أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-5-2016
2690
التاريخ: 2023-03-11
1854
التاريخ: 24-5-2016
5786
التاريخ: 2023-10-04
1269
|
1- العقد الباطل
العقد الباطل لا ينتج أثرا كتصرف قانوني:
أن العقد الباطل في الفقه الإسلامي يماثل في حالاته العقد الباطل في الفقه الغربي، وهو يماثله أيضا في أحكامه. فالعقد الباطل في الفقهين لا وجود له إلا من حيث الصورة، فليس له وجود قانوني، ولا ينتج أثرا كتصرف شرعي، ومن ثم لا يملك أحد العاقدين أن يجبر الآخر على تنفيذ عقد باطل. وإذا نفذه العائد باختياره، علم بالبطلان أو لم يعلم، كان له أن يسترد ما نفذه. ولو تسلم المشتري بعقد باطل المبيع وباعه من آخر، فإن تصرف المشتري لا يمنع البائع من استرداد المبيع من يد المشتري الثاني.
ولما كان العقد الباطل في الفقهين غير موجود شرعة، فلا يتصور أن تلحقه الإجازة، أو أن يرد عليه التقادم، وكل ما يمكن عمله هو أن يعاد العقد من جديد، والفرق واضح بين إجازة العقد وعمل العقد من جديد ولكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان: كلا العاقدين والوارث والغير وممن له مصلحة. بل يجوز للقاضي أن يعلن بطلان العقد من تلقاء نفسه، ولو لم يطلب أحد ذلك.
الآثار التي يمكن أن تترتب على العقد الباطل:
وقد يترتب على العقد الباطل آثار في كل من الفقهين:
من ذلك الزواج الباطل، فهو كتصرف شرعي لا ينتج أثرا كحل التمتع ووجوب النفقة والتوارث، ولكنه كواقعة مادية ينتج بعض الآثار كوجوب العدة ووجوب المهر وثبوت النسب وسقوط الحد، وقد تقدم بيان ذلك..
وإذا سلم البائع بعقد باطل المبيع إلى المشتري، فإن الضمان ينتقل إليه في الفقه الإسلامي، فإذا هلك في يده أدى للبائع القيمة أو المثل. وهذا أثر من آثار العقد الباطل باعتباره واقعة مادية ، أما في الفقه الغربي فتختلف أحكام الضمان، وليس هنا مكان بحثها، ولكن يمكن القول في خصوص المسألة التي نحن بصددها إن المبيع بعقد باطل إذا هلك في يد المشتري يهلك على مالكه، أي على البائع لا على المشتري.
ومن الآثار التي تترتب على العقد الباطل في الفقه الغربي انتقاص العقد وتحوله، فنستعرض في الفقه الإسلامي كلا من هاتين المسألتين .
انتقاص العقد:
رأينا في الفقه الغربي أن العقد إذا كان في شق منه باطلا أو قابلا للإبطال، فهذا الشي وحده هو الذي يبطل، إلا إذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع باطلا أو قابلا للإبطال فيبطل العقد كله، وهذه هي نظرية انتقاص العقد. فقسمة أعيان بعضها موقوف وبعضها مملوك تقع باطلة فيما يتعلق بالموقوف، وتبقى صحيحة فيما يتعلق بالمملوك، وهذا ما لم يثبت من بطعن في القسمة كلها أنها ما كانت لتم في المملوك دون الموقوف.
ورأينا أن نظرية انتقام العقد معروفة في الفقه الإسلامي، ولكن المعيار فيها موضوعي، بخلاف الفقه الغربي فالمعيار فيه ذاتي. ذلك أننا في الفقه الغربي نبحث في نية العاقدين لنعرف مل كانا يريدان أن العقد يتم بغير الشق الذي وقع باطلا أو كانا لا يريدان ذلك، ففي الحالة الأولى ينتقم العقد، وفي الحالة الثاني يبطل العقد كله، فالمسألة إذن مردها، كما نرى إلى نية العائدين ، وهذا معيار ذاتي
أما الفقه الإسلامي فالمعيار فيه موضوعي، سواء كان شق العقد الذي يراد انتقاصه باطلا أو فاسدة أو موقوفة.
ففي حالة ما إذا كان شق من العقد صحيحة وشق منه باطلا، كبيع عبد وحر أو بيع فاكهة وخمر، يبطل العقد كله في المذهب الحنفي، لأن بقاء الشق الصحيح وحده يكون بيعة بالحصة من الثمن ابتداء ، وهذا لا يجوز. ويبطل العقد كله أيضا في مذهب أحمد وفي قول في مذهب الشافعي، لجهالة العرض، لأن العوض هنا لا ينقسم على المحل بالأجزاء فالمعيار إذن موضوعي .
وفي حالة ما إذا كان شق من العقد صحيحة وشق منه فاسدة، كما إذا كان الفساد راجعة إلى الربا أو إلى جهالة الأجل أو إلى وجود شرط فاسد، ينتقص العقد بنزول صاحب المصلحة من العاقدين عن الجزء المفسد. فالمعيار هنا أيضأ موضوعي
وفي حالة ما إذا شق من العقد صحيحة وشق منه موقوفة، فهنا أيضا يتخذ الفقه الحنفي معارة موضوعيا. فإذا باع شخص ملكه وملك غيره بعقد واحد، فالعقد فيما يخص ملكه نافذ وهو موقوف فيما يخص ملك الغير . ولكن المبيع كله يدخل في العقد إذ ينعقد البيع في الشقين، فإذا سقط الشق الموقوف لعدم إجازته يفي الشق النافذ بحصته من الثمن، وهذا جائز لجواز البيع بالحصة من الثمن بقاء لا ابتداء، وقد تقدم بيان ذلك.
تحول العقد:
وقد يصعب القول بأن الفقه الإسلامي يعرف نظرية تحول العقد على النحو الذي بسطناه في الفقه الجرماني، ولكنه مع ذلك لا يخلو من بعض تطبيقات يمكن تقريبها من فكرة التحول . ونقتصر هنا على الإشارة إلى بعض هذه التطبيقات
1- إذا قصد العاقدان إبرام عقد معين، ولم يصح، جاز في بعض الحالات أن يتحول العقد المقصود إلى عقد آخر، ومن ذلك أن يشترط في عقد الكفالة براءة الأصيل، فتتحول الكفالة إلى حوالة. ومن ذلك أيضا أن يشترط في عقد الحوالة عدم براءة المحيل، فتتحول الحوالة إلى كفالة .
۲. إذا انطوت المضاربة على شرط يفسدها، تحولت إلى عقد آخر، فلو شرط كل الربح للمضارب ، كان العقد فرضة. ولو شرط كل الربح لرب المال، كان العقد بضاعة. ولو شرط قدر محدد من الربح لرب المال أو العمل المضارب، دون أن يكون قدرة شائعة في الربح، كان المضارب أجيرا في المال وأمينة عليه، فيستحق أجر مثله ، ربح أو لم يربح، ولا يستحق المسمى الفساد التسمية بفساد العقد. انظر أيضا في المزارعة الفاسدة المادة (718) من " مرشد الحيران" .
٣- إذا اشترى الفضولي لغيره، ولم يضف العقد إلى من اشترى له، تحول العقد شراء للفضولي نفسه، إذ وجد العقد نفاذة عليه فنفذ، وهذا في المذهب الحنفي، أما في مذهب مالك فشراء الفضولي لا يتحول، بل ينعقد صحيحة موقوفا على إجازة من اشترى الفضولي له. فإن امتنع هذا عن إجازة الشراء، تحول العقد شراء للفضولي نفسه، إلا أن يكون الفضولي أشهد عند الشراء أنه إنما يشتري لغيره بعلم من البائع، أو صدق البائع الفضولي فيما ادعاه من ذلك(1)
4- جاء في " الأشباه والنظائر" للسيوطي (11-113 ) «لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثمن الأول، فهو إقالة بلفظ المبيع ... ثم رأيت التخريج للقاضي حسين قال : إن اعتبرنا اللفظ لم يصح، وإن اعتبرنا المعنى فإقالة». والأصل في ذلك أن بيع المشتري للمبيع قبل قبضه فاسد في مذهبي أبي حنيفة والشافعي وفي رواية في مذهب أحمد. وهنا باع المشتري المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثمن الأول، فهو بيع فاسد لأنه وقع على المبيع قبل أن يقبض . ولكنه مع ذلك يتحول إلى إقالة صحيحة، إذ ينطوي العقد على جميع عناصر الإقالة(2).
2- العقد الفاسد
كثرة أسباب الفساد وتنوعها:
قدمنا أن هناك أسباب كثيرة في الفقه الإسلامي من شأنها أن تجعل العقد منح أو تضعف من قوة الإلزام فيه، من ذلك أسباب الفساد المختلفة، فالغرر في أوسع معانيه سبب لفساد العقد، والربا وشبهة الربا، واقتران العقد بشرط نافع ويسمى بالشرط الفاسد، ونحو ذلك.
ولا يوجد في الفقه الغربي ما يقابل ذلك، ومن ثم سلمت قوة العقد الملزمة فيه من الضعف. على أن الصناعة في الفقه الحنفي كان لها أثر بعيد في الحد من نتائج إضعاف القوة الملزمة للعقد، وتبادر إلى استبعاد الإكراه من بين أسباب الفساد، فقد بينا أن الأولى الأخذ فيه برأي زفر وجعل بيع المكره موقوفة، وسبق أن رجحنا فيه الوقف على الفساد باستقراء أصول الصناعة الفقهية نفسها .
كذلك نستبعد الضرر من تسليم المحل، فسبب الفساد فيه يزول بالتسليم كما سبق القول. ويبقى من أسباب الفساد أهمها وهي ثلاثة : الغرر والربا والشروط الفاسدة وهنا نرى الصناعة في الفقه الحنفي تعمل كثيرة للتخفيف من آثار الفساد وذلك:
(1) عن طريق ابتداع فكرة العقد الفاسد ذاتها. (۲) وجعل العقد الفاسد ينتج آثاره هامة الحماية الغير وحماية العاقد نفسه، بل وتصحيح العقد ذاته بإزالة المفسد. (3) وظهور تبار يزيد في إبعاد العقد الفاسد عن العقد الباطل
وهذه الصناعة الرائعة أريد بها، كما قدمنا، التخفيف من الأسباب الكثيرة التي تضعف من قوة العقد. وإذا كان الفقه الغربي ليس في حاجة إلى العقد الفاسد لأنه خطا مراحل في قوة العقد الملزمة استبعد فيها الأسباب الكثيرة التي تضعف من هذه القوة، فأجاز اقتران العقد بالشرط وضيق من نطاق الغرر إلى حد كبير، إلا أن فكرة العقد الفاسد تبقى فكرة رائعة في الصناعة الفقهية لتدل كيف يخطو الفقه خطوة خطوة في مراحل التطور عن طريق الصناعة الفنية .
لذلك نتعقب في إيجاز الطرق الثلاثة التي سارت فيها صناعة الفقه الحنفي .
ابتداع فكرة العقد الفاسد ذاتها:
رأينا أن الفقه الحنفي انفرد بفكرة العقد الفاسد، وبسطنا الحجج التي استند إليها في تمييزه بين العقد الباطل والعقد الفاسد، والحجج التي استندت إليها المذاهب الأخرى في عدم الأخذ بهذا التمييز.
ولكننا وراء هذا كله نلمح فكرة جوهرية . ذلك أن الفقه الحنفي أراد في الواقع من الأمر أن يعزل جملة من الأسباب عن أن تكون أسبابة لبطلان العقد، فهر بتمييزه بين الأصل والوصف، جمع تحت الوصف الغرر والربا والشرط الفاسد، وعزلها عن أصل العقد، وجعل حكمها غير حكم الأركان والشرائط . فميز بذلك بين ما عده أصلا في العقد إذ جعل أي خلل فيه بصيب العقد بالبطلان، وبين ما عده وصفا فأنزله منزلة أقل شأنا من منزلة الأصل. وبذلك أضعف الأثر الذي يترتب على الغرر والربا والشرط الفاسد تحت ستار العقد الفاسد، فهذه أسباب لا تعتبر كالأصل أسبابة ثابتة، بل هي أسباب متطورة، تطورت فعلا، وكانت في سبيلها إلى التطور، وكان من
الممكن بفضل فكرة العقد الفاسد أن تواصل سيرها في التطور .
فإيجاد مرتبة من البطلان هي مرتبة العقد الفاسد، متميزة كل التميز عن مرتبة العقد الباطل، هو في ذاته كسب كبير في الصناعة الفقهية. وإذا كانت هذه المرتبة لا يحتاج الآن إليها الفقه الغربي بعد تطوره، فلا ننسى أنها في ذاتها عامل من العوامل الهامة في تطور أي فقه ، والاستغناء عنها بعد أن تؤدي مهمتها لا يدل إلا على خطر هذه المهمة.
ولم تتابع المذاهب الأخرى الفقه الحنفي في تمييز العقد الفاسد عن العقد الباطل، بل خلطت بين النوعين، فأصبح الغرر والربا والشرط كلها أسبابة لبطلان العقد، ولا يتميز في البطلان عقد باشره مجنون وعند اقترن بشرط نافع لأحد العاقدين .
على أنه إنصافه للمذهب المالكي، وهو أيضا لا يميز بين العقد الباطل والعقد الفاسد، نقول: إنه يميز في البيع الباطل أو الفاسد بين المحرم والمكروه. فالمحرم إذا فات مضى بالقيمة ، أما المكروه فإذا فات انقلب صحيحة، وربما انقلب صحيحة بالقبض أيضا لخفة الكراهة فيه بداية المجتهد(2/161) ، فيكون المذهب المالكي، بعد أن خلط بين العقد الباطل والعقد الفاسد، رجع إلى هذا التمييز في صورة أخرى، تحت اسم البيع المحرم والبيع المكروه. وهذا تمييز يسمح بالتخفف من بعض أسباب الفساد كالغرر والشروط الفاسدة، ولعلنا لو عزلنا الربا . وهو محرم - عن أسباب الفساد الأخرى وألحقناه بأسباب البطلان، لخلص لنا في المذهب المالكي تمييز بين العقد المحرم والعقد المكروه ينوب عن التمييز الذي يقول به الفقه الحنفي بين العقد الباطل والعقد الفاسد.
حماية الغير وحماية العاقد نفسه في العقد الفاسد وتصحيح العقد بإزالة المفسد:
بالرغم من أن العقد الفاسد في المذهب الحنفي لا ينتج في الأصل أثرة، وبالرغم من أن وجوده كتصرف شرعي وجود على خطر الزوال إذ هو مستحق الفسخ وبالرغم من أن الملك الذي يفيده بالقبض هو ملك مستحق الفسخ ومضمون بالقيمة لا بالمسمى ولا يفيد إلا انطلاق التصرف دون الانتفاع بعين المملوك، بالرغم من ذلك كله يقوم العقد الفاسد بدور هام في حماية الغير وفي حماية العاند نفسه، فهو بعيد عن أن يكون عنده باطلا لا أثر له، والمشتري الذي يشوب سند ملكيته غرر أو ربا أو شرط فاسد ليس كالمشتري الذي يشوب سند ملكيته عبب في أصل العقد كان يكون محل العقد غير مال أو ما غير منقوم أو أن يكون العاقد فاقد التمييز . فهذه الأسباب الأخيرة ترجع إلى أصل العقد وهي أخطر بكثير من الأسباب التي ترجع إلى وصف العقد من غرر أو رية أو شرط فاسد.
قلنا: إن العقد الفاسد يحمى الغير. وقد رأينا أن المشتري بعقد فاسد إذا تصرف في العين المشتراة بعد قبضها، كان الغير الذي تصرف له المشتري آمنا أن تسترد العين من بده، وفي هذا حماية كبيرة للغير، لا سيما عندما لا تكون هناك وسائل للشهر تنبه الغير الذي يعامل المشتري بعقد فاسد إلى فساد عقده على كثرة أسباب الفساد وتنوعها. وقد اقتضت الصناعة الفقهية لتحقيق هذا الغرض، افتراض ملكية تنتقل إلى المشتري بعقد فاسد، ولكنها ملكية لا تبيح للمشتري أن ينتفع
بعين المملوك ، بل هي ملكية الغرض منها تصحيح التصرف الذي يصدر من المشتري إلى الغير . فتنتقل إلى المشتري من المشتري ملكية صحيحة تمنع استرداد العين من تحت يده، وذلك بفضل هذه الملكية الخبيثة، التي انتقلت من البائع إلى المشتري بالعقد الفاسد.
وقلنا: إن العقد الفاسد يحمي العاقد نفسه، وقد رأينا أنه يحمي المشتري إذا زاد المبيع في بده بعد قبضه زيادة غير متولدة من المبيع ولكنها متصلة به، فيمتنع على البائع حق الفسخ. كذلك يحمي العقد الفاسد المشتري إذا غير من صورة المبيع تغييرا يخرجه عن صورته الأولى. ففي هاتين الحالتين تستقر ملكية المشتري وتصبح ملكية باتة غير مهددة بالفسخ، ولو أنها انتقلت إليه بعقد فاسد.
فالعقد الفاسد إذن بعيد عن أن يكون كالعقد الباطل، بل هو عقد يسبغ حماية إضافية لا على الغير فحسب بل أيضا على العاقد نفسه، هذا إلى أن العقد الفاسد يفارق العقد الباطل في أمر جوهري آخر، فإنه إذا أزيل منه المفسد انقلب صحيحة وأنتج أثره، لا كواقعة مادية بل كتصرف شرعي
تياران في الفقه الحنفي في شان العقد الفاسد:
على أن هذه القوة التي جعلت للعقد الفاسد، لحماية الغير ولحماية العاقد نفسه بل لانقلابه صحيحة بإزالة المفسد، لا تمثل إلا أحد تمارين في الفقه الحنفي. فهناك تبار آخر يرمي إلى التأكيد في هذه القوة والتمكين لها والتثبيت منها. فيبعد بذلك العقد الفاسد عن القعد الباطل مدى أكبر . فهو يقرر ، على ما رأينا، أن المشتري بعقد فاسد بعد القبض لا يملك التصرف في العين فحسب ، بل هو يملك أيضا العين نفسها كما يملك التصرف فيها. وإذا كان لا يحل له الانتفاع بعين المملوك، فسبب ذلك إنما يرجع إلى أن الانتفاع به إعراض عن الرد وهو واجب شرعا. كذلك لا يعترض بأن المشتري إنما ينصرف بتسليط المالك، فالمشتري بالعقد الصحيح ينصرف هو أيضا بتسليط البائع. وفي هذا يقول " الزيلعي " (4/62) وإنما لم تحل له التصرفات من الوطء والأكل، لأن الاشتغال بالوطء ونحوه إعراض عن الرد وهر واجب شرعا.. وما ذكره محمد رحمه الله من التسليط لا يدل على أنه لا يملكه، إذ المشتري بتصرف في المبيع بتسليط البائع. بسبب تمليكه إياها. ويبين ابن نجيم في " البحر" (6/92-93) رأينا أن للمشتري بعقد فاسد ثمرات الملك ، فهو إذا أعتق العبد الذي اشتراه بعقد فاسد بعد قبضه صح عنقه وكان الولاء له، ولو باعه كان الثمن له، ولو بيعت دار مجاورة للدار التي اشتراها بعقد فاسد فالشفعة له ولو أعتق العبد بائعه بعقد فاسد لم يعتق، ولو سرقه البائع من المشتري بعد قبضه قطع، فهذه كلها ثمرات الملك. وأما ما استدل به من عدم حل أكل المبيع لو كان طعامه، وعدم حل لبسه لو كان قميص، وعدم وجوب الشفعة في البيع الفاسد، فلا دليل فيه، لأن عدم الحل لا يدل على عدم الملك، بدليل أن ربح ما لم يضمن مملوك ولا يحل، والأخت رضاعة إذا ملكها لا يحل له وطؤها، وإنما لم تجب الشفعة لأن حق البائع لم ينقطع عنها هي إنما تجب بانقطاع حقه لا يملك المشتري.
ويبدو أن هذا التيار الآخر يزيد في إبعاد العقد الفاسد عن العقد الباطل وبقربه من العقد الصحيح من حيث إفادة الملك . فهو يجعل العقد الفاسد يفيد ملكا كاملا ينتفع به المالك، ولكنه يجهل هذا الانتفاع محرمة أو مكروهة، وترجع الحرمة أو الكرامة في الغالب إلى اعتبارات دينية . وهو بتخفيف من أسباب الفساد عن طريق الانتقاص من آثارها، وعن طريق التقريب بين العقد الفاسد والعقد الصحيح النافذ فكلاهما نافذ يفيد الملك الكامل، وعن طريق جعل العقد الفاسد أقرب إلى العقد المكروه منه إلى العقد الباطل، واعتبار أن أسباب الفساد هي أسباب دينية توجب الكراهة ولكنها لا توجب البطلان.
وأهمية هذا التيار الآخر أنه يعالج ما يعتور العقد في الفقه الإسلامي من أسباب فساد متعددة ، نضع قيودا خطيرة على حرية التعاقد. فيسير الفقه عن طريق صناعة محكمة ، في سبيل التطور، وينفسخ المجال لتوطيد مبدأ سلطان الإرادة
٣. العقد الموقوف
العقد الموقوف يقابل العقد القابل للإبطال
أن العقد الموقوف في الفقه الإسلامي يقابل العقد القابل للإبطال في الفقه الغربي، فكلاهما يواجه نفس الحالات: الولاية على التصرف والولاية على المحل، أي عقد ناقص الأهلية والتصرف في ملك الغير. أما عيوب الإرادة فيواجها في الفقه الغربي العقد القابل للإبطال أيضا ، ولكن العقد غير اللازم في الفقه الإسلامي هو الأقرب إلى مواجهتها، ومن ثم نرجئ بحثها إلى حين الكلام في العقد غير اللازم.
فعقد ناقص الأهلية موقوف في الفقه الإسلامي وقابل للإبطال في الفقه الغربي .
وبيع الفضولي أو بيع ملك الغير موقوف في الفقه الإسلامي وقابل للإبطال في الفقه الغربي . مقارنة العقد الموقوف بالعقد القابل للإبطال - رجحان العقد الموقوف:
والعقد الموقوف هو صورة عكسية من العقد القابل للإبطال . فالعقد الموقوف هو باطل حتى ينفذ بالإجازة. أما العقد القابل للإبطال فهو نافذ حتى يبطل بعدم الإجازة
والواقع من الأمر أن العقد الذي يتردد بين مرتبتي البطلان والصحة يتصور فيه أحد أمرين: (1) إما أن يجعل باطلا حتى يصح، وهذا ما اختاره الفقه الإسلامي. (۲) وإما أن يجعل صحيحا حتى يبطل، وهذا ما اختاره الفقه الغربي .
وللمفاضلة بين النظامين ينبغي أن ننظر إلى الحالات التي يكون فيها العقد موقوفة في الفقه الإسلامي، أو قابلا للإبطال في الفقه الغربي .
أولى هذه الحالات هي عقد ناقص الأهلية، فإذا تصرف صبي مميز في دار مملوكة له بالبيع، فهل الأولى أن يقف عقده حتى يجيزه وليه أو حتى يجيزه هو عند بلوغه سن الرشد كما هو الأمر في الفقه الإسلامي، أم الأولى أن ينفذ عقده حتى يطالب وليه أو يطالب هو عند بلوغه سن
الرشد بإبطاله كما هو الأمر في الفقه الغربي؟ واضح أن الأولى . والصبي غير كامل التمييز ومظنة الضرر المحتمل لحوقه به من التصرف مظنة راجحة . أن يقف عقده حتى يتبين وليه نفع هذا العقد، أو حتى يتبين هو ذلك بعد بلوغه سن الرشد. فالفقه الإسلامي في صناعته هنا أرني من الفقه الغربي .
وثانية هذه الحالات هي تصرف الشخص في ملك غيره. فإذا تصرف الفضولي في ملك غيره، فهل الأولى إبطال التصرف حتى يجاز كما يفعل الفقه الإسلامي، أو نفاده حتى يبطل كما يفعل الفقه الغربي؟ واضح هنا أيضا . والفضولي يتصرف في مال لا ولاية له عليه . أن الأولى هو وقف التصرف حتى يجاز . فالفقه الإسلامي هنا أيضا أرقي في صناعته من الفقه الغربي .
وسنرى في عيوب الإرادة كذلك . وهي التي يجعل الفقه الغربي العقد فيها قابلا للإبطال . أن الأولى بهذا الفقه أن يستعير من الفقه الإسلامي فكرة العقد الموقوف، فيجعل العقد المشوب بالغلط أو التدليس أو الإكراه موقوفا لا قابلا للإبطال.
وهناك سبب آخر لرجحان العقد الموقوف على العقد القابل للإبطال. ففي بيع ملك الغير أو تصرف الفضولي رأينا أن الفقه الغربي يجعل العقد نافذة حتى يبطل. ولما كان جعل العقد نافذة في حق المالك الذي لم يشترك فيه غير معقول، لذلك اضطر الفقه الغربي أن يستعين بفكرة أخرى ضمها إلى فكرة العقد القابل للإبطال، فجعل العقد، إلى جانب كونه قابلا للإبطال، غير نافذ في حق المالك الحقيقي، فلجأ إلى فكرة الوقف في حق المالك. أما الفقه الإسلامي فعنده العقد موقوف، فهو موقوف في حق البائع وفي حق المشتري وفي حق المالك جميعا. فلم يكن في حاجة إلى فكرة عدم السريان، التي احتاج إليها الفقه الغربي لما جعل العقد نفاذة . وبذلك يرجح العقد الموقوف العقد القابل للإبطال، لشموله واستغنائه بذاته عن أي شيء آخر. فإذا قلنا عقد الفضولي في الفقه الإسلامي موقوف، فقد قلنا: كل شيء. أما إذا قلنا: بيع ملك الغير في الفقه الغربي عقد قابل للإبطال، وجب أن نقول إلى جانب ذلك أنه أيضا عند غير سار في حق المالك الحقيقي، فهو عقد قابل للإبطال في حق المشتري وحده، والمشتري هو الذي يملك إبطال العقد لأن البطلان تقرر لمصلحته هو، ولا يملك البائع ذلك، ولما كان المشتري يملك إبطاله ، فإنه يملك أيضا إجازته، وسواء أبطله أو أجازه، فإنه لا ينفذ في حق المالك الحقيقي إلا إذا أجازه هذا المالك . فإذا ما أجازه، فقد سري في حقه وصح في حق المشتري في وقت واحد. وفي هذا خروج على الصناعة القانونية، فإن المعهود في العقد القابل للإبطال أن الذي يبطل أو يجيز هر وحده العاقد الذي تقرر البطلان لمصلحته ، وهنا يملك غير العاقد . المالك . إجازة العقد فيصح في حق المشتري نفسه. ومن ثم كان حكم بيع ملك الغير . ولا يزال . مشكلة تحير الباحثين في الفقه الغربي ، ولو استعار هذا الفقه من الفقه الإسلامي فكرة العقد الموقوف وواجه بها بيع ملك الغير ، لأفاد كثيرة من ذلك. فيكون العقد موقوفة، لا في حق المشتري وحده. ولا في حق البائع وحده ، بل أيضا في حق المالك، ولكانت إجازة العقد تقتصر على المالك، فلا يملك المشتري إجازته . وكل هذه أحكام أكثر ملاءمة لحالة العقد، وهي أحكام تستمد من نظام العقد الموقوف ولا تستمد
من نظام العقد القابل للإبطال .
اين وقف تطور العقد الموقوف وكيف ينبغي أن يستكمل تطوره:
على أن العقد الموقوف، على رقي الصناعة فيه، قد وقف تطوره في مواضع ثلاثة كان ينبغي أن يستكمل تطوره فيها.
اولا : يبقى العقد موقوفة في بيع الفضولي، إذا سكت المالك لا يجيز البيع ولا يرده. فليس هناك وقت معين ، إذا انقضى يعتبر المالك بانقضائه مجيزه أو غير مجيز . وهذا من شأنه أن يطيل أمد توقف العقد، ويجعل التعامل مزعزعة مضطربة مدة غير محددة. وقد عالج الفقه الحنفي هذه الحالة ، بأن جعل لكل من الفضولي والمشتري الحق في فسخ العقد فيخلص بالفسخ من هذه الحالة غير المستقرة. ولكن هذا لعلاج ناقص، لأنه ينتهي إلى فسخ العقد، أما إذا أريد بقاء العقد فليس هناك من سبيل للعائدين إلا التربص انتظارا لإجازة المالك، وليس لهذه الإجازة رنت معلوم. وعنوان تطور الفقه الإسلامي في هذه المسألة هو مذهب مالك، فقد رأينا أن الفضولي في هذا المذهب إذا باع بحضرة المالك، وسكت هذا، اعتبر سكوته إجازة، وإن باع بغير حضرته، وبلغه، فسكت عاما من وقت علمه، اعتبر سكوته إجازة.
ثانيا : غلبت مقتضيات الصناعة الفقهية عند تحديد شروط الإجازة، فقد رأينا أنه يجب لصحة الإجازة قيام الأطراف الثلاثة وقيام المبيع وقت صدور التصرف ووقت صدور الإجازة. ذلك أن الإجازة في الفقه الإسلامي لها حكم الاستناد من وجه ومن ثم وجب توافر الشرط وقت صدور التصرف وهو الوقت الذي تستند إليه الإجازة، ولها حكم الإنشاء من وجه ومن ثم وجب أيضا توافر الشرط وقت صدورها ففي هذا الوقت بدأ وجودها. ولكن هذه النظرة الصناعية المحضة نظرة ضيقة، فهي لا تسمح بإجازة العقد لو مات أحد الأطراف الثلاثة وحل ورثته محله ، ولا تسمح بإجازة العقد بعد هلاك المحل. وقد تدعو الحاجة إلى إجازة العقد بعد موت أحد الأطراف الثلاثة او بعد ملاك المحل، فنقف الصناعة الفقهية دون ذلك من غير مبرر. وكان الأولى أن يجعل للإجازة حكم الاستناد دون حكم الإنشاء، فيكتفي باشتراط قيام الأطراف الثلاثة وقيام المحل وقت صدور التصرف دون وقت صدور الإجازة .
ثالثا: غلب على الفقه الإسلامي في هذا الموضوع قاعدة للصنعة فيها أثر واضح، وهي تقضي بأن المالك البات إذا طرأ على الملك الموقوف أبطله. وقد رأينا تطبيقات لهذه القاعدة الصناعية المحضة بضيق بها التعامل، وكان الأولى ألا تنحكم الصناعة إلا بالقدر الذي يستجيب للحاجات العملية، فقد رأينا أن الفضولي إذا أصبح مالكا للمبيع بعد صدور البيع منه، فإنه بيعه يبطل، ولا يستطيع بعد أن أصبح مالكة أن ينقل الملك للمشتري بإجازة العقد الذي صدر منه، ولا يستطيع ذلك إلا بعقد مبتدأ. ذلك أن ملك الفضولي قد أصبح باتا بصيرورته مالكا للمبيع بعد صدور البيع منه، وقد طرأ على ملك المشتري منه وهو ملك موقوف، والملك البات إذا طرأ على الملك الموقوف أبطله كما تقضي بذلك القاعدة السالفة الذكر. والمذهب المالكي هنا أيضا هو الذي سار في التطور خطوات أبعد. ففيه، كما رأينا، إذا ملك الفضولي المبيع بسبب غير الميراث
صح البيع الصادر منه للمشتري ولا يجوز له نقضه، ولكن الفقه المالكي لا يزال قاصرة فيما إذا انتقل الملك للفضولي بالميراث، ففي هذه الحالة ينتقل إلى الفضولي ما كان لمورثه فيصح له أن ينقض البيع الصادر منه قبل انتقال الملك إليه بالميراث، وكان الأولى أن يقال هنا إن من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه
كذلك إذا باع المشتري من الفضولي المبيع إلى مشتر ثاني، وأجاز المالك البيع الأول الصادر من الفضولي، نفذ هذا البيع الأول وبطل البيع الثاني، ذلك أن ملك المشتري الأول أصبح باشا بالإجازة، وقد طرأ على ملك المشتري الثاني الموقوف فأبطله. وكان الأولى أن يقال : إن إجازة البيع الأول تستند إلى وقت صدور هذا البيع، فيكون ملك المشتري الأول بائا من هذا الوقت فلا يبطل الملك الموقوف لأنه لم يطرأ عليه، بل يجعله نافذة، إذ يعتبر المشتري الأول بفضل استناد الإجازة مالكا للمبيع ملكية باتة وقت أن صدر منه البيع الثاني .
4- العقد غير اللازم
عيوب الإرادة وكيف عولجت في الفقهين - مواجهتها بالعقد غير اللازم في الفقه الإسلامي وبالعقد القابل للإبطال في الفقه الغربي
قدمنا أن الفقه الغربي بعالج عيوب الإرادة كلها . الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال . علاجا واحدة، ويضعها جميعا في صعيد واحد، وأن هذه العيوب مشتتة متناثرة في الفقه الإسلامي الغلبة النزعة الموضوعية فيه وتنافرها مع الأساس الذي تقوم عليه هذه العيوب ففي الفقه الإسلامي لا نجد نظرية عامة للغلط، ويجب أن نتلمس أثر الغلط في جملة من الخيارات، أهمها خيار الوصف وخيار الرؤية وخيار العيب وخيار الغلط ، وقد بسطنا ذلك تفصيلا في الجزء الثاني من مصادر الحق في الفقه الإسلامي ونجد نظرية للتدليس في المذهب المالكي بنوع خاص فيما يسمى بخيار التدليس، ونظرية للاستغلال فيما يسمى بخيار الغبن. أما الإكراه ففيه نظرية كاملة، ولكن المذاهب الفقهية اختلفت في ترتيب الجزاء عليه كما سبق القول.
أما الفقه الغربي فيواجه هذه العيوب جميعا بجزاء واحد كما قدمنا، فيجعل العقد المشوب بغلط أو بتدليس أو بإكراه عقدة قابلا للإبطال لمصلحة العائد الذي شاب إرادته عيب.
ولعل المذهب المالكي هو أقرب المذاهب إلى الفقه الغربي في توحيد الجزاء الذي يرتبه على عيوب الإرادة، ففيها جميعا كون العقد غير لازم، فيه خيار للغلط أو للتدليس أو للغبن أو للإكراه، والعقد غير اللازم هنا هو الذي يقابل العقد القابل للإبطال لعبب في الإرادة في الفقه الغربي وقد رأينا أن الذي يقابل في الفقه الإسلامي العقد القابل للإبطال في الفقه الغربي، فيما يتعلق بالولاية على التصرف والولاية على المحل، ليس هو العقد الموقوف. فيكون العقد القابل للإبطال في الفقه الغربي يقابل في الفقه الإسلامي العقد الموقوف من ناحية والعقد غير اللازم من ناحية أخرى.
وفي راينا أن العقد الموقوف أكثر ملاءمة لمواجهة عيوب الإرادة من العقد القابل للإبطال ، كما أسلفنا القول. فالعقد الذي بداخله غلط أو تدليس أو إكراه ، فيصدر عن إرادة ضالة أو مضللة أو غير مختارة، أولى به أن يوقف حتى يجاز من أن ينفذ حتى يحكم بإبطاله
ولو أن الفقه الإسلامي سار في تطوره، وتخفف شيئا من نزعنه الموضوعية، فجعل لعيوب الإرادة المحل اللائق بها، وجمعها كلها في مكان واحد كما فعل الفقه الغربي، لكان له وهو يجمعها أن يواجهها هي أيضا بالعقد الموقوف، فهو أكثر ملاءمة من العقد غير اللازم ومن العقد القابل للإبطال. وقد كان هذا فعلا رأي زفر فيما يتعلق بالإكراه ، فعنده أن بيع المكره موقوف كما سبق القول.
نطاق العقد غير اللازم . ما يقابله في الفقه الغربي
ولا يتسع نحسب نطاق العقد غير اللازم في الفقه الإسلامي لعيوب الإرادة ، بل هو يقابل أيضا في الفقه الغربي نظما أخرى متعددة، منها:
1- العقود غير اللازمة في الفقه الغربي. كالوكالة والشركة والوديعة والعارية.
2- نظرية فسخ العقد وانفساخه في الفقه الغربي، على أن نظرية فسخ العقد في الفقه الإسلامي ليست نظرية شاملة، ولا يتقرر الفسخ كأصل عام كما يتقرر في الفقه الغربي في العقود الملزمة للجانبين.
3- الشرط الواقف في الفقه الغربي ويتمثل في خيار الشرط في الفقه الإسلامي - والشرط الفاسخ في الفقه الغربي ويتمثل في خيار العيب قبل القبض في الفقه الإسلامي
4- نظم أخرى متفرقة في الفقه الغربي، فبيع التجربة وبيع المذاق يقابلان خيار الشرط من وجه، والالتزام التخييري يقابل خبار التعيين.
الخيارات الأربعة:
وإذا اقتصرنا في العقد غير اللازم على الخيارات الأربعة المعروفة، خيار الشرط وخبار التعيين وخيار الرؤية وخبار العيب، وجدنا الصناعة في الفقه الإسلامي قد وصلت إلى حد بعيد من الرقي
وحتى ندرك روعة هذه الصناعة، نضع إلى جانب الخيارات الأربعة العقد الموقوف، ونعقد مقارنة بين الوقف وخيار الشرط وخبار التعيين وخيار الرؤية وخبار العيب، لنلحظ التدرج المحكم من النواحي الآتية : (۱) نفاذ العقد (۲) كيفية الرجوع في العقد (3) إسقاط الخيار (4) انتقال الخيار بالميراث. فهذه النواحي الأربع متصلة بعضها ببعض أوثق الاتصال، وتجري فيها جميعا صناعة منسقة منسجمة
فالعقد الموقوف منعقد في حق العلة ، ولكن يمنع من نفاده عدم تمام العلة، وذلك إلى أن تلحقه الإجازة . ولما كان العقد الموقوف غير تام العلة فالصفقة إذن لم تتم. فلا يحتاج نقضه إلى تراض أو تقاض، ويكفي في نقضه محض إرادة من له حق النقض وهي إرادة منفردة. ويفارق
العقد الموقوف العقد المقترن بخبار، فلا يرد فيه إسقاط الخيار ولا انتقاله بالميراث، بل إنه إذا مات من له حق إجازة العقد الموقوف قبل الإجازة بطل العقد.
والعقد المقترن بخبار الشرط يزيد على العقد الموقوف بان العلة فيه قد تمت، ولكنه غير منعقد في حق الحكم، وخيار الشرط أقرب إلى أن يكون شرطا واقفا في معنى للفقه الغربي ، ولما كان العقد المقترن بخيار الشرط غير منعقد في حق الحكم، فإن الصفقة لم تنم. فلا يحتاج صاحب الشرط في نقضه إلى تراض أو تقاض، بل تكفي إرادته المنفردة، ولما كان خبار الشرط من حق العبد، فإنه يجوز إسقاطه قصدا بصريح الإسقاط. ولا ينتقل خبار الشرط بالميراث، لأنه متصل بالمشيئة لا بالعين ، فإذا مات صاحبه لزم العقد، ولم يبطل كما رأينا في العقد الموقوف.
والعقد المقترن بخيار التعيين ينطوي في الوقت ذاته على خيار الشرط كما رأينا، فإذا جردنا من خيار الشرط واقتصرنا على خيار التعيين، رأينا العقد موقوف الحكم إلى أن يتعين المحل، فهو يفيد الملك في أحد الأشياء غير عين، فلا ينتقل الملك في عين بالذات إلا بعد التعيين، ويتم التعيين بالإرادة المنفردة لمن له حق التعيين، المشتري أو البائع، دون حاجة إلى تراض أو تقاض. ولا يتصور فيه إسقاط الخيار، لأن من له الخيار يجب عليه التعيين، وإن كان يستطيع إسقاط خيار الشرط المنطوي في خبار التعيين. وينتقل خيار التعيين بالميراث ، لأنه متصل بالعين أكثر من اتصاله بالمشيئة
وخيار الرؤية بفارق خيار الشرط وخيار التعيين في أنه لا يمنع من الانعقاد في حق الحكم، ولكنه يمنع تمام الحكم حتى بعد القبض . فالصفقة إذن لم تتم، فيستطيع من له الخيار نقض العقد بإرادته المنفردة دون حاجة إلى تراض أو تقاض، ولما كان خيار الرؤية من حق الشرع لا من حق العبد، فلا يجوز إسقاطه قصدأ بصريح الإسقاط ، وإنما يسقط ضمنا بإجازة العقد. ولا ينتقل خبار الرؤية بالميراث، لأنه متصل بالمشيئة لا بالعين، فإذا مات من له الخيار لزم العقد
وخيار العيب لا يمنع تمام الحكم كما يمنعه خيار الرؤية فيما قدمنا، ولكنه يمنع لزوم الحكم قبل القبض . فالصفقة إذن لم تتم قبل القبض، وتتم بعد القبض. فيستطيع من له الخيار، قبل القبض، نقف العقد بإرادته المنفردة دون حاجة إلى تراض أو تقاض. أما بعد القبض، وقد تمت الصفقة، فلا يستطيع من له الخيار إلا فسخ العقد. ولا بد للفسخ من التراضي أو التقاضي، ولما كان خيار العيب من حق العبد لا من حق الشارع، فإنه يجوز إسقاطه مقصودة بصريح الإسقاط . وينتقل خيار العيب بالميراث، لأنه متصل بالعين أكثر من اتصاله بالمشيئة.
وروعة الصناعة الفقهية هنا تتجلى في هذا التدرج المحكم، وفي رد الأحكام إلى أصول منطقية ثابتة، على الوجه الآتي:
أولا: من حيث نفاذ العقد: نرى الوقف بمنع من تمام العلة، ويمنع كل من خيار الشرط وخيار التعيين من انعقاد الحكم، ويمنع خيار الرؤية من تمام الحكم، ويمنع خيار العيب من لزوم الحكم قبل القبض وتتم الصفقة بعد القبض.
ثانيا : من حيث كيفية الرجوع في العقد: نري العقد الموقوف يبطل إذا لم تلحقه الإجازة ،
لأن العلة فيه لم نتم، أما الخيارات الأربعة، فما لم تتم فيه الصفقة تكفي في نقضه الإرادة المنفردة الصاحب الخبار، وما تمت فيه الصفقة لا بد في فسخه من التراضي أو التقاضي، فلا يحتاج في نسخه إلى التراضي أو التقاضي إلا العقد الذي فيه خيار العيب بعد القبض. أما خيار العيب قبل القبض وفي كل من خبار الرؤية وخبار الشرط، فإنه يكفي في نقض العقد إرادة صاحب الخبار . وإذا لم ينقض العقد أو يفسخ، أصبح لازمة، لتمام العلة منذ صدور العقد، ولتمام الحكم والصفقة بعدم النقض أو الفسخ.
و ثالثا : من حيث الإسقاط المريح: في هذا يميز الفقه الإسلامي بين حق العبد وحق الشرع . فخيار الرؤية وحده من حق الشرع، فلا يجوز إسقاطه مقصودة بصريح الإسقاط. أما الخيارات الأخرى فمن حق العبد، فيجوز فيها هذا الإسقاط المقصود.
رابعا: من حيث الانتقال بالميراث : ما يتصل من الخيارات بالعين أكثر من اتصال بالمشيئة يورث مع العين ، فيورث خبار التعيين وخبار العيب . وما يتصل بالمشيئة أكثر من اتصاله بالعين لا يورث لأن المشيئة لا تنتقل من المورث إلى الوارث، فلا يورث خيار الشرط ولا خبار الرؤية .
ولعل الفقه الغربي في هذه المسائل لم يصل إلى هذا الحد من الدقة والإحكام. ويعرف الفقه الغربي الشرط الواقف والشرط الفاسخ، ولا يعرف بينهما مرتبة وسطى. أما الفقه الإسلامي فيعرف هذه المرتبة الوسطى، فخبار الرؤية عنده مرتبة وسطي، بين خيار الشرط وخيار العيب. ذلك أن خيار الشرط كالشرط الواقف بمنع انعقاد الحكم، وخيار العيب كالشرط الفاسخ يمنع لزوم الحكم. أما خبار الرؤية فلا بمنع انعقاد الحكم فهو فوق الشرط الواقف، ويمنع تمام الحكم فهو دون الشرط الفاسخ، ومن ثم كان مرتبة وسطى بين الشرط الواقف والشرط الفاسخ
وكما أن العقد الذي فبه خبار الرؤية هو فوق العقد المقترن بخبار الشرط (أو بالشرط الواقف)، فإن العقد الموقوف هو دون العقد المقترن بهذا الشرط. ذلك أن الوقف بمنع تمام العلة، أما الشرط فلا بمنع تمامها ولكن بمنع انعقاد الحكم. فهناك إذن، في الفقه الإسلامي، مرتبتان إلى جانب مرتبتي الشرط الواقف والشرط الفاسخ: العقد الموقوف وهو دون الشرط الواقف، والعقد الذي فيه خيار الرؤية وهو فوق الشرط الواقف ودون الشرط الفاسخ، وليس لهذا التدرج نظير في الفقه الغربي.
____________
(1) وهذا المثل قريب من التحول وإن لم يكن تحولا في معناه الدقيق. فالعقد لا يزال شراء لم يتغير وصفه ، وإنما تغير العاقد، وهذا عنصر جديد يجعل تغير العقد أقرب إلى التصحيح منه إلى التحول.
(۲) وإذا تصرف الموصى بعد الوصية في العين الموصى بها تصرفه باطلا أو فاسدة، كان هذا التصرف الباطل أو الفاسد نقضة للوصية، ولكن نظرية تحول العقد. كما رأيناها في الفقه الجرماني . لا تعتبر أن التصرف قد تحول هنا، بل هو قد انطوى على إرادة حقيقية . لا على إرادة احتمالية . في نقض الوصية، ومثل ذلك البائع بخيار الشروط الو اشترى بالثمن شيئا من غيره . كما جاء في " البدائع " (5/267) ، لم يصح الشراء وكان إجازة . أما عدم صحة الشراء فلأنه شراء بالدين من غير من عليه الدين، وأما كونه إجازة البيع فلان الشراء به من غيره، وإن لم يصح لكنه قصد التملك وذا دليل الإجازة . وقد قدمنا أنه لو باع المؤجر العين المؤجرة من المستأجر بعقد فاسد، انفسخت الإجازة بهذا البيع الفاسد، إذ ينطوي البيع على إرادة حقيقية في فسخ الإجازة، ومثل ذلك لو باع المشتري العين المبيعة من بائعه بعد القبض وكان البيع الثاني فاسدة ، فإن هذا البيع الفاسد يفسخ البيع الصحيح الأول. وقد يقال هنا أن البيع الفاسد قد انطوى على إرادة احتمالية . لا على إرادة حقيقية . في فسخ البيع الأول، فتحول من بيع فاسد إلى فسخ صحيح للبيع الأول. وهذا ما جاء في " البحر "(6/94) في هذه المسألة وقد سبق أن أوردناه " في البزازية " باع منه صحيحا ثم باعه فاسدا منه، انفسخ الأول لأن الثاني لو كان صحيحا ينفسخ الأول به ، فكذا لو كان فاسدة لأنه يلحق بالصحيح، الكثير من الأحكام وكذا لو باع المؤجر المستأجر من المستأجر فاسدة، تنفسخ الإجارة كما إذا باعه صحيحا .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|