] كما مرّ في ترجمته في الصفحة 317 فراجع!
[24] انظر: البداية والنهاية ج 8 ص 131.
[25] الملهوف على قتلى الطفوف ص 128، بحار الأنوار ج 44 ص 364, ينابيع المودّة ج 2 ص 60. وانظر: أُسد الغابة ج 1 ص 498 رقم 1173, ترجمة الإمام الحسين- ابن سعد- ص59, تاريخ دمشق ج 14 ص 209.
[26] السياسة الإسلاميّة لماربين
[27] المراد أنّ حرائر الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام كالنجم في البعد وعلوّ المرتبة، وفي منزلة يستحيل معها الوصول إليهن أو مسّهنَّ بما يخدش عفّتهنَّ، روحي وأرواح العالمين لهنّ فداء.
[28] البيت للشاعر جواد بدقت الأسديّ، ضمن قصيدة من35 بيتاً، مطلعها:
رسوم بأعلى الرقمتين دوائرُ بواعث أنّي للغرام مؤازرٌ
إلى أن يقول:
فيحسب راء أنّهنَّ سوافِرُ يطوف على وجه البراقع نورها
ويقول في آخر القصيدة:
ويا ليت خدّي دون خدّك عافرُ فيا ليت صدري دون صدرك موطئٌ
والشاعر هو: جواد بن محمّد حسين الأسديّ الحائريّ، الشهير بـ (بدقت) أو (بذكت)، وُلد في كربلاء عام 1210 هـ. كان فاضلاً أديباً مشهورَ المحبّة لأهل البيت عليهم السلام, ومن مشاهير شعراء القرن الثالث عشر، ساجل العديد من شعراء عصره، أمثال الشيخ صالح الكوّاز كما ذكر ذلك الشيخ اليعقوبيّ في "البابليّات".
[29] انظر: مناقب آل أبي طالب- لابن شهرآشوب ج 4 ص 40.
[30] الصِّلْدِمُ والصُّلادِمُ: الشديدُ الحافر، وقيل: الصِّلْدِمُ: القويّ الشديد من الحافِر، وجمعه: صَلادِم- بالفتح-، وفرسٌ صِلْدِمٌ- بالكسر-: صُلْبٌ شديد، ورأسٌ صِلْدِمٌ وصُلادِمٌ- بالضمّ-: صُلْب. وهي هنا كناية عن قوّة حجّة الإمام الحسين عليه السلام وبلاغته. انظر: لسان العرب ج 7 ص 387, مادّة "صلدم".
[31] أي: أحدّ من السيوف.
[32] من حِكَمِ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام, انظر: نهج البلاغة 545 رقم 394.
[33] مقتل الإمام الحسين- لابن أعثم الكوفيّ- 30.
[34] القَعَس: نقيض الحَدَب، وهو خروج الصدر ودخول الظهر, قَعِسَ قَعَساً، فهو أقْعَس ومُتقاعس، والمرأة قعساء، والجمع: قُعْس.
و"همّته القعساء" هنا كناية عن علوّ همّة الإمام الحسين عليه السلام وارتفاع عزيمته وسموّ شأنه. انظر: لسان العرب ج 11 ص 243, مادّة "قعس".
[35] تقدّمت الإشارة إلى ذلك.
[36] القَصْعَةُ: الصَّحفة أو الضَّخمة منها تشبع العشرة، والجمع: قِصاعٌ وقِصَعٌ وقَصَعات. انظر مادّة "قصع" في: لسان العرب ج 11 ص 193, تاج العروس ج 11 ص 375.
[37] الطَّسُّ: الطَّسْتُ من آنية الصفر، أُنثى تُذكَّر، وهي فارسيّة، والجمع: طِساس. انظر: تاج العروس ج 3 ص 90, مادّة "طست" وج 8 ص 340 مادّة "طسس".
[38] الراوية: هو البعير أو البغل أو الحمار يُستقى عليه الماء، والراوية هنا هي المِزادة والوعاء الذي يكون فيه الماء، سمّيت راوية لمكان البعير الذي يحمله. انظر: لسان العرب ج 5 ص 380, مادّة "روي".
[39] خَنَثَ: ثَنَى وكَسَرَ، خنَثَ فَمَ السِّقاء: ثنى فاهُ وكَسَرَه إلى الخارج، فشرب منه، وإن كَسَرَهُ إلى الداخل فقد قَبَعَهُ. انظر: تاج العروس ج 3 ص 207, مادّة "خنث".
[40] انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 305, مقتل الحسين للخوارزميّ ج1 ص 329- 330.
[41] الصَّحْصَحُ والصِّحصحاحُ والصَّحصحان: كلّه ما استوى من الأرض وجَرَد، والجمع: الصحاصِحُ, والصَّحصحُ, الأرض الجرداء المستوية ذات حصىً صغار، وأرض صحاصحُ وصحصحان: ليس بها شيء ولا شجر ولا قرار للماء. انظر: لسان العرب ج 7 ص 277, مادّة "صحح".
[42] الحُمُول: الإبل وما عليها من الهوادج والأثقال. انظر: لسان العرب ج 3 ص 334, مادّة "حمل".
[43] انظر: مجمع البحرين ج 5 ص 461, مادّة "كربل".
[44] كذا في الأصل، والظاهر أنّ كلمة "بن" ساقطة, لأنّ بعض المصادر التي نقلت القصّة ذكرت أنّه "محمّد بن بشير الحضرميّ" ,كما في: ترجمة الإمام الحسين ومقتله لابن سعد ص 71, تاريخ دمشق ج 14 ص 182, اللهوف على قتلى الطفوف ص 153، بغية الطلب في تاريخ حلب ج 6 ص 2592, تهذيب الكمال ج 4 ص 483, ومصادر أُخرى ذكرت أنّه "بشير بن عمرو الحضرميّ" كما في: مقتل الحسين- لأبي مخنف- ص 156، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 330, وترجم له صاحب "تنقيح المقال" قائلاً: بشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرميّ الكنديّ، كان من حضرموت وعداده في كندة، وكان تابعيّاً، وله أولاد معروفون بالمغازي، وكان ممّن جاء إلى الحسين عليه السلام أيّام المهادنة. انظر: تنقيح المقال ج 1 ص 173 رقم 1331.
[45] الحويَّة: كساء محشوُّ حول سنام البعير، وهي السويّة، والحويّة لا تكون إلّا للجمال، والسويّة قد تكون لغيرها، لذا تقول العرب: المَنايا على الحَوايا, أي قد تأتي المنيّة للشجاع وهو على سرجه. انظر: لسان العرب ج 3 ص 409, مادّة "حوا".
[46] انظر: ترجمة الإمام الحسين ومقتله- لابن سعد- ص 71 رقم 292، تاريخ دمشق ج 14 ص 182, الملهوف على قتلى الطفوف 153- 154, بغية الطلب في تاريخ حلب ج 6 ص 2592, تهذيب الكمال ج 4 ص 483, بحار الأنوار ج 44 ص 394.
[47] انظر: شرح نهج البلاغة ج 2 ص 123, تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 266.
[48] النَّقِبْ: رقّة الأخفاف، نَقِبَ البعيرُ ينقبُ فهو نَقِبٌ، بالكسر إذا رقّت أخفافه. انظر: لسان العرب ج 14 ص 249, مادّة "نقب".
[49] الهُلْبُ: الشَّعر كلّه، وقيل: هو في الذَّنَب وحده, وقيل: هو ما غلظ من الشعر، والهُلْبةُ شعر الخنزير الذي يخرز به. انظر: لسان العرب ج 15 ص 111, مادّة "هلب".
[50] السِّبْتُ- بالكسر-: جلود البقر المدبوغة بالقَرظ، تحُذى منه النَّعال السبتية. انظر: لسان العرب ج 6 ص 140, مادّة "سبت".
[51] انظر: الأغاني ج 1 ص 18- 19, تاريخ دمشق ج 28 ص 261, وج 48 ص 285, النهاية في غريب الحديث والأثر ج 1 ص 78, شرح نهج البلاغة ج 20 ص 139. وذكر القصّة ابن منظور في لسان العرب ج 1 ص 244, مادّة "أنن", وقال: "إنّ وراكبها, يعني: نعم مع راكبها.
[52] ذلاذل القميص: ما يَلي الأرض من أسافله، الواحد ذُلذُلٌ. انظر: لسان العرب ج 5 ص 57, مادّة "ذلل".
[53] انظر: تاريخ الطبريّ ج 1 ص 467- 482, أحداث معركة ذي قار، و ج 2 ص 166 أحداث غزوة حنين سنة 8 هـ.
[54] انظر: مقتل الحسين- لابن أعثم الكوفيّ- ص 140، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 332, الملهوف على قتلى الطفوف ص 168- 169.
[55] سورة الحجرات الآية 9.
[56] انظر: تحف العقول ص174، مقتل الحسين- للخوارزميّ- ج 1 ص 337, كشف الغمّة ج 2 ص 32.
[57] نَبَسَ ينبسُ نبساً: وهو أقلّ الكلام, وما نبس، أي: ما تحرّكت شفتاه بشيء، وما نبس بكلمة, أي: ما تكلّم. انظر: لسان العرب ج 20 ص 14, مادّة "نبس".
[58] الإصحار: المجاهرة بالشيء، وأبرز له ما في نفسه صَحاراً, أي: جاهره به جهاراً. انظر: لسان العرب ج 17 ص 289, مادّة "صحر".
[59] أقول: لقد وصل ببعضهم الكره والبغض ونصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام إلى درجة النطق بمثل هذه التفاهات والترّهات، بل قالوا كلمة الكفر، ومن أمثال هؤلاء النواصب: أبو بكر بن العربيّ محمّد بن عبد الله، المتوفّى سنة 543 هـ, راجع تفاهاته في كتابه المسمّى "العواصم من القواصم" ص 211- 216, وعبد الرحمن بن خلدون، المتوفّى سنة 808 هـ, راجع مخاريقه في "مقدّمته" ص 170- 171. وقد تصدّى لإمثال هؤلاء النواصب، وردّ على ترّهاتهم وخرافاتهم المحققُ الكبير والعلاّمة السيّد عليّ الحسينيّ الميلانيّ في "نفحات الأزهار" ج 4 ص 236- 242, فجزاه الله خير الجزاء.
[60] الغائلة: الحِقد الباطن. انظر: لسان العرب ج 10 ص 161, مادّة "غيل".
[61] هنا إشارة إلى تفسير الآية الكريمة: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ) سورة الإسراء الآية 60, التي نزلت في بني أُميّة الّذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وقد نقلت ذلك كتب التفسير والحديث والتاريخ، انظر مثلاً: تفسير الثعلبيّ ج 6 ص 111, تفسير ابن جزيّ الكلبيّ ج 2 ص 174, تفسير القرطبيّ ج 10 ص 183- 184, تفسير الفخر الرازيّ ج 20 ص 239, زاد المسير ج 5 ص 40- 42, البحر المحيط ج 6 ص 54- 55, تفسير ابن كثير ج 3 ص 48, تفسير البيضاويّ ج 1 ص 575, الكشّاف ج 2 ص 455, الدرّ المنثور ج 5 ص 309- 310, تفسير غرائب القرآن- للنيسابوريّ ج 4 ص 361- 362, فتح القدير ج 3 ص 238- 240, فتح الباري ج 8 ص 508 ح 4716, عمدة القاري ج 19 ص 30, لباب النقول في أسباب النزول- بهامش تفسير الجلالين ص 235, مجمع البيان ج 6 ص 250, شرح نهج البلاغة ج 9 ص 220, وج 12 ص 81, مسند أحمد ج 2 ص 522, مجمع الزوائد ج 5 ص 240- 241, تاريخ الطبريّ ج 5 ص 621, حوادث سنة 284 ه, الخلفاء الراشدون- للذهبيّ- ص 209- 210, البداية والنهاية ج 6 ص 176- 177, و182, تاريخ الخلفاء- للسيوطيّ- ص 16.
[62] السبخة: أرضٌ ذات ملح ونَزّ، وجمعها سِباخ. انظر: لسان العرب, ج 6 ص 148, مادّة "سبخ".
[63] انظر: أنساب الأشراف ج 3 ص 413- 415, تاريخ الطبريّ ج 3 ص 337, مقتل الحسين, لابن أعثم الكوفيّ ص 152- 156, مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 58- 62, الردّ على المتعصّب العنيد ص 44, الكامل في التاريخ ج 3 ص 436.
[64] انظر: أنساب الأشراف ج 3 ص 412- 413, تاريخ الطبريّ ج 3 ص 336, مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 58- 62, الردّ على المتعصّب العنيد ص 44, الكامل في التاريخ ج 3 ص 436, أُسد الغابة ج 2 ص 21, ترجمة الإمام الحسين عليه السلام, البداية والنهاية ج 8 ص 152.
[65] الكعام: شيء يجعل على فم البعير، كعم يكعمُ كعماً، فهو مكعوم وكعيم: شدّ فاه، والجمع: كُعُم. انظر: لسان العرب ج 2 ص 110, مادّة "كعم".
[66] سورة الزمر الآية: 42.
[67] انظر: ترجمة الإمام الحسين عليه السلام لابن سعد ص 79، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 337, مقتل الحسين عليه السلام لابن أعثم الكوفيّ ص 150- 151, الكامل في التاريخ ج 3 ص 435.
[68] الجامعة: الغُلُّ: لأنّها تجمع اليدين إلى العنق. انظر: لسان العرب ج 2 ص 359, مادّة "جمع".
[69] الشِّنْشِنة: الطبيعة والخليقة والسَّجيّة، والشناشن العربية: يعني السجايا والأخلاق والطبائع العربيّة. انظر: لسان العرب ج 7 ص 220, مادّة "شنن".
[70] استُشهدت مع الإمام الحسين عليه السلام يوم الطفّ امرأةٌ واحدة، هي: أُمّ وهب النمريّة القاسطيّة، ذكر ذلك الطبريّ في تاريخه، بعد أن سرد قصّة التحاقها هي وزوجها عبد الله بن عمير الكلبيّ بركب الإمام عليه السلام يوم الطفّ، وخروج زوجها للمبارزة والقتال بين يدي الإمام عليه السلام, وخروجها هي أيضاً للقتال شاحذةً همّة زوجها، مناصرةً لإمام زمانها، ولكنّ الإمام عليه السلام منعها وردّها إلى الخيام، قائلاً لها: ارجعي رحمك الله إلى النساء، فإنّه ليس على النساء قتال. قال: وخرجت إلى زوجها بعد أن استشهد حتّى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئاً لك الجنّة: فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام له يسمّى رستم: اضرب رأسها بالعمود! فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها. تاريخ الطبريّ ج 3 ص 321- 322 و 326, وانظر: أنساب الأشراف ج 3 ص 398, الكامل في التاريخ ج 3 ص 422, البداية والنهاية ج 8 ص 145, إلّا أنّ ابن أعثم الكوفيّ وابن شهرآشوب والخوارزميّ وابن طاووس رووا أنّها كانت مع ولدها وهب وزوجته، التي حاولت أن تثنيه عن الخروج والقتال مع الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام في بادئ الأمر، لكنّ أُمّه كانت تشدّ من أزره وتحثّه على الاستشهاد بين يدي الإمام عليه السلام ليكون شفيعاً له عند ربّه يوم القيامة، إلّا أنّ زوجته أخذت- بعد ذلك- عموداً فأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأُمّي! قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فأقبل ليردّها إلى النساء، فأخذت بثوبه وقالت: لن أعود دون أن أموت معك, وظلّت تقاتل معه إلى أن ردّها الإمام الحسين عليه السلام إلى الخيمة. انظر: الفتوح لابن أعثم الكوفيّ ج 5 ص 116- 117, مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج 4 ص 109- 110, مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 15- 16, الملهوف على قتلى الطفوف ص 116.
[71] واستُشهد مع الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام يوم الطفّ من الأطفال الّذين لم يبلغوا الحلم خمسة، وهم: عبد الله بن الحسين الرضيع، وعبد الله بن الحسن، ومحمّد بن أبي سعيد، والقاسم بن الحسن، وعمرو بن جنادة الأنصاريّ, وقد ذكر أصحاب السير والتواريخ كيفيّة استشهادهم. انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 331- 334, الكامل في التاريخ ج 3 ص 428- 433, مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 21- 22, مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 104.
[72] أقول: إنّ ابن مرجانة وأمثاله لا يتوانون ولا يتورّعون عن الاعتداء على حُرَمِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهمّه بضرب عقيلة الطالبيّين زينب عليها السلام ، التي اعتادت أن ترى مثل هذه الاعتداءات من هؤلاء القوم وأسيادهم, فمِن قبلُ رأت كيف عاملوا أُمّها الزهراء عليها السلام ولم يرعوا لها حرمة بمجرّد غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف قادوا أباها عليّاً عليه السلام ليأخذوا منه البيعة قهراً، وكيف رموا نعش أخيها الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بالنبل، لَدَليل على ذلك، إلّا أنّ الله تعالى قيّض وجود بعض الّذين تحرّكهم الشيم والسجايا والأعراف العربيّة، وليس الورع والتقوى والمودّة في القربى التي أمر بها الكتاب العزيز، ووصّى بها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ممّا حال دون ذلك. فانظر وتأمّل!
[73] انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 337.
[74] الأرباع: جمع الرَّبْع, أي المنزل والمحلّة والدار. والأسباع: جمع السُّبْع- بالضمّ-: وهي جزء من سبعة. انظر: لسان العرب ج 5 ص 115, مادّة "ربع", تاج العروس ج 11 ص 199, مادّة "سبع". ورؤساء الأرباع والأسباع كناية عن رؤساء العشائر والأحياء والمجاميع التي كانت حاضرة مجلس ابن زياد حين دخول حرم رسول الله سبايا إلى قصره.
[75] كذا في الأصل، والظاهر أنّ هناك سقطاً في الفقرة.
[76] الدِّلاص من الدروع: الليّنة، ودرعٌ دِلاص: برّاقة ملساء ليّنة بيّنة الدَّلَصِ، والجمع: دُلُصٌ. انظر: لسان العرب ج 4 ص 388, مادّة "دلص".
[77] الفَلْجُ: الظَّفَرُ والفوز، وقد فَلَجَ الرجلُ على خصمه يفلجُ فلجاً. انظر: لسان العرب ج 10 ص 314, مادّة "فلج".
[78] البيض الحِداد: السيوف الحداد القاطعة التي شُحذت ومُسحت بحجر أو مبرد. انظر: لسان العرب ج 1 ص 555, مادّة "بيض", و ج 3 ص 80 مادّة "حدد".
[79] الصعدَةُ: القناة، وقيل: القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى التثقيف، والجمع: صِعاد، وقيل: هي نحوٌ من الألّةِ، والألَّةُ أصغَرُ من الحربة. انظر: لسان العرب ج 7 ص 344, مادّة "صعد".
[80] جهة الالتئام دقيقة مع ما سبق في صحيفة 349: وقف سبعون رجلاً في مقابل سبعين ألفاً، بالمبالغة هنا والحقيقة هناك. منه قدس سره.
[81] الكاشح: العدوّ المبغض الذي يضمر لك العداوة ويطوي عليها كشْحَهُ، أي باطنه. انظر: لسان العرب ج 12 ص 99, مادّة "كشح".
[82] عجز بيت للفرزدق، وتمامه:
يا مَن رأى عارضاً أسرَّ به بين ذراعي وجبهة الأسدِ
انظر: شرح ديوان الفرزدق ص 215, كتاب سيبويه ج 1 ص 180, إملاء ما مَنَّ به الرحمن ص 480, تفسير سورة الروم، خزانة الأدب ج 2 ص 281- 282, وأورده صاحب مغني اللبيب ص 498, رقم 707, وفي ص 809 رقم 1047, دون أن ينسبه لأحد.
[83] العَجْمُ: عَضٌّ شديدٌ بالأضراس دون الثنايا، وعجم الشيء يعجمه عجماً وعجوماً: عضّه ليعلم صلابته مِن خَورِه ورَخاوَته. انظر: مادّة "عجم" في: لسان العرب ج 9 ص 70, تاج العروس ج 17 ص 463. وأعجمَ عودَها: يعني اختبر قوّتها وصلابتها سلام الله عليها.
[84] الغُلْواء: سرعةُ الشباب وشِرّته، وغُلَواءُ كلّ شيء أوّلُه وشِرَّته. انظر: لسان العرب ج 10 ص 114, مادّة "غلا"
[85] انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 337, مقتل الحسين لابن أعثم الكوفيّ ص 150, الكامل في التاريخ ج 3 ص 435, مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 47- 48.
[86] سميّة: هي جارية للحرث بن كلدة، الطبيب الثقفيّ، كانت من البغايا ذوات الرايات بالطائف، وتسكن حارة البغايا خارجاً عن الحضر، وتؤدّي الضريبة للحرث، وكان قد زوّجها من غلام رومي له اسمه: عبيد، وفي أحد أسفار أبي سفيان للطائف طلب من أبي مريم الخمّار بغيّاً، فقدّم له سميّة فعلقت بزياد ووضعته على فراش عبيد سنة إحدى من الهجرة، وكان يُنسب إليه، ألحقه معاوية بأبيه أبي سفيان فقيل له: زياد بن أبي سفيان. ومرجانة: هي زوجة زياد بن أبي سفيان، وأُمّ عبيد الله بن زياد. انظر: الاستيعاب ج 2 ص 523, رقم 825, أُسد الغابة ج 2 ص 119, رقم 1800, مروج الذهب ج 3 ص 6.
[87] الخُرق: الجهل والحُمق, خَرُقَ خُرقاً، فهو أخرق، والأُنثى خرقاء، وامرأة خرقاء: أي غير صَنَاع ولا لها رِفق، فإذا بنت بيتاً انهدم سريعاً. انظر: لسان العرب ج 4 ص 74, مادّة "خرق".
[88] قارعة الدارِ: ساحَتها، وقارعة الطريق: أعلاه، وقيل: وسطه، وقيل: هو نفس الطريق.
وصاحبة القارعة: كناية عن المرأة التي تكثر الجلوس على قارعة الطريق ولا يسلم من لسانها المارّة، ولا تبالي بما يقال فيها. انظر: لسان العرب ج 1 ص 123, مادّة "قرع".
[89] الفاكُّ: الهَرمُ من الإبل والناس، فَكَّ يَفُكُّ فكّاً وفكوكاً، وشيخ فاكٌّ إذا انفرج لحياه من الهَرم. انظر: لسان العرب ج 10- ص 307- 308, مادّة "فكك".
[90] قال حسّان بن ثابت لهند ابنة عتبة بن ربيعة:
لِمَنْ الصَّبِيُّ بِجانِبِ البَطْحاءِ ملقىً عليه غَيرَ ذي مَهْدِ
نَجَلَتْ بِهِ بيضاءُ آنِسَةٌ مِن عَبْدِ شَمْس صَلْتَةُ الخَدِّ
انظر: ديوان حسّان بن ثابت ج 1 ص 396.
[91] المُدِرُّ: المكثِر السَّيّال، ودَرَّت السماء بالمطر دَرّاً، إذا كثر مطرها، وسماء مِدرارٌ أي: تدرّ المطر. وهي هنا كناية عن غزارة علم عقيلة بني هاشم السيّدة زينب سلام الله عليها وبلاغتها. انظر: لسان العرب ج 4- ص 324- 326, مادّة "درر".
[92] المِصْقَعُ: البليغ الماهر في خُطبته، والجمع: مصاقِع. انظر: تاج العروس ج 11 ص 275, مادّة "صقع".
[93] المُفَوَّهُ: الرجل الذي يجيد القول. انظر: لسان العرب ج 10 ص 356, مادّة "فوه".
[94] الدَّعَةُ: السكينة والوقار والتَّرَفُّه. انظر: لسان العرب ج15 ص 250- 251, مادّة "ودع".
[95] عجز بيت للشيخ هاشم الكعبيّ، من قصيدة طويلة يرثي بها الإمام الحسين عليه السلام في 99 بيتاً، مطلعها:
مُنى القلب أن تدنو منّي بعولة وللركب قصدٌ دون ذاك ومطلبُ
إلى أن يقول:
ورحن كما شاء العدوّ بعولة يذوب الصفا منها ويشجي المحصبُ
ويقول في آخر القصيدة:
ولي منك موعودٌ أرجى نجاحه وموعدك الحقّ الذي ليس يكذبُ
والناظم هو: الشيخ هاشم بن حردان الكعبيّ الدورقيّ، وُلد ونشأ في الدورق مسكن عشائر كعب في الأهواز، ثمّ سكن كربلاء والنجف, وهو من فحول الشعراء وفي طليعتهم، نظم في رثاء أهل البيت عليهم السلام فأكثر وأبدع وأجاد، له ديوان أكثره في الأئمّة عليهم السلام ويضمّ بين دفّتيه عشرين قصيدة حسينيّة أو أكثر، توفّي سنة 1231هـ. انظر: الديوان ج 1 ص 6, أدب الطفّ ج 6 ص 218.
[96] الكلام لأُمّ كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام كما في: ينابيع المودّة ج 3 ص 86, بحار الأنوار ج 45 ص 115.
[97] انظر: مقتل الحسين لابن أعثم الكوفيّ ص 147, مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2- ص 45, الملهوف على قتلى الطفوف ص 192.
[98] كذا في الأصل، وقد اختلف أصحاب السير والتواريخ في ضبط اسمه، ففي بلاغات النساء ص 74- 77: حذام الأسديّ، ومرّة أُخرى حذيم، وفي الأمالي للشيخ المفيد ص 312: حذلم بن ستير، وفي نسخة بدل: حذلم بن بشير، وفي الاحتجاج ج 2 ص 29- و31: حذيم بن شريك الأسديّ، وفي مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 45: بشير بن حذيم الأسديّ، وفي الملهوف على قتلى الطفوف ص 192- 194: بشير بن خزيم الأسديّ، وفي الرجال للشيخ الطوسيّ ص 88: باب الحاء: حذيم بن شريك، وقد عدّه من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام .
[99] الجَرْسُ والجِرْسُ والجَرَسُ: الصوت الخفي، والحركة والصوت من كلّ ذي صوت، والجَرَسُ: الذي يُضرَب به، والجمع: أجراس. انظر: لسان العرب ج 2 ص 248, مادّة "جرس".
[100] الختل: تخادع عن غفلة، خَتَله يختُله ويختِله ختلا وختلاناً, وخاتلهُ: خدعه عن غفلة، والختل: الخديعة. انظر: لسان العرب ج 4 ص 24, مادّة "ختل".
[101] سورة النحل الآية 92.
[102] الشِّنار: أقبح العيب والعار. انظر: لسان العرب ج 7 ص 211, مادّة "شنر".
[103] سورة فصّلت الآية: 16.
[104] بادَرَ الشيء مبادَرَةً وبِداراً وابتَدَرَهُ وبَدَرَ غيره إليه يَبْدُرُه: عاجَلهُ، ولا يحفزه البِدار, أي لا تدفعه المعاجلة، والضمير عائد إلى الله سبحانه وتعالى. انظر: لسان العرب ج 1 ص 340, مادّة "بدر".
[105] انظر: الأمالي للشيخ المفيد ص 321- 324, الأمالي للطوسيّ ص 91, المجلس الثالث رقم 142, الاحتجاج ج 2 ص 109- 114, مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 45- 47, الملهوف على قتلى الطفوف ص 192- 194.
وقد أورد ابن طيفور الخطبة كاملة، إلّا أنّه نسبها إلى أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام, فقال: "...عن حذام الأسديّ وقال مرّة أُخرى: حذيم، قال: قَدمْت الكوفة إلى أن قال...: ورأيت أُمّ كلثوم- رضي الله عنها- ولم أرَ خفرة... إلى أن قال: ..ورأيت شيخاً كبيراً من بني جعفي، وقد اخضلّت لحيته من دموع عينه، وهو يقول:
كهولكم خيرُ الكهول ونَسْلُكُمُ إذا عُدَّ نسلٌ لا يبورُ ولا يُخزى
انظر: بلاغات النساء ص 74- 77.
[106] انظر: بلاغات النساء ص 74, الملهوف على قتلى الطفوف ص 198.
[107] الاحتجاج ج 2 ص 104- 108, رقم 169, الملهوف على قتلى الطفوف ص 194- 197.
[108] التَّرَنُّحُ: تَمَزُّز الشراب، ورَنَّحَ الرجلُ وغيره وتَرَنّحَ: تمايل من السُكر وغيره. انظر: لسان العرب ج 5 ص 331, مادّة "رنح".
[109] العِطفُ: المَنكِبُ، منكِب الرجل عطفه، وإبطه عِطفُهُ، والعُطوف: الآباط، وعِطفا الرجل والدابّة: جانباه عن يمين وشمال، وشِقّاه من لَدُن رأسه إلى وركه، والجمع أعطاف وعِطاف وعُطوف: وعِطفا كلّ شيء: جانباه. انظر: لسان العرب ج 9 ص 269, مادّة "عطف".
[110] العُقار: الخمر، سُمّيت بذلك لأنّها عاقرت العقل، يقال: عاقره إذا لازمه وداوَمَ عليه، والمعاقرة: إدمان شرب الخمر. انظر: لسان العرب ج 9 ص 317, مادّة "عقر".
[111] أقول: نقل لنا أصحاب السير والتواريخ أنّ الله عزّ وجلّ نغّص نشوة يزيد بقتله أبي عبد الله الحسين عليه السلام في لحظات، ولم يدعه يهنأ بهذه النشوة, ذلك حين جبهه يحيى بن الحكم أخو مروان، قائلاً:
لهام بِجَنبِ الطَّفِّ أدنى قرابةً مِن ابنِ زياد العبدِ ذي الحسب الوغلِ
سُميّة أضحى نسلُها عَدَد الحصى وبنتُ رسولِ الله أضحتْ بلا نسلِ
وكذلك عندما اعترض عليه أبو برزة الأسلميّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: "ويحك يا يزيد! أتنكث بقضيبك ثغر الحسين ابن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النبيّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن، ويقول: أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، فقتل الله قاتِلَكُما ولعنه، وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً". انظر: أنساب الأشراف ج 3 ص 412, تاريخ الطبريّ ج 3 ص 338- 341, البدء والتاريخ ج 2 ص 242.
[112] كان لأُميّة بن عبد شمس من الوَلَد أحدَ عشرَ ذكراً، كلُّ واحد منهم يُكنّى باسم صاحبه، فمنهم: الأعياص، وهم: العاص وأبو العاص، والعيص وأبو العيص، والعويص لا كَنِيَّ له. والعنابس، وهم: حرب وأبو حرب، وسفيان وأبو سفيان، وعمرو وأبو عمرو, وإنّما سُمّوا العنابس لأنّهم ثبتوا مع أخيهم حَرب بن أُميّة بعكاظ، وعقلوا أنفسهم وقاتلوا قتالاً شديداً فشُبِّهوا بالأسد، والأسود يقال لها العنابس، واحدها عنبسة. انظر: الأغاني ج 1 ص 17- 18, لسان العرب ج 9 ص 415, مادّة "عنبس".
[113] الرَّفْلُ: جَرُّ الذيل ورَكْضُه بالرِّجْل، ورَفَلَ الرَّجُلُ في ثيابه يَرفُلُ إذا أطالها وجرّها متبختراً. انظر: لسان العرب ج 5 ص 275- 276, مادّة "رفل".
[114] الربقة: الحبل، أو عروة في الحبل تُجعل في عنق الحيوان، والربق بالفتح: مصدر قولك: رَبَقْتُ الشاة والجدي أرْبُقُها وأربِقُها ربقاً، وربَّقها: شدّها في الربقة. انظر: لسان العرب ج 5 ص 123, مادّة "ربق".
[115] - لقد برز عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد يوم بدر إلى القتال، فبرز لهم الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وحمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعبيدة بن الحارث, فقتل أميرُ المؤمنين الوليدَ بن عتبة، وقتل حمزةُ شيبةَ بن ربيعة، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرَّ الإمام عليّ عليه السلام على عتبة فقتله. وعتبة بن ربيعة، هو والد هند زوجة أبي سفيان، أُمّ معاوية وجدّة يزيد, لذا هو يستذكر هنا أجداده من مشركي قريش الّذين هلكوا في معركة بدر الكبرى على يد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام, ويعدّ انتصاره على الإمام الحسين عليه السلام هو أخذاً بثارات بدر. انظر: تاريخ الطبريّ ج 2 ص 32.
[116] الفِقرة والفَقَرَة والفَقار- بالفتح-: واحدة فَقار الظهر، وهو ما تنضّد من عظام الصلب من لَدُن الكاهل إلى العَجْب، والجمع: فِقَر وفَقار، وقيل: فِقْرات وفِقَرات. انظر: لسان العرب ج 10 ص 300, مادّة "فقر".
[117] القُلامة: اسم ما قطع من طرف الظفر. انظر: لسان العرب ج 11 ص 291, مادّة "قلم".
[118] سورة الروم الآية: 10.
[119] وسقَ: وسقه يَسِقُه وسقاً ووسوقاً, أي: ضَمَّهُ وجمعه وحمله، واستوسقت الإبل, أي: اجتمعت، استوسقَ لك الأمر: أمكنَك، ومستوسقة: مجتمعة. انظر: تاج العروس ج 13 ص 481, مادّة "وسق".
[120] سورة آل عمران الآية 178.
[121] سورة الكهف الآية: 50.
[122] سورة مريم الآية: 75.
[123] أقول: نعم، إنّ شرف الغاية يبرِّر الواسطة، ولكن لا يكون ذلك إلاّ لمَن عصمه الباري عزّ وجلّ عن كلّ خطأ وزلل، فتقييم المعصوم لشرف الغاية ونوع الوسيلة يكون تقييماً إلهيّاً لا يستند إلى الهوى والرغبات الشخصيّة، فكلّ الوسائل التي يتّبعها للوصول إلى الغاية لا تخرج عن كونها وسائل شرعيّة. ولعِلم المصنّف قدّس سرّه بأنّ مقولة: "شرف الغاية يبرِّر الواسطة" على إطلاقها غير صحيحة, لتعذُّر تشخيص الغاية الشريفة من غيرها ممّن هم دون مرتبة العصمة، الّذين تتعدّد اجتهاداتهم وآراؤهم تبعاً لأهوائهم وتصوّراتهم في تقييم الغايات وتشخيص الوسائل الصحيحة للوصول إليها, لذا اعترضها بقوله: "كما يقال" فلاحظ!
[124] انظر: بلاغات النساء ص 70- 73, مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 74, الاحتجاج ج 2 ص 122- 130, رقم 173, الملهوف على قتلى الطفوف ص 215- 218, بحار الأنوار ج 45 ص 134.
[125] الجُبار: الهَدَرُ، ذهب دمه جُباراً, أي هدراً. انظر: لسان العرب ج 2 ص 168, مادّة "جبر".
[126] التولب: ولَد الأتان من الوحش إذا استكمل الحول. وهنا كناية عمّا أولدته واقعة الطفّ من الحروب والثورات التي اندلعت على بني أُميّة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام . انظر: لسان العرب ج 2 ص 41, مادّة "تلب".
[127] راجع رسالة "أصدق الأخبار في قصّة الأخذ بالثار" للسيّد محسن الأمين العامليّ، تحقيق فارس حسّون كريم، المنشورة على صفحات مجلّة "تراثنا"، العدد المزدوج 66- 67, السنة السابعة عشرة- ربيع الآخر- رمضان 1422 هـ.
[128] هذه الواقعة هي عارٌ في جبين يزيد بن معاوية، وجريمة أُخرى تضاف إلى جريمته الكبرى التي ارتكبها بقتله الإمام الحسين عليه السلام . في هذه الواقعة من المآسي والويلات تكاد السماوات يتفطّرن من هولها، فقد استباح مسلم بن عقبة وجنوده وبأمر من يزيد مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيّام، واعتدوا على العذارى من بنات المهاجرين والأنصار، وقتلوا الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال اللائذين بقبر سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى إنّه لم يبق بعدها بدريّ، وأمر بعد ذلك بالبيعة ليزيد وعلى أنّهم خَوَلٌ وعبيد له، إنْ شاء استرقّ وإنْ شاء أعتق، فبايعوه على ذلك، وفيهم جابر بن عبد الله الأنصاريّ وأبو سعيد الخدريّ وغيرهما من بقيّة الصحابة. ثمّ بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلمّا أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزِّبعْرى يوم أُحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسلْ
انظر: أنساب الأشراف ج 5 ص 335- 337, الإمامة والسياسة ج 1 ص 234- 239, البدء والتاريخ ج 2 ص 243- 244, العقد الفريد ج 3 ص 372- 374, تاريخ الطبريّ ج 5 ص 623, البداية والنهاية ج 8 ص 177- 180, وفيات الأعيان ج 6 ص 276, الفخري لابن الطقطقيّ ص 119، الإتحاف بحبّ الأشراف ص 66.
[129] انظر: الجواب الأوّل في الصفحة 324 وما بعدها.
[130] هو: مُسيلمة بن حبيب من بني تميم، متنبّئ، كان يسجع لقومه السجعات مضاهاةً للقرآن، وضع عنهم الصلاة، وأحلّ لهم الخمر والزنا! وُلد باليمامة قبل ولادة والد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان من المعمّرين، تلقّب بالجاهلية بـ "الرحمن"، وعرف بـ "رحمن اليمامة"، قالوا في وصفه: كان رُوَيْجِلاً، أُصيغر، أُخينس، كان اسمه مَسْلَمة، وسمّاه المسلمون مُسيلمة تصغيراً له، قُتل في غزوة اليمامة عام 12 هـ, وكان عمره آنذاك 150 سنة. انظر: تاريخ الطبريّ ج 2 ص 199- 200, تاريخ الخلفاء للسيوطيّ ص 89, شذرات الذهب ج 1 ص 23.
[131] هي: سجاح بنت الحارث بن سويد، وقيل: بنت غطفان التغلبيّة التميميّة، تكنّى أُمّ صادر، كانت رفيعة الشأن في قومها، شاعرة، أديبة، عارفة بالأخبار، لها علم بالكتاب أخذته عن نصارى تغلب، وكانت متكهّنة قبل ادّعائها النبوّة، وهي مع ادّعائها النبوّة فقد كذّبت بنبوّة مسيلمة الكذّاب، ثمّ آمنت به، فتزوّجها من غير صداق! ثمّ أصدقها بأن وضع عن قومها صلاتَي الفجر والعشاء الآخرة!! وقيل: إنّها عادت إلى الإسلام بعد مقتل مسيلمة، فأسلمت وهاجرت إلى البصرة، وتوفّيت بها في زمان معاوية نحو سنة 55هـ.
انظر: مروج الذهب ج 2 ص 303, الإصابة ص 723, رقم 11361, البداية والنهاية ج 6 ص 239- 241, حوادث سنة 11 هـ, تاريخ الخميس ج 2 ص 159, لسان العرب ج 6 ص 174, مادّة "سجح"، الأعلام ج 3 ص 78.
[132] من أمثال: طُليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر الأسديّ، شهد معركة الخندق مع الأحزاب، وأسلم سنة 9 هـ, ثمّ ارتدّ وادّعى النبوّة في عهد أبي بكر، ثمّ كانت له وقائع كثيرة مع المسلمين، ثمّ خذله الله وهرب حتّى لحق بأعمال دمشق، ونزل على آل جَفْنَة، ثمّ أسلم وقدم مكّة معتمراً، ثمّ خرج إلى الشام مجاهداً، وشهد اليرموك، وشهد بعض حروب الفرس، وقُتل بنهاوند سنة 21 هـ. انظر: الاستيعاب ج 2 رقم 773, أُسد الغابة ج 2 ص 477, رقم 2639, تاريخ دمشق ج 25 ص 149- 172, رقم 2992, الإصابة ج 3 ص 542, والأسود العنسيّ، عيهلة بن كعب بن عوف العنسيّ المذحجيّ، قيل: إنّه كان أسود الوجه فسمّي الأسود للونه، متنبّئ مشعوذ، من أهل اليمن، أسلم لمّا أسلمت اليمن، وارتدّ في أيّام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فكان أوّل مرتدّ في الإسلام، وادّعى النبوّة، قُتل قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخمسة أيّام، وكان ظهوره في سنة 10 هـ. انظر: الكامل في التاريخ ج 2 ص 201, البداية والنهاية ج 6 ص 228.
[133] ثُلَّ عَرْشُ فلان ثَلاًّ: هُدِم وزالَ أمرُ قومه. انظر: لسان العرب ج 2 ص 123, مادّة "ثلل".
[134] ويحتمل البعض أنّ وجه حمل الحسين عليه السلام للعيال معه أنّه كان يخشى عليهنّ الأسر والسبي لو تركهنّ في بيوتهنّ بالمدينة, لأنّ بني أُميّة كانوا يتوسّلون إلى أخذ البيعة منه بكلّ وسيلة، وحينئذ فإمّا أن يبايع أو يتركهنّ في الأسر, فإن صحّ، فهو وجه خامس أو سادس (منه قدّس سرّه).
[135] سورة الأنعام الآية: 25.
[136] النَّجدة: الثِّقلُ والشِّدّة، والفزع والهول، والمنجود: المكروب. انظر: لسان العرب ج 14 ص 49, مادّة "نجد".
[137] أقول: إنّ حادثة الطفّ الفجيعة، وجريمة القتل الشنيعة، التي راح ضحيّتها حجّة الله على خلقه الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام وأهل بيته والخيرة من أصحابه، ليست كالحوادث التاريخيّة الأُخرى التي كلّما مرّ عليها الزمان يعتريها النسيان وتصبح في خبر كان. فتضحية الإمام الحسين عليه السلام هذه أحيت ديناً من الفناء، وأنقذت أُمّةً من الضياع والضلال، فلولا هذه التضحية لَما بقي من الإسلام إلّا اسمه ومن القرآن إلّا رسمه, لذا اقترن اسمه عليه السلام مع الدّين اقتراناً، فصارت أسرار ومزايا شهادته عليه السلام تتجدّد بتجدّد الزمان، وتطلع كلّ يوم على البشر طلوع الشمس والقمر، لا ينتهي أمدها، ولا ينطفئ نورها، ولا تبرد حرارتها. قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام: "نظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحسين بن عليّ عليهما السلام وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: إنّ لقتل الحسين عليه السلام حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً". ثمّ قال عليه السلام : "بأبي قتيل كلّ عبرة". قيل: وما قتيل كلّ عبرة يا بن رسول الله"؟
قال: "لا يذكره مؤمنٌ إلاّ بكى". انظر: مستدرك الوسائل ج 10 ص 318, كتاب الحجّ ح 14. وقال الشاعر:
كذب الموتُ فالحسينُ مخلّدُ كلّما مرّ الزمانُ ذِكرُه يتجدّدُ
[138] للاطّلاع على تفاصيل صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، والظروف التي أحاطت بالإمام عليه السلام واضطرته إلى هذا الصلح، راجع كتاب "صلح الحسن" للشيخ راضي آل ياسين قدّس سرّه، ففيه بيان ما كان بين الإمام وابن أبي سفيان.
[139] ليس عنده ولا عند ولده يزيد شيء من مخافة الله، ولكنّ معاوية عنده سياسة وتدبّر دنيوي ويزيد ليس عنده دين ولا سياسة. كاشف الغطاء.
[140] النيّة: عمل القلب، وهي مؤنّثة لا غير، وتُجمع جمع مؤنّث سالم, لذا يكون جمعها بـ "النيّات" لا "النوايا" التي هي خطأ شائع. انظر: لسان العرب ج 14 ص 342, مادّة "نوي".
[141] انظر ما تقدّم في الصفحة 336 .
[142] لم يلبس الحسين تلك الثياب، وإنّما كان يقتنيها ليعطيها (كاشف الغطاء).
[143] أقول: إنّ هذه الفقرة تتضمّن من التناقضات الشيء الكثير الذي يستوقف أي قارئ، منها: قوله: "إنّ الحسن نشأ على الأُبّهة والمجد في زمن جدّه وأبيه". وهذا خلاف العقل والمنطق, إذ كيف عاش الحسن بهذا الوصف والحسين على العكس منه وقد ترعرعا سويةً في كنف أبيهما وجدّهما وتعلّما منهما الزهد والإيثار؟! فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام يميّزان بين الحسن والحسين؟! ألم تنزل آية الإطعام فيهم جميعاً؟! أم هل كان الحسن ابن حرّة والحسين ابن أَمة فقيرة؟! كلّ هذه الاستفهامات تلجئنا إلى اليقين القطعي أنّ مثل هذه المقولات وغيرها هي محض افتراءات وأكاذيب وضعها رواة بني أُميّة للنيل من منزلة الإمام الحسن عليه السلام, وهيهات! وقوله: "وأمّا الحسين فمن المعروف عنه أنّه كان لا يعرف قيمة للدنيا". وهذا- أيضاً- خلاف منهج الإمام الحسين عليه السلام : لأنّ قيمة الدنيا عنده عليه السلام معنوية أكثر ممّا هي مادّية، فهو لا ينظر إلى الدنيا على أنّها دار بقاء ومتاع ونزوات وشهوات وملذّات، وإنّما ينظر إليها من منطلق قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ), ولذا فالدنيا عند الحسين عليه السلام دار عبادة وطاعة للباري عزّ وجلّ، والدّين هو الوسيلة التي يحافظ بها الإنسان على الدنيا، فإذا ذهب الدّين ذهبت الدنيا، وخوفاً على الدّين من الاندراس وعلى الدنيا من الخراب وانتشار الفساد- بسبب ما يفعله بنو أُميّة - ضحّى الإمام عليه السلام بنفسه وأهل بيته.
[144] أقول: لو تجشّم الكاتب قليلاً من عناء البحث في بطون الكتب التي روت فضائل الأئمّة عليهم السلام, لَما حارَ في أمر تقبيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للحسن والحسين عليهما السلام. فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده، عن يعلى العامريّ، أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام دُعوا له، قال: فاستمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذه، قال: فطفق الصبيّ ها هنا مرّة وها هنا مرّة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضاحكه حتّى أخذه، قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأُخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه فقبّله، وقال: "حسين منّي وأنا من حسين"، "أحبّ الله من أحبّ حسيناً"، "حسين سبط من الأسباط". مسند أحمد ج 4 ص 172, وهذا الحديث وما سبقه ممّا تقدّم- عن زيد بن أرقم، في الصفحة344، من تقبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شفتَي الإمام الحسين عليه السلام , وما تقدّم في الصفحة 360, الهامش رقم 1, عن أبي برزة الأسلميّ- من ترشيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شفتَي الحسن والحسين, كُلّها تفيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبّل الحسنين من شفتيهما. نعم، اشتهر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه كان يكثر من تقبيل الحسن عليه السلام من فمه والحسين عليه السلام من نحره, لعلمه صلوات الله وسلامه عليه بكيفية استشهادهما عليهما السلام، ولكن هذا لا يدلّ على التخصيص. انظر: فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج 2 ص 968, رقم 1361, تاريخ بغداد ج 2 ص 204, المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 177- 178, شرح الأخبار ج 3 ص 112, ح 1049.
[145] سورة آل عمران الآية 169.
[146] سعد بن الربيع الخزرجيّ، أحد نقباء الأنصار من شهداء أُحد, انظر ترجمته في تنقيح المقال ج 2 ص 13 ط النجف. القاضي الطباطبائيّ.
[147] انظر: فتح الباري ج 7 ص 114, تذكرة الموضوعات- للفتني- ص 183, وصول الأخيار إلى أُصول الأخبار ص 30, كشف الغمّة ج 2 ص 230, سير أعلام النبلاء ج 17 ص 507, رقم 328.
[148] انظر: بلاغات النساء ص 54- 69, شرح الأخبار ج 3 ص 40, معاني الأخبار ص 355, دلائل النبوّة لابن جرير الطبريّ ص 30- 41, الاحتجاج ج 1 ص 253- 292, شرح نهج البلاغة ج 16 ص 232- 234, كشف الغمّة ج 2 ص 480- 494, جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب ج 1 ص 155- 169.
[149] انظر: بلاغات النساء ص 35.
[150] انظر: النهاية في غريب الحديث ج 1 ص 438, مادّة "حمر"، الإحكام في أُصول الأحكام ج 1 ص 211, مسألة 11, لسان العرب ج 3 ص 317, مادّة "حمر"، البداية والنهاية ج 3 ص 103, السيرة النبويّة لابن كثير ج 2 ص 137.
[151] مثل كلام الزرقاء بنت عديّ بن غالب، وبكارة الهلاليّة، وأُمّ سنان بنت خيثمة بن خرشة. انظر: بلاغات النساء ص 90- 93, جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب ج 2 ص 235- 237.
[152] مثل كلام سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانيّة، وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق الخزاعيّ رضي الله عنه، التي حبسها معاوية سنتين. انظر: "بلاغات النساء" لابن طيفور، و "أعلام النساء" لعمر رضا كحّالة، وأمثالهما من الكتب. القاضي الطباطبائيّ.
[153] هي: الخنساء بنت عمرو بن الشريد، اتّفق أهل العلم بالشعر أنّه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، ووفدت الخنساء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم، وتوفّيت سنة 646 ميلادية. القاضي الطباطبائيّ.
[154] انظر ترجمة الخنساء في: الاستيعاب ج 4 ص 1827- 1829, رقم 3317, أُسد الغابة ج 6 ص 88- 90, رقم 6876, الإصابة ج 7 ص 613- 616, رقم 11106.
[155] سورة الحجرات الآية 4. القاضي الطباطبائيّ. وانظر تفسير الآية الكريمة- مثلاً- في: تفسير الطبريّ ج 11 ص 381- 382, تفسير الفخر الرازيّ ج 28 ص 117, مجمع البيان ج 9 ص 195, الدرّ المنثور ج 7 ص 552- 554.
[156] انظر مثلاً: تفسير الفخر الرازيّ ج 25 ص 224- 226, مجمع البيان ج 8 ص 152, الدرّ المنثور ج 6 ص 639- 643.
[157] سورة الأحزاب الآية 33. قال الجصّاص- المتوفّى 370 ه-: (ولا تبرّجن تبرج الجاهلية الأُولى) يعني إذا خرجتنّ من بيوتكنّ، قال: كانت لهنّ مشية وتكسّر وتغنّج فنهاهنّ الله عن ذلك، وقيل: هو إظهار المحاسن للرجل، وقيل: الجاهلية الأُولى ما قبل الإسلام، والجاهليّة الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أُولئك، فهذه الأُمور كلّها ممّا أدّب الله تعالى به نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صيانة لهنّ، وسائر نساء المؤمنين مرادات بها. انتهى. انظر: أحكام القرآن ج 3 ص 443 ط مصر . القاضي الطباطبائيّ.
[158] الفَلاَكَةُ: الفقر، والمَفْلُوكُ: الفقير، وجمعه: مَفَاليك، وهي كلمة فارسيّة الأصل. هذا، وقد ألّف الدلجيّ، أحمد بن عليّ بن عبد الله الشافعيّ، المتوفّى سنة 838 ه، كتاباً حول الفقر والفقراء بحث فيه عن أسبابه وعلله وذويه وحالتهم، وأورد فيه أشهر من عضّهم الفقر بنابه وأناخ عليهم الدهر، سمّاه "الفَلاَكَةُ والمَفْلُوكون". انظر: هديّة العارفين ج 1 ص 124, إيضاح المكنون ج 2 ص 320, معجم المطبوعات العربيّة والمعرّبة ج 1 ص 877, المعجم المجمعي ج 6 ص 112, مادّة "فلك".
[159] سورة الحديد الآية: 23. القاضي الطباطبائيّ.
[160] سورة الحشر الآية: 9، سورة التغابن الآية: 16. القاضي الطباطبائيّ.
[161] انظر: ربيع الأبرار ج 1 ص 811 نحوه.
[162] المستدرك على الصحيحين ص 117, ح 7072، زاد المسير ج 7 ص 177, مجمع البيان ج 9 ص 131, الترغيب والترهيب ج 4 ص 62, ح 120.
[163] عُدَيّ تصغير عدوّ. القاضي الطباطبائيّ. أقول: وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 11 ص 33, رقم 202, إضافة إلى هذا المعنى، أنّه يمكن أن يراد به التحقير المحض، ويمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لنفسه.
[164] تبيّغ: هاج، تبيّغ به الدم, أي هاج به، وتبيّغ بالفقير فقره, أي: هاج عليه وحمله على المنكر من الأعمال. انظر: لسان العرب ج 1 ص 558, مادّة "بيغ".
[165] نهج البلاغة ج 1 ص 423 ط مصر, (ص 324-325 رقم 209)، شرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 111 ط مصر( ج 11 ص 32- 33, رقم 202). القاضي الطباطبائيّ.
[166] انظر: كشف الغمّة ج 2 ص 157, تهذيب الكمال في أسماء الرجال ج 3 ص 425, رقم 933, سير أعلام النبلاء ج 6 ص 261- 262, رقم 117، بحار الأنوار ج 47 ص 221 ح 7.
[167] نقل الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 279 رقم 81, حديثاً عن الإمام الرضا عليه السلام, عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام, قال: سئل الصادق عليه السلام عن الزاهد في الدنيا، قال: الذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عقابه, ونحوه في معاني الأخبار ص 287.
[168] انظر في ما يخصّ أملاك أمير المؤمنين عليه السلام التي تصدّق بها: تاريخ المدينة ج1 ص 219- 228, الكامل في اللغة والأدب ج 2 ص 153- 155, مناقب الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب لسليمان الكوفيّ ج 2 ص 81- 82, معجم ما استعجم ج 1 ص 262, الإصابة ج 7 ص 343, رقم 10660, معجم البلدان ج 4 ص 198 رقم 8699. وأبو نيزر- الذي تنسب إليه العين- هو مولىً للإمام عليّ عليه السلام, كان ابناً للنجاشي ملك الحبشة- الذي هاجر إليه المسلمون- لصُلبه، وجده الإمام عليّ عليه السلام عند تاجر بمكّة فاشتراه منه وأعتقه مكافأةً بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه، وذكروا أنّ الحبشة مَرِجَ عليها أمرُها بعد موت النجاشي، وأنّهم أرسلوا وفداً منهم إلى أبي نيزر وهو مع الإمام ليُمَلّكوه عليهم ويتوّجوه ولا يختلفوا عليه، فأبى، وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن مَنَّ الله علَيَّ بالإسلام. انظر ترجمته في المصادر المذكورة آنفاً.
[169] قال السيّد رضي الدّين بن طاووس الحسنيّ قدّس سرّه في كتابه القيّم "كشف المحجّة" ما هذا لفظه: واعلم يا ولدي محمّد... أنّ جماعة ممّن أدركتهم كانوا يعتقدون أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جدّك محمّداً وأباك عليّاً صلوات الله عليهما كانا فقيرين لأجل ما يبلغهم إيثارهم بالقوت واحتمال الطوى والجوع والزهد في الدنيا، فاعتقد السامعون لذلك الآن أنّ الزهد لا يكون إلاّ مع الفقر، وتعذّر مع الإمكان. وليس الأمر كما اعتقده أهل الضعف، المهملين للكشف, لأنّ الأنبياء عليهم السلام أغنى أهل الدنيا, بتمكين الله جلّ جلاله لهم ممّا يريدون منه جلّ جلاله من الإحسان إليهم، ومن طريق نبوّتهم كانوا أغنى أُممهم وأهل ملّتهم، ولولا اللطف برسالتهم ما كان لأهل وقتهم مال ولا حال، وإنّما كانوا عليهم السلام يؤثرون بالموجود ولا يسبقون الله جلّ جلاله بطلب مال يريد أن يطلبوه من المفقود.
وقد وهب جدّك محمّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّك فاطمة صلوات الله عليها فدكاً والعوالي من جملة مواهبه، وكان دخلها، في رواية الشيخ عبد الله بن حمّاد الأنصاريّ: أربعة وعشرون ألف دينار كلّ سنة، وفي رواية غيره: سبعون ألف دينار، وهي وزوجها المعظّم والواهب الأعظم من أعظم الزهّاد والأبرار، وكان يكفيهم منها أيسر اليسير، ولكنّ العارفين ما ينازعون الله جلّ جلاله في تملّك قليل ولا كثير، ولكنّهم كالوكلاء والأُمناء والعبيد الضعفاء، فيصرفون في الدنيا وفي ما يعطيهم منها كما يصرّفهم هو جلّ جلاله، وهم في الحقيقة زاهدون فيها وخارجون عنها. ووجدت في أصل، تاريخ كتابته سبع وثلاثين ومئتين.. عن مولانا عليّ أبيك أمير المؤمنين عليه السلام : تزوّجت فاطمة عليها السلام وما كان لي فراش، وصدقتي اليوم لو قُسّمت على بني هاشم لوسعتهم. وقال في الكتاب: إنّه عليه السلام وقف أمواله وكانت غلّته أربعين ألف دينار، وباع سيفه وقال: من يشتري سيفي؟! ولو كان عندي عشاء ما بعته. وروى فيه أنّه قال مرّةً عليه السلام : من يشتري سيفي الفلاني؟ ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته, قال: وكان يفعل هذا وغلّته أربعون ألف دينار من صدقته...
ورأيت في كتاب إبراهيم بن محمّد الأشعريّ، الثقة، بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام, قال: قُبض عليٌّ عليه السلام وعليه دين ثمانمئة ألف درهم، فباع الحسن عليه السلام ضيعة له بخمسمئة ألف درهم فقضاها عنه، وباع ضيعة أُخرى له بثلاثمئة ألف درهم فقضاها عنه, وذلك أنّه لم يكن يذر من الخمس شيئاً وكان تنوبه نوائب. ورأيت في كتاب عبد الله بن بكير، بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام , أنّ الحسين عليه السلام قُتل وعليه دين، وأنّ عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام باع ضيعة له بثلاثمئة ألف ليقضي دين الحسين عليه السلام ...
وكان وقف جدّك أمير المؤمنين عليه السلام على أولاده خاصّة من فاطمة عليها السلام لها عامل من ذرّيّته، فكيف وقع الضعفاء أنّه كان فقيراً وأنّ الغنى لا يكون لمن جعله الله جلّ جلاله من خاصّته؟! وهل خلق الله جلّ جلاله الدنيا والآخرة إلّا لأهل عنايته؟! انتهى. (انظر: كشف المحجّة ص 123- 126). وغير خفيّ على القارئ الكريم أنّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام استخرج عيوناً بكدّ يده بالمدينة وينبع وسويعة، وأحيى بها مواتاً كثيراً، ثمّ أخرجها عن مُلكه وتصدّق بها على المسلمين، ولم يمت وشيء منها في مُلكه، وجملة من وصاياه عليه السلام في صدقاته وموقوفاته مروية في الجامع الكبير "الكافي" للكليني رحمه الله ج 7 ص 47- 55, فراجع. ولم يورّث أمير المؤمين عليه السلام بنيه قليلاً من المال ولا كثيراً إلّا عبيده وإماءه وسبعمئة درهم من عطائه تركها ليشتري بها خادماً لأهله قيمتها ثمانية وعشرون ديناراً، على حسب المئة أربعة دنانير، هكذا كانت المعاملة بالدراهم إذ ذاك. وكان أمير المؤمنين عليه السلام يعمل بيده يحرث الأرض ويستقي الماء ويغرس النخل، كلّ ذلك يباشر بنفسه الشريفة ولم يستبْقِ منه لوقته ولا لعقبه قليلاً ولا كثيراً، وإنّما كان صدقة، وقصّة عين أبي نيزر معروفة، نقلها أبو العبّاس المبرّد في "الكامل", انظر: ج 3 ص 937 ط مصر (ج 2 ص 153- 155). وقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وله ضياع كثيرة جليلة جدّاً بخيبر وفدك وبني النضير، والحوائط السبعة مشهورة وقد أوصى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابنته الصدّيقة الطاهرة عليها السلام . وروي أنّ هذه الحوائط كانت وقفاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ منها ما ينفقه على أضيافه ومن يمرّ به، فلمّا قبض جاء العبّاس يخاصم فاطمة عليها السلام فيها، فشهد عليّ عليه السلام وغيره أنّها وقف. وكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادي نخلة وضياع أُخرى كثيرة بالطائف. عن أبي بصير، قال: لمّا بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أنّ طلحة والزبير يقولان: ليس لعليّ مال, فشقّ ذلك عليه، وأمر وكلاءه أن يجمعوا غلّته، حتّى إذا حال الحول أتوه وقد جمعوا من ثمن الغلّة مئة ألف درهم فنثرت بين يديه، فأرسل إلى طلحة والزبير، فأتياه، فقال لهما: هذا المال والله لي، ليس لأحد فيه شيء, وكان عندهما مصدّقاً، فخرجا من عنده وهما يقولان: إنّ له لمالاً. انظر: الجامع الكبير "الكافي" ج 6 ص 440, والبحار ج 41 ص 125- 126, وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 433 ط مصر, (ج 15 ص 146 وما بعدها), وسيرة ابن هشام ج 2 ص 40 ط مصر, (ج 4 ص 321- 327). القاضي الطباطبائيّ.
[170] قَنا يَقْنُو قَنْواً وقُنْواناً، والمصدر القِنيان والقُنيان، وتقول: اقتنى يقتني اقتناءً، وهو أن يتّخذه لنفسه لا للبيع، ويقال: هذه قِنيَةٌ واتّخذها قِنيةً للنسل لا للتجارة. انظر: لسان العرب ج 1 ص 329, مادّة "قنا".
[171] كشف المحجّة ص 125.
[172] إشارة إلى قضيّة الحرّ رحمه الله ولقائه مع سيّد الشهداء عليه السلام, ومنعه الإمام عليه السلام من الدخول إلى الكوفة، مذكورة في كتب التاريخ والمقاتل، لا حاجة إلى ذكرها، ومن شاء أن يطّلع فعليه بالمراجعة إلى مظانّها. القاضي الطباطبائيّ.
[173] نقل العلّامة الزمخشريّ قضية زيد بن أرقم مع ابن زياد بهذه الصورة، قال في "الفائق" ما هذا لفظه: ابن زياد لعنه الله دخل عليه زيد بن أرقم وبين يديه رأس الحسين- عليه وعلى أبيه وجدّه وأُمّه وجدّته من الصلوات أذكاها، ومن التحيّات أنماها- وهو ينكته بقضيب معه، فغشي عليه، فلمّا أفاق قال له: ما لك يا شيخ؟! قال: رأيتك تضرب شفتين طالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبّلهما, فقال ابن زياد لعنه الله: أخرجوه! فلمّا قام ليخرج قال: إنّ محمّديكم هذا لدحداح. انظر: الفائق ج 3 ص 329 ط مصر 1364 هـ (ج 1 ص 419) مادّة "دحح". القاضي الطباطبائيّ. وراجع أيضاً: ما تقدّم من المصادر في ص 344.
[174] أقول: لقد ورد عن الأئمّة عليهم السلام ما يؤكّد على كتمان أسرارهم وعدم إذاعة أمرهم في المجالس العامّة، وفي المحافل التي يغلب عليها الجهل ونصب العداوة لهم عليهم السلام, وذلك حذراً من عدم استطاعة العقول الضيّقة من تحمّل تلك الأسرار، ومن ثَمَّ تأويلها حسب الأهواء ممّا يدفع ببعضهم إلى الغلوّ لدرجة العبوديّة، وبعضهم الآخر إلى التكذيب بها فالبغض إلى درجة نصب العداء لهم وتكفير شيعتهم والموالين لهم. يقول أمير المؤمنين الإمام عليٌّ عليه السلام : "إنّ أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلّا عبدٌ مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلّا صدور أمينة وأحلام رزينة". انظر: نهج البلاغة ص 280, من كلامه في صعوبة الإيمان.
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام : "إنّ حديثنا صعب مستصعب، لا يؤمن به إلّا ملَكٌ مقرّب، أو نبيٌّ مرسل، أو عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان، فما عرفت قلوبكم فخذوه، وما أنكرت فرُدّوه إلينا". انظر: بصائر الدرجات ص 41 ح 4. وإلى ذلك يشير الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام حين قال: "إنّه ليس من احتمال أمرنا التصديق له والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصيانته من غير أهله". انظر: أُصول الكافي ج 2 ص 251, باب الكتمان ح 5.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|