أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-5-2022
1436
التاريخ: 2024-09-22
218
التاريخ: 6-12-2021
1953
التاريخ: 16/10/2022
1496
|
إن من أهم شروط نهوض الأمم وتقدمها، هو شعورها وإدراكها بأهمية الزمن، وحسن إدارتها للوقت. وإن مقارنة سريعة على هذا الصعيد، بين حال أمتنا وبين بعض الشعوب المتطورة، ستكشف أن أمتنا هي من أكثر الأمم والشعوب تضييعاً وهدراً للأوقات. وحيث إن الشباب هم طليعة التغيير، فإذا لم يدركوا قيمة الوقت ويحسنوا إدارته واستثماره، فلن يكتب لهم ولهذه الأمة النجاح كما هو المرجوّ والمأمول.
وطبيعي أن المعروف عن الشباب ميله إلى اللهو واللعب، وأنسه بالمرح والفرح، ورغبته في السمر والسهر. والتوجه إلى هذه الأمور ـ ما دام الشاب متحرزاً عن فعل الحرام ـ لا ضير فيه، بل ربما شكل ذلك حاجة للشباب وفرصة له، ليجدد نشاطه وحيويته. إلا أن المشكلة تبدأ عندما يتجاوز الإنسان حد الاعتدال في اللعب واللهو، بحيث يسرف في هدر الوقت وتضييع شبابه في الفراغ والبطالة، الأمر الذي يدفعنا للحديث عن قيمة الزمن في الإسلام، وكيفية إدارة الوقت واستثماره.
1ـ قيمة الزمن
في البدء، لا بد لنا أن نبين قيمة الزمن في التصور الإسلامي، فالزمان ـ كما نعلم ـ هو ظرف ووعاء لحركة الأحداث والكائنات، وهو متكون من أجزاء: ثوان، دقائق، ساعات، أيام، أسابيع، شهور، سنين، عقود، قرون.. وهو حركة مستمرة في دورانها، لا تهمل ولا تمهل أحداً، فهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وهو أيضاً لا يتكرر أبداً ولا يعود إلى الوراء. من هنا ندرك قيمة الزمن وحاجتنا إليه. إن الزمان بحسب التصور القرآني هو:
1) آية من آيات الله، كما أن اختلاف الزمن ـ ليل نهار - هو آية أيضاً، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]، وفي آية أخرى: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُون} [يونس: 67].
2) وهو نعمة عظيمة وجليلة، ولأنه كذلك فقد أقسم الله تعالى به في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1-2]، وقال عز وجل: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 3 - 4].
وإذا كان الزمن آية ونعمة فهذا يُحَملُنا مسؤولية، فمسؤولية الآية تفرض علينا التأمل والتدبر فيها وفي أسرارها ودقائقها، ومسؤولية النعمة تفرض علينا أن نستغلها ونستثمرها، ولكن كيف نستثمرها؟
2ـ استثمار الوقت
إن بعض الناس لا يُحسنون استثمار أموالهم وإدارتها، وهذا ما يؤدي إلى ضياع المال وخسارته، ومن كان كذلك قد يعد سفيهاً ويحجر عليه شرعاً، بمعنى منعه من التصرف في أمواله. ولكن الكثيرين من الناس لا يحسنون إدارة أوقاتهم وليس أموالهم فحسب، وهذا النوع من السّفه تكون عاقبته وخيمة للغاية. والغريب أن هذا الأمر يشكل ظاهرة عامة ولا سيما في أوساط الشباب، فكأننا متمرسون في الهدر، فكما نهدر المال نهدر الأعمار، وهدر العمر أخطر بكثير من هدر المال، فالمال يمكن تعويضه لكن الأعمار لا يمكن تعويضها، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ما أسرع الساعات في اليوم وما أسرع اليوم في الشهور وما أسرع الشهور في السنين وما أسرع السنين في العمر"(2).
وإذا لم نحسن استثمار الوقت واستغلاله، فإننا سنسأل: يوم القيامة عنه، وقد مر في الحديث النبوي: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت".
3ـ الفراغ مفسدة الشباب
وإن من لم يحسن استثمار وقته وقع في حبال الفراغ، والفراغ مفسدة للإنسان ولا سيما الجيل الشاب، وهو آفة خطيرة، فهو منبتٌ خصب للجريمة والرذيلة والإدمان على العادات السيئة، وهو سبب لانتشار الأمراض النفسية والخلقية، إلى غير ذلك من الآثار السلبية والعواقب الوخيمة التي يتركها الفراغ على الفرد وعلى المجتمع، يقول الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجِـدة مفسدة للمـرء أي مفسدة (3).
وفي الدراسة الموضوعية لأسباب انتشار ظاهرة الفراغ في أوساط الشباب، نستطيع أن نذكر عدة أسباب:
أ ـ إن الفراغ هو حصيلة أو نتيجة مباشرة للمجتمع الصناعي الذي بالغ في الاعتماد على الآلة في عمليات الإنتاج بدل اليد العاملة، ما جعل المجتمعات تضج بجيش من العاطلين عن العمل الذين لم يجدوا فرصة مناسبة للعمل.
ب - أضف إلى ذلك سبباً آخر، وهو نمط العيش في بعض البلدان المرفهة، وهو قائم على ثقافة مادية استهلاكية، وهو الذي يوفر للكثير من الشباب مصادر سهلة للعيش دون حاجة إلى الكد والعمل، وكل ذلك على حساب أناس آخرين يعيشون الجوع والفقر المدقع، وقد تم تصدير هذا النمط في العيش والسلوك إلى معظم شعوب العالم.
ج ـ كما أن السياسات الاقتصادية غير المتوازنة للكثير من الدول شكلت سبباً ثالثاً لمشكلة البطالة والفراغ. ومن هنا، فإن الكثير من الشباب العاطل عن العمل، والذي يعيش فراغاً قاتلاً، بحاجة إلى إعادة تأهيل وتوجيه وتدريب لدمجهم في المجتمع، وهذا ما لا تهتم به، لا المؤسسات الحكومية، ولا منظمات المجتمع الأهلي.
من الطبيعي، أن محط النظر ليس إلى الفراغ البناء الذي يملأه الشخص ببعض الأنشطة الترفيهية، والسياحية أو الرياضية، فهذا ليس فراغاً في الحقيقة، أو لنقل ليس فراغاً مذموماً؛ لأنه ينطلق من تخطيط وتنظيم واع لأوقاتنا، وإنما محل الكلام هو في الفراغ المنطلق من حالة كسل أو تكاسل أو إحباط وتشاؤم، مما يدفع الشخص لتمضية أوقاته «كيفما كان»، وهذا أمر لم تألفه مجتمعاتنا في سالف الزمان. فقد كان معظم الشباب منخرطاً في العلم أو العمل، وعرف عن بعض العلماء أنهم كانوا عندما يتعبون من الدراسة العلمية الجادة يتخذون لأنفسهم أسباباً للأنس، أو يقرأون بعض الكتب التي تشتمل على بعض اللطائف، وما يمكن تسميتها بـ «المنوعات» الثقافية والأدبية واللغوية، وغيرها من اللطائف المضحكة والمثقفة في الوقت عينه، والتي وضعوا لها كتباً خاصة من قبيل كتب (الكشكول)، وكانوا يسمون ذلك بـ (التحصيل في أيام التعطيل).
وتجدر الإشارة، إلى أن الفوضى في حياتنا، وفي إدارة أوقاتنا وتنظيمها، لا تقل ضرراً عن الفراغ، في كونها تشكل هدراً للوقت وضياعاً للعمر.
4 ـ البرنامج الأمثل
ولك أن تسأل: ما هو البرنامج الأمثل لاستثمار الوقت، وملء الفراغ؟
والجواب: إن الإنسان الناجح هو الذي ينظم حياته ووقته بطريقة فاعلة وبناءة، ويملأ أيامه وساعاته بما ينفعه ويغني حياته وتجربته. فالخطوة الأولى هي تنظيم أوقاتنا على ضوء حاجتنا، ومتطلباتنا الروحية والجسدية، والأسرية والاجتماعية. وقد أرشدت الأحاديث الشريفة إلى تقسيم الوقت تقسيماً ثلاثياً، بما يصلح أساساً ومنطلقاً لعملية تنظيم الوقت، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل. وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم"(4).
بيان: يرمُ: يُصلح، والمرمة: الإصلاح.
إن اعتماد برنامج منظم ومدروس، سيُبقي الإنسان في حالة تصاعد وتقدم نحو الأفضل، سواء على الصعيد العلمي، أو الأخلاقي أو الروحي أو الاجتماعي.. الخطأ الفادح أن تتساوى أيامنا، فعن إمامنا الصادق (عليه السلام): "من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة"(5). وهناك ما هو أسوأ من تساوي اليومين، ألا وهو أن يكون غدنا أسوأ من يومنا، ومستقبلنا أسوأ من حاضرنا، أي أن نكون في حالة تراجع وترد روحي أو علمي وأخلاقي، "من كان غدُه شرَّ يوميه فهو محروم"(6)، ومن كان في نقص فالموت خير له.
وإذا وضعنا هذه القاعدة في حسباننا، فأعتقد أنه ليس ثمة برنامج عملي يمكن اعتماده في سبيل الحفاظ على وتيرة من العمل المرضي لله تعالى، كذاك البرنامج الذي وضعه لنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه المعروف عند الصباح والمساء، يقول (عليه السلام) : "اللهم صل على محمد وآل محمد ووفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه وفي جميع أيامنا لاستعمال الخير وهجران الشر وشكر النعم واتباع السّنن ومجانبة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحياطة الإسلام وانتقاص الباطل وإذلاله ونصرة الحق وإعزازه وإرشاد الضال ومعاونة الضعيف وإدراك اللهيف"(7).
إن كل فقرة من فقرات هذا الدعاء، تمثل خطوة في برنامج إدارة الوقت، وهي كما نلاحظ تجمع بين البعد الاجتماعي والإنساني والبعد الروحي والأخلاقي، ولا بأس بأن نلقي نظرة سريعة تطوف بنا في رحاب هذه الفقرات الرائعة من هذا الدعاء الذي يُفترض أن نجعله وِردَنا في الصباح والمساء، حيث نلاحظ أنه وفي مستهل المقطع المذكور وبعد الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار يتطلع الداعي إلى الله طالباً منه التوفيق والسداد في جميع أيامه ولياليه، للأمور التالية فعلاً أو تركاً:
أ ـ (استعمال الخير)، بمعنى العمل به، والخير هو كل عمل صالح، من عبادة خالصة لله تعالى، أو نشاط اجتماعي تساعد به عيالك وتسعدهم، أو تخفف فيه معاناة إنسان.. وستأتي في الفقرات اللاحقة بعض أبرز وجوه الخير، وفي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد سئل عن الخير: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، وأن يعظم حلمك وأن تباهي النّاس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلا لرجلين، رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات.."(8).
وعنه (عليه السلام): "افعلوا الخير ولا تخيروا منه شيئا، فإن صغيره كبير وقليله كثير، ولا يقولن أحدكم إن أحدا أولى بفعل الخير مني، فيكون والله كذلك، إن للخير والشر أهلا فمهما تركتموه منهما كفاكموه أهله"(9).
ب ـ (وهجران الشر)، بمعنى رفضه وتركه، والشر هو كل قبيح ومحرم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "والشر جامع لمساوي العيوب" (10).
ت ـ (وشكر النعم)، ونعم الله تعالى على العباد لا تعد ولا تحصى، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن، وشكرها يكون بأداء حقها. ويرى بعض العلماء الأجلاء أن «الشكر عمل يتعلق بالقلب واللسان والجوارح. فشكر النعم بالقلب: القصد إلى تعظيمه تعالى وتمجيده وتحميده عليها، والتفكر في آثار لطفه بإيصالها ونحو ذلك. وباللسان: إظهار ذلك المقصود بالتحميد والتمجيد والتهليل والتسبيح. وبالجوارح: استعمالها في طاعته وعبادته، والاحتراز من الاستعانة بها في معصيته ومخالفته»(11).
ت ـ (واتباع السنن)، واتباعها بالاقتداء بها والعمل بها، والسنن: (جمع سنة، وهي لغة: الطريقة، وتطلق شرعاً على الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وآله، وعلى الطريقة النبوية وهي ما سنه النبي صلى الله عليه وآله، أي: شرعه، من مفروض أو مندوب وغير ذلك.. وقد تطلق السنة على ما يتعلق به الوجوب، وعليه قول أبي جعفر (عليه السلام): "كل من تعدى السُنة ردّ إلى السُنة"(12)، وقول أمير المؤمنين صلوات الله عليه(13): "السنة سنتان: سنة في فريضة، الأخذ بها هدى وتركها ضلالة، وسنة في غير فريضة، الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيرها خطيئة"(14).
ج ـ (ومجانبة البدع)، أي الابتعاد عنها، والبدعة هي كل أمر أحدثه الإنسان - زيادة أو نقيصة ـ في الدين بما لم يأذن به الله ولم يقم عليه الدليل، وأما إذا كان الأمر المبتدع والمحدث مما لا علاقة له بالدين فهو ليس بدعة محرمة ولا مبغوضة لله تعالى ولا سيما إذا كان فيه نفع للإنسانية، فلا: يجوز أن نخلط بين الإبداع والابتداع، فالإبداع هو أمر ضروري ولا غنى عنه لتقدم الأمم، وأما الابتداع وهو التصرف في الدين زيادة ونقصاً فهو المحرم والمبغوض، وعليه يحمل قول النبي (صلى الله عليه وآله) مما ورد في الحديث: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"(15).
ح ـ (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، والمعروف هو كل ما أمر الله تعالى به مما فيه مصلحة العباد، أما المنكر فهو كل ما أبغضه الله تعالى مما فيه مفسدة العباد، وفريضة الأمر بالمعروف هي الفريضة التي تشكل سياجاً لحماية الأخلاق الفاضلة وحصناً من تسرب رذائل الأخلاق، وقد قلنا في بعض المحاضرات: إن أهمية هذه الفريضة تكمن في أنها تحاصر الانحراف وتساهم في نشر الخير وتمهد لبقاء الشريعة الإسلامية واستمراريتها حية وفاعلة في وجه كل محاولات التشويه والتضليل أو الخروج عليها، ولا نبالغ بالقول: إن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الضامن لإقامة سائر الفرائض الإسلامية، إذ كيف ستبقى فريضة الصلاة وتستمر إقامتها إن لم نأمر بها باعتبارها عنوان المعروف؟! وكيف نحاصر شرب الخمر إن لم ننه عنه باعتباره رأس الخبائث وأم المنكرات؟! ومن هنا جاء في الحديث عن أبي جعفر (عليه السلام) التعبير عنها بأنها أم الفرائض، وأنه لا تقام الفرائض إلا بها، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) - فيما روي عنه -: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر"(16).
وأرى لزاما عليّ هنا ـ ولو أني خرجت عن التعليق المختصر على فقرات الدعاء المذكور ـ أن أنبه إلى أنه قد دخلت علينا بعض المفاهيم القلقة التي ساعدت في ترويج المنكر وأوصلت الأمور إلى حد أن يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ومن جملة هذه المفاهيم التي تنتشر بين الشباب: مفهوم «الحرية الشخصية» للفرد والتي تسمح له أن يفعل ما يريد ما دام لا يعتدي على الآخرين، وليس من حقنا ـ وفقاً لهذا المفهوم ـ الاعتراض عليه، وإنما الذي يحق له أن يحاسبه ويعاقبه هو الله تعالى يوم القيامة فيما لو ارتكب ما يخالف الشرع، أما نحن فلا دخل لنا في الأمر ولا يحق لنا الاعتراض عليه.
وهذا الحديث البراق والمخادع لا نستطيع الموافقة عليه، لأن الكلام ليس في المنكر الذي يرتكبه الإنسان في داخل بيته، حتى يقال: إنه لا يحق لنا أن نقتحم عليه بيته وخصوصيته ونفضح أسراره ونشهر به، وإنما الكلام في المنكر الذي يمارسه المرء في الهواء الطلق ويفعله أمام الرأي العام، وهنا يكون الأمر مختلفاً، إذ لا يحق لأحد بذريعة الحرية الشخصية أن يسيء إلى المنظومة الأخلاقية والقيمية التي تحكم المجتمع، هذا ما يقرره الإسلام، أرأيت إلى الشخص الذي يلوث البيئة العامة بالغازات الضارة أو نحوها (كحرق الدواليب وإلقاء القمامة في الطرقات مع ما ينتج عنها من تلويث للفضاء العام) ألا يحق لنا أن نمنعه من ذلك، لأنه يسيء إلينا ويعتدي على أمننا الصحي في تلويث البيئة التي نعيش فيها؟ بالطبع يحق لنا منعه من ذلك، وهذا لا يناقش فيه أحد، وهكذا الحال لو أن شخصاً كان يرفع صوت المذياع في بيته أو في الشارع فيؤذي جيرانه أو المارة، فإن لنا حق الاعتراض عليه ومنعه من إقلاق راحة الناس وإزعاجهم وهذا مما لا خلاف فيه أيضاً.
والحال عينه ينطبق ـ باعتقادنا ـ على الشخص الذي يمارس (المنكر الشرعي والأخلاقي) علناً وأمام الملأ، كما لو كان يمشي عارياً في الشارع، أو يرتكب ما يخدش الحياء العام، أو تمشي المرأة سافرة متبرجة إلى حد التعري، فإن من حقنا أن نعترض عليها لأنها تلوث أجواءنا الإيمانية وتسيء إلى الأمن الأخلاقي للمجتمع، فتعرض أبناءنا وشبابنا للانحراف وتشجع بسلوكها بناتنا على الاقتداء بها، وهكذا من يحتسي الخمر علناً وفي شوارع المسلمين، فإنه بذلك يعتدي على خصوصيتهم الإيمانية ويستفز مشاعرهم الدينية التي تنظر إلى الخمر باعتباره أم الخبائث والمنكرات.
ر- (وحياطة الإسلام)، وحياطته تعني تعهده وحمايته وحراسته من المحاولات التي تعمل على تشويهه، سواء صدرت من قبل أعدائه، أو من بعض المتخلفين من أتباعه، أو اللصوص الذين يتجرون باسمه ويحملون عناوين براقة تنتسب إليه، وذلك بالعمل على إبراز وجه الإسلام الحقيقي والمشرق، مع اعتماد كافة الأساليب المشروعة المرتكزة على المنطق والبرهان، ومع الاستعانة بكل وسائل الاتصال والتواصل الحديثة.
ز ـ (وانتقاص الباطل وإذلاله)، فالباطل بما يمثله من خطر على الإنسان وكرامته وانتهاك للقيم الأخلاقية وتجاوز لمنطق العدل والحق لا مفر من العمل على انتقاصه وإذلاله ومواجهته بإظهار نقاط ضعفه وبيان خدعه وضلالاته، ومواجهته بشتى الأساليب المشروعة، ليبقى ضعيفاً مهاناً ولا يجد صدى في النفوس الضعيفة ولا يخلق إرباكاً في واقع الأمة.
س ـ (ونصرة الحق وإعزازه)، ونصرته تكون بالكلمة المدافعة عنه، وبالموقف العملي المؤيد له والمنخرط في مشروعه، أو بالوقوف إلى جانب أهل الحق وأنصاره وتأييدهم والدفاع عنهم، وأما إعزازه فيكون بإقامة حجته وتشييد أركانه وإظهار حقانيته والتبشير به والدعوة إليه.
ش ـ (وإرشاد الضال)، والضال هو الإنسان الحائر التائه عن الطريق سواء كان طريقاً مادياً يوصل الشخص إلى منزل من منازله، أو طريقاً معنوياً يوصل الإنسان إلى الهداية والرشد، وإرشاده هو أن تدله على مقصده بكل لطف ورفق، سواء وصل أم لم يصل، وإرشاد الضال من أفضل أعمال البر، ففيه إحياء للروح وإنقاذ للنفس وانتشالها من طريق الضلال والعمى إلى طريق الإيمان والهدى، ففي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعتني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن وقال لي: يا علي لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيمُ الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت"(17). وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: ٣٢]،؟ فقال: "من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها"(18).
ص ـ (ومعاونة الضعيف)، والضعيف هو الشخص الذي لا حيلة ولا قوة تمكنه من بلوغ حاجاته، أو لا قدرة له تمنعه من رد ظلم الآخرين، (فلا يقدر على الامتناع ممن يريد ظلمه وهضمه، أو يريد به مكروها)(19)، ومعاونته هي مساعدته برفع الظلم والأذى عنه أو بتمكينه من بلوغ حاجاته، وهذا العمل هو من أفضل الصدقات المستحبة، ففي الخبر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : عونك الضعيف من أفضل الصدقة"(20).
ض – (وإدراك اللهيف). اللهيف أو الملهوف هو المضطر المستغيث، وإدراكه يكون بتلبية استغاثته. والتعبير (بإدراكه) مشعر بشدة حاجته إلى من يقف إلى جانبه، وكأنه لولا إغاثته لتعرض للهلاك. وفي فضل إغاثة الملهوف وردت العديد من الروايات، منها: ما روي عنه (صلى الله عليه وآله): "أنه كان يحب إغاثة اللهفان"(21).
ومنها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب"(22).
وحبذا لو يضع كل منا لنفسه جدولاً شهرياً أو سنوياً يتضمن هذه العناوين، ومن ثم يعمل على إنجازها.
5 ـ فرصة التدارك
في ضوء ما تقدم، يجدر بنا أن نبادر إلى تصحيح المسار قبل فوات الأوان، فلا زال في العمر بقية، فإن لم نسارع فقد تضيع البقية. هب أنك ضيعت الكثير من عمرك، وبقي لك القليل، فلا تضيع هذا القليل، فلا تزال أمامك فرصة للتدارك، وأن (تأتي مؤخراً خير من أن لا تأتي أبداً)، وإذا ضيعت دنياك فلا تضيع آخرتك، والعمل للآخرة يظل بابه مفتوحاً إلى آخر العمر، وباب التوبة والعودة إلى الله مفتوح إلى آخر لحظة من هذه الحياة، شريطة أن لا يحضرنا الموت، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 ـ ١٨]، ولهذا فعلى الإنسان أن لا ييأس من إمكانية التغيير، وأن لا يسيطر عليه ماضيه فيسقطه. علينا أن نندم على ما ضيعنا من أعمارنا وأوقاتنا في الماضي ونتطلع إلى المستقبل، ونتوجه إلى الله تعالى بالدعاء: (واجعل مستقبل أيامي خيراً من ماضيها).
أيها الشباب! عمركم هو رأسمالكم الثمين، وهو بين أيديكم فلا تضيعوا فرصته، أمامكم متسع للتفكير ومن ثم التغيير، والتفكير هو المدخل الطبيعي للتغيير، ولا بد أن يبدأ التغيير بالنفس، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: ۱۱]، فليكن لنا محطة للتأمل والمحاسبة، وعلينا أن نقوم بـ (جردة حساب) وأن نسأل أنفسنا: ماذا فعلنا فيما مضى؟ أين قصرنا؟ هل تقدمنا في علم أو عمل أو دين؟ إن المحاسبة ضرورية كخطوة أساسية لا بدّ منها في عملية التغيير، (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر)(23).
والمؤشر على نجاح عملية المحاسبة يكون بتقديرنا قيمة الوقت، واهتمامنا بما تبقى لنا من عمر، العمر رصيد، تماماً كما هو الرصيد المالي، والفرق بين الرصيد المالي ورصيد العمر، أن رصيد المال يمكن أن يزيد كما يمكن أن ينقص، أما رصيد العمر فهو في نقصان دائم ومستمر، ولذا فإن الإنسان أكبر ما يكون وقت الولادة، لأن رصيده لا يزال بين يديه، ومن هنا كنت ـ ولا أزال - لا أتفاعل مع الاحتفاء والاحتفال فرحاً ولهواً بما يسمى مولد الأشخاص، فإنّ مضي سنة من أعمارنا ليست مدعاة للفرح بقدر ما هي مدعاة للتأمل، فقد خسرنا سنة أو نقصت من عمرنا، فعلام نفرح؟!.
والمؤشر الآخر على نجاح المحاسبة، هو أن تكون لنا إرادة وتصميم، ومجاهدة مستمرة للنفس تدفعنا نحو الأفضل، وتحركنا باتجاه النّدم على ما مضى والتطلع نحو المستقبل.
_________________________
(1) هذا العنوان هو في الأساس جزء من محاضرة ألقيت في اليوم الأول من شهر رمضان من العام 1434هـ في مسجد الإمام الرضا (عليه السلام) في بئر العبد - بيروت، وأضفت عليه بعض النقاط والتوضيحات.
(2) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام) ج 1 ص 78.
(3) ينسب هذا الشعر لأبي العتاهية، انظر: الأغاني ج 4 ص 272، والجدَة بمعنى الغني.
(4) نهج البلاغة ج 4 ص 93.
(5) معاني الأخبار ص 342.
(6) كما في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، انظر: معاني الأخبار ص 198.
(7) الصحيفة السجادية، من دعائه في الصباح والمساء.
(8) نهج البلاغة ج 4 ص 21.
(9) المصدر نفسه ج 4 ص 99.
(10) انظر: شرح النهج لابن ميثم البحراني، ج 5 ص 426، وكذلك في بحار الأنوار ج66 ص411، ولكن في الكافي: (الشره جامع ..)، انظر : الكافي ج 8 ص 19، وهكذا في عيون الحكم والمواعظ ص 45، وفي النهج: (البخل جامع..) انظر: نهج البلاغة ج4 ص90.
(11) رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (عليه السلام) ج 2 ص 261.
(12) الكافي ج 1 ص 77.
(13) المصدر نفسه ج 1 ص 71.
(14) رياض السالكين ج 2 ص 262.
(15) الكافي ج 1 ص 57 ۔
(16) وسائل الشيعة ج16 . أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما.
(17) الكافي ج 5 ص28.
(18) الكافي ج 2 ص 210.
(19) رياض السالكين ج 2 ص 273.
(20) الكافي ج 5 ص 55.
(21) الكافي ج 4 ص 27.
(22) نهج البلاغة ج 4 ص 7.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|