أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-2-2020
12971
التاريخ: 4-2-2020
6599
التاريخ: 26-09-2015
5322
التاريخ: 2-2-2020
34004
|
فصل في حَدّي الحقيقة والمجاز
واعلم أن حدَّ كل واحد من وصفى المجاز والحقيقة إذا كان الموصوف به المفرد، غيرُ حدّه إذا كان الموصوف به الجملة، وأنا أبدأ بحدّهما في المفرد، كلُّ كلمة أريد بها ما وقعتْ له في وَضّْع واضع، وإن شئت قلت: في مُواضعة، وقوعاً لا تستند فيه إلى غيره فهي حقيقة، وهذه عبارةٌ تنتظم الوضعَ الأوّل وما تأخَّر عنه، كلُغةٍ تحدث في قبيلة من العرب، أو في جميع العرب، أو في جميع الناسَ مثلاً، أو تحدُثُ اليوم ويدخل فيها الأعلام منقولة كانت كزيد وعمرو، أو مرتجلَةً كغَطفان وكلِّ كلمة استُؤْنِف لها على الجملة مواضعةٌ، أو ادُّعِيَ الاستئناف فيها. وإنما اشترطتُ هذا كلَّه، لأنّ وصف اللَّفظة بأنها حقيقة أو مجازٌ، حُكمٌ فيها من حيث إنّ لها دِلالةً على الجملة، لا من حيث هي عربية أو فارسية، أو سابقة في الوضع، أو مُحدَثة، مولَّدة، فمن حقّ الحدِّ أن يكون بحيث يجري في جميع الألفاظ الدالَّةِ، ونظيرُ هذا نظيرُ أن تضع حدّاً للاسم والصفة، في أنك تضعه بحيث لو اعتبرتَ به لغةً غير لغة العرب، وجدته يجري فيها جَرَيانه في العربية، لأنك تَحُدُّ من جهةٍ لا اختصاصَ لها بلُغةٍ دون لغة، ألا تَرَى أن حدَّك الخبر بأنه ما احتمل الصدق والكذب مما لا يخُصُّ لساناً دون لسان؛ ونظائر ذلك كثيرةٌ، وهو أحدُ ما غَفَل عنه الناس، ودخل عليهم اللبس فيه، حتى ظنُّوا أنه ليس لهذا العلم قوانينُ عقليةٌ، وأنَّ مسائلَه مُشبَّهة باللغة، في كونها اصطلاحاً يُتوهَّم عليه النقل ،والتبديل، ولقد فَحُش غلَطُهم فيه، وليس هذا موضعُ القولِ في ذلك. وإن أردت أن تمتحن هذا الحدَّ، فانظر إلى قولك الأسد، تريد به السَّبُعَ، فإنك تراه يؤدِّي جميعَ شرائطه، لأنَّك قد أردت به ما تَعلم أنّه وقع له في وضع واضع اللغة، وكذلك تعلم أنه غير مستند في هذا الوقوع إلى شيء غير السَّبُعِ، أي: لا يحتاج أن يُتصوَّر له أصلٌ أدّاه إلى السبع من أجل التباسِ بينهما وملاحظة، وهذا الحكمُ إذا كانت الكلمة حادثةً، ولو وُضعت اليوم،متى كان وضعُها كذلك، وكذلك الأعلام، وذلك أنّي قلت ما وقعتْ له في وضع واضعٍ أو مواضعةٍ على التنكير، ولم أقل في وَضْع الواضع الذي ابتدأَ اللغة، أو في المواضعة اللغوية، فيُتَوهَّمَ أن الأعلام أو غيرهما مما تأخّر وَضْعُه عن أصل اللغة يخرج عنه، ومعلومٌ أن الرجل يُواضع قومَه في اسم ابنه، فإذا سمّاه زيداً، فحاله الآن فيه كحال واضع اللغة حين جعله مصدراً لزاد يزيدُ، وسَبْقُ وَاضع اللغة له في وضعه للمصدر المعلوم، لا يقدَحُ في اعتبارنا، لأنه يقع عند تسميته به ابنه وقوعاً باتّاً، ولا تستند حاله هذه إلى السابق من حاله بوجه من الوجوه، وأمّا المجاز فكلُّ كلمة أريد بها غيرُ ماوقت له في وَضْع واضعها، لملاحظةٍ بين الثاني والأوّل، فهي مجاز وإن شئت قلت: كلُّ كلمة جُزْتَ بها ما وقعتْ به في وَضْع الواضع إلى ما لم توضع له، من غير أن تستأنف فيها وضعاً، لملاحظةٍ بين ما تُجُوّز بها إليه، وبين أصلها الذي وُضعتْ له فيوضع واضعها، فهي مجاز. ومعنى الملاحظة هو أنها تستند في الجملة إلى غير هذا الذي تريده بها الآن، إلا أنّ هذا الاستنادَ يَقْوَى ويَضْعُف، بَيَانُه ما مضى من أنّك إذا قلت: رأيت أسداً، تريد رجلاً شبيهاً بالأسد، لم يشتبه عليك الأمر في حاجة الثاني إلى الأوّل، إذ لا يُتصَوَّر أن يقع الأسدُ للرجل على هذا المعنى الذي أردته على التشبيه على حدّ المبالغة، وإيهامِ أنّ معنى من الأسدحصل فيه إلا بعدأن تجعل كونَهُ اسماً للسبع إزاء عينيك، فهذا إسنادٌ تعلمه ضرورةً، ولو حاولتَ دَفْعَه عن وَهْمك حاولت محالاً، فمتى عُقِل فرعٌ من غير أصل، ومشبَّهٌ من غير مشبَّه به? وكلُّ ما طريقه التشبيه فهذا سبيله أعني: كل اسم جرى على الشيء للاستعارة، فالاستناد فيه قائمٌ ضرورةً. وأما ما عَدا ذلك، فلا يَقْوَى استنادُه هذه القوةَ، حتى لو حاول محاولٌ أن ينكره أمكنه في ظاهر الحال، ولم يلزمه به خروجٌ إلى المحال، وذلك كاليد للنعمة لو تكلَّفَ متكلّفٌ فزعم أنه وضعٌ مستأنَفٌ أو في حُكم لغةٍ مفردٍةٍ، لم يمكن دفعُه إلاً برفقٍ وباعتبارٍ خفيٍّ، وهو ما قدّمتُ من أنّا رأيناهم لا يوقعُون هذه اللفظة على ما ليس بينه وبين هذه الجارحة التباسٌ واختصاصٌ. ودليل آخر وهو أن اليد لا تكاد تقع للنعمة إلا وفي الكلام إشارةُ إلى مَصْدَر تلك النعمة، وإلى المُولِي، لها، ولا تصلح حيث تراد النعمة مجرَّدةً من إضافةٍ لها إلى المُنعِم أو تلويحٌ به. بيان ذلك أنك تقول اتسعت النعمةُ في البلد، ولا تقول اتّسعت اليد في البلد، وتقول: أَقتَني نعمةً، ولا تقول اقتني يداً، وأمثال ذلك تكثر إذا تأمّلت وإنما يقال: جلَّت يدُه عندي، وكُثرت أياديه لدَيَّ، فتعلم أن الأصل صنائعُ يده وفوائدُه الصادرةُ عن يده وآثارِ يده، ومحالٌ أن تكون اليد اسماً للنعمة هكذا على الإطلاق، ثم لا تقع موقع النعمة، لو جاز ذلك، لجاز أن يكون المترجم للنعمة باسم لها في لغة أخرى، واضعاً اسمَها من تلك اللغة في مواضعَ لا تقع النعمة فيها من لغة العرب، وذلك محالٌ. ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل إّن له عليه إصبْعاً، أي أثراً َحسَناً، وأنشدوا:كلام إشارةُ إلى مَصْدَر تلك النعمة، وإلى المُولِي، لها، ولا تصلح حيث تراد النعمة مجرَّدةً من إضافةٍ لها إلى المُنعِم أو تلويحٌ به. بيان ذلك أنك تقول اتسعت النعمةُ في البلد، ولا تقول اتّسعت اليد في البلد، وتقول: أَقتَني نعمةً، ولا تقول اقتني يداً، وأمثال ذلك تكثر إذا تأمّلت وإنما يقال: جلَّت يدُه عندي، وكُثرت أياديه لدَيَّ، فتعلم أن الأصل صنائعُ يده وفوائدُه الصادرةُ عن يده وآثارِ يده، ومحالٌ أن تكون اليد اسماً للنعمة هكذا على الإطلاق، ثم لا تقع موقع النعمة، لو جاز ذلك، لجاز أن يكون المترجم للنعمة باسم لها في لغة أخرى، واضعاً اسمَها من تلك اللغة في مواضعَ لا تقع النعمة فيها من لغة العرب، وذلك محالٌ. ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل إّن له عليه إصبْعاً، أي أثراً َحسَناً، وأنشدوا:
ضَعِيفُ العَصَا بادي العروقِ ترى له |
|
عليها إذا ما أجدبَ الناسُ إصبَـعَـا |
وأنشد شَيخنا رحمه اللَّه مع هذا البيت قولَ الآخر: "صُلْبُ العَصا بالضَّرب قد دَمَّاها" أي جعلها كالدُّمَى في الحُسن، وكأن قولَهُ صُلْب العَصا، وإن كان ضِدَّ قول الآخر ضَعيفُ العَصا، فإنهما يرجعان إلى غرض واحد، وهوحُسن الرِّعْية، والعملُ بما يُصلحها ويحسُنُ أثره عليها، فأراد الأول بجعله ضَعيف العصا أنه رفيقٌ بها مُشفقٌ عليها، لا يقصِد من حمل العصا أن يُوجعَها بالضرب من غير فائدة، فهو يتخيَّر ما لانَ من العِصيّ، وأراد الثاني أنه جيّد الضَّبط لها عارفٌ بسياستها في الرَّعي، ويزجُرها عن المراعي التي لا تُحمَد، ويتوخَّى بها ما تسمَنُ عليه، ويتضمّن أيضاً أنه يمنعها عن التشرُّد والتبدُّد وأنها، لِمَاعَرَفت من شدّة شكيمته وقوة عزيمته، وتنساق وتَستوسق في الجهة التي يريدها، من غير أن يجدّد لها في كل حال ضرباً، وقال آخر: "صُلْبُ العَصَا جَافٍ عن التَّغَزُّلِ" فهذا لم يبيّن ما بيّنه الآخر وأعود إلى الغرض فأنت الآن لا تشكُّ أن الإصبع مشارٌ بها إلى إصبع اليد، وأن وقوعها بمعنى الأثر الحسن، ليس على أنه وضعٌ مستأنَفٌ في إحدى اللغتين، ألا تراهم لا يقولون رأيت أصَابع الدار، بمعنى آثارَ الدار، وله إصبع حسنة، وإصبع قبيحة، على معنى أَثرٍ حسن وأََثرٍ قبيح ونحو ذلك، وإنّما أرادوا أن يقولوا له عليها أَِثَرُ حذْقٍ، فدلُّوا عليه بالإصبع، لأن الأْعمال الدقيقة له اختصاص بالأصابع، وما من حِذْقٍ في عمل يَدٍ إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع، واللُّطْف في رفعها ووضعها، كما تعلم في الخطّ والنقش وكُلِّ عمل دقيق، وعلى ذلك قالوا في تفسير قوله عزَّ وجلّ: "بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوّيَ بَنَانَهُ" "القيامة: 4"، أي نجعلَها كخُفِّ البعير فلا تتمكّن من الأعمال اللَّطيفة. فكما علمتَ ملاحظةَ الإصبع لأصلها، وامتناعَ أن تكون مستأنفةً بأنك رأيتها لا يصحُّ استعمالها حيث يراد الأثر على الإطلاق، ولا يُقصد الإشارة إلى حِذْق في الصنعة، وأن يُجعل أَثر الإصبع إصبعاً كذلك ينبغي أن تعلم ذلك في اليد لقيام هذه العلّة فيها، أعني أن لم يُجْعَل أثرُ اليد يداً، لم تقع للنعمة مجرَّدةً من هذه الإشارات، وحيثُ لا يُتَصوَّر ذلك كقولنا أقتني نعمة فاعرفه. ويُشبه هذا في أن عُبَّر عن أثر اليد والإصبع باسمهما، وضعُهم الخاتَم موضع الخَتْم كقولهم عليه خاتمُ الملك، وعليه طابَعٌ من الكرم، والمحصول أثَر الخاتَم والطابَع، قال:
وقُلْنَ حَرَامٌ قد أُخِلَّ بربِّنـا |
|
وتُتْرَكُ أمْوالٌ عليها الخواتِمُ |
وكذا قولُ الآخر:
إذا قُضَّت خَواتِمُها وفُكَّت |
|
يقال لها دمُ الوَدَجِ الذبيحُ |
وأما تقدير الشيخ أبو عليٍّ في هذين البيتين حَذْفَ المضاف، وتأويلُه على معنى وتترك أموالٌ عليها نقشُ الخواتم، وإذا فُضَّ خَتْمُ خواتمها، فبيانٌ لما يقتضيه الكلام من أصله، دون أن يكون الأمر على خلاف ما ذكرتُ من جعلِ أثر الخاتم خاتَماً، وأنت إذا نظرت إلى الشعر من جهته الخاصّة به، وذُقته بالحاسّة المهيَّأة لمعرفة طَعْمه، لم تشكَّ في أن الأمر على ما أشرتُ لك إليه ويدلّ على أن المضاف قد وقع في المَنسَأة، وصار كالشَّريعة المنسوخة، تأنيُث الفعل في قوله إذا فَضَّتْ خواتمها، ولو كان حكمه باقياً لذكَّرت الفعل كما تُذكّره مع الإظهار، ولاستقصاء هذا موضع آخر. وينظُر إلى هذا المكان قولهم: ضربتُه سوطاً، لأنهم عَبَّروا عن الضربة التي هي واقعة بالسَّوط باسمه، وجعلوا أثر السَّوط سوطاً، وتعلم على ذلك أن تفسيرهم له بقولهم إن المعنى ضربته ضربةً بسوطٍ، بيانٌ لما كان عليه الكلام في أصله، وأنّ ذلك قد نُسي ونُسخ، وجُعل كأن لم يَكُن فاعرفه. وأمَّا إذا أريد باليد القدرة، فهي إذَنْ أحَنُّ إلى موضعها الذي بُدئت منه، وأَصَبُّ بأصلها، لأنك لا تكاد تجدها تُراد معها القدرةُ، إلا والكلام مَثَلٌ صريحٌ، ومعنى القدرة منتزع من اليد مع غيرها، أو هناك تلويحٌ بالمَثَل. فمن الصريح قولهم: فلان طويلُ اليَد، يراد: فَضْلُ القُدْرة، فأنت لو وضعتَ القدرة هاهنا في موضع اليد أحَلْتَ، كما أنك لو حاولت في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قالت له نساؤه صلى الله عليه وسلم: أَيَّتُّهَا أسرعُ لحاقاً بك يا رسول اللَّه? فقال: "أَطْوَلكُنَّ يداً"، يريد السخاءَ والجُود وبَسْط اليَدِ بالبَذْل أن تضع موضع اليد شيئاً مما أريد بهذا الكلام، خرجتَ من المعقول، وذلك أن الشَّبه مأخوذٌ من مجموع الطويلِ واليَدِ مضافاً ذاك إلى هذه، فطلبُه من اليد وحدها طلبُ الشيء على غير وجهه، ومن الظاهر في كون الشبه مأخوذاً ما بين اليد، وغيرها قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولهِ" "الحجرات:1"، المعنى على أنهم أُمِروا باتِّباع الأمر، فلما كان المتقدِّم بين يدي الرَّجُل خارجاً عن صفة المتابع له، ضَرَب جملة هذا الكلام مَثَلاً للاتباع في الأمر، فصار النَّهي عن التقدُّم متعلّقاً باليد نهياً عن تَرْكِ الاتباع، فهذا مما لا يخفي على ذي عقل أنه لا تكون فيه اليد بانفرادها عبارة عن شيء، كما قد يُتوهَّم أنها عبارة عن النعمة ومتناولةٌ لها، كالوضع المسْتأنَف، حتى كأنْ لم تكن قَطُّ اسم جارحة. وهكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تَتَكافأُ دِماؤُهم، ويَسْعَى بذِمَّتهم أَدناهم، وهم يدٌ على من سواهم"، المعنى وإن كان على قولك وهُم عونٌ على من سواهم، فلا تقول إن اليد بمعنى العون حقيقةٌ، بل المعنى أن مََثَلَهم مع كثرتهم في وجوب الاتِّفاق بينهم، مَثَلُ اليد الواحدة فكما لا يُتصوَّر أن يخذل بعضُ أجزاء اليد بعضاً، وأن تختلف بها الجهة في التصرف، كذلك سبيل المؤمنين في تعاضُدهم على المشركين، لأن كلمةَ التوحيد جامعةٌ لهم، فلذلك كانوا كنفس واحدة، فهذا كله مما يعترف لك كل أحد فيه، بأنّ اليد على انفرادها لا تقع على شيء، فيُتوهَّمُ لها نقلٌ من معنى إلى معنى على حدّ وضع الاسم واستئنافه. فأمَّا ما تكون اليد فيه للقدرة على سبيل التلويح بالمثَل دون التصريح، حتى ترى كثيراً من الناس يُطلق القول إنها بمعنى القدرة ويُجريها مَجرَى اللفظ يقع لمعنيين، فكقوله تعالى: "وَالسَّمَوَاتُ مَطْويَّاتٌ بِيَمِينِهِ" "الزمر: 67"، تراهم يُطلقون اليمين بمعنى القدرة، ويصِلون إليه قولَ الشمّاخ:
إذَا مَا رَايةٌ رُفِعَتْ لمَجْدٍ |
|
تَلَقَّاهَا عَرابةُ باليمـينِ |
كما فعل أبو العباس في الكامل، فإنه أنشد البيت ثم قال: قال أصحاب المعاني معناه بالقوة، وقالُوا مِثْل ذلك في قوله تعالى: "وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه"، وهذا منهم تفسيرٌ على الجملة، وقصدٌ إلى نَفْي الجارحة بسرعةٍ، خوفاً على السامع من خَطَراتٍ تقع للجُهَّال وأهلِ التشبيه جلّ اللَّه وتعالى عن شبه المخلوقين ولم يقصدوا إلى بيان الطريقة والجهة التي منها يُحصَل على القُدرة والقوة، وإذا تأمّلت علمت أنه على طريقة المَثَلَ، وكما أنّا نعلم في صَدْر هذه الآية وهو قوله عز وجل: "وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَة" "الزمر: 67"، أن محصول المعنى على القدرة، ثم لا نستجيز أن نجعل القبضةَ اسماً للقدرة، بل نَصير إلى القدرة من طريق التأويل والمَثَل، فنقول إنّ المعنى واللَّه أعلم أن مََثَل الأرض في تصرُّفها تحت أمر اللَّه وقدرته، وأنه لا يشذّ شيءٌ مما فيها من سلطانه عزّ وجلّ، مَثَلُ الشيء يكون في قبضة الآخذِ له مِنّاً والجامع يده عليه، كذلك حقُّنا أن نسلك بقوله تعالى: "مَطْويَّاتٌ بِيَمِينِهِ" هذا المسلَك، فكأنّ المعنى - واللَّه أعلم - أنه عزّ وجلّ يخلق فيها صفةَ الطيّ حتى تُرَى كالكتاب المطويِّ بيمين الواحد منكم، وخصَّ اليمين لتكون أعلى وأفخمَ للمثل، وإذا كنت تقول الأمرُ كُلُّه للَّه، فتعلم أنه على سبيل أنْ لا سلطان لأحد دونه ولا استبداد وكذلك إذا قلت للمخلوق الأمر بيدك، أردت المَثَل، وأنَّ الأمر كالشيء يَْحصُل في يده من حيث لا يمتنع عليه، فما معنى التوقُّف في أن اليمين مَثَلٌ، وليست باسم للقُدْرة، وكاللغة المستأنَفة، ومن أين يُتصوَّر ذلك وأنت لا تراها تصلُح حيث لا وجه للمَثَل والتشبيه فلا يقال: هو عظيم اليمين، بمعنى عَظِيم القدرة، وقد عرفتُ يمينَك على هذا كما تقول عرفتُ قدرتك. وهكذا شأن البَيْت، إذا أحسنت النَّظر وجدتَه إذا لم تأخذه من طريق المثل، ولم تأخذ المعنى من مجموع التلقّي واليمين على حدّ قولهم تقبَّلته بكلتا اليدين، وكقوله:
ولكن باليَدَيْنِ ضَمَانَـتَـي |
|
ومَلَّ بفَلْجٍ فالقنافِذ عُوَّدي |
وقبل هذا البيت:
لَعَمْرُكَ مَا مَلَّت ثَواءَ ثَوِيِّهـا |
|
حَلِيمَةُ إذْ ألقَى مَراسِيَ مُقْعَدِ |
وهو يشكوك إلى طبع الشعر، ورأيت المعنى يتألَّم وَيَتظلَّم، وإن أردت أن تختبرَ ذلك فقل:
إذا ما رايةٌ رُفعت لمجد |
|
تلقَّاها عَرابةُ باقتـدارِ |
ثم انظر، هل تَجِدُ ما كنت تجد، إن كنت ممَّن يعرف طعمَ الشعر، ويُفَرِّق بين التَّفِه الذي لا يكون له طعمٌ وبين الحلو اللذيذ. وممّا يبيَّن ذلك من جهة العبارة: أنّ الشعر كما تعلم لمدحِ الرَّجل بالجود والسخاء، لأنه سألَ الشمّاخَ عمَّا أَقدَمه؛ فقال: جئتُ لأمْتار، فأوْقَرَ راحله تمراً وأتْحفه بغير ذلك، وإذا كان كذلك، كان المجدُ الذي تطاوَل له ومدَّ إليه يده، من المجد الذي أراده أبو تمام بقوله:
تَوَجَّعُ أَن رأَتْ جِسْمي نحيفاً |
|
كأنَّ المَجْدَ يُدرَكُ بالصِّراعِ |
ولو كان في ذكرالبأس والبطش وحيث تراد القوة والشدة، لكان حَمْلُ اليمين على صريح القُوّة أشبه، وبأن يقع منه في القلب معنىً يتماسَكُ أجدر، فإن قال أراد تلقّاها بجدّ وقوّةِ رغبةٍ، قيل فينبغي أن يضع اليمين في مثل هذه المواضع، ومن التزم ذَلك فالسكوت عنه أحسن، وما زال الناسُ يقولون للرجل إذا أرادوا حثَّه على الأمر، وأَن يأخذ فيه بالجِدّ أخرج يدك اليُمْنَى وذاك أنها أشرف اليدين وأقواهما، والتي لا غناء للأخرى دونها، فلا عُني إنسان بشيء إلا بدأ بيمينه فهيّأها لنَيْله، ومتى ما قصدوا جعل الشيء في جهة العناية، جعلوه في اليد اليمنى، وعلى ذلك قول البحتري:
وإنَّ يدي وَقَد أسْنَدتَ أمري |
|
إليه اليومَ في يَدِك اليمينِ |
إليه يعني إلى يونس بن بُغا، وكان حَظِيّاً عند الممدوح، وهو المعتز باللهَ، ولو أن قائلاً قَال:
إذَا ما رايةٌ رُفعت لمَجـدٍ |
|
ومَكْرُمةٍ مددتُ لها اليَمِينا |
لم تره عادلاً باليمين عن الموضع الذي وَضَعها الشمّاخ فيه، ولو أن هذا التأويل منهم كان في قول سُلَيْمان بن قَتّة العَدَوِيّ:
بَنَي تَيْم بـن مُـرَّةَ إنّ ربّـي |
|
كَفَاني أمْرَكم وكَفاكُمُـونـي |
فَحَيُّوا ما بَداَ لـكُـمُ فـإنِّـي |
|
شديدُ الفَرْسِ للضَغِنِ الَحَرُونِ |
يُعاني فَقْـدَكُـم أَسَـدٌ مُـدِلٌّ |
|
شديدُ الأسر يَضْبِثُ باليمـينِ |
لكان أعذرَ فيه، لأن المدح مدحٌ بالقوة والشدة، وعلى ذلك فإنّ اعتبار الأصل الذي قدّمتُ، وهو أنك لا ترى اليمين حيث لا معنى لليد، يقف بنا على الظاهر، كأنه قال إذا ضَبَث ضَبَثَ باليمين، ومما يبيِّن موضوعَ بيت الشمّاخ، إذا اعتبرتَ به، قولُ الخنساء:
إذَا القومُ مَـدُّوا بـأَيْديهـمُ |
|
إلى المَجْـد مَـدَّ إلـيه يَدَا |
فنالَ الـذي فَـوْق أَيْديهـم |
|
من المجد ثم مَضى مُصعِدَا |
إذا رجعت إلى نفسك، لم تجد فرقاً بين أن يمُدَّ إلى المجد يداً، وبين أن يتلقَّى رايته باليمين، وهذا إن أردت الحقَّ أبينُ من أن تحتاج فيه إلى فَضْلًِ قَوْلٍ، إلاّ أنّ هذا الضرب من الغلط، كالداء الدَّوِيّ، حقُّه أن يُستقصَى في الكيِّ عليه والعلاج منه، فجنايتَه على معاني ما شَرُف من الكلام عظيمة، وهو مادَّةٌ للمتكلفين في التأويلات البعيدة والأقوال الشَّنِيعة، ومَثَلُ من تَوقَّف في التفات هذه الأسامي إلى معانيها الأُوَل، وظَنَّ أنها مقطوعةٌ عنها قطعاً يرفع الصلةَ بينها وبين ما جازت إليه، مَثَلُ مَنْ إذا نَظر في قوله تعالى: "إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ" "ق: 37"، فرأى المعنى على الفهم والعقل أخذه ساذجاً وقَبِله غُفْلاً، وقال القلب، هاهنا بمعنى العقل وترك أن يأخُذه من جهتِه، ويدخُلَ إلى المعنى من طريق المَثَل فيقولَ إنّه حين لم ينتفع بقلبه، ولم يفهم بعد أن كان القلب للفهم، جُعِلَ كأنه قد عدِم القلبَ جملةً وخُلع من صدره خَلْعاً، كما جُعل الذي لا يَعِي الحكمة ولا يُعمل الفِكْر فيما تُدركه عَيْنه وتسمَعُه أُذُنه، كأنه عادمٌ للسمع والبصر، وداخلٌ في العَمَى والصمم ويذهبُ عن أنّ الرجل إذا قال قد غاب عني قلبي، وليس يحضُرني قلبي فإنه يريد أن يُخيِّل إلى السامع أنه قد فقد قلبه، دون أن يقول غابَ عني علمي وعَزَب عقلي، وإن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك، كما أنه إذا قال لم أكن هاهنا، يريد شدّة غفلته عن الشيء، فهو يضع كلامه على تخييل أنه كان غاب هكذا بجملته وبذاته، دون أن يريد الإخبار بأنّ علمه لم يكن هناك، وغرضي بهذا أنْ أُعْلِمك أنّ مَن عَدَل عن الطريقة في الخَفِيِّ، أفضى به الأمرُ إلى أن يُنكر الجليّ، وصار من دَقيق الخطأ إلى الجليل، ومن بعض الانحرافات إلى ترك السبيل، والذي جلب التَّخليط والخَبْطَ الذي تراه في هذا الفنّ، أَنَّ الفَرْق بين أن يُؤْخذ ما بين شيئين، ويُنْتَزع من مجموع كلام، هو كما عرّفتُك في الفرق بين الاستعارة والتمثيل بابٌ من القول تدخل فيه الشُّبهة على الإنسان من حيث لا يعلم، وهو من السَّهل الممتنع، يُريك أن قد انقاد وبه إباءٌ، ويُوهمك أنْ قد أَثَّرَتْ فيه رياضتُك وبه بَقيّة شِمَاسٍ.
ومن خاصّيته أنك لا تفرق فيه بين الموافق والمخالف، والمعترِف به والمُنكِر له، فإنك ترى الرجل يُوافقك في الشيء منه، ويُقِرُّ بأنه مَثَلٌ، حتى إذا صار إلى نظيرٍ له خَلَّط إمَّا في أصل المعنى، وإمَا في العبارة، فالتخليط في المعنى كما مضى، من تأوُّل اليمين على القوة، وكذِكْرهم أن القلب في الآية بمعنى العقل، ثم عَدِّهم ذلك وجهاً ثانياً. والتخليط في العبارة، كنحو ما ذكره بعضهم في قوله: "هوِّن عليكَ فإنّ الأُمورَ بكفِّ الإلهِ مقاديرُها" فإنه استشهد به في تأويل خبرٍ جاء في عِظَم الثواب على الزكاة إذا كانت من الطّيب ثم قال الكفُّ هاهنا بمعنى السلطان والمُلك والقدرة، قال وقيل الكف هاهنا بمعنى النعمة، والخبر هو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ أحدكم إذا تصدّق بالتمرة من الطَّيِّب - ولا يقبل اللَّه إلاّ الطيب - جعل اللَّه ذلك في كفّه، فيُربّيها كما يربّي أحدُكم فَلُوَّه حتى يبلغ بالتمرة مثل أُحُد، مايظَنُّ بمن نَظَر في العربية يوماً أن يَتَوهَّم أن الكفّ يكون على هذا الإطلاق، وعلى الانفراد، بمعنى السلطان والقدرة والنعمة، ولكنه أراد المَثل فأساء العبارة، إلاّ أنّ من سُوء العبارة ما أَثَرُ التقصير فيه أظهر، وضررُه على الكلام أبين. واستقصاءُ هذا الباب لا يتمّ حتى يُفرَد بكلام، والوجهُ الرجوع إلى الغرض، ويجب أن تَعلم قبل ذلك أنّ خِلاف مَن خالف في اليد واليمين، وسائر ما هو مجاز لا من طريق التشبيه الصريح أو التمثيل، لا يقدح فيما قدّمتُ من حدَّث الحقيقة والمجاز، لأنه لا يخرج في خِلافه عن واحدٍ من الاعتبارين، فمتى جَعَل اليمين على انفرادها تُفيد القوة، فقد جعلها حقيقةً، وأغناها عن أن تستند في دلالتها إلى شيء وإن اعترف بضَربٍ من الحاجة إلى الجارحة والنظر إليها، فقد وافق في أنها مجاز، وكذا القياس في الباب كله فاعرفه.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|