فقد مكنتهم طبيعة إعمالهم الادارية والمناصب التي تقلدوها من التعرف على كثير من البلدان والأقاليم، كما تمكنوا من زيارة البلدان التي كلفوا بمتابعة أوضاعها، ومن ثم الكتابة عنها.

ومن الطبيعي ان تظهر الحاجة الى التراسل، والتماس الاخبار، منذ الوهلة الاولى لإرساء دعائم الدولة العربية الاسلامية، لذلك تطلبت الفتوحات الاسلامية واتساع رقعة الدولة العربية الاسلامية، العناية بوصف الاقاليم ودراسة ثرواتها، وقدرتها على دفع الضرائب، وتوسع الأعمال الإدارية فيها مما زاد من اهتمام الخلفاء بنظام البريد، واعتمادهم عليه اعتماداً كبيراً في ادارة شؤون الدولة وخدمة متطلباتها، كما أسهم ذلك في الضبط الاداري للدولة من خلال عقد الاتصال بين اقاليمها وحاضرة الخلافة العربية الاسلامية.

وفي ضوء الظروف والحاجات المستجدة، شهد نظام البريد تطورات واسعة النطاق، وتزايد اهتمام الخلفاء به، وذلك من  خلال اقامة محطات وخانات الاستراحة على طول الطريق، واستخدام الدواب لتسهيل وصول (الرسائل) وللإحاطة بأخبار البلاد من جميع اطرافها.

فأصبحت مهام صاحب البريد واسعة ومتشعبة، فألى جانب مهمة الاشراف على مراسلات الدولة وعلى ادارات البريد في الولايات، كان عليه الالمام بالطرق والمسالك بغية حفظها وصيانتها، وقد تقلد منصب "صاحب البريد" جملة من الشخصيات المعروفة كان من بينهم العلماء والفقهاء، ومن مشاهير أصحاب البريد في الدولة العربية الاسلامية  ومن الجغرافيين ابن خرداذبة وقدامة بن جعفر...وغيرهم.

وقد بلغ اهتمام الخلفاء والولاة بنظام البريد قيامهم بتكليف اهل الخبرة من الجغرافيين بأعداد مصنفات عن بلاد معينة او مسالك محددة، مما يسهل الأعمال الادارية للدولة، ويزيد من فهم المسؤولين لمختلف اجزاء البلاد التي يتولون ادارتها، ومن المحتمل ان يكون هذا المنصب هو الذي دفع ابن خرداذبة الى وضع كتابه المشهور "المسالك والممالك" استجابة لطلب الخلفاء العباسيين وعُنيَ الجغرافيون العرب المسلمون بوصف الطرق ووسائل النقل، واعطوا وصفاً شاملاً للطرق التي تربط ديار العرب بالبلدان الاخرى، كما ان نظام البريد قد استدعت مهامه الوظيفية اعداد رسوم تخطيطية لمختلف الطرق السالكة، ومثل هذه الرسوم حفظت  بلا ريب في الديوان، فضلا عن ذلك هناك تقاويم بالمسالك الدقيقة لسائر انحاء الدولة العربية الاسلامية، والتي ذكر عليها جميع محطات البريد مع تحديد المسافات فيها بكل عناية ودقة .

فابن خرداذبة يوضح في اجابته على طلب الخليفة انه فهم ما يتطلع اليه ذلك الحاكم، وسيقوم بتنفيذه، لخدمة الدولة، وذلك بقوله: (فهمت الذي سألت افهمك الله جميع الخيرات واسعدك الى الممات، وافلح في الدارين سهمك، ووفر فيهما قسمك من رسم ايضاح مسالك  الارض وممالكها، وصفها وبعدها، وقربها وعامرها، والمسير بين ذلك منها من مفاوزها، واقاصيها، ورسوم طرقها، على ما رسمه المتقدمون منها...).

 فقد اعتمد على الخبرة والتجربة العملية من خلال وظيفته ورحلاته لذلك يعد مبتكرا واصيلا قياسا للمدة التي برز فيها, ولم تقتصر الملامح التطبيقية لدور الجغرافيين بهذا الجانب على وصف الطرق والمسالك بل وقع على عاتقهم تصنيف هذه الطرق وقياس المسافات بينها ودورهم في اقتراح اقصر الطرق لتسهيل وصول التقارير عن اقاليم الدولة الى الخلفاء والولاة لما لذلك من اهمية ايضاً بالنسبة للحجاج، ونذكر ما اورده كل من ابن خرداذبة وقدامة بن جعفر بوصفهما اعرف بمراحل وسكك طرق البريد، نظر لتوليهما منصب صاحب البريد في الدولة العربية الاسلامية خلال ايام العباسيين.

فيذكر أبن خرداذبة: (ان الطريق من بغداد الى مكة يكتسب أهمية خاصة باعتبار مكة قبلة المسلمين، والمنسك الاعظم لهم حيث حجهم الى بيت الله الحرام، وانه نفس طريق الحج الاخر من بغداد الى الكوفة)، ثم الى القادسية، ومنها الى العذيب طريق البادية، حيث يتجه المسار بعد ذلك الى القرط وهو منزل فيه ابار، ثم الى العقبة، ومنها الى زبالة، ويواصل الطريق اتجاهه الى قيد – وتمثل نصف الطريق، ثم يسير باتجاه معدن القريشي (النقرة)، ومنها يتفرع الطريق باتجاهين احدهما يتجه الى المدينة المنورة بمسافة 139ميلاً. وصولا الى مكة بمسافة طولها 245 ميل، والطريق الاخر اقصر منه ويسمى طريق الجادة، ويبدأ من معدن النقرة، ثم يسير باتجاه الربذة، ومنه الى معدن بني سليم، ثم الى الغمرة، ومنه الى مكة، وبلغ طوله 284 ميل, ومن العلماء الدين ارتبطت شهرتهم بالعمل بالوظائف الرسمية سلام الترجمان- القرن الثالث الهجري)، وكذلك ابو دلف الينبوعي... وغيرهم