أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-8-2016
1471
التاريخ: 9-8-2016
1703
التاريخ: 8-8-2016
1685
التاريخ: 8-8-2016
1635
|
[التنبيه الاول فى من توسّط ارضا مغصوبة]
الأوّل: أنّ من توسّط أرض مغصوبة فلا شبهة في أنّ مقدارا من الغصب لا بدّ من أن يصدر منه وهو مقدار الخروج بأسرع وجه يمكن؛ لأنّه إن بقي فيها صدر منه هذا المقدار مع الزيادة، وإلّا فهذا المقدار فقط، وهذا واضح، إنّما الكلام في حكم هذا الخروج فقيل بأنّه مأمور به ومنهي عنه، واختاره المحقّق القمّي ناسبا له إلى أكثر المتأخّرين وظاهر الفقهاء وصحّته يبتني على مقدّمتين:
الاولى: كفاية تعدّد الجهة في اجتماع الأمر والنهي وقد مضى الكلام فيه.
والثانية صحّة التكليف لغير المقدور إذا كان عدم القدرة ناشئا من اختيار المكلّف وهذا ممنوع؛ لاستقلال العقل بقبح التكليف بما لا يطاق مطلقا، وأمّا ما اشتهر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فالمراد به دفع ما زعمه الأشاعرة من عدم الفعل الاختياري رأسا، والمعنيّ بهذا الكلام أنّ الامتناع بمقدّمة اختياريّة لا ينافي الاختيار، يعني إنّه يصحّ العقاب عليه لا أنّه يصحّ التكليف.
وهنا ثلاثة أقوال أخر: أحدها: وهو لصاحب الفصول قدّس سرّه: أنّ المكلّف منهي قبل الدخول عن جميع أنحاء الغصب لكونه قادرا على ترك جميعها حتّى الخروج، بمعنى أنّه يتمكّن من ترك الخروج وترك الدخول، وبعد الدخول يسقط النهي من الخروج ويبقى أثره وهو ترتّب العقاب، ويصير مأمورا به مقدّمة لترك الغصب الزائد فلم يجتمع الأمر والنهي في زمان واحد
الثاني: أنّ الخروج مأمور به ولم يكن منهيّا عنه من أوّل الأمر
الثالث: أنّه ليس بمأمور به ولا منهي عنه.
والتحقيق أنّه لو منعنا مقدّميّة الخروج لترك الغصب الزائد كما هو الحقّ لا سببا، والترك إلى الصارف لا إلى الخروج، نعم هو مقترن معه وملازم له، لكن الملازمين في الوجود غير متلازمين في الحكم فحينئذ لا بدّ من الالتزام بعدم كونه مأمورا به ولا منهيّا عنه مع ترتّب العقاب كما هو القول الثالث. أمّا عدم الأمر فلعدم الملاك، وأمّا عدم النهي فلمكان الاضطرار، وأمّا ترتّب العقاب فلكون الاضطرار بمقدّمة اختياريّة.
ولو قلنا بالمقدّميّة فالحقّ ما ذكره صاحب الفصول قدّس سرّه ويبقى الإشكال حينئذ في أنّه كيف يمكن تعلّق الطلب المقدّمي بما هو مبغوض فعلا أعني الخروج، ولذا يعاقب عليه.
بل نقول: يستلزم ذلك اجتماع الحبّ والبغض في الشيء الواحد بوجه واحد، فيكون ممتنعا حتى على القول بالجواز، وذلك لأنّ متعلّق الأمر المقدّمي ليس عنوان المقدّميّة بل ذات الخروج؛ إذ هو الذي يتوقّف عليه الواجب دون هذا العنوان.
ويمكن الجواب عنه أوّلا بالنقض بما لو وقع في هذه الأرض بغير الاختيار، فإنّ الخروج مأمور به بناء على المقدّميّة قطعا مع أنّه متّصف بالمبغوضيّة الذاتيّة بلا إشكال، غاية الأمر أنّ الفاعل معذور، ولا يعقل تأثير معذوريّة الفاعل في رفع المتضادّين المحبوبيّة والمبغوضيّة.
وثانيا بالحلّ وهو أنّ الفعل لو كان في غاية المبغوضيّة وكان واقعا لا محالة بحيث لا يمكن المخالفة من وجوده في الخارج فلا إشكال في عدم صحّة الزجر عنه وإن صحّ العقاب عليه، وإذا كان الاضطرار إليه بمقدّمة اختيارية، فحينئذ لو كان مقدّمة لمطلوب فلا مانع من طلبه مقدّمة لهذا المطلوب؛ إذ كما أنّ المبغوض الذي سقط عن تأثير الزجر في نفس الآمر لأجل مزاحمة المحبوب الأهم لا يزاحم هذا المحبوب في التأثير كما لو غرق إحدى محارم الشخص في الماء ولم يتمكّن بنفسه من إنقاذها فإنّك هل تجد من نفسك أنّ هذا الشخص لا يأمر أحدا بإنقاذها وتركها حتى يغرق لأجل كراهته من وصول يد هذا الأجنبي إليها، أو أنّه يرضى بذلك لكون ملاكها أشدّ كراهة عنده من وصول يد هذا الأجنبي إليها، فكذا المبغوض الساقط عن تأثير الزجر بواسطة لا بدّية وقوعه أيضا لا يزاحم المحبوب وإن كان المحبوب أضعف منه بمراتب.
مثلا لو فرضنا أنّ جميع تصرّفات العبد وأكوانه في مكان مخصوص مبغوض للمولى فوقع فيه إمّا بسوء اختياره أو بدون الاختيار، ولم يتمكّن من الخروج أبدا فحينئذ لو أمره المولى بخياطة جبّة له في هذا المكان ومع ذلك عاقبه على مطلق التصرّف في هذا المكان إذا كان الوقوع بسوء اختياره، فهل ترى أنّه فعل قبيحا.
والحاصل أنّ المستحيل هو اجتماع المبغوض المؤثّر للزجر مع المحبوب المؤثّر للبعث في فعل واحد؛ لمكان التناقض بين نقيضيهما وهما الوجود والعدم، وأمّا المبغوض الساقط عن تأثير الزجر فلا استحالة في اجتماعه مع المحبوب المؤثّر أصلا؛ إذ مرجع هذا إلى أنّ الشيء من حيث الذات مبغوض وصار بعد سقوط مبغوضيّة الذاتيّة عن التأثير محبوبا بالعرض، فلم يجتمع المحبوبيّة والمبغوضيّة فيه في عرض واحد، بل تعلّق المحبوبيّة بعد سقوط المبغوضيّة عن التأثير.
وأمّا قولكم: يستلزم ذلك اجتماع الحبّ والبغض في الشيء الواحد بوجه واحد، فلم نفهم معناه؛ فإنّ الفعل فيما نحن فيه بعنوان أنّه غصب متعلّق للبغض، وبعنوان أنّه خروج متعلّق للحبّ، فلم يتّحد متعلّقهما.
واستدلّ للقول الثاني بأنّ الفعل الواحد الذي يكون حسنا بالذات أو بالعنوان الطاري إذا اعتبر فيه جميع ما له دخل في صلاحه وحسنه فمجرّد الاختلاف الزماني لا يعقل أن يوجب تغيير حسنه وقبحه.
نعم يوجب اختلاف الزمان اختلاف الحكم إذا كان لخصوصيّة الزمان مدخل فيه فيكون الفعل في زمان حسنا وفي زمان قبيحا كما في الصوم، لكن هذا راجع إلى تعدّد الموضوع، فالخروج الذي هو فعل واحد ولا يتعدّد بتعدّد الزمان- بمعنى أنّه ليس هنا خروجان كان أحدهما بطيئا والآخر سريعا، مثلا إذا كان أحدهما قبل الدخول والآخر بعده- لا يعقل أن يكون قبيحا قبل الدخول وحسنا بعده إذا فرض كونه حسنا بعد الدخول لأجل التخلّص به عن الحرام، فلا بدّ من الحكم به في سائر الأزمان بلا فرق.
والجواب أنّ صيرورة الشيء متعلّقا للحسن والصلاح يكون بأحد نحوين، الأوّل: أن يكون بنحو الإطلاق، والثاني: أن يكون بنحو الاشتراط، فعلى الأوّل يلزم تحصيل القيود، وعلى الثاني لا يلزم، بل ربّما يكون مبغوضا كما في الكفارة عقيب إفطار الصوم.
وحينئذ من المعلوم بالوجدان أنّه يمكن أن يكون الشيء الواحد قبيحا مطلقا، ولذا لزم السعي في المنع من حصول قيده، ولكن بعد حصول القيد صار حسنا بالعرض كما في التفرّد بضيافة زيد؛ فإنّه ربّما يكون مبغوضا مطلقا فيسعى في عدم حصول مجيئه حتّى الإمكان، ولكن بعد حصول المجيء يصير حسنا دفعا للمحذور الأشدّ المترتّب على ترك التفرّد بالضيافة.
وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ الخروج يكون قبيحا مطلقا ولذا يلزم السعي في عدم حصول قيده وهو الدخول، وبعد حصوله يصير حسنا بالعرض، والحاصل أنّ الممتنع هو اجتماع القبح المطلق مع الحسن المطلق في الشيء الواحد ولو في زمانين إلّا في حقّ غيره تعالى الممكن منه النسخ والبداء، وأمّا اجتماع القبح المطلق مع الحسن المشروط فلا محذور فيه، وإن شئت قلت: لا استحالة في اجتماع القبح المطلق مع الحسن المشروط بتقدير عدم تأثير القبح إمّا بمزاحمة الأهمّ أو بلا بدّية حصول متعلّقة.
ومحصّل الكلام في المقام أنّ للمكلّف هنا حالتين، حالة القدرة بالنسبة إلى الخروج، وبعبارة اخرى بالنسبة إلى أصل الغصب إيجادا وتركا، وهي ما قبل الدخول، وحالة العجز بالنسبة إلى مقدار الخروج وهي ما بعده، وللخروج أيضا باعتبار هاتين الحالتين حالتان، ففي الحالة الاولى لا يكون مقدّمة لترك الغصب، ولذا لا يجب تحصيل مقدّمته وهو الدخول، كما هو شأن مقدّمات الواجب الثابت لها المقدّميّة في جميع الأحوال؛ فإنّ مقدّمات ومقدّمات مقدّماتها واجبة، وفي الحالة الثانية يكون مقدّمة له، وهذا من أوائل البديهيّات. فيكون النهي في الحالة الثانية ساقطا كسقوط النهي عن الفعل بعد الإلقاء من الشاهق، وفي الحالة الاولى يكون موجودا لعدم المانع منه أصلا.
ثمّ في الحالة الثانية يكون قبحه الذاتي باقيا، والمدّعى إمكان تعلّق الأمر مع ذلك على القول بالامتناع أيضا، وذلك لأنّ المانع المتصوّر على هذا القول أمران، أحدهما تزاحم الجهتين وحصول الكسر والانكسار بينهما في مقام التأثير في نفس الآمر، والثاني التزاحم والكسر والانكسار بينهما في مقام تبعيد الفاعل وتقريبه، وكلاهما مفقود في المقام، أمّا الأوّل فلأنّه لا يعقل أن يصير جهة القبح الغير الموجبة لانقداح الانبعاث في نفس الآمر مزاحمة لجهة الحسن، وأمّا الثاني فلأنّ الذي يسلم من القائل بالامتناع هو عدم إمكان صيرورة الوجود المبعّد مقرّبا فيما إذا كان ناشئا من اختيار واحد، كما في الصلاة في الدار المغصوبة، حيث إنّ الطبيعة الحسنة والخصوصيّة السيّئة فيها مستندتان إلى اختيار واحد، فالمصلّي باختيار واحد يختار الصلاة والغصب، وهذا الاختيار يكون سوءا بالفرض، فلا يكون الوجود المستند إليه إلّا مبعّدا، لا فيما إذا كان ناشئا من اختيارين أحدهما سوء والآخر خير، كأن يكون أصل الجامع لهذا الوجود مستندا إلى اختيار سوء والخصوصيّة إلى اختيار آخر خير كما في المقام؛ فإنّ أصل حقيقة الغصبيّة مستند إلى الاختيار السابق الذي كان سوء فيكون واجب الوجود لوجود علّته، وخصوصيّة إيجاد هذا الغصب في موضوع الخروج والتخلّص دون البقاء مستندة إلى اختيار جديد وهو اختيار خير بالوجدان، فمبعّديّة هذا الوجود باعتبار الاختيار الأوّل ومقرّبيّته باعتبار الاختيار الثاني، وذلك لوضوح إناطة القرب والبعد على الاختيار، فالفعل الغير الاختياري لا يكون مقرّبا ولا مبعدا.
ثمّ إنّه ذكر في الكفاية ما حاصله: أنّ الاضطرار إلى الحرام لو كان بمقدّمة غير اختياريّة يوجب لأن يكون ملاك الوجوب على تقدير ثبوته فيه مؤثّرا، كما كان مباحا من الأصل بلا كلام حتّى على القول بالامتناع إلى أن قال ما حاصله: إنّما الكلام فيما إذا كان الاضطرار إليه بمقدّمة اختياريّة وصار المضطرّ إليه مقدّمة منحصرة للواجب، فيه أقوال، واختار بعد ذكرها أنّه منهي عنه بالنهي السابق وليس بمأمور به، وقد ذكر قدّس سرّه عند ذكر الثمرات بين الأقوال ما حاصله: أنّه لو اضطر المكلّف بسوء اختياره إلى التصرّف في مكان مغصوب فصلاته فيه حال الخروج صحيحة حتّى على القول بعدم كون نفس الخروج مأمورا به؛ فإنّ هذا لو لا عروض مثل وجه الصلاتي عليه؛ إذ المفروض غلبة ملاك أمره على ملاك النهي عن الغصب.
وأنت خبير بأنّ المستفاد من هذا الكلام قاعدة كلّية وهي أنّ كلّ فعل غلب فيه ملاك الأمر على ملاك النهي فهو مأمور به ولو كان حراما مضطرّا إليه بسوء الاختيار، ولا يخفى أنّ جميع موارد الاضطرار إلى أحد محذورين والدوران بين قبيحين أحدهما أخفّ سواء كان من قبيل الأقلّ والأكثر، كما في مثال من توسّط أرضا مغصوبة- حيث دار أمره بين الغصب بمقدار أربع دقائق أو أزيد- أم من قبيل المتبانيين كما في من ألقى نفسه في مكان يضطرّ فيه إلى شرب الخمر أو قتل النفس يكون من هذا القبيل، يعنى يكون ملاك الأمر في الاخفّ وهو كونه سببا للتخلّص عن المحذور الأشدّ أقوى من ملاك النهي الموجود في ذات الأخفّ، فلا بدّ من القول بكون الأخفّ مأمورا به مطلقا ولو كان الاضطرار بسوء الاختيار.
وحينئذ فما وجه الكلام الأوّل الفارق بين صورتي كون الاضطرار بمقدّمة غير اختيارية وكونه بمقدّمة اختياريّة بالقول في الاولى بوجود الأمر وتخصيص الثانية بالاشكال ثمّ اختيار عدم الأمر؟.
فإن قلت: إثبات الأمر لغلبة ملاكه في مثال من صلّى حال الخروج إنّما هو بالنسبة إلى حيث الصلاتي، ونفيه لمكان سوء الاختيار إنّما هو بالنسبة إلى حيث الخروجي، فلا نقض.
قلت: لا يجدي تعدّد الحيثيّة على القول بالامتناع، والمفروض أنّه قدّس سرّه قائل به، فيقول الخروج المتّحد مع الصلاة في الخروج يكون مأمورا به من أوّل الأمر لغلبة ملاك الأمر، فكذا شرب الخمر في المثال المذكور.
ثمّ أنّه قدّس سرّه في صدر هذا الأمر قسّم الاضطرار إلى الحرام إلى ما كان بمقدّمة غير اختياريّة وما كان بمقدّمة اختياريّة، وقسّم الثاني إلى ما إذا كان المضطرّ إليه مقدّمة غير منحصرة للواجب، وما إذا كان مقدّمة منحصرة له، فجزم في القسم الأوّل بتأثير ملاك الأمر، وفي الأوّل من قسمي القسم الثاني بعدم تأثيره، واستشكل في ثانيهما، ثمّ اختار عدم التأثير، ومقتضى إطلاق كلامه في القسم الأوّل عدم الفرق بين ما إذا كان المضطرّ إليه مقدّمة منحصرة وما إذا كان مقدّمة غير منحصرة.
وأنت خبير بأنّه في صورة كونه مقدّمة غير منحصرة للواجب يتعيّن الوجوب في المقدّمة الاخرى بلا إشكال، مثاله من وقع في الأرض المغصوبة بغير اختياره وكان لخروجه منها طريقان أحدهما مباح والآخر مغصوب؛ فإنّ المتعيّن حينئذ اختيار الطريق المباح.
هذا كلّه على تقدير أن يكون المراد الاضطرار الابتدائي، وأمّا لو كان المراد الاضطرار حين العمل والارتكاب فيرد على تقسيمه قدّس سرّه- المضطرّ إليه في القسم الثاني إلى المقدّمة المنحصرة وغيرها- أنّه كيف يتصوّر كون الفعل المتّصف بالاضطرار حين وقوعه غير منحصر فيه؟.
فإن قلت: لعلّ التقسيم بالنسبة إلى المقدّميّة وعدمها، لا بالنسبة إلى الانحصار وعدمه بعد فرض المقدّميّة.
قلت: عدم المقدّميّة ليس إلّا في الاضطرار العقلي، نظير إهراق الطعام في الفم وهو غير مراد؛ لعدم صحّة التكليف معه، وإنّما المراد الاضطرار العرفي الغير المنافي للاختيار المصحّح للتكليف وهو ليس إلّا فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد محذورين أو محذورات كان أحدها أخفّ، وهذا ملازم للمقدّميّة.
ثمّ إنّه قدّس سرّه ذكر من جملة الفروع التي ذكرها عند بيان الثمرة أنّ الصلاة في الأرض المغصوبة في سعة الوقت صحيحة على القول بالامتناع؛ لغلبة ملاكها على ملاك النهي وكون الباقي من ملاكها ملزما، والصلاة في الأرض المباحة وإن كانت أهمّ لاشتمالها على مصلحتين ملزمتين وهذا موجب لعدم الأمر بهذه الصلاة وإن كان لا يوجب النهي عنها؛ لكنّ الحقّ كفاية الملاك في صحّة العبادة، أمّا كون الباقي من ملاكها بعد الغلبة ملزما فللإجماع على تعيّن الصلاة في ضيق الوقت المستكشف منه كون الباقي مصلحة لازمة الاستيفاء، وأمّا كون الذاهب بالمزاحمة ملزما فإنّ مزاحمة المفسدة الملزمة لا تتأتّى إلّا من المصلحة الملزمة، وحينئذ فالصلاة المذكورة صحيحة وإن كان المكلّف معاقبا على ترك درك الأهمّ.
وفيه أنّ التزاحم ليس بين الملاكين نفسهما حتّى يحتاج إلى الموازنة بينهما وإنّما هو في مقام تأثيرهما في نفس الأمر، والموازنة بينهما في هذا المقام إنّما يحتاج إليها إذا كان رفع اليد من أحد الغرضين متحتّما، وأمّا إذا كان الجمع بينهما ممكنا فاللازم تقييد ذي المندوحة وإن كان أهمّ، فيكون الصلاة في الأرض المغصوبة في سعة الوقت على هذا باطلة على القول بالامتناع.
[التنبيه الثانى]
الأمر الثاني: قد عرفت أنّ محلّ الكلام ما إذا كان المقتضي في كلا العنوانين محرزا في مورد التصادق وأنّ الواجب بحكم العقل بناء على الامتناع تقييد ذي المندوحة من المقتضيين في مقام الإرادة وإن كان أهمّ. وإذن فلا تفاوت أصلا بين أن يكون الدليلان متعرّضين للحكم الاقتضائي أو أحدهما له والآخر للفعلي أو كلاهما للفعلي، فالواجب عقلا في جميع الصور تقييد ذي المندوحة وإن كان دليل غيره متعرّضا للفعليّة وكان أظهر، وكذا على مبنى صاحب الكفاية قدّس سرّه من ترجيح الأقوى والأهمّ مع معلوميّة الأهمّ.
وأمّا لو لم يكن معلوما فإن كان الدليلان متعرضين للحكم الفعلي وكان أحدهما أظهر، فمقتضى الجمع العرفي تحكيم الأظهر على الظاهر وجعله قرينة صارفة له في مورد التصادق، فيكون مدلول الأظهر فعليّا، فيستكشف من ذلك أقوائيّته بطريق الإنّ، ولو تساويا في الظهور فهل يرجع إلى المرجّحات السنديّة ومع فقدها يؤخذ بأحدهما تخييرا اصوليّا، أو يتوقّف من أوّل الأمر ويرجع إلى مقتضي الأصل؟
قولان مبنيّان على أنّ العامّين من وجه في مورد تصادقهما بعد تساويهما في الظهور هل هما مشمولان للأخبار العلاجيّة أو لا، بل مورد تلك الأخبار ما إذا كان بين مضموني الخبر التباين الكلّي ولم يمكن العمل بكليهما معا أصلا، والحقّ هو الثاني، فيكون المرجع هو الأصل، وعلى تقدير القول بالأوّل يحكم تعبّدا بأقوائيّة ما كان دليله أرجح سندا أو مأخوذا طريقا.
ولو كان الدليلان متعرضين للحكم الاقتضائي فالمرجع هو الأصل بلا كلام، وهل هو ما ذا؟ فنقول: إمّا أن يكون الشكّ في أصل وجود الأقوى سواء كان على تقدير وجوده معلوم الوجود في أحد الطرفين بعينه أو مشكوكا أيضا، وإمّا أن يكون في تعيينه مع العلم بأصل وجوده، ففي الأوّل مقتضى أصالة البراءة عن التكليف الايجابي والتحريمي تساوي الملاكين، فيكون الفعل مباحا، ولكن يكون عبادة ومسقطا للأمر؛ لفرض وجود ملاك الأمر فيه مع عدم كونه مبعّدا بمقتضى الأصل المزبور، وفي الثاني مقتضى الأصل في جانب النهي عدم العقاب على هذا الفعل الخاص، وفي جانب الأمر الاجتزاء بهذا الفرد؛ لرجوع الشكّ في الأوّل إلى أنّ التحريم هل يسري إلى هذا الخاص أولا، وفي الثاني إلى أنّ المطلوب هل هو المطلق أو المقيّد بالوقوع في غير المكان المغصوب، فيكون طرفا الشك من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيين، والمرجع فيهما البراءة.
وكيف كان لمّا بنوا في هذا الباب على ما هو المبنى في باب الدوران بين المتزاحمين من ترجيح أقوى المناطين احتاجوا إلى ذكر وجوه لتعيين الأقوى:
فمنها: أظهريّة دلالة دليل الحرمة من دليل الوجوب، فيستكشف بطريق الإنّ أقوائيّة مناط الحرمة دائما فيما إذا كان الدليل على كلّ واحد من الوجوب والحرمة لفظيّا ومتكفّلا للحكم العقلي.
وتوضيحه أنّ دلالة النهي على سراية الحرمة إلى جميع أفراد الطبيعة أقوى من دلالة الأمر على سريان الوجوب إلى جميعها، وذلك لأنّ الاولى مسبّبة عن الوضع، والثانية مستندة إلى الإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة، والظهور الوضعي يقدّم على الظهور الإطلاقي عند التعارض.
ووجهه على ما قرّره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في مبحث التعادل والتراجيح من الرسائل أنّ انعقاد الظهور الإطلاقي متقوّم ومتوقّف على مقدّمات تسمّى بمقدّمات الحكمة، ومن جملتها عدم البيان، ولا شكّ أنّ الظهور الوضعي هو البيان فيكون له الورود على الإطلاقي بمعنى أنّه ينتفي بسببه موضوع الإطلاقي.
وفيه نظر؛ لأنّ الظهور الإطلاقي إنّما يتقوّم بعدم البيان المتّصل لا بعدم البيان المطلق ولو كان منفصلا، بمعنى أنّ المتكلّم ما دام مشتغلا بالكلام لو لم يذكر ما يصلح للقيديّة ثمّ فرغ وكان سائر مقدّمات الحكمة موجودة انعقد من هذا الحين الظهور الإطلاقي، لا أنّ انعقاده مشروط بعدم ورود البيان ولو بعد أزمان، فلو ورد بعد ذلك ظهور وضعي مناف له كان من باب التعارض بين الظهورين، فلا بدّ من مراعاة الأقوى بينهما وربّما كان هو الإطلاقي، وبالجملة فالحكم بتقديم الوضعي على الإطلاقي بمجرّد كونه إطلاقيّا وبطريق الكليّة ممنوع.
وقد يخدش في أصل الدليل بأنّ الطبيعة كما يصلح للإطلاق كذلك يصلح للتقييد، فدلالة اللفظ الموضوع لها على خصوص الإطلاق يحتاج إلى معونة مقدّمات الحكمة، من غير فرق في ذلك بين وقوعه في حيّز الإثبات أو النهي، فكما أنّ إسراء الحكم الوجوبي المستفاد من الأمر إلى جميع أفراد الطبيعة يحتاج إلى تلك المقدّمات، كذلك إسراء الحكم التحريمي المستفاد من النهي إليها بلا فرق.
ولكنّ الحقّ هو الفرق بين وقوع المطلق في حيّز الإثبات ووقوعه في حيّز النفي أو النهي، ففي الأوّل نحتاج في إسراء حكمه إلى تمام الأفراد إلى المقدّمات المذكورة وفي الثاني لا نحتاج.
وبيانه أنّه لا بدّ في باب الألفاظ بأسرها من المطلقات والألفاظ الدالّة بالوضع من الفراغ عن مقدّمة، وبعد اشتراكهما في الاحتياج إلى تلك المقدّمة يتفرّد المطلقات بالاحتياج إلى أمر زائد، وهذه المقدّمة هي أنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم أن يكون صادرا بغرض تفهيم المراد وإفادة المقصود لا بغرض آخر كتعلّم اللغة ونحوه، ففي غير المطلقات يعلم المقصود بعد إجراء هذا الأصل، ولم تبق حالة منتظرة، فالشاكّ في مجيء زيد بسبب إجراء الأصل في كلام القائل: جاء زيد، يستفيد المقصود.
وأمّا المطلقات فليست موضوعة بإزاء المطلق حتّى يعلم المقصود فيها أيضا بمجرّد إجراء الأصل المذكور فيحكم في قوله: اعتق رقبة بمطلوبيّة مطلق الرقبة، بل إنّما وضعت بإزاء المعنى اللابشرط المقسمي الصالح للإطلاق والتقييد على ما هو المشهور المتصوّر المأثور من سلطان المحقّقين قدّس سرّه.
فالذي يستفاد من قوله: أعتق رقبة بحسب الدلالة الوضعيّة ليس إلّا مطلوبيّة عتق هذه الطبيعة المهملة، وحيث إنّ من المعلوم أنّ المراد اللبّي ومتعلّق الغرض الجدّي النفس الأمري ليس إلّا المطلق أو المقيّد، فبعد إحراز كون المتكلّم بصدد بيان تمام المراد اللبّي وإثبات عدم إرادة المقيّد بواسطة عدم ذكر القيد يثبت قهرا إرادة المطلق.
وبالجملة الفارق بين المطلقات وغيرها أنّ المدلول الوضعي في غيرها واف بتمام المقصود، فلا جرم لا حاجة إلى غير الأصل المذكور، وفيها قاصر عن تمامه، فلا جرم يحتاج في التتمّة إلى إحراز المقدّمات المذكورة، بحيث لو لم يحرز تلك المقدّمات لم يمكن إلزام المتكلّم بإرادة المطلق؛ إذ مع عدم إحراز كونه بصدد البيان له أن يقول:
إنّي لست إلّا بصدد بيان هذا المقدار من الغرض، كما في قول الطبيب: لا بدّ لك من شرب الدواء، وهذا بخلاف المطلق الواقع في حيّز النفي أو النهي، فإنّه يكتفي في إسراء حكمه إلى تمام الأفراد بمجرّد الدلالة الوضعيّة من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة؛ فإنّ الظاهر من قولك: لا رجل «مثلا» تعلّق النفي بما هو مفاد لفظ الرجل وضعا من الطبيعة المهملة، ولازمه عقلا انتفاء تمام الأفراد؛ إذ عدم الكلّي إنّما يكون بعدم كلّ ما له من الأفراد؛ فإنّ الطبيعة لأجل إضافة الوجودات المتعدّدة إليها لا يضاف إليها إلّا عدم واحد وهو عدم تمام تلك الوجودات، وكذا الكلام في النهي.
ونظير هذه الخدشة مع جوابها يجري في لفظة «كل» مع مدخولها؛ فإنّه ربّما يقال بأنّ هذه اللفظة وإن كانت موضوعة لاستيعاب جميع الأفراد، إلّا أنّها سعة وضيقا تابعة لمدخولها، فإن كان مطلقا كانت لاستيعاب أفراد المطلق، وإن كان مقيّدا كانت لاستيعاب أفراد المقيّد، ومن الواضح أنّ إثبات إرادة الإطلاق من المدخول يحتاج إلى مقدّمات الحكمة، فدلالة هذه اللفظة على استيعاب أفراد الطبيعة أيضا يحتاج إليها.
والجواب أنّ هذه اللفظة موضوعة لاستيعاب كلّ ما لمدخوله من الأفراد، والطبيعة المهملة حاوية لأفراد الطبيعة المطلقة، ومع ذلك لا يلزم التجوّز في قولك:
كلّ رجل عالم؛ لما عرفت من كونها موضوعة لاستيعاب ما يكون لمدخوله من الأفراد، كما لا يلزم التجوّز في النهي فيما لو جعل متعلّقا بالغصب الخاص، والحاصل أنّ هذه اللفظة وأداة النفي والنهي يكون بمنزلة مقدّمات الحكمة في إعطاء وصف الإطلاق للطبيعة المهملة.
ومنها: أنّ مراعاة جانب الأمر جلب للمنفعة ومراعاة جانب النهي دفع للمفسدة، ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
وأورد عليه في القوانين بأنّه لا فرق في ثبوت المفسدة بين الطرفين؛ إذ في ترك الواجب أيضا مفسدة.
وأورد عليه في الكفاية بأنّ الواجب لا بدّ وأن يكون في فعله مصلحة لا أن يكون في تركه مفسدة، كما أنّ الحرام لا بدّ وأن يكون في فعله مفسدة لا في تركه مصلحة.
وفيه أنّا لا نعني بكون الشيء حسنا وذا مصلحة وكونه قبيحا وذا مفسدة إلّا مجرّد استحسان العقل إيّاه في الأوّل واشمئزازه منه في الثاني، من دون لزوم ترتّب شيء عليه يكون هو المنشأ للحسن والقبح، نظير استحسان الشامّة لبعض الروائح واشمئزازه عن بعضها؛ لوضوح أنّ الموجود ليس إلّا نفس الرائحة من دون أن يكون في البين شيء آخر ورائها يكون هو المنشأ للحسن والقبح عند الشامّة.
فالحسن والقبيح العرضيّان لا بدّ وأن ينتهيا إلى ما يكون بالذات حسنا أو قبيحا وإلّا يلزم التسلسل، فالظلم قبيح في نفسه لا بمعنى ترتّب شيء عليه؛ إذ ننقل الكلام في هذا الشيء وهكذا إلى غير النهاية، بل بمعنى أنّه ممّا يشمئزّ منه العقل وإن لم يرتّب عليه ضرر دنيوي ولا بعد عن ساحة المولى كما عند الدهري.
وحينئذ فلا شكّ أنّ العقل النيّر لمّا يشمئز من فعل الحرام كذلك من ترك الواجب بلا فرق، ألا ترى أنّك كما تبتهج بإنقاذ أحد متعلّقيك من الأخ والابن ونحوهما، كذلك يسوء حالك من ترك إنقاذه.
ويرد على الوجه المذكور أيضا أنّ محلّ هذه القاعدة ما إذا دار الأمر بين جلب المنفعة ودفع المفسدة ولم يمكن الجمع بينهما، لا ما إذا أمكن الجمع كما فيما نحن فيه حيث إنّ المكلّف متمكّن من جلب المنفعة ودفع المفسدة معا بإتيان المأمور به في غير الفرد المنهيّ عنه، مع أنّ الأوّلية في مورد الدوران مطلقا ممنوعة؛ إذ هي تابعة للأهمّية وربّما تكون في جانب المصلحة.
ويرد أيضا أنّ القاعدة المذكورة أجنبيّة عن المقام؛ إذ الكلام فيه في أنّ الحكم الشرعي لمحلّ الاجتماع ما ذا يكون من الوجوب أو الحرمة بحسب الواقع، ومن الواضح كون ذلك دائرا مدار غالبيّة كلّ من المناطين واقعا، وهذه القاعدة نافعة بحال المكلّف الجاهل بالواقع، فيرجّح الفعل على الترك بقضيّة أنّ المفسدة الآتية من قبل النهي دفعها أولى من جلب المنفعة الآتية من قبل الأمر.
ومنها: أنّ استقراء حكم الشارع في مواضع التعارض بين الوجوب والحرمة كحرمة صلاة الحائض في أيّام الاستظهار وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين بل الأمر بإهراق مائهما يعطي قاعدة كلّية هي: أنّ كلّ موضع تعارض فيه الوجوب والحرمة فحكم الشارع فيه تغليب الحرمة.
وفيه أوّلا: أنّ الاستقراء لا يحصل بهذا المقدار، وثانيا: أنّ المسألة الثانية ليست ممّا تعارض فيه الوجوب والحرمة؛ إذ لا حرمة فيها في البين أصلا، وذلك لعدم حرمة استعمال الماء النجس في الوضوء وعدم حرمة الدخول معه في الصلاة، غاية الأمر عدم الإجزاء في المقامين، وكذا المسألة الاولى لو قلنا بعدم الحرمة الذاتيّة لصلاة الحائض وكون النهي للإرشاد إلى فقدان شرطها وهو الطهارة، كما عليه المشهور، كما يظهر من حكمهم في موارد اشتباه حال الدم وعدم الفتوى بالاحتياط بالجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة؛ إذ لا يمكن الاحتياط على القول بالحرمة الذاتيّة؛ لدوران أمر الصلاة بين الوجوب والحرمة.
وأمّا لو قلنا بالحرمة الذاتيّة فالصلاة المذكورة وإن كانت ممّا تعارض فيه الوجوب والحرمة، إلّا أنّ تغليب الحرمة فيها لم يعلم كونه من جهة مراعاة نفس الحرمة؛ لاحتمال أن يكون لأجل وجود الأصل الموضوعي في طرفيها أعني:
الاستصحاب وقاعدة الطهارة، فلو فرض وجود هذا الأصل في طرف الوجوب كان هو المقدّم كما في الصلاة في أوّل زمان رؤية الدم قبل استقرار العادة لو قلنا بعدم جريان قاعدة الإمكان هنا واختصاصها بما بعد استقرار الحيضيّة بمضيّ الثلاثة، فيحكم فيها بالوجوب؛ لوجود الأصل الموضوعي في طرفه وهو استصحاب الطهارة.
بقي الكلام في أنّ الحكم في مسألة التوضؤ من الإنائين بعد عدم الحرمة ما ذا وإن كان أجنبيّا عن المقام، فنقول: في بعض الأخبار أنّه «يهريقهما ويتيمّم» فيحتمل أن يكون مورد هذا الأخبار أعمّ ممّا إذا كان كلّ من الماءين بقدر الوضوء فقط وممّا إذا كان الماء الثاني بقدر التطهير والوضوء أو كان كرّا.
وحينئذ يكون الحكم بإهراق الماءين والتيمّم تعبديّا، ويحتمل أن يكون خصوص ما إذا كان كلّ منهما بقدر الوضوء خاصّة، فيكون الحكم حينئذ على وفق القاعدة، إذ مقتضي القاعدة رفع اليد من هذين الإنائين؛ إذ يلزم من استعمالهما القطع بابتلاء البدن بالنجاسة مع عدم رفع الحدث إلّا احتمالا، ويكون الأمر بالإهراق كناية عن عدم نفعهما في رفع شيء من الحدث والخبث لا أن يكون حكما تعبديّا.
وحينئذ يبقى الموردان الآخران تحت القاعدة، فالمشهور على أنّ مقتضي القاعدة فيهما هو التوضؤ من الأوّل ثمّ تطهير مواضع الملاقاة بالثاني ثمّ التوضؤ منه؛ فإنّه لو فعل ذلك لقطع بحصول رفع الحدث كما هو واضح، وأمّا الخبث فيتعارض الأصلان فيه؛ وذلك لأنّه يعلم بحدوث التنجّس عند ملاقاة الماءين ويشكّ في بقائه، وكذا يعلم بحصول الطهارة عند ملاقاة أحدهما ويشكّ في بقائهما، فالاستصحابان متعارضان فيرجع إلى قاعدة الطهارة، فيصير المكلّف واجدا للطهارة من الحدث ومن الخبث ظاهرا، فيجوز له الدخول في الصلاة.
وذهب المحقّق الخراساني قدّس سرّه إلى عدم جريان شيء من الاستصحابين ليكونا متعارضين لأنّه يعتبر في الاستصحاب إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين لو لوحظت الأزمنة بطريق القهقرى وهذا مفقود في المقام؛ لأنّ زمان اليقين بالطهارة هو زمان الفراغ عن استعمال الماء الطاهر، وزمان اليقين بالنجاسة زمان الفراغ عن استعمال الماء النجس وكلاهما مردّد بين الزمانين، وزمان الشكّ في الطهارة والنجاسة هو الأزمنة المتأخّرة وهي متّصلة بزمان الفراغ عن استعمال الماء الثاني ولم يحرز كونه زمان اليقين بالطهارة ولا زمان القطع بالنجاسة. هذا إذا كان الماء الثاني كرّا ليكون بمجرّد إصابته مطهّرا لمواضع الملاقاة على تقدير تنجّسها بالماء الأوّل.
وأمّا لو كان قليلا وكافيا للتطهير والوضوء فحيث إنّ التطهير به حينئذ على تقدير نجاسة الماء الأوّل يتوقّف على التعدّد تكون النجاسة عند الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء الثاني منتفية؛ لدوران الأمر بين أن تكون النجاسة حادثة بالماء الأوّل وباقية إلى هذا الحين وأن تكون حادثة بالماء الثاني، وعلى أيّ حال يكون المحلّ متنجّسا في هذا الحال، فيكون زمان الشكّ في النجاسة وهو الأزمنة المتأخّرة عن هذا الحين متّصلا بزمان اليقين بها، بخلاف زمان الشكّ في الطهارة؛ فإنّه لم يحرز اتّصاله بزمان اليقين بها، لدوران الأمر بين أن يكون زمان اليقين بها زمان الفراغ عن الغسلة الثانية بالماء الثاني وأن يكون زمان الفراغ من استعمال الماء الأوّل، فلهذا يكون استصحاب النجاسة حينئذ جاريا بدون استصحاب الطهارة.
وحينئذ يصير المكلّف بواسطة العمل المذكور طاهرا من الحدث واقعا ومبتلى بالخبث ظاهرا، فيدور الحكم مدار أهميّة الطهارة المائيّة بنظر الشارع أو طهارة البدن عن الخبث، فإن قيل بأهميّة الثاني- كما يظهر من حكمهم بصرف الماء في رفع الخبث عند دوران الأمر بينه وبين الصرف في رفع الحدث- كان المتعيّن هو التيمّم.
والحاصل أنّ التوضّؤ من الإنائين المشتبهين له صور، أحدها: أن يكون كلّ من الماءين بقدر الوضوء، وهذا هو المتيقّن من مورد الأخبار، والثانية: أن يكون الثاني بقدر التطهير والوضوء قليلا كان أو كرّا، والثالثة: أن يكون كلّ منهما بقدر الوضوء والتطهير، فيتوضّأ بالأوّل ثمّ يطهر بالثاني، ثمّ يتوضّأ به ثمّ يطهر بالأوّل، فإن قلنا بشمول الأخبار لجميع هذه الصور كان الحكم تعبّديا، والأمر بالإهراق إمّا نفسيّ، وإمّا كناية عن عدم الاعتناء بالماءين، وإن قلنا بانصرافها إلى الصورة الاولى فلا بدّ في الصورتين الأخيرتين من المشي على القواعد، وقد مضى الكلام في أدلتها وأنّ مختار المشهور فيها متّحد مع مختار المحقّق المذكور نتيجة مع كرّية الماء الثاني، ومختلف معه فيها مع كونه قليلا، وبقي الكلام في الثانية.
فنقول: القائل في الصورة الثانية بجريان الاستصحابين وتعارضهما يقول به هنا بلا فرق، وأمّا القائل هناك بجريان استصحاب النجاسة بلا معارض مع كون الماء الثاني قليلا فلا بدّ أن يقول هنا بعدم جريانه، مع أنّ هذه الصورة مشتركة مع الصورة السابقة في إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، غاية الأمر أنّ زمان اليقين هنا زمان الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء الأوّل في المرّة الثالثة لا زمان الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء الثاني؛ إذ النجاسة فيه مقطوع الارتفاع؛ إذ لو كانت هي الباقية فقد ارتفع بالغسلة الثانية بالماء الثاني، وإن كانت هي الحادثة فقد ارتفعت بالغسلة الثانية بالماء الأوّل، بخلاف النجاسة في زمان الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء الأوّل؛ فإنّها لو كانت هي الباقية كانت زائلة بالغسلة الثانية، ولو كانت هي الحادثة كانت باقية بعدها.
ولكنّه مع ذلك لا يمكن جريان الاستصحاب فيها؛ لأنّ نقض اليقين فيها شبهة مصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ، لاحتمال أن يكون نقضا لليقين باليقين، توضيحه أنّه لا شكّ في أنّا قاطعين في هذه الصورة بوجود الطهارة والنجاسة المقطوعتي الارتفاع، والطهارة المقطوعة الارتفاع هي السابقة على الاستعمال، والنجاسة المقطوعة الارتفاع يحتمل أن يكون هي نفس هذا الذي نستصحبه إن كان الماء الثاني نجسا، وأن يكون غيره إن كان الماء الأوّل نجسا، فعلى الأوّل لا يكون نقض المستصحب في الآن اللاحق إلّا نقضا لليقين باليقين أي نقضا لوجوده المتيقّن في الزمان السابق بعدمه، المتيقّن في الزمان اللاحق.
بقي الكلام في أنّه هل يعتبر في الاستصحاب اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين كما ذهب إليه المحقّق المذكور أولا؟ فنقول: الظاهر أنّه غير معتبر؛ لعدم مساعدة الدليل عليه، ولكن هنا مطلبا لازمه عدم جريان الاستصحاب في جميع مواضع عدم إحراز الاتصال وفي بعض مواضع إحرازه، وهو أنّ ما هو وظيفة الاستصحاب وشأنه ليس إلّا توسعة زمان المستصحب وجعله طويلا، وإضافة الزمان المشكوك إلى الزمان المقطوع، وليس من وظيفته تطبيق الزمان المتيقّن على زمان خارجيّ
مثلا لو استعمل الماء الأوّل، ثمّ استعمل بعد انقضاء ساعة الماء الثاني في مدّة أربع دقائق، ثمّ غسل مواضع الملاقاة بعد انقضاء ساعة بكرّ طاهر، وهاتان الساعتان زمان الشكّ، والدقائق الأربعة المتوسطة يقطع فيها بالنجاسة، والزمان المتيقّن للنجاسة ساعة وأربعة دقائق، وهذه الساعة مردّدة بين الساعة الاولى والثانية، فاستصحاب النجاسة في الساعة الأخير معيّن لتلك الساعة في هذه الساعة الخارجيّة من دون أن يزداد أو ينقص بذلك زمان النجاسة.
ولا فرق بين هذا المثال وغيره كما إذا كانت النجاسة مردّدة بين التحقّق في دقيقتين والتحقّق في ساعات كثيرة إلى أيّ حدّ بلغت؛ فإنّ الاستصحاب في الأزمنة المتأخّرة حينئذ وإن كان يوجب زيادة زمان النجاسة، إلّا أنّه لا يجري في هذه الأزمنة إلّا بعد صحّة جريانه في أوائل أزمنة الشكّ، فننقل الكلام في الدقيقة الاولى من ازمنته.
فنقول: هنا ثلاث دقائق، فالوسطى منها نقطع فيها بالنجاسة وطرفاها زمان الشكّ، والمتيقّن تحقّق النجاسة في دقيقتين ونشكّ في أنّ حدوثها في الدقيقة الاولى وبقائها وانتهائها في الوسطى، أو أنّ حدوثها في الوسطى وبقائها في الأخيرة؟.
فاستصحاب النجاسة في الدقيقة الأخيرة معيّن لمبدا الحدوث في الوسطى وزمان البقاء في الأخيرة من دون أن يزيد أو ينقص بذلك زمان النجاسة، وهذا الكلام جار أيضا في استصحاب النجاسة في الصورة الثالثة، أعني ما إذا كان كلّ من الماءين قليلا وكافيا للتطهير والوضوء.
مثلا لو فرضنا كون النجاسة حينئذ بعد التطهير بالماء الأوّل مردّدة بين التحقّق في ثلاث دقائق أو ساعات كثيرة فننقل الكلام في الدقيقة الاولى من أزمنة الشكّ ونقول: هنا أربع دقائق نقطع في ثالثتها بالنجاسة ونشكّ في أوّليهما وهما دقيقتا التطهير والوضوء بالماء الثاني واخيرتهما وهي ما بعد الغسلة الثانية بالماء الأوّل مع العلم بتحقّق النجاسة في دقيقتين، فاستصحاب النجاسة في الأخيرة معيّن لها بين الدقيقتين في الثالثة والأخيرة.
[التنبيه الثالث: الكلام فى باب الاسباب]
الأمر الثالث: ومن جملة ما تمسّك به المجوّزون باب الأسباب؛ فإنّ الغسل الواحد مثلا يكفي للجنابة والجمعة، مع أنّ الأوّل سبب للوجوب والثاني للاستحباب، وكذا الكلام في منزوحات البئر؛ فإنّ وقوع الكلب سبب لوجوب نزح الأربعين، وكذا وقوع الهرّة، فإذا وقع كلبان أو كلب وهرّة وجب أربعين واحد، فيجتمع في نزحها وجوبان، فيعلم من ذلك أنّ تعدّد الجهة كاف في جواز اجتماع حكمين متضادّين أو متماثلين في شيء واحد.
أقول: الكلام في باب الأسباب يقع في مقامين:
أحدهما أنّ مقتضى القاعدة هل هو كفاية الفعل الواحد لسببين أو أسباب، أو لزوم تعدّده بتعدّد سببه، وبعبارة اخرى مقتضى القاعدة هو التداخل إلّا ما خرج بالدليل أو عدمه كذلك؟
والثاني أنّه هل يصحّ التمسّك بهذا الباب للقول بالجواز أو أنّه غير مرتبط بمبحث الاجتماع رأسا؟.
أمّا المقام الأوّل فنقول: جعل طبيعة سببا لفعل باتلائها لإن وإذا ونحوهما كما في قولك: إذا نمت فتوضّأ يتصوّر على وجوه، أحدها: أن يكون الطبيعة في جانب السبب مأخوذة باعتبار صرف الوجود في مقابل العدم الأصلي بحيث كان السبب نقض عدمها وتبدّله بالوجود، والثاني: أن يكون مأخوذة باعتبار الوجود الساري، فعلى الأوّل يكون السبب واحدا، لأنّ صرف الوجود لا يقبل التكرار ويتعيّن في الوجود الأوّل للطبيعة؛ إذ به يحصل النقض دون سائر الوجودات، وعلى الثاني يكون متعدّدا، فكلّ وجود سبب مستقل.
وعلى التقديرين يمكن أخذ الطبيعة في جانب المسبّب لكلّ من الاعتبارين، فإن احدث في جانب المسبّب باعتبار الوجود الساري وفي جانب السبب باعتبار صرف الوجود، فالمسبّب لا يتكرّر بتكرّر الفرد من هذا السبب، فإنّه وإن كان قابلا لأن يتكرّر بتكرّر السبب، إلّا أنّ السبب لا يتكرّر، نعم يتكرّر بتكرّر الفرد من هذا السبب ومن سبب آخر.
وإن احدث في جانب السبب أيضا باعتبار الوجود الساري فالمسبّب يتكرّر بتكرّر الفرد من هذا السبب، ومنه ومن سبب آخر، ولو احدث في جانب المسبّب باعتبار صرف الوجود فلا يفرق الحال بين أن يؤخذ في جانب السبب أيضا بهذا الاعتبار أو باعتبار الوجود الساري.
فعلى التقديرين لا يتكرّر المسبّب لا لفردين من هذا السبب ولا لفردين منه ومن غيره، فالسبب وإن كان متعدّدا وقابلا للتكرار إلّا أنّ المسبّب واحد لا يقبل التكرار أصلا، هذا هو الوجوه المتصوّرة في هذا الباب ولا إشكال في إمكان كلّ منهما عقلا ولا في الآثار المترتبة على كلّ منها على تقدير القطع به، إنما الكلام والإشكال في أنّ المستفاد من الأدلّة أيّ منها؟.
فذهب شيخنا المرتضى قدّس سرّه إلى أنّ ما يستفاد من الأدلّة ويكون قاعدة كلّية هو عدم التداخل ويكون معمولا به في مورد الشكّ كباب المنزوحات، لا في مورد القطع بالتداخل من جهة النصّ الخاص كما في باب الأحداث، لقوله عليه السلام: «إذا اجتمعت للّه عليك حقوق أجزأك غسل واحد».
والدليل على هذه الدعوى وإن كان أصله مأخوذا من كلماته قدّس سرّه في مواضع عديدة من كتبه، إلّا أنّا نذكره مع زيادة تنقيح ليست في كلامه قدّس سرّه وهو: أنّ القضيّة المبدوّة بإن وإذا ونحوهما على ما هو المعروف أو المجمع عليه ظاهرة في عليّة الشرط للجزاء وكونه علّة منحصرة، فيكون منطوقها بمقتضى الأوّل الثبوت عند الثبوت، ومفهومها بمقتضى الثاني الانتفاء عند الانتفاء، ولا يخفي أنّ مقتضى إطلاق القضيّة تحقّق العليّة التامّة لجميع مصاديق الطبيعة التالية لأداة الشرط، فكما أنّ الموجود أوّلا من مصاديقها يكون مؤثّرا تامّا فكذا الموجود منها ثانيا وثالثا وهكذا أيضا يكون مؤثرا تامّا مستقلا كالأوّل بلا فرق، لتحقّق الطبيعة في جميعها، فقوله: إذا نمت فتوضّأ مثلا وإن كان رفع اليد عن ظهوره في المنحصريّة للقطع بعدمها لقوله: إذا بلت فتوضّأ، إلّا أنّ ظهوره في عليّة النوم للوضوء محفوظة، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين ما وجد من مصاديق النوم أوّلا وما وجد منها ثانيا وثالثا وهكذا، وتخصيص العليّة بالموجود منها أوّلا تقييد للنوم في القضية بأوّل الوجودات أو بالوجود الغير المسبوق بالوجود من دون مقيّد.
فإن قلت: ما وجه الفرق بين قولنا: النوم واجب والنوم سبب، حيث نقول في الأوّل بكون مقتضى الإطلاق اختصاص الوجوب بأوّل الوجودات وفي الثاني بكون مقتضاه سراية السببية إلى جميع الوجودات؟
قلت: الأسباب العادية الدنيويّة المعلومة عند العرف يكون السببيّة فيها متعلّقة بالوجود الساري كحرارة النار السارية إلى كلّ فرد منها، وحينئذ فالأسباب الشرعيّة وإن كان العرف جاهلا بأصل سببيّتها لو لا إعلام الشرع، ولكن إذا أعلم الشرع بها وسكت عن بيان كيفيّة سببيّتها كان إطلاق كلامه محمولا على الكيفيّة المرسومة المتعارفة عند العرف، أعني السببيّة بلحاظ الوجود الساري، فمرسوميّة هذا النحو من السببيّة أعني سببيّة الوجود الساري وتعارفها عند العرف قرينة عامّة موجبة لحمل إطلاق الكلام الدالّ على السببيّة عليه.
فهذا نظير استفادة كيفيّة تأثير النجاسات في التنجيس وأنّه يكون على وجه الملاقاة دون المجاورة وغيرها من كون الغالب في التأثيرات العاديّة كونها على هذا الوجه، فقوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» مفهومه أنّ الماء القليل ينجّسه النجاسات، وأمّا كيفيّة تنجّسها له فهذا الكلام ساكت عنها، فيحمل على كونه بوجه الملاقاة بقرينة أنّ الغالب في التاثيرات العاديّة ذلك، وهذا بخلاف وصف الوجوب؛ فإنّ تعلّقه بالطبيعة باعتبار صرف الوجود شائع في العرف والعادة.
فإن قلت: سلّمنا ظهور إطلاق القضيّة المبدوّة بإن وإذا في تعدّد السبب بالقرينة المذكورة، لكنّا نقول: إنّ الأسباب المتعدّدة المتعاقبة في الوجود يختصّ أوّلها بالتأثير ويلغو الثاني لو كان المسبّب غير قابل للتعدّد والتكرار، والمسبّب في باب الأسباب الشرعيّة هو الطبيعة المأمور بها كالتوضّؤ في قوله: إذا نمت فتوضّأ، وهي غير قابلة للتكرار؛ لأنّها باعترافكم مأخوذة بلحاظ صرف الوجود الخارق للعدم، وخرق العدم لا يمكن إلّا مرّة واحدة، فالأفراد المتعدّدة المتعاقبة من النوم مثلا لا تأثير إلّا لأوّلها؛ لعدم قابليّة المحلّ إلّا لتأثير واحد، نظير عدم تأثير النار في إحراق المحلّ بعد احتراقه بنار اخرى، والحاصل أنّ السبب وإن كان متعدّدا إلّا أنّ المسبّب والتأثير واحدان.
قلت: أخذ الطبيعة في جانب الوجوب بلحاظ صرف الوجود إنّما يكون من باب الأخذ بالقدر المتيقّن، وبيانه أنّ الطبيعة المهملة من حيث الوجود والعدم لمّا لم يكن وقوعها متعلّقا للطلب كان اللازم بحكم العقل اعتبار الوجود معها، والوجود المعتبر يمكن أن يكون هو الوجود المخصوص، وأن يكون هو الوجود الساري، وأن يكون صرف الوجود، والأوّلان مشتملان على الأخير مع الزيادة، وحينئذ فحيثما كان المتكلّم في مقام البيان ولم يقم في البين قرينة على اعتبار الخصوصيّة أو السريان فإطلاق كلامه محمول على اعتبار صرف الوجود، فعلم أنّ ظهور طلب الطبيعة في مطلوبيّة صرف الوجود إنّما يكون ناشئا من جهة الإطلاق وكونه قدرا متيقّنا.
وحينئذ فلو قام دليل على أنّ المعتبر هو الوجود بقيد السريان كان له الورود على الظهور المذكور، وعلى هذا فإذا كان ظاهر القضيّة المبدوّة بإن وإذا على ما قرّرنا سببيّة كلّ وجود وتأثيره الفعلي المستقل- ومن المعلوم عدم إمكان تعدّد السبب الفعلي إلّا مع قابليّته المسبّب للتكرار- كان هذا دليلا على أنّ الوجود المعتبر في جانب المسبّب مع كونه مأمورا به هو الوجود الساري القابل للتكرار دون صرف الوجود الغير القابل له.
فإن قلت: سلّمنا تعدّد السبب وتعدّد التأثير لكن نقول: المسبّب للأسباب الشرعيّة هل هو الوجود أو الوجوب؟ لا إشكال في عدم كونه هو الوجود وإلّا لزم تحقّق الوضوء عقيب النوم مثلا، فتعيّن أن يكون هو الوجوب، وحينئذ فتعدّد السبب يقضي بتعدّد الوجوب وهو لا يقضي بتعدّد الوجود، لإمكان اجتماع الوجوبات المتعدّدة في وجود واحد وصيرورتها وجودا واحدا متأكّدا، كما لو قال: أكرم عالما وأكرم هاشميّا؛ فإنّ إتيان المجمع حينئذ متّصف بالوجوب المتأكّد، وبعد هذا القول لا يخفى أنّ الوجوب في دليل سببيّة هذه الأسباب متعلّق بعنوان واحد كالتوضّؤ ونزح الأربعين من دون تقييد بما يقيّد بعدد الوجود بتعدّد الوجوب، فيكون ظاهرا في اجتماع الوجوبات في الوجود الواحد وصيرورتها وجوبا واحدا متأكّدا نظير قول المولى: اضرب اضرب، فإنّه بإطلاقه وعدم تقييد الضرب الثاني بالمرّة الاخرى ظاهر في كون المطلوب ضربا واحدا وكون طلبه شديدا.
قلت: المسبّب للأسباب الجعليّة التشريعيّة يكون هو الوجود لكن لا على نحو مسببيّته للأسباب العقليّة التكوينية؛ فإنّها فيها تكون على وجه يلزم من وجود السبب وجود المسبّب، وأمّا في التشريعيّات فوجود الأسباب أيضا مقتض لوجود المسبّبات لكن بجعل الآمر في نظره، وأمره بإيجاد المسبب ناش من قبل هذا الاقتضاء، فكأنّه يجعل المكلّف حادثا للمقتضي ويأمره بانفاذ اقتضائه وإجرائه وترتيب مقتضاه عليه، ونظيره قول القائل: البيت صار كثيفا ويقتضي الكنس، فيثبت الاقتضاء لنفس كثافة البيت، غاية الأمر أنّه لمّا يرى المقتضي قاصرا يأمر الغير بإنفاد اقتضائه، فعلم أنّ تعدّد السبب في الأسباب الشرعيّة قاض بتعدّد الوجود.
فإن قلت: سلّمنا تعدّد السبب وتعدّد التأثير وكون المسبب هو الوجود دون الوجوب، لكن نقول هذا لا يقتضي تعدّد الوجود؛ وذلك لأنّ كلّ فرد من أفراد هذه الأسباب يقتضي وجود عنوان، والعناوين التي تكون مسبّبات لها متصادقة في وجود واحد، فيحصل امتثال أوامرها بإتيان وجود واحد كما يحصل أكرم العالم وأكرم الهاشمي بإكرام المجمع.
قلت أوّلا: إن المفروض اتحاد عنوان المسبّب لهذه الأسباب كعنوان التوضّؤ ونزح الأربعين، ومع فرض اتّحاد العنوان يكون تعدّد السبب قاضيا بتعدّد الوجود بلا إشكال.
وثانيا: لو شككنا في مقام في أنّ المسبّب عنوان واحد أو عناوين متعدّدة فالمرجع هو الاشتغال دون البراءة؛ إذ بعد اليقين بأنّ تحقّق كلّ سبب اقتضى تحقّق شيء واشتغال الذمّة والتعهّد به نشكّ في أنّ المشتغل به يكون عنوانا واحدا أو عناوين متعدّدة غير متصادقة في فرد أصلا، حتى لا يحصل الفراغ بالوجود الأوّل، أو يكون عناوين متعدّدة متصادقة في الوجود الأوّل حتّى يحصل الفراغ به، فنحكم بوجوب تعدّد الوجود وليحصل الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني، فالشكّ إنّما هو في حصول الامتثال والخروج عن العهدة بعد العلم بثبوت التكليفين لا في التكليف الزائد حتى يكون مرجعا للبراءة، كما هو واضح.
ثمّ إنّ هذا الدليل كما يجري في الفردين من نوع واحد كوقوع الكلبين كذلك يجري في النوعين كوقوع الكلب والهرّة بتقريب أنّ تخصيص السببيّة بالنوع الأوّل تقييد لدليل سببيّة النوع الثاني؛ لعدم مسبوقيّة وقوعه لوقوع النوع المقتضي لنزح المساوي أو الأكثر، فيكون مدفوعا بالإطلاق، ويمكن هنا إيراد الإشكالات الثلاثة الأخيرة مع دفعها بمثل ما مرّ من الأجوبة، هذا محصّل كلامه قدّس سرّه مع تنقيحه.
والحقّ أن يقال: إنّه ليس لنا في باب الأسباب الشرعيّة لفظ كان معناه السببيّة والعليّة العقليّة، وأمّا أدوات الشرط فإن قلنا فيها بمقالته قدّس سرّه من أنّ مفادها بحسب الظهور الوضعي أو العرفي عليّة تاليها للجزاء بالعليّة التامّة العقليّة غاية الأمر مع زيادة قيد الانحصار، لصحّة أخذ المفهوم، كان ما ذكره قدّس سرّه هنا حقّا لا محيص عنه.
وأمّا لو أنكرنا ذلك وقلنا بأنّ المستفاد منها عرفا ليس إلّا مجرّد كون تحقّق تاليها ملازما لتحقّق الجزاء بعده من دون استفادة العليّة [فلا]، نعم يستفاد عدم كونهما غير مرتبطين أصلا، بل يكونان مرتبطين بنحو من الربط إمّا لعليّة الأوّل للثاني، أو بكونه جزءا أخيرا لعلّته، أو بتلازمهما في الوجود وكونهما معلولين لعلّة ثالثه كما هو الحقّ، والدليل عليه شهادة الوجدان بصحّة استعمال القضيّة الشرطيّة في المقامات الثلاثة على حدّ سواء.
ألا ترى صحّة قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه فيما إذا فرض كون العلّة لإكرامه هو العلم والسيادة والمجيء من حيث المجموع، وفرض العلم بالأوّلين من دون أن يكون استعمالا للقضيّة الشرطيّة في غير محلّها.
وكذلك قولنا: إن جاء زيد جاء عمرو فيما إذا فرض كون المجيئين متلازمين في الوجود، وهذا هو المبنى للنزاع الواقع بين العلمين الجليلين في مفهوم قوله عليه السلام: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» حيث جعله أحدهما موجبة جزئيّة مستندا إلى أنّ مفاد المنطوق تعليق السبب الكلّي بالكرّية؛ فيلزم من انتفاء الكريّة انتفاء السلب الكلّي الحاصل بالإيجاب الجزئي واستقرب قول المخالف، وجعله الآخر موجبة كليّة مستندا إلى أنّ مفاد المنطوق كون الكريّة علّة منحصرة للسلب الكلّي، ومرجعه إلى أنّ الكريّة علّة منحصرة لعدم تنجيس كلّ واحد من أفراد النجاسات، فيلزم من انتفائها تنجيس جميع النجاسات؛ فإنّه لو قلنا في القضيّة الشرطيّة بالمقالة الاولى كان ما ذكره الثاني حقّا؛ إذ لو كان عدم تنجّس بعض النجاسات مستندا إلى عدم قابليّتها وعدم تنجيس بعض آخر إلى الكرّية لم يصدق كون الكريّة علّة تامّة منحصرة لعدم تنجيس جميع النجاسات بل لعدم تنجيس بعضها.
ولو قلنا بالمقالة الثانية كان ما ذكره الأوّل حقّا، فلو فرض كون شيء سببا متمّما لعموم بحيث كان بعض هذا العموم متحقّقا ومستندا إلى غير هذا الشيء وتتمّته مستندة إليه صحّ أن يقال: لو تحقّق هذا الشيء تحقّق هذا العموم، مثلا لو فرض كون عدم خوف المخاطب من أحد على الوجه الكلّي مستندا بالنسبة إلى بعض الأشخاص إلى عدم تسلّط هذا البعض عليه، وبالنسبة إلى بعض آخر مستندا إلى مصاحبة المخاطب مع زيد صحّ أن يقال: إذا كنت مع زيد فلا تخف أحدا.
وحينئذ فمفاد منطوق الرواية ليس إلّا مجرّد تعليق السلب الكلّي بالكريّة من دون إشعار بكونه علّة منحصرة له، فلا جرم يلزم من انتفاء الكريّة انتفاء هذا السلب الحاصل بالإيجاب الجزئي.
وكيف كان فلو قلنا بالمقالة الثانية نقول في باب الأسباب الشرعيّة: إنّ المستفاد من الدليل ليس بأزيد من أنّه متى تحقّق واحد من الأحداث وجب تحقّق الوضوء بعده، أو أنّه متى تحقّق وقوع الكلب أو الهرّة مثلا وجب تحقّق نزح الأربعين بعده، ولا شكّ في أنّ هذا المعنى يصدق فيما إذا احدث أحداث متعدّدة وتحقّق عقيبها وضوء واحد، أو تحقّق وقوع كلاب متعدّدة أو كلب وهرّة وتحقّق نزح الأربعين مرّة واحدة بعده، فيصدق تعقّب الوضوء بالنسبة إلى كلّ واحد من الأحداث، وتعقّب النزح بالنسبة إلى كلّ واحد من الوقوعات.
نعم لو تخلّل الوضوء أو النزح بين حدثين أو وقوعين لم يجز الاكتفاء بهما لما وقع عقيبهما؛ لأنّ المستفاد من الدليل لزوم تحقّقهما عقيب هذا الأشياء هذا هو الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني فالحقّ أنّ باب الأسباب غير مرتبط بمبحث الاجتماع رأسا، وبيانه أنّه لو قلنا بكون السبب صرف الوجود لزم لغوية الفرد الثاني وكون الوجوب واحدا، فلم يجتمع وجوبان حتى يلزم تداخلهما، وكذا لو قلنا بكون المسبّب صرف الوجود، ولو قلنا بأنّ هنا سببين ومسبّبين تعلّق بكلّ منهما وجوب فحينئذ وإن كان في البين وجوبان، لكن لم يلزم اجتماعهما في موضوع واحد، بل لكلّ منهما موضوع مستقل.
نعم لو قلنا بتعدّد الأسباب وتعدّد المسبّبات وتداخل المسبّبات في فعل واحد كما لو قلنا بأنّ حدث الجنابة موجب لوجوب غسل وحدث الحيض لوجوب غسل آخر مغاير للأوّل في الحقيقة، والجمعة لاستحباب غسل آخر مغاير للأوّل في الحقيقة، والجمعة لاستحباب غسل آخر مغاير للأول في الحقيقة والجمعة لاستحباب غسل آخر مغاير للأوّلين فيها، ولكن هذه الأغسال المختلفة الحقائق يتحقّق في عمل واحد كان لهذا العمل المتداخل فيه ربط بهذا المبحث في الجملة، ولكنّه مع ذلك لا يصلح للاستشهاد؛ إذ للمانع أن يقول: لم يجتمع في هذا العمل وجوبان أو وجوب واستحباب، بل يحصل من اجتماع الأوّلين وجوب واحد متأكّد، وكذا من اجتماع الأخيرين إلّا أنّ التأكّد هنا ليس بمثابته في الأوّل، كما أنّ هذا هو الحال في مثل الصلاة وفيما تصادق فيه عنوانان واجبان كما في إكرام شخص كان عالما هاشميّا بعد ورود: أكرم عالما وأكرم هاشميّا.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|