المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24

bilingual (adj./n.)
2023-06-14
phylogeny (n.)
2023-10-27
الادغال التي تصيب الرز
1-11-2016
فحص الرقعة الجلدية Skin Patch Test
10-2-2020
معايير التمييز بين القرارات الضريبية الإدارية والأعمال التشريعية
2023-10-30
Abdominal Viscera Innervation
16-7-2021


القيم الشعورية في العمل الأدبي  
  
4422   11:46 صباحاً   التاريخ: 14-08-2015
المؤلف : سيّد قُطب
الكتاب أو المصدر : النقد الأدبي أصوله ومناهجه
الجزء والصفحة : ص26-39
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-09-2015 15515
التاريخ: 29-09-2015 3145
التاريخ: 14-08-2015 9477
التاريخ: 25-03-2015 4849

 يجزم المشتغلون بتحقيق الشخصية بأنه لا يوجد اثنان على ظهر الارض تتماثل بصمات اصابعهما. وكذلك نستطيع نحن ان نجزم بأنه لا يوجد اثنان على ظهر هذه الارض تتماثل مشاعرهما. كل انسان هو نسخة فريدة لم يطبع منها نظير، حتى التوائم الذين تتشابه ملامحهم – تتشابه، ولكنها لا تتماثل قط، وكذلك نفوسهم، بل لابد ان تكون شقة الخلاف هنا أوسع، لان كل انحراف صغير في جزئية صغيرة من جزئيات التكوين والبيئة والملابسات، تنتهي الى انحراف كبير في النهاية.

وهذه النظرية تبدي لنا الكون أوسع كثيرا من حدوده المادية. فهذه الاعداد التي لا حصر لها من الأناسي من فجر الحياة الى مغربها، أكبر كثيرا مما تدل عليه أرقامها، لأن كل فرد فيها قد تصور الكون صورة خاصة على نحو من الانحاء، فغدا للكون نسخ متغايرة بعداد هؤلاء الافراد!

وتصور الناس على هذا النحو يوحي لنا بعظمة الحياة، أكثر مما يوحيه الينا أي تصور آخر. ولكن ما الذي يعنينا من هذا كله في النقد الأدبي؟

إنه يعنينا لأن الاديب فرد ممتاز. فاذا نحن تعطلنا لان نرى نسخ الكون العادية في شعور الافراد العاديين، فكم يشوقنا ان نطلع على النسخ الممتازة من الكون والحياة في نفوس الادباء وأن نقضي لحظات ونقوم برحلات في هذه الاكوان العجيبة، ونرى فيها من المشاهد قدر ما نقضي من اللحظات والرحلات ..

وفي الفصل السابق قمنا بثلاث رحلات ممتعة في عوالم طاغور والخيام وتوماس هاردي. وقد لحظنا التنوع والتفرد في كل عالم، ولحظنا طابع الذاتية الشخصية في كل كون من هذه الأكوان العظيمة.

هذا الطابع هي السمة الأولى للتجارب الشعورية في العمل الأدبي ومنه تستمد قسطا من قيمتها في ميزان النقد.

فليس المطلوب من الأديب ان يقول كلاما كيفما اتفق، ولكن المطلوب ان يكون له ميسم ذاتي، وطابع شخصي، يدمغ به كل عمل يخرج من بين يديه، فليمسه القارئ في كل اعماله، لا في طريقة تعبيره، ولكن اولا في طريقة شعوره.

وهذا الطابع لا يبدو فقط في الأدب الذي يعبر تعبيرا مباشرا عن الانفعال الشخصي كالشعر والغناء مثلا، بل يبدو في كل ما مست يد الاديب من قصة او رواية او ترجمة حياة او مقالة او بحث ادبي، لان الطابع الشخصي لا يفارق صاحبه في لحظة من اللحظات، وكل ادب هو ادب ذاتي في الحقيقة من هذه الناحية.

وليس هذا الطابع اسلوب تعبير لفظي فحسب، ولكنه قبل ذلك طريقة شعور. نعم إن طريقة تناول الموضوع، وطريقة التعبير اللفظي جزء من هذا الطابع، ولكنهما جزء تابع لطريقة الشعور، ولتصور الأديب للكون والحياة، أو لإحساسه في فترة من الفترات بالكون والحياة.

وفي الامثلة التي اخترناها لطاغور والخيام وتوماس هاردي، ليست طريقة تناول الموضوع وحدها التي تحمل طابع كل من الشعراء الثلاثة، ولكنها قبل هذا طريقة الإحساس بالحياة، والجو الشعوري الذي نتنسم روائحه في رحلتنا هناك.

فنحن مع طاغور في عالم راض سمح ودود متجاوب متجاذب حنون، وفي كون تمسك أطرافه وتجمع عناصره خيوط رفيعة عميقة سارية كأنغام الموسيقى في اللحن الكبير.

ونحن مع الخيام في عالم حائر ملهوف معجل يخبط في الظلام، فلا تهديه شعاعة من نور، ولا بصيص من ضياء. وقد اسدلت دونه الحجب، وأغلقت في وجهه الأبواب.

ونحن مع توماس هاردي في عالم يائس قانط لا رجاء فيه ولا عزاء. عالم تقسو فيه النظم الكونية على البشر، فتحطم آمالهم، وتعبث بمطامحهم، وتسخر بمقدساتهم، ولا تدع لهم حتى عزاء العواطف والمشاعر. هو كذلك في قطعته التي اقتبسناها وفي كثير من شعره، وفي قصصه الطويلة وأقاصيصه على السواء. واقرأ له (تس) و(جود المغمور) واقرأ له مجموعة اقاصيص (سخريات الحياة الصغيرة) وسواها تجد فيها جميعا ذلك العالم اليائس القانط بلا رجاء ولا عزاء.

كذلك نجد أنفسنا في عوالم خاصة حينما نكون مع المتنبي وابن الرومي والمعري. وهي عوالم قد لا تبلغ في العمق والشمول حدود تلك العوامل. ولكنها على كل حال عوالم كاملة، مميزة السمات، واضحة المعالم، معروفة الخصائص.

فنحن مع المتنبي في عالم كله صراع وكفاح، لا رحمة فيه ولا بر. ولا تحرج فيه ولا إبقاء. وهو مع هذا صراع لذيذ محبب، حتى لكأن المواقع فيه أعراس ومهرجانات!

ومن عرف الأيام معرفتي بها      وبالناس روّى رمحه غير راحم

فليس بمرحوم إذا ظفروا به       ولا في الردى الجاري عليهم بآثم

ولا تحسبن المجد زقا وقينة        فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وتضريب أعناق الملوك وان ترى      لك الهبوات السود والعسكر المجر

وتركك في الدنيا دويا كأنما        تداول سمع المرء أنمله العشر

نثرتهم فوق الاحيدب نثرة        كما نثرت فوق العروس الدراهم!

ونحن مع ابن الرومي في عالم منهوم بلذائذ الحس والجوارح، تتصل بها لذائذ النفس والمشاعر. ويدور عليها شعر الوجدان والحرمان، ويواجه بها مشاهد الطبيعة ولذائذ الجوارح والبطون سواء!

أجنتْ لك الوجدَ أغصانُ وكثبان         فيهمَّ نوعان تفاحٌ ورمانُ

وفوق ذنيكَ أعنابٌ مهدَّلةٌ         سودٌ لهنَّ من الظلماء ألوانُ

وتحت هاتيكَ عُنِّاب يلوع به         أطرافهنَّ قلوب القوم قنوانُ

غصونُ بان عليها الدهرَ فاكهةٌ         وما الفواكه مما يحملُ البانُ

ونرجسٌ بات ساري الطلّ يضربهُ         وأقحوانٌ منير النَّور ريَّانُ

ألفنَ من كل شيء طيبٍ حسن         فهنَّ فاكهةُ شتَّى وريحانُ

***

برياض تخايل الارض فيها       خيلاء الفتاة في الإبراد

منظر معجب تحية أنف          ريحها ريح طيب الأولاد

***

لولا فواكه أيلول إذا اجتمعت          من كل نوع ورق الجو، والماء

إذن لما حفلت نفسي متى اشتملت       عليّ هائلة الجالين غبراء

فالنساء في الابيات الاولى: أغصان وكثبان، جناهن تفاح ورمان وأعناب وعناب ونرجس واقحوان: والرياض في الأبيات الثانية: فتيات يتخايلن في أبراد، وريحها ريح طيب الأولاد، والفواكه في الأبيات الثالثة مع رقة الجو والماء هي الحياة. ولولاها لما بالى الموت ولا أحب الحياة!

وهكذا تختلط اللذائذ في حسه ونفسه، وتتوحد الطبيعة الجميلة واللذائذ الشهية، ويتعمق هذا وتلك على سواء. وهذا هو عالمه المنهوم بالسطوح والأعماق من لذائذ الطبيعة ولذائذ الحياة!

ونحن مع المعرى في عالم مشئوم، كله ظلم وخداع وشر ونفاق ويأس وظلام. وتخدعنا الحياة فنعيش في هذا العالم الذي لا خير فيه ولا صلاح له، ولا رجاء في ماضيه ولا مستقبله.

ظلم الحمامية في الدنيا وإن حسبت      في الصالحات كظلم الصقر والبازي

***

يغادر غابه الضرغام كيما     ينازع ظبي رمل في كناس!

سجايا كلها غدر وخبث        توارثها أناس عن أناس!

***

شقينا بدنيانا على طول ودها     فدونك مارسها حياتك واشقها

 ولا تظهرن الزهد فيها فكلنا     شهيد بأن القلب يضمر عشقها!

***

تنازع في الدنيا سواك وما له        ولا لك شيء في الحقيقة فيها

ولم تحظ في ذاك النزاع بطائل       فمتفقوها مثل مختلفيها!

وهكذا نجد لكل عالم طعمه وجوه وطابعه وسماته. ولكن تختلف آفاق هذا العالم سعة وضيقا وارتفاعا وانخفاضا، ويتسم كل عالم بخصائص صاحبه ومميزاته.

كل ما هنالك ان شعراء العربية في الغالب يصورون لنا فلسفتهم الشعورية في قوالب فكرية، ويصوغونها لنا قواعد في أبيات قليلة، اما طاغور والخيام وتوماس هاردي، فقد صوروا لنا عوالمهم في مشاعر

ومشاهد جزئية، تنتهي من خلالها الى عوالم شعورية حية وذلك يتعلق بطريقة تناول الموضوع والسير فيه (وسيأتي تفصيل ذلك عند الحديث عن القيم التعبيرية في العمل الأدبي).

ولكن طابع الشخصية واضح هنا وهناك على كل حال.

وطابع الشخصية هو السمة الاولى لكل اديب أصيل. وهو لا يقتصر على النظرة الشعورية الى الكون والحياة، بل يتعداها الى طريقة تناول الموضوع، أي الاسلوب، وإلى التعبير نفسه واختيار الألفاظ فيه. ولكننا هنا لا نتوسع في هذه الخصائص التعبيرية لأن لها مكانها الخاص.

وحقيقة ان لكل فرد انساني طابعه الخاص كما أسلفنا. ولكن التقليد قد يفضي على هذا التفرد، او قد يكون الامتياز ضئيلا فينبهم في غمار الطبائع والسمات العامة. وهذا يفقد العمل الأدبي أخص قيمة الشعورية.

ولا تعارض بين أن يكون للأديب طابعه الخاص، وان يقع التجارب بينه وبين الاخرين. فهناك قدر مشترك من المشاعر الانسانية العميقة. كما ان هناك استعدادا في الكثيرين لا يسموا على طبيعتهم، ويتطلعوا الى ما فوق رءوسهم. ومن خصائص الأدب الحي ان يمنحنا القدرة على الانفعال به، ولو كان أسمى من مشاعرنا الخاصة، لأنه يستطيع ان يرفعنا إليه لحظات، وأن يخرجنا من قيد اللحظة الحاضرة في حياتنا كذلك؛ ويصلنا بنبع الحياة الساري وراء اللحظات المفردة والاحداث المحدودة. ويضيف الى اعمارنا والى ارصدتنا الخاصة من الحياة آمادا وآفاقا أكبر وأوسع من حياة الافراد في جيل من الزمان.

ولعلنا بهذا نكون قد وصلنا الى القيمة الشعورية الكبرى للعمل الأدبي، فالأديب الكبير رائد من رواد البشرية، يسبق خطاها، ولكنه ينير لها الطريق، فلا تنقطع بينه وبينها الطريق! وهو رسول من رسل الحياة الى الآخرين الذين لم يمنحوا (حق الاتصال)! كما منحه ذلك الرسول، فهو يطلع من خفايا الحياة على ما لا يطلع عليه الاخرون، وهو يحسها في صميمها مجردة عن الملابسات الوقتية، والحدود الزمنية. يحسها كما انبثقت أول مرة من نبعها الاصيل، وكما تدفقت غير متقطعة في مجراها الواسع الطويل.

ووظيفته ان يفتح المنافذ بيننا وبين هذا النبع بقدر ما نطيق. وقيمة الأدب الكبرى انما تقاس بمقدار اتصاله بالنبع من وراء الحواجز والسدود.

وبعض الأدباء يبدو دائم الصلة بالنبع الكبير، أولئك هم الكبار. وبعضهم يتصل بهذا النبع فيرشف منه قطرات سريعة، ثم يحال بينه وبين النبع فيقف من وراء السدود، حتى تتاح له قطرات اخريات. اولئك هم الممتازون على تفاوت في هذا الامتياز.

ومن هنا يبدو شاعر مثل طاغور في القمة العليا، لأنه على اتصال دائم بالنبع الكبير، وكل جزئية من جزئيات حياته متصلة بما وراء الستار، والمنافذ بينه وبين الام الكبيرة مفتحة على الدوام. وهو قادر على ان ينقلنا دائما عن طريق الخاطرة الجزئية الوقتية الى الاحساس الكلي بصلتنا الكبرى بالحياة. وهذه ميزة لا تتوافر الا لعدد قليل جدا من الشعراء.

فالكثيرون – حتى من العباقرة – يستطيعون ان ينقلوا الينا شعورهم باللحظات الجزئية والحالات النفسية قويا دافقا يسري في شعورنا، وان ينقلونا الى عالمهم لنشاركهم مشاعرهم كأنما نعيشها. وقد يصلوننا في بعض اللحظات بالأزل والأبد. ولكن كل لحظة عندهم منفصلة عن كل لحظة، وكل حالة شعورية هي وحدة قائمة بذاتها، ولحظاتهم مع الكون الكبير معدودة، ومن هذا النحو كبار الشعراء في الأدب العربي عامة في القديم والحديث.

والفارق بين الدرجتين: ان كل لحظة في عالم طاغور وامثاله النادرين، هي جزء غير منفصل عن الكل الكبير، وانه يقودنا بخفة من نقطة البدء المحدودة الى العالم المطلق وراء الزمان والمكان، ففي كل لحظة شعورية احساس بالكون كله وبصلة الفرد بهذا الكون الكبير .. وان كل لحظة في عالم الاخرين هي لحظة مفردة قوية مليئة، ولكنها في معزل عن بقية اللحظات، وكأنما هي رحلة مثبتة في ناحية من الكون لا تتعداها. وقد نستطيع ان نرى اكوانهم الخاصة حين نجمع هذه الرحلات جميعا. اما طاغور وأمثاله النادرون فإنهم يطلعوننا على الكون كله في كل رحلة صغيرة على وجه التقريب.

يقول طاغور في إحدى مقطوعاته:

ان الطائر الاصفر يغني على الفنن فيرقص قلبي فرحا (1).

نسكن معا قرية واحدة، وهذا هو سر سرورنا معا.

يجيء حملاها المدللان ليرعيا في ظل أشجار حديقتي.

وإذا ما ضلا طريقهما في حقل شعيري احملهما بين ذراعي.

اسم قريتنا (خانجانا) ويسمون نهرنا (أنجانا) واسمي يعرفه الجميع.

أما اسمها هي فهو (رانجانا).

***

ان الطريق الذي يؤدي الى منزلها يعبق في أيام الربيع برائحة ازهار (المانجو).

عندما ينضج بذر كتانهم ويكون صالحا للجمع يزهر القنب في حقولنا.

 النجوم التي تبتسم لكوخهم تبعث لنا بنفس النظرة المتلألئة.

والأمطار التي تملا أحواضهم تنعش عندنا غابات (الكادام).

اسم قريتنا (خانجانا) ويمسون نهرنا (أنجانا) وأسمي يعرفه الجميع.

ما اسمها هي فهي (رانجانا).

 وهي قطعة غزل تعبر عن شعور الشاعر في لحظة محدودة من الزمان، ولكن اين نحن؟ اننا مع الطبيعة كلها: طائرها الاصفر يغني على الفنن، وحملاها الوديعان المدللان، والظل والنهر والنحل الرحيق، وأزهار الكسم وغابات الكادام، والكوخ والقرية..

وليس المهم جمع هذه المشاهد. إنما المهم هو انسيابه هو من هذه المشاهد، واختلاط مشاعره بمشاعر النهر والقرية، وحبيبته وحمليها المدللين، والطائر الاصفر الجميل. ثم هذا الشعور والحلو بالاتصال المباشر بحبيبته وبالطبيعة كلها في لحظة، وهذه الصلات الكبرى المتوشجة السارية بلا انتباه بينه وبين الكون كله في لحظة، وانه ليصلنا بالطبيعة وأبنائها صلة الود والرحمة والتعاطف بلا كلفة ولا قيود مراسيم، حيث يقوم له جميع ابنائها بمهمة الرسول الامين بين المتحابين، وحيث يتسق الجميع في لحن واحد جميل.

اسم قريتنا (خانجانا) ويسمون نهرنا (أنجانا) واسمى يعرفه الجميع، أما اسمها هي فهو (رانجانا) .. حتى الاسماء تتقارب وتنساب موسيقاها الحلوة الوديعة المديدة! وكأنما هم جميعا نغمات متناسقة في لحن عذب منساب!

ويقول في مقطوعة اخرى:

(انتشرت فوق حقول الارز الخضر والصفر سحب الخريف يطاردها شعاع النفاذ.

(لقد نسيت النحل ان ترشف الرحيق حين اسكرتها نشوة الضوء فانطلقت دون وعي منها تطن، والاوز في جزر النهر يعود في فرح لغير غاية.

 لا تدع أحدا يذهب الى منزله هذا الصباح يا صاحبي.

لا تدع احدا يذهب الى عمله.

دعونا نقتحم السماء الزرقاء قبل العاصفة، وننهب الفضاء عدوا.

ان الضحكات لتسبح في الخلاء كزبد النهر في وقت الفيضان.

أيها الرفاق دعونا ننفق هذا الصباح في الأغاني الساذجة)!.

فهنا نجدنا كذلك أطفالا مع سائر اطفال الطبيعة في ذلك العرس من الساذج الطليق الذي اتاحته الأم الرؤوم، واعدته للعدو بلا غاية، والفرح من الأعماق .. الفرح .. ذلك الفرح الطليق الذي يفيض في النفس عفوا حين تنطلق من القيود، فتسبح الضحكات في الخلاء كزبد النهر في وقت الفيضان. (فلا تدع احدا يذهب الى عمله، ولا تدع احدا يذهب الى منزله) فليس اليوم للبيوت ولا لضرورات المعاش، وإنما هو للمرح والفرح في عرس الحياة.

وليس من الضروري ان يصلنا الشاعر بالكون الكبير عن طريق عرض مشاهد الطبيعة. فطاغور في مقطوعته التي مرت في الفصل السابق لا يعرض مشاهد الطبيعة كما يعرضها هنا، وإن وردت في مواضع لا تلون جو المقطوعة! ولكنه ينقلنا من خلال التجارب الجزئية التي يذكرها: مناظر السوق والاخذ فيها والعطاء، وعودته من السوق رابحا، وترحيبه بأداء ضريبة الحارس، وصاحب المعبر، وعطيته للشحاذ، وتسليمه ما معه للص حتى (لا يخيب ظنه) : ووصوله للمنزل بيديه فارغتين، واستقبالها له لدى الباب (كعصفورة وجلة) وشعوره بأنه لا يزال معه ما يعطيه ..

ينقلنا من خلال هذه الجزئيات المحدودة الى شعور شامل غير محدود. ان هناك رصيدا مذخورا. وإنه لا خسارة فيما وهب، فإنما اخذ من سوق الحياة، وأدى لأبناء الحياة، و(شيئا كثيرا لا يزال باقيا معه) بعد ما ذهب وبعد ما سلب. فهناك شعور منساب وراء اللحظات الجزئية، وهناك إحساس شامل بقضية كبرى وراء الجزئيات.

ولم يقل لنا هو شيئا عن هذه القضية الكبرى، ولكنه قادنا من الحيز المحدود بالتجارب الجزئية، في مسارب خفية، الى الفضاء المطلق وراء الحدود والقيود. وألهم شعورنا هذه الحقيقة الكبرى دون ان يشغل اذهاننا بإدراكها، وأفعم نفوسنا بالرضى والسماحة والثراء والاكتفاء.

وكذلك يصنع في مقطوعته التالية:

لماذا انطفأ المصباح؟

لقد سترته بعباءتي لأحميه من الريح. لهذا انطفأ المصباح!

لماذا ذبلت الزهرة؟

لقد ضممتها الى صدري في لهفة المحب، لهذا ذبلت الزهرة!

لماذا جف الجدول؟

(لقد بنيت خزانا عبر الجدول لأستفيد منه وحدي، لهذا جف الجدول:

لماذا انقد وتر الناي؟

لقد حاولت ان اوقع عليه لحنا فوق احتماله. لهذا انقد وتر الناي!).

وهي مشاهدات جزئية صغيرة. ولكن ما الشعور العام الذي يغمرنا حين ننتهي من استعراضها؟ انه الشعور بالسماحة المطلقة من الكل الى الكل، والشعور بالرفق والسير في تناول الحياة، والشعور باستصغار الملك والاحتجاز والاحتجان!

ولم يقل لنا الشاعر ولا قضية من هذه القضايا، ولكنها انسابت من قلبه شعورا فائضاً فاتصلت بشعورنا، وتجاوزت بنا هذه الجزئيات المحدودة الى الفضاء الشاسع وراء المحدود.

وليس حتما ان تكون كل أنماط الشعور بالكون والحياة كشعور (طاغور) فرحا بالحياة وأنسا. وسماحة مع الحياة واندماجا. فذلك نمط خاص. وللاتصال الأكبر بالكون أنماط شتى، والمسالك إليه كثيرة.

فها هو ذا الجامعة بن داود في (العهد القديم) ينظر الى الكون فلا يرى الا التكرار المسئم الميئس، وإلا العبث والباطل في كل ما كان وكل ما يكون. ولكنه يكشف لشعورنا عن الكون كله في شعوره. ونخالفه او نوافقه ولكننا نطلع على صورة خاصة للكون في شعوره، كما يتراءى له من خلال الجزئيات التي تقع تحت حسه:

(باطل الأباطيل. الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتبعه تحت الشمس؟ دور يمضي ودور يجيء. والأرض قائمة الى الأبد. الشمس تشرق والشمس تغرب، وتسرع الى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب الى الجنوب، وتدور الى الشمال. تذهب دائرة دورانا، والى مداراتها ترجع. كل الانهار تجري الى البحر والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، الى هناك تذهب راجعة. كل الكلام يقصر، ولا يستطيع الانسان ان يخبر بالكل. العين لا تشبع من النظر، والاذن لا تمتلئ من السمع. ما كان فهو ما يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع. فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال له: انظر. هذا جديد. فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذكر للأولين. والآخرون ايضا الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين يكونون بعدهم..).

وهكذا يصور لنا الحياة كما يراها هو. مهزلة كبيرة لا نتيجة لها ولا جديد فيها. باطل الاباطيل. الكل باطل. وقبض الريح. ويطلعنا على كونه الخاص يغشاه السأم والملال، واليأس منس الماضي والحاضر والمستقبل. ولكنه كون كبير يستحق التأمل والريادة على كل حال!

والخيام يقفنا في رباعياته المكرورة ذات اللون الواحد العميق النافذ وقفة ميئسة على صورة اخرى، فهذه البشرية المسكينة خارجة من ظلام الازل وصائرة الى ظلام الأبد، ولا شعاع هناك او هنا يهديها الطريق. ولكنه لا يعطيها لنا قضية يتملاها الذهن، بل شعورا يغمر النفس ويغشى الوجدان!

وتوماس هاردي يقفنا في عالم يائس قانط لا رجاء ولا عزاء، تسخر فيه الأقدار بالناس (2)، وذلك من خلال مشاعر ومشاهدات.

 ونستطيع ان نعرض انماط اخرى. ولكننا لا نجد حاجة بعد الذي عرضنا. فالمهم ان يتجاوز بنا الشاعر جزئيات الحياة ولحظاتها المحدودة، الى المحيط الشامل الكبير، لا عن طريق الفكر الذي يبلور القاعدة من الجزئيات كما يحاول بعض شعرائنا اليوم الن يصنع، ولكن عن طريق الشعور الذي يقودنا في مسارب خفية إلى الكل الشامل من وراء الجزئيات.

فإذا لم يستطع الشاعر الا ان يمنحنا سبحات قليلة في الكون، او لحظات قوية عميقة مليئة في نفسه وشعوره، فلن يحرمه ذلك ان يكون شاعراً ممتازا. ولكنه ليس شاعرا كبيرا بهذا القياس. وعندنا من شعراء العربية المتنبي والمعري وابن الرومي من هذا الطراز.

وسمة ثالثة ربما كان فيما مضى غنية عنها. ولكن لا بأس من إفراد كلمة قصيرة لها .. تلك هي سمة الصدق. ولن يكون للشاعر طابع خاص، ولن يستطيع ان يصلنا بالكون الكبير، إلا اذا كان صادقا.. ولكن اي صدق: لسنا نعني الصدق الواقعي فذلك مبحث يهم الاخلاق، إنما نعني صدق الشعور بالحياة وصدق التأثر بالمشاعر الى الصدق الفني.

ونحن لا نملك حق الاطلاع على ضمير الاديب، ولكننا لا نعدم وسيلة الإدراك الصدق الفني في عمله من خلال تعبيره.

ونضرب على ذلك مثالا قول شوقي في قصر أنس الوجود:

قف بتلك القصور في اليوم غرقى    ممسكا بعضها من الذعر بعضا

كعذارى أخفين في الماء بضا        سابحات به وأبدين بضا

كل بيت بمفرده يعرض صورة جميلة الرسم والإيقاع، ولكنهما مجتمعتين يكشفان عن اضطراب في الشعور او تزوير في هذا الشعور، ذلك أننا حين نستعرض البيت الأول:

قف بتلك القصور في اليم غرقى       ممسكا بعضها من الذعر بعضا

نجد أنفسنا امام مشهد غرق، والغرقى مذعورون، يمسك بعضهم من الذعر بعضا. فالشاعر اذن يرسم لنا مشهدا مثيرا لانفعال الحزن والأسى. مشهدا يظله الفناء المتوقع بين لحظة واخرى. ونشعر ان هذا هو الانفعال الذي خالج نفسه وهو يعاني هذه التجربة الشعورية.

ولكنه ينتقل بنا فجأة ونحن أمام المشهد نفسه لم نزايله فيقول:

كعذارى أخفين في الماء بعضا      سابحات به وأبدين بضا

فأي شعور بالانطلاق والخفة والمرح بوحيه مشهد العذارى، ينزلن الماء سابحات، يخفين في الماء بضا ويبدين بضا؟

هنا ظل لا يتسق مع الظل الاول، يصور انفعالا شعوريا يغاير الانفعال الاول، فأي الانفعال اذن هو الذي خالج نفس الشاعر؟ أقرب تفسير انه لا هذا الانفعال ولا ذاك. إنما هي صورة لفظية لا رصيد لها من الشعور. فالتجربة الشعورية هنا مزورة، كما تبدو من خلال هذا التعبير.

وحين يقول ابن المعتز في وصف الهلال.

انظر إليه كزورق من فضة        قد أثقله حمولة من عنبر

يفقد صدق الاتصال بالكون، لأنه لا يتجاوز رؤية البصر، ولا يلمح وراءها اية رؤيا شعورية من منظر الهلال والسماء والطبيعة. انما هو شكل جامد لا إيحاء له، ولا ظل في الحس ولا في الشعور.

الخصوصية في الشعور، ومدى العمق والشمول في الاتصال بالكونية والحياة، وصحة الشعور وصدق الاتصال، هي أخص القيم الشعورية في العمل الأدبي، ولكن التقويم الكامل لا يكون الا حين تبحث القيم التعبيرية كذلك، وهي التي تتبدى من خلالها تلك القيم الشعورية. وذلك ما سنعرض له في الصفحات التالية.

____________________

(1) ترجمة لطفي شلش في مجموعة (رعاة الحب).

(2) المؤلف لا يتفق مع الجامعة ولا الخيام ولا هاردي في طبيعة شعورهم بالكون والحياة. فتأثره بالتصور الاسلامي الواسع البصير الدافق بالحياة والفاعلية والنور بقية شر هذا الظلام والسلبية والقنوط، ولكنه يعرض هذه النماذج لوجودها في عالم الأدب فعلا، والتصور الاسلامي للكون والحياة جدير بأن ينشئ أدبا عظيما أوسع رقعة وأبعد امدادا وأرفع آفاقا.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.