أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-09-2015
3388
التاريخ: 26-03-2015
12379
التاريخ: 26-03-2015
5922
التاريخ: 26-03-2015
5231
|
الصّادق والكاذب من الْخَبر والْمُخْبِر به
لا بد من التفريق بين الْخَبَرِ والمخْبِرِ به، من جهة الصدق والكذب، لتنحلَّ إشكالات قد تُوجَّه للتعاريف وبعض النصوص.
أولاً: الخَبَرُ الصّادِقُ: أو الْخَبَرُ الصِّدْقُ، هو ما كان من الكلام مطابقاً للواقع في حقيقةِ الأَمْرِ.
ثانياً: والْخَبَرُ الكاذبُ، أو الْخَبَرُ الكَذِبُ، هو ما كان من الكلام غَيْرَ مطابقٍ للواقع في حقيقة الأَمْرِ.
ثالثاً: أمّا الْمُخْبِرُ الصّادقُ فهو الْمُخْبِرُ بخَبَرٍ يدّعي أنّه صادقٌ فيه، وهو يَعْتَقِد أنّه حَقٌّ وصِدْقٌ، ولَوْ كان ما أَخْبَرَ به كذباً غَيْرَ مُطابِقٍ للواقع في حقيقة الأمْر. وحين يَنْفِي الحقَّ وهو يَعْتَقِد صحَّةَ ما يقولُ فإنَّه يُسَمَّى نافياً، وَلا يُسمَّى جاحداً للحق، إذ هو يقول ما يعتقد.
رابعاً: وأمَّا الْمُخْبِرُ الكاذبُ فهو الْمُخْبِرُ بخبرٍ يدّعي أنّه صادقٌ فيه، وهو يَعْتَقِدُ أنّه باطلٌ وكَذِبٌ، ولو كان ما أَخْبَر بِهِ صدْقاً مطابقاً للواقع في حقيقة الأمْرِ، ونفيُهُ للحقِّ يُسمَّى جَحْداً وجُحُوداً، فالذي ينفي أمْراً وَهو يَرَى أنه أمرٌ ثابت هُوَ جاحد، ويقالُ له نافٍ بمقتضى الإِطلاق العام.
فالمنافق الذي يقولُ بلسانه: "مُحَمَّدٌ رسولُ الله" هو كاذبٌ في قوله، لأنّه يقولُ خلافَ ما يَعْتقِد، وكلامُهُ حَقٌّ وصدْقٌ، لأنّه مطابقُ للواقع، وقد دلَّنا الله عزَّ وجلَّ على هذا التفريق في قوله في سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول):
{إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)}.
وبهذا التفريق بين الخَبَر والمخبِرِ به تنحَلُّ إِشْكَالاَتٌ واعتراضاتٌ مُوَجَّهةٌ على التعاريف التي ذُكِرَتْ للصّدْقِ والكذب.
وفي بيان أنّ النافيَ المستيقن من الأمر جاحِد قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول):
{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}.
ووصف الله بالجحود الذين يُدْكرون آيات الله ثم ينكرون دَلاَلاتِها الدامغات، ومن ذلك قوله تعالى في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) خطاباً لرسوله:
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)}.
***
(2) أغراض توجيه الخبر
(1) الأصل في توجيه الكلام الذي يَتَضمَّن خبراً ما أن يكون الغرض منه الإِعلام بالخبر الذي دلَّ عليه الكلام، أي: إفادة المخاطب الحكْمَ الّذِي تضمَّنَتُهُ الجملةُ أو الْجُمَلُ الخبريَّة.
ويُسمَّى هذا عند عُلماء البلاغة "فَائِدَةَ الْخَبَر".
(2) وَقَدْ يُرادُ من توجيه الكلام الّذي يتضمَّنُ خبراً مَا، إعْلاَمَ المخاطَبِ بأنّ المتكلِّمَ عالمٌ بالحكْمِ الذي تضمَّنَتْهُ الجملةُ الخبريَّة، ولا بُدْ عندئذٍ من أن يكون المخاطَبُ عالماً به.
ويسمَّى هذا عند علماء البلاغة "لاَزِمَ الفائدة".
(3) وقد يُنزَّل العالم بالخبر منزلةَ الجاهل به لأنه لا يعمَلُ بمقتضى عِلْمِه.
(4) وقد يراد من توجيه الخبر إعلانُ الفخر بما تضمّنَه الخبر، كقول الشاعر:
*أنَا الْقَائِدُ الْحَامِي الذِّمَارَ وإنَّما * يُدافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي*
الذِّمارُ: ما تجب حمايته، كالأهل والعِرْض.
الأحْسَاب: مَا يَعُدُّهُ المرءُ من مَناقبِ وشَرفِ الآباء.
(5) وقد يرادُ منه المدح والثناء، مثل أن نقول: أللَّهُمّ أنْتَ خالق السماوات والأرض العليم القدير الحكيم الرحيم الغفار، ناصيتي بيدك، أنت قيّوم السماوات والأرض الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
(6) وقد يُرادُ منه التحسُّرُ والتّأسّف، كقول الشاعر:
*ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ * وبَقِيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ*
(7) وقد يُرادُ منه الاسترحامُ والاستعطاف، كقول الشاعر:
*رَبِّ إِنيّ لاَ أَسْتطِيعُ اصْطِبَاراً * فَاعْفُ عَنِّي يَا مَنْ يُقِيلُ الْعِثَارَا*
(8) وقد يرادُ منه إظهارُ الضَّعْف، كقول الشاعر:
*قَدْ كُنْتَ عُدَّتِيَ الَّتِي أَسْطُو بِها * وَيَدِي إذَا اشْتَدَّ الزَّمَانُ وسَاعِدِي*
(9) وقَدْ يُرادُ مِنْهُ التوبيخ، كجواب المؤمنين للمنافقين في موقفِ الحشر بَعْدَ أن يُضْرَبَ بيْنَ الفريقين بسورٍ له بابٌ، باطِنُهُ فيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهره مِنْ قِبَلِهِ العَذَاب، في الحوار بَيْنَهما الذي عرضَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في سورة (الحديد/ 57 مصحف/ 94 نزول):
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)}.
وكالمقالة الَّتي تُوجّه للذّين يكنزونَ الذّهَبَ والفِضَّه حين يُعَذّبُونَ بصَفَائِحِهَا الْمَحْمِيَّةِ في نار جَهَنَّمَ، إذْ يُقَالُ لَهُمْ كَمَا جَاءَ في سُورَةِ (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول):
{...هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}.
(10) وَقد يُراد منه إظهار الفرح، كقولِ أَهْلِ الجنَّةِ مظهرين الفرحَ من خلال ثنائِهِمْ عَلَى الله بمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضله، كما جاء في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول):
{وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)}.
(11) وقد يراد منه الوعظ، بتحريك النّفسِ من مَحَاوِر مطامعها ومخاوفها، كاستعراض نعيم الجنَّةِ لاستثارة مطامع النفس، واستعراض عَذَاب النار لاستثارة مخاوف النفس، حتى تلتزم صراط التقوى.
(12) وقد يُراد منه الشتيمة، كأن يُقَال للَّقِيط: أنْتَ وَلَدُ زِنَا.
(13) وقد يُرادُ منه التذكير، كأن يُقَالَ عنْدَ المحتَضَر: أَشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنّ محمداً رسول الله.
(14) وقد يراد منه إعلامُ غير المخاطب، على طريقة: إيَّاكِ أخاطبُ واسْمَعي يا جَارَة.
إلى غير ذلك من أغراض.
***
(3) خروج الخبر عن أصل معناه للدلالة على الأمر والنهي والدّعاء
قد يَخْرُج الخبر عن أصل المعنى الذي وُضِعَتْ له صِيَغُه، فَيُدَلُّ به على الأمر والنَّهْي والدُّعَاء.
(1) فقد يُرَادُ من الخبر في الجملة الخبريّةِ الأمْرُ، ومِنْهُ:
* قولُ الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{*وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ...} [الآية:233].
أي: ولْيُرْضِعِ الوالداتُ أَوْلاَدَهُنَّ.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول):
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ (71)}.
أي: ليكُن المؤمنون والمؤمناتُ أولياءَ بعضٍ... إلى آخر الآية.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول)
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ...} [الآية 228]. أي: ليتربَّصْنَ.
أقول: والسبب في دلالة الجملة الخبرية على الأمر أحياناً بمساعدة القرائن، ليس من استخدام الصيغة الخبريّة في معنى الأمر، ولكنَّ هذه الدّلاَلة آتيةٌ من دلالة اللّزُومِ الفكري.
فوصف الله المؤمنين بأنّ بعضَهُمْ أولياءُ بعْضٍ، وبأنهم يأمُرونَ بالمعروف وينهون عن المنكر، إلى آخر ما جاء في الآية، يدُلُّ باللُّزوم الفكريّ على أنّهم لا يَتَحَلَّون بهذه الصفاتِ إلاَّ بدافعٍ من إيمانِهِمْ وخوفهم من ربّهم، وحرصهم على طاعته فيما أمرهم به، ولو لم تكن هذه الصفاتُ ممّا أمَر الله به لمَا كانَتْ أثراً من آثار إيمانهم الصادق.
ثم إنّ مثلَ هذه الصيغةِ الخبريَّةِ الواردة في الآية والمحفوفة بالقرائن، تدُلُّ على أنّ الأمْر بما جاء فيها من صفاتٍ للمؤمنين، قد كان أَمْراً بالغَ الشّدَةِ والْجَزْمِ، فلم يَكُنْ في وُسْعِ المؤمنين الصادقين إلاَّ الالتزامُ بطاعة اللهِ فيه.
(2) وقد يُراد من الخبر في الجملة الخبريَّة النهيُ، ومنه:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ...} [الآية:197].
أي: فَمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الحجّ فَلاَ يَرْفُثْ ولاَ يَفْسُقْ ولا يُجَادِلْ في الحجّ.
وأقول هنا نظير الذي قُلْتُه في دلالة الخبر على الأمر إذا حُفَّ بما يُخْرجه عن الخبريَّةِ من قرائن.
ورأَى ابْنُ العربي أنّ ما ذُكِرَ من خروج الخبر إلى النَّهْيِ غَيْرُ مقبول، لاحتمال حَمْلِ الكلام على معنى آخر غير ما ذكروا.
فقال في قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ...} ليس نفياً لوجودِ الرَّفَثِ، بل هو نفيٌّ لمشروعيَّتِه، فإّن الرَّفث يوجَدُ من بعض الناس، وأخبارُ الله تعالى لا يجوزُ أن تقع بخلاف الواقع، وإنما يَرْجِعُ النفيُ إلى وُجوده مشروعاً، لا إلى وُجوده مَحْسُوساً، قال: وهذه هي الدفينة التي فاتت العلماء فقالوا: إنّ الخبر يكون بمعنى النهي، وما وُجد ذلك قطُّ، ولا يصحُّ أن يصحُّ أن يُوجَد، فإنَّهما مختلفات حقيقةً، ويتباينان وصفاً.
أقول: ما ذكر ايْنُ العربيّ وجْهٌ يُمْكن أنْ يُقْصَد، لكن استعمالَ النَّفي بمعنى النَّهْي أمْرٌ متدَاولٌ بين الناس، ويدعو إليه عدّة دواعٍ بلاغيّة، منها التلطّفُ بالمخاطب.
(3) وقد يراد من الخبر في الجملة الخبريّة الدعاء، وهذا كثير، منه:
* قولنا: يَرْحَمُ اللهُ موتانا ويَغْفِرُ لهم.
أي: اللّهم ارحمهم واغفرْ لهم.
وفي استخدام الخبر في الدّعاء معنى التفاؤُلِ باستجابة اللهِ الدعاء، وتحقُّقهِ في الواقع حتَّى يكون خبراً.
* قولُ يوسف عليه السلام لأخوته فيما حكى الله في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول):
{قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}.
يَغْفُرُ اللهُ لَكُم: جملةٌ خَبَريَّةٌ أُرِيدَ منها الدُّعَاءُ لهم بأَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ.
* وكان من دعاء الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أصحابه: "غَفَر اللهُ له" بأسلوب الخبر، والمعنى: اللّهم اغفرْ له، وكان هذا الدّعاءُ مشعراً بقرب وفاة من دعَا الرَّسُولُ له به.
***
(4) التأكيد وعدمه في الجملة الخبرية
الإِخبار الابتدائي:
الأصل في الجملة الخبريّة مُثْبتةً كانت أو مَنْفِيَّةً أنْ يؤتى بها خاليةً من المؤكّداتِ، حينَ لاَ يكونُ حالُ المخاطَب يَسْتَدْعِي تأكيدَ الخبر لَهُ، وذلك إِذا كان خالِيَ الذّهْنِ، ليْسَ في نفسِه ضِدَّ مُقَدِّم الخبرِ عواملُ شَكٍّ أو إحجامٍ عن قَبُولِ أخباره.
ويَحْسُنُ في ابْتِدَاءِ الإِخْبار بِالْخَبرِ إيرادُهُ غيْرَ مُقْتَرِنٍ بأيَّةٍ مؤكِّداتٍ، ومن الأمثِلةِ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ لرَسُولِهِ في أوَّلِ ما أنزل علَيْه من تنزيل في سورة (العلق/ 96 مصحف/ 1 نزول):
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}.
فالجملُ الخبريَّةُ في هذا النّصّ خاليةٌ مِنَ المؤكّداتِ، لعدم وجود الدّاعي إلَى اقترانِها بما يقتضي تأكيدها.
الإخبار الطّلَبي:
وحين يكونُ لدى المخاطَبِ شَكٌّ في الخبر، أَوْ عواملُ شَكٍّ أوْ إحجامٍ عن قبول الخبر، فإنّ حالَه تكونُ حالَ طالب يسأل عن صحة الخبر، فيَحْسُن أن يُؤتَى لَه بالجملة الخبريَّةِ مُقْتَرِنَةً بمَا يُؤَكِّدُ صحَّةَ مَضْمُونِ الْخَبَر، ويؤتَى فيها بمقدارٍ من المؤكّدات يُلائِمُ نِسْبَةَ التَّشَكُّكِ لديه وعَوامِلِ الإِحْجَامِ عَنْ قبوله الخبر.
فإذا كانَتْ عواملُ الشَّكّ والإِحجامِ غَيْرَ قويَّةٍ حَسُنَ في الْكَلاَمِ إيرادُهُ مقترناً ببعضِ المؤكّداتِ من درجَةٍ دُنْيَا.
* وكلّما زاد الشَّكُّ وقويت عوامل رفضِ قبولِ الخبر، كان من بلاغه الكلام الخبريّ زيادَةُ المؤكّداتِ فيه، بمقدار حالة نَفْس الْمُخَاطَبِ.
وقد يُنَزَّلُ غيرُ الشَّاكّ مَنْزِلَةَ الشّاكَ إذا بدَتْ علَيْه أماراتُ الشّكّ منذ بداية التلويح له بالخبر.
الإِخبار الإِنكاري:
* وحين يصِلُ المخاطب إلى حالة الإِنكار ورَفْض قبولِ الخبر، يكون من بلاغة الكلام الخيريّ وجوبُ اقتِرانِهِ بالمؤكداتِ التي تُلاَئم حالة الإِنكار والرَّفْضِ في نَفْس المخاطَبِ به ضعفاً وشدةً.
وقد يُنَزَّلُ غيرُ الْمُنْكِرِ منزلةَ المنْكِرِ إذا بدت عليه أماراتُ الإِنْكار.
أمثلة:
المثال الأول:
حذّر اللهُ عزَّ وجلَّ الّذين كفروا من أن يُنْزِلَ بهم الإِهْلاَكَ الشَّامِلَ الّذي أنزلَهُ بكُفُّارِ أَهْلِ الْقُرُون الأولى، مبينّناً لَهُمْ أَنَّهُ إنّما أهلكهم ضمْن مَجْرى سنَّتهِ الثَّابِتَةِ في معاملة عباده.
* فكانَ البيان الإِخباريُّ في أوّلِ الأمْرِ بأسْلوبِ التَّساؤلِ عن إهلاك المكذّبين الأوّلين، لانتزاع الاعتراف بحصول المستَفْهَمِ عنه، فقالَ الله عزَّ جلَّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول):
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (16)}.
فإهْلاكُ المكَذِّبينَ الأولينَ لرسُلِ رَبّهم قضِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ لدى الناس الموجَّهِ لهم هذا السؤال، لذلك اكتفى النّص في بدْءِ الأمر بتوجيه السؤال لهم عن أهلاك الأوّلين.
* ثّمَّ جاء البيان الإِخباريُّ مقْتَرِناً بمؤكّدِ واحدٍ ابتدائيّ، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ في سورة {ق/ 50 مصحف/ 34 نزول):
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً...}.
أي: هُمْ أشَدُّ بطْشاً من كُفّارِ أهْل مكَّة، كان هَذَا في الرُّبْعِ الأوّل من العهد المكّيّ من نشأة الدّعوة المحمّديّة.
فجاء في هذه الآية جَرٌّ تمييز "كم" الخبرية بحرف الجرّ "من" للتأكيد، مع أنّه يجوز مجيء هذا التمييز غير مجرور بمن.
* ثُمَّ جاء البيان الإِخباريُّ حول الموضوع نفسه مقترناً بمؤكِّدَينِ اثْنَيْن، فقال الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول):
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)}.
فأضيفت في الجملة كلمة "مِنْ" داخِلَةً عَلَى لفظ "قَبْلِهِمْ" مَعَ جرّ تمييز "كم" بحرف الجرّ "من" فهذه الزيادةُ في اللفظ قد جاءتْ لزيادَةِ التَّأكيد على ما جاء في سورة (قَ).
* ثم جاء البيان الإِخباريُّ حول الموضوع نَفْسِه مقترناً بتأكيد زائدٍ على النَّصَيْنِ السَّابقين، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول):
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ...} [الآية 13].
فجاء الخبر في هذه الجملة مؤكّداً بثلاثة مؤكّدات:
(1) لام الابتداء في "لَقَدْ".
(2) حرف "قد" الذي من معانيه التحقيق، ويؤتَى به للتأكيد.
(3) إدخال حرف "مِن" على لفظ "قَبْلهم" مع أنّ الكلام يتمّ بدونها.
المثال الثاني:
في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) قصّ الله عزَّ وجلَّ قصّةَ الرُّسُل الثّلاَثَةِ الّذِينَ أرسَلهم إلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ يُقالُ: إنَّها إنطاكيّة، وَيقالُ: إنّ الرُّسُلَ الثّلاثَةَ هُمْ مِنَ الرُّسُلِ السَّبْعِينَ الَّذين أَرْسَلَهُمْ عيَسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلَى الأقاليم، لِنشْرِ دينِ الله في الأرْض.
فقال الله عزَّ وجلَّ فيها:
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ (14) قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَانُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17)}.
* ففي ابتداءِ الأَمْرِ عَرَضَ الرَّسُولاَنِ عَلَى أصحاب هذِه الْقَرْيَةِ أنَّهمَا رسُولاَنِ يُبَلِّغَانِ تعاليم الدين، فكان بيانهما من قبيل الإِخبار الابتدائي غَيْرِ المقرون بمؤكّداتِ لفظيّة.
* فلمّا كذَّبَهُما القومُ عزَّزَهُما اللهُ برسولٍ ثالثٍ، وقالُوا لهم: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} فجاء الإِخبارُ مؤكِّداً تأكيداً متوسطاً، لأنّ إنكار القومِ كانَ في بدايته.
والتأكيدُ في هذِهِ الجملة الخبريّةِ قد جاء بحرف التأكيد "إنّ" ويمكنُ أن نفهم من تقديم [إليكم] على عامله [مُرْسَلُون] تأكيداً آخر، لأنّ فيه معنى القصر، أو زيادةَ الاهتمام، وكلاهُمَا يفيد تأكيداً، والمؤكد الثالث كون الجملة جُملةً اسميّة.
* ولمّا أصرّ القومُ علَى تكذيب الرّسُل الثلاثة زاد الرُّسُل جملتهم الخبريّة تأكيداً، فقالوا: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}.
والمؤكدات في هذه الجملة هي:
(1) {رَبُّنَا يَعْلَمُ} فهذه العبارة بمثابة القسم.
(2) "إنّ" وهو حرف تأكيد.
(3) اللاّم المزحلقة للخبر في عبارة {لَمُرْسَلُونَ}.
(4) كون الجملة جملةً اسميّة.
مخالفة مقتضى الظاهر:
إذا أوردنا الخبر لخالي الذّهْنِ مجرّداً من المؤكدات، وللمتردّد الشاكّ مقروناً ببعض المؤكّدات استحساناً، وللمنكِر مقروناً بالمؤكدات بحسب درجة إنكاره وجوباً بلاغيّاً، كان إيرادُنا الخبر جارياً على مقتضى الظاهر، وهذا يُسمَّى "إخراج الكلام على مقتضى الظاهر".
وقد تقتضي حالةُ المخاطب الخفيَّة غيرُ الظاهرة تأكيد الخبر له، مع أنّ توجيه الخبر له كان بصورة ابتدائيّة لا تستدعي بحسب الظاهر تأكيد الخبر له، فحين نُؤكِّدُ له الخبر ملاحظين حالته الخفية، فإنّا نُوجّه له الخبر مؤكَّداً على خلاف مقتضى الظاهر، وهذا يُسمَّى: "إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر".
ولإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر عدّة صور:
الصورة الأولى: أن يُنَزَّل خالي الذهن منزلة المتردّد السائل الذي يَطْلُبُ تأكيد الخبر له، وذلك إذا شَعَرَ من مقدّمات الكلام بما يُشير إلى مضمون الخبر، فاستشرفت نفسه وتطلَّعَتْ تطلُّع المستغرب المتردّد في قبول الخبر، أو الطالب لما يُؤكّده له.
* فمن أمثلة هذه الصورة قول الله عزّ وجلّ بشأن نوحٍ عليه السلام، في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول):
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ (37)}.
من الظاهر أنّ مُقدّماتِ الكلام تُشْعِرُ بأنّ الله عزّ وجلّ قضى أنْ يُغْرِقَ مَنْ لمْ يؤمنْ مع نوحٍ مِنْ قومه، إذ الإِخبارُ بأنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِهِ إلاَّ من قدْ آمن، والأَمْرُ بصناعةٍ الْفُلك الَّتي لا تتّسع إلاَّ لِلمُؤمنين ولما يحتاجون في رحلتهم البحريّة، يدلُّ علَى أنّ سائر القوم مُغرقون، فاستشرفَتْ نفس نوح عليه السَّلام لطلَب تَأخيرِ إهْلاكهم إمهالاً، أوْ صَرْفِ النظر عن إهلاكهم أهْلاكاً عامّاً شاملاً، فبادره الله عزّ وجلّ بقوله: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ}. وَأكَّدَ لَهُ مَا قَضَاهُ سبحانه من إهلاَكِهِمُ بالْغَرق، فقال له: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ (37)}. فاشتملت هذه الجملة على مؤكّدين: "إنّ" و"الجملة الاسمّية".
* ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ لرسوله في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن الّذِين اعترفوا بذنوبهم خَلَطوا عمَلاً صالحاً وآخر سيّئاً:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}.
وصَلِّ عَلَيْهِمْ: أي: وادْعُ لهم بالرّحْمَة، مُسْمِعاً دُعَاءَكَ لهم.
بعْدَ هذا الأمر للرسول بأن يُصَلّي عليهم، استشرفَتْ نفس الرسول صلى الله عليه وسلم للسؤال عن فائدة هذِهِ الصَّلاة الَّتي يُسْمِعُهُمْ إيّاها، فقال الله له مؤكِّداً:{إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ}. فاشتَمَلَتْ هذه الجملة على مؤكّدين: "إنّ" و "الجملة الاسميّة".
* ومن الأمثلة قول بشار بن بُرْد:
*بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ * إنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ*
الْهَجِيرُ: نصف النهار في القيظ عنْد شِدَّةِ الحرّ.
لمّا قدَّم الأمر بالتبكير كانت نفس المخاطب مستشرفَةً للسؤال عن السَّبب، طالبةً تأكيد مضمون الجملة التعليليّةِ التي تجيب على سؤالٍ يُلاحَظُ ذهنا، فقال: "إنّ ذَاكَ النجاحَ في التكبير". فأكَّد بمؤكِّدَيْنِ: "إنّ" و "الجملة الاسمية".
ونظيرهُ قول بعض العرب يستحثّ على حُدَاءِ إبله لتُسْرعَ في السّير:
*فَغَنِّهَا وَهْيَ لَكَ الْفِدَاءُ * إِنَّ غِنَاءَ الإِبِلِ الْحُدَاءُ*
الصورة الثانية: إنْ يُنزَّلَ مَنْ لا يُنْكِرُ ما سَيُقَدَّمُ لَهُ مِنْ خَبَرٍ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنكرُهُ، إذا ظهرت عليه بعْضُ أماراتِ الإِنْكار في داخل نفسه.
* فَمن الأمثلة التي ذكرها البلاغيون لهذه الصورة، قول "حجل بن نضلة القيسيّ" بشأن ابْنِ عَمِّهِ "شقيق":
*جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضاً رُمْحَهُ * إِنَّ بَنِي عَمِّكَ فِيهِمْ رِماحٌ*
مجيء "شقيقِ" واضعاً رُمْحَهُ عَرْضاً يُشْعِرُ بأنَّهُ يُنَافِسُ بشجاعَتِهِ وسلاحه، فكأنّه يُنْكِرُ أَنّ أبناء عَمِّه لديهم أسلحة وأنَّهُمْ شجعان، فاقتضَى حالُهُ تأكيد الْخَبَر الْمُوَجّه له، فقالَ له ابْنُ عَمِّهِ مؤكّداً: "إنَّ بَني عَمِّكَ فِيهِمْ رِمَاحٌ".
فيهم رماح: أي: في حوزتِهم وفي ملكهم رماحٌ كثيرة.
الصورة الثالثة: أَنْ يُنَزّلَ المنكِرُ منزلةَ غَيْرِ المنكر، فَلاَ يُعْتَدَّ بإنكاره ولا يُلْتَفَتَ إليه، وذلك إذا كان لديه من الأدلّة الواضحة والبراهين القاطعة، ما يكفي لإِقناعِ أهل الفكر المنصفين الذين يَنْشُدُون الحقّ.
* فمن الأمثلة على هَذِه الصورة، أن يأتي واحدٌ من صغار الملاكمينَ فيَتَطَاوَلَ على شخْصٍ لا يَعْرفُه بذاته، ولكن يعرف اسْم الْبَطل العالمي للملاكَمَة، فَيَتَحَدَّى هذا الملاكمُ الصَّغِيرُ هَذا الشخْص، فيقُولُ له: "أَنَا فُلان" دون أن يؤكّد كلامه بأيَّةِ مؤكّدات، عندئذٍ يَنْخَلِع قلْب الملاكم المتحدّي ويَنْهَزِم.
الصورة الرابعة: أنْ يُنَزَّلَ العالِمُ بفائدةِ الخبر وبلازم فائدتِهِ منزلة الجاهل بالخبر، وذَلِكَ لأَنَّهُ غَيْرُ عَامِلِ بمقْتَضَى عِلْمِهِ، فَيُقَدَّمُ له الْخَبَرُ كَما يُقَدَّمُ للجاهلين به.
* فمن الأمثلة على هذه الصورة المواعظُ الَّتِي تُقَدَّمُ على ألْسِنَةِ الوعاظ للعاملينَ بِهَا، تنزلاً لهم منزلة الجاهلين بها، لأَنَّهم لا يعملون بمقتضى ما يَعْمَلون.
ويُسمَّى هذا تذكيراً، أوْ تَنْبِيهاً للمخاطَبِينَ من غفلاتهم.
***
(5) مؤكّداتُ الجملةِ الخبريةِ
التوكيد:
التوكيد في اللّغة: أصْلُهُ شدُّ السَّرْجِ على ظهر الدابَّةِ بالسُّيُور حتّى لا يسقط، وتسمّى هذه السُّيُور تواكيد وتاكيد.
ثم استعمل التوكيد في توثيق العهود.
ومن هذا المعنى اللُّغي أُخِذَ لِتَقْوِيةِ صِدْقِ الكلام الخبريّ بما يؤكّده من ألفاظٍ اسُمُ "التوكيد".
والغرضُ من توكيد المتكلّم كلامَهُ، إعْلاَمُ المخاطَبِ بأَنّه يقول كلامه جازماً، قاصداً لما يَدُلُّ عليه كلامُهُ، مُتَثَبِّتاً مِنْه، لا يقولُه عن تَوَهُّمِ أَوْ ثَرْثَرَةٍ ِأوْ تَضْلِيلٍ أو اختراعٍ أو نحو ذلك، كما يفْعَلُ صَانِعُو القِصَصِ باستعمالِ قُدْرَاتهم التخيُّليّة في تأليف قصصهم المخترعة.
والتوكيد في الجمل إنَّما يكون للإِسناد "أي: الحكم" فيها، موجبةً كانت أو سالبة.
مؤكّداتُ الإِسناد الخبريّ:
لكلٍّ من الجملة الفعليّة والجملة الاسميّة موجبةً كانت أَوْ سالبةً مؤكّداتٌ تُؤكِّدُ إرادَةَ صِحّةِ وصِدْقِ الإِسناد فيها، أو تُؤكِدُّ تَحقُّقَ صِدْقِ الإِسْنادِ فيها موجباً كان أو سالباً.
والأصل في بناء الجملة في اللّسان العربيّ الجملةُ الفعليّة، خاليةً ممّا يدُلُّ على إرادة تأكيد النسبة فيها، مثل:
"اقتربت السّاعة - وانشقّ القمر - وأهلك اللهُ المكذبين الأوّلين - ولا تخفى عَلى اللهِ خافية - وما انتصر أولياءُ الشيطان عَلى أولياء الرحمن".
ويؤكَّد الإِسنادُ في الجملة الخبريَّة بمؤكدات، قد ينفرد بعضُها، وقد يجتمع مع غيره بشروط، ويختص بعضها بالجملة الفعلية، وبعضها يختصّ بالجملة الاسمية، وبعضُها يؤكَّدُ به الجملتان الفعلية والاسمية.
وفيما يلي بيانٌ لما تمَّ إحصاؤُه منها:
* المؤكّد الأول: تقديم ما هو فاعل في المعنى على فعله، مثل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ - وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
وسبب إفادة هذا التقديم التأكيد، أنّ الْمُسْنَدَ إليه وهو الفاعلُ قد أُسْنِد إليه الفعلُ مَرَّتين.
الأولى: تظهر حينما نقول في نحو: "خالدٌ جاهَدَ في اللهِ حقّ جهاده" خالدٌ: مبتدأ، وخبرُهُ جملة: "جَاهَدَ...".
والثانية: تظهر حينما نقول: "جاهَدَ" فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على "خالد".
فالجهادُ أُسْنِدَ إلى لفظ "خالدٍ" أوّلاً، وأُسند إلى ضميره ثانياً، واجتماع هذَيْنِ الإِسْنَادَينِ في الجملة هو بمثابة تكرير الجملة.
وتقديم ما هو فاعل في المعنى على فعله يجعل الجملة جملةً اسمية.
* المؤكّد الثاني: اختيار الجملة الاسمية بدل الجملة الفعليّة ابتداءً، والسَّبَبُ في كون الجملة الاسمية تحمل تأكيداً لا تحمله الجملة الفعليّة، أنّ خبر الجملة الاسميّة يحمل في التقدير الذي يُلاحَظُ في ذهن العربيّ ضميراً يعودُ على المبتدأ، أوْ ما أصْلُه المبتدأ، فيكون حالُ الجملة الاسميّةِ دواماً مثل حال تقديم ما هو فاعل في المعنى على فعله، قد جرَى فيها الإِسنادُ إلى المسنَدِ إليه مرّتين:
الأولى: إسنادُه إلى الاسم الظاهر.
الثانية: إسنادُه إلى ضميره.
* المؤكّد الثالث: كلمة "قَدْ الحرفية، وتختصُّ بالدّخول على الفعل المتصّرف الخبريّ المثبَتِ المجرّدِ من ناصِبٍ وجازم، ومِنْ حرف تنفيس، وتكونُ معه كالجزء منه، فلا تُفصل عنْهُ إلاّ بالْقَسَمِ أحياناً.
ولكلمة "قد" الحرفية خمسةُ معانٍ، هي: التوقُّعُ، وتقريبُ الماضي من الحال، والتقليل، والتكثير، والتحقيق.
هذا المعنى الأخير وهو التحقيق هو المقصودُ هُنا، مثل:
* {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9)} [9/ الشمس/ 91] أي: نُؤَكّدُ إثْباتَ فلاح مَنْ زَكَّى نفسه.
* {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ}[4/ ق/ 50] أي: نُؤكّد تحقُّقَ هذا الْعِلْم.
* {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [33/ الأنعام/ 6] أي: نُؤَكِّدُ تَحَقُّقَ حُصولِ عِلْمنَا بكلّ مَا يحْزُنُكَ حِيناً بعد حينٍ ممَّا يقولُ الكافرون.
* {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} [63/ النور/ 24] أي: نُؤكّد تحقُّقَ حصول هذا العلم.
* المؤكّد الرابع: الْقَسَم، مثل:
* والله لَفَعَلْتُ - والضحى واللّيل إذا سَجَى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلَى - أُقْسِمُ لأَفْعَلَنَّ، بالنون الخفيفة أو الثقيلة - أَحْلِفُ بالله لَفَعَلْتُ أَوْ لأَفْعَلَنَّ بالنون الخفيفة أو الثقيلة.
وقد يجتمع الْقَسَمُ وحرف "قد" مثل:
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي? أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين 95].
* المؤكّد الخامس: نونا التوكيد الثقيلة والخفيفة، ويؤكِّدان الفعلَ المضارع، ويؤكدان فِعْلَ الأَمرِ، مثل:
* {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [40/ الحج/ 22].
* {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصَّاغِرِينَ (32)} [32/ يوسف/ 12] النون في "لَيُسْجَنَنَّ" هي نون التوكيد الثقيلة، وفي "لَيَكُوناً" هي نون التوكيد الخفيفة.
* المؤكّد السّادس: لاَمُ الابتداء، وهي التي تقع في صدر الجملة، وتُفِيد توكيد مضمون الجملة، وتخليص المضارع للحال، ولا تدخُل إلاّ على:
(1) الاسم، مثل: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ} [13/ الحشر/ 59].
(2) الفعل المضارع، مثل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [82/ المائدة/ 5].
(3) الفعل الذي لا تصرَّف، مثل:
* {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (62)} [62/ المائدة/ 5].
* {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [80/ المائدة/ 5].
* {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [30/ النحل/ 16].
* {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [75/ الصافات/ 37].
* المؤكد السابع: اللاّم المزحْلَقَة، وهي لام الابْتداء حينما تُزحْلَقُ عن صَدْرِ الجملة.
وهِيَ تُزَحْلَقُ بَعْد "إنَّ" المكسورة عن صدر الجملة، فتدخُلُ علَى الخبر، مثل: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [39/ إبراهيم/ 14]. وتدخُل على معمول الخبر إذا كان صالحاً لدخول اللاّم عليه، مثل: إنَّ اللهَ لَكُلَّ شَيْءٍ يَعْلَمُ. وتَدْخُلُ على اسم "إنَّ" إذا كان مُتأخّراً عن خبرها، مثل: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً} [44/ النور/ 24]. وتَدْخل على ضمير الفصل، مثل: {إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [62/ آل عمران/ 3].
* المؤكّد الثامن: "إنّ" و "أَنَّ" بكسر الهمزة وفتحها، وهما من الأحرف المشبّهة بالفعل، لأنَّها تَعْمَلُ فيما بَعْدَها شبيه عَمَل الْفِعل فيما بَعْدَه، وتدخلان على الْجُمَلِ الاسميّة.
وكُلٌّ منْهما ينْصِب ا لمبتدأَ الذي لا يَلْزَمُ الصدارة دائماً، ويُسَمَّى اسْمَها، وَيَرفَعُ الْخَبَرَ غَيْرَ الطَّلَبيّ والإِنْشائي، ويُسَمَّى خَبَرَها. وتفيدان تأكيد النّسبة بيْنَ اسْمِها وخبرها، مثل:
* {*إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ} [38/ الحج/ 22].
* {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [15/ طه/ 20].
* {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)} [الشعراء/ 26].
* {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحج/ 22].
* المؤكد التاسع: "إنْ" المخفّفة مِنَ الثقيلة، وتَدْخُلُ على الجملَتَيْنِ الفعليّةِ والاسميّة، مثل:
* {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} [يس/ 36].
* {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [143/ البقرة/ 2].
* {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [73/ الإِسراء/ 17]
* المؤكّد العاشر: ضمير الفصل، وهو الضمير الذي لا محلّ له من الإِعراب، ويقع فصلاً بين المبتدأ والخبر، أو بين ما أصله مبتدأ وخبر، مثل:
* {إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} [32/ الأنفال/ 8]. * {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [117/ المائدة/ 5].
* {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)} [القصص/ 28].
{إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً (39)} [الكهف/ 18].
وضمائر الفصل تُفِيد التأكيد وتفيد الاختصاص أيضاً.
* المؤكد الحادي عشر: "إنّما" و "أنَّما" أصْلهما "إنّ" و "أَنَّ" ضُمَّت إليهما "ما" الزائدة للتأكيد، فكفَّتْهما عن العمل، وهيّأَتْهُما للدّخول على الجُمَل الفعليّة، فهما يدخلان على الجملتين الاسميّة والفعلية، ويضَمِّ "ما" إليهما اجتمع في لفظيهما مؤكدان، إذْ أصلُهُما يُفيد التأكيد، وزاد التأكيد بضمّ "ما" إليهما، مثل:
{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} [23/ الأحقاف/ 46].
* {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)} [الذاريات/ 51].
* {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ} [65/ ص/ 38].
* {إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (70)} [ص/ 38].
* المؤكد الثاني عشر: كلمة "أَمَّا" الشرطيّة، وهي حرف شرطٍ وتفصيل وتوكيد.
أمّا كونُها شرطيّة فيدلُّ عليه لزومُ الفاء بعدها. وأمّا كونُها تفصيليّة فهو الغالبُ من أحوالها، وأمّا كونُها مؤكّدة، فقد قال الزمخشري بشأنها كما ذكر ابن هشام: فائدةُ "أمّا" في الكلام أنْ تُعْطِيَهُ فضل توكيد، تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدتَ توكيد ذلك وأنّه لا محالة ذاهبٌ، وأنّه بصَدَدِ الذهاب، وأَنّه عزيمة، قُلْتَ: أمّا زيدٌ فذاهبٌ.
ويأتي بعدها المبتدأ، أو الخبر، أو جملة شرط، أو اسم منصوبٌ بالجواب.
ومن الأمثلة قول الله تعالى في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً...} [الآية 26].
* المؤكّد الثالث عشر: أدوَات التنبيه، ومنها "ألا" التي تردُ للتنبيه في فاتحة الكلام، وتدخُل على الجملتين الاسميّة والفعليّة، مثل:
* {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس/ 10].
* {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [8/ هود/ 11].
وقول لبيد:
*ألا كلّ شيء ما خَلاَ باطل * وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالَةَ زَائلُ*
ومنها "أما" الاستفتاحية، والتي تأتي بمعنى "حقاً" كقولِ أبي صَخْرٍ الْهُذَلي:
*أَمَا وَالَّذِي أَبْكى وَأَضْحَكَ والَّذِي * أَمَاتَ وأَحْيَا والَّذِي أَمْرُهُ الأَمْرُ*
* المؤكد الرابع عشر: تكرير النفي، مثل قول الشاعر:
*لاَ. لاَ أَبُوحُ بحُبّ بَثْنَةَ إِنَّهَا * أَخَذَتْ عَلَيَّ مَواثِقاً وَعُهُوداً*
* المؤكد الخامس عشر: الأحرف التي تُضاف في الكلام، وتُسَمَّى "زائدة" ويدخل فيها كلُّ حرفٍ إذا حُذِفَ لم ينقص شيءٌ من المعنى المراد، فإيجاده في الكلام يكون لغرض التوكيد، ومنها:
* "مَا: بعد "إذا" مثل:
{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [127/ التوبة/ 9].
* "مِنْ" الجارة، مثل:
{وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)} [الأعراف/ 7]. و {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} [3/ يونس/ 10].
* "الباء" الجارة، مثل:
{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)} [النساء/ 4].
و {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [195/ البقرة/ 2].
و {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [36/ الزمر/ 39].
* المؤكد السادس عشر: السينُ وسوف الداخلتان على فعل دالٍّ على وَعْدٍ أو وَعيد، مثل:
* {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ (31)} [الرحمن/ 55].
* {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران/ 3].
* {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} [151/ آل عمران/ 3].
* {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)} [النساء/ 4].
* {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} [56/ النساء/ 4].
* المؤكد السابع عشر: "لَكِنَّ وهي حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، قال ابن عصفور هي للتوكيد، ويصحَبُ التوكيد معنَى الاستدراك. وقيل: للاستدراك فقط، وقيل تَرِدُ تارةً للاستدراك وتارة للتوكيد، مثل:
* {وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [البقرة/ 2].
* {وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام/6].
وقول الشاعر الحماسي:
*لَكِنَّ قَوْمي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ * لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا*
* المؤكد الثامن عشر: "لَنْ" قال علماؤنا: وَلاَ تفِيدُ تَوْكيدَ النَّفْي وَلاَ تَأْبِيدَهُ خلافاً للزمَخْشَرِي.
أقول: أمّا التَّأْبِيدُ فلا تُفِيدُه حَتْماً، وأَمَّا التوكيد فالظاهر أَنَّها تُفيدُه، لأَنّ لفظ "لَنْ" زائدٌ على لفظ "لا" النافية، والزيادة في لسانِ العرب إنّما تكونُ غالباً لزيادة المعنى، وظاهر أنّ لفظ "لَنْ" مُشابِهٌ للفظ "لا" بزيادة نون ساكنٍ في آخرِه لزم من وجود حذف الألف، لأنه ساكنٌ مَدّيٌّ ليّن، والنافي ابتداءً يقول: لا أفْعَلُ، فإذا ألَحَّ عليه طالبُ الفعل قال: لَنْ أفْعَلَ.
(6) تقسيم الإِسناد في الجملة إلى حقيقي ومجازي (وهو المجاز العقلي)
الإِسناد الحقيقي:
إذا جعَلَ المتكلّمُ الإِسنادَ في جُمْلَتِهِ مبنيّاً على ما يعتقد أنّه هو له في الواقع فإسناده إسناد حقيقيٌّ لا مجاز فيه.
أمثلة:
* كقول المؤمن ا لمسلم: الله خالق كل شيء - وهو الذي يُنْبت الزّرع - وَيُدِرُّ الضَّرْعَ - ويُحْيِي ويُميت.
* وكقول النصراني: أحْيا عِيسَى الأموات - وخَلَقَ الطيورَ.
فإنّه يعتقد أن عيسى هو فاعل هذا الإِحياء والخلْقِ باعتباره كما يعتقد أنّه أحد الأقانيم الثلاثة التي يتكَوَّنُ مِنها الله "الأقانيم: هي في اعتقاد النصارى أشخاصٌ متفاصلة مع أنّها إلَه واحد".
* وقول المشرك الوثني الذي لا يُلاحظُ أفعال الله فيما يجري في الكون من أحداثٍ ذواتِ أسباب، بل يرى الأسبابَ ذوات فِعْلٍ حقيقيّ في مُسَبَّباتها:
أنبتَ مَطَرُ السماء الزرعَ في الأرض - أنزلَ نَوْءُ كذا المطر - أشْعَلَتِ الرّيَاح السَّمومُ النار في الغابة فأحرقتها.
* وكقولك لفلاّح رأيتَهُ قد قام بأعماله بيديه: حَفَر بِئْرَهُ - وحَرَثَ أرْضَهُ - وغَرَسَ شَجَرَه.
الإِسْنادُ المجازيّ:
وإذا جَعَلَ المتكلّم الإِسنادَ في جملتهِ مبنيَّاً على غَيْرِ ما يَعْتَقِد أنّه هو لَهُ في الواقع، مُلاَحِظاً علاقَةَ ما أو مُلاَبسَةً ما تَسْمَحُ لَهُ بأنْ يُسْنِدَ هذا الإِسناد، دون أَنْ يتَّهِمَهُ أحَدُ بالكذِب، فهو إسنادٌ مجازيٌّ، ويُسمَّى هذا "مجازاً عقليّاً" لأنّه وقَعَ في الإِسناد، لا في الْمُسْنَدِ، ولا في الْمُسنَدِ إليه.
ويُلْحَقُ به كلُّ وَصْفٍ "صفة أو حال" إذا بنيت منه ومن الموصوف جملة مفيدة كان الإِسناد فيها إسناداً مجازيّاً، كما سيأتي في الأمثلة.
الأمثلة:
* كقولنا: "رَبِحَتْ تِجَارَةُ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه" ففي هذه الجملة أُسْنِدَ الرّبْحُ إلى التجارة، مع أنّ الرابحَ هو صاحبُها: "عبدالرحمن بن عوف".
وحين أسندنا الربح إلى التجارة لم نكن نعتقد أنّ التجارة هي التي ربحت، وإنّما الذي ربح هو صاحبها، ولكنْ أرَدْنَا أنْ نُعَبِّر تعبيراً مجازيّاً قائماً على ملاحظة أثَرِ الحركة التجاريّة الحكيمة الذّكيّة التي قام بها عبد الرحمن والّتي حقَّقَ بها الرّبْح، فصحَّ في تصوُّرنا أن نُسْنِدَ الرّبْحَ إلى التجارة نَفْسِها، للإِشْعَارِ بقيمة المهارة التي اشتملت عليها تجارته.
وبما أنّ التجارة هي عَمَلُ عبد الرحمن فبينها وبينه مُلابَسَةٌ قويَّةٌ، وعلاقَةٌ واضحةٌ، هي علاقة العامل بعمله، أو نقول: هي علاقة الفاعل "وهو عبد الرحمن" بالمفعول به "وهي التجارة" إذ كان المفعول به سبباً في تحقيق الربح لعبد الرحمن "الفاعل".
* وكقولنا: "قَتَلَتِ الْمُتَهَوِّرَ حَمَاقَتُهُ" مع أنَّهُ قَدْ قُتْلَ بِيَدِ خصومه الّذين نازلهم في تهوُّرِه بدون أن يحسب حساباً للنتائج.
ففي هذه الجملة قد أسندنا القتل إلى الحماقة، فجعلناها هي القاتلة، مع أنّ القاتل هو البطل الخصم الذي نازله، وهو غير كفءٍ لمنازلَتهِ.
ولكنْ أردنا أنْ نُعَبْر تعبيراً مجازياً قائماً على ملاحظة أثر الحماقَةِ الّتي دفعت المتهور، فجعلَتْه قتيلاً بيَد قاتله البطل، فصحَّ في تصوُّرنا أن نُسْنِدَ الْقَتْلَ إلى الْحَمَاقة، للإِشعار بكونها سبباً في قتله، مع الاختصار في العبارة، وأصل الكلام: قتَلَ البطَلُ مُنَازِلَهُ الّذي تهوَّر بسبب حماقته التي دفعته إلى منازلة البطل، وهو غير كُفْءٍ لمنازلته.
ونظير هذا أن نقول: قطَعَتِ السّرقةُ يَدَ السَّارق، إذْ نُسْنِد القطع إلى السّرقة، مع أنّ الّذِي قطع يد السَّارق مُنَفِّذُ حُكْمِ حدّ السّرقة.
أحوال المسند في الجملة المشتملة على مجازٍ عقلي:
الْمُسْنَدُ في الجملَةِ المشتملة على مجازٍ عَقْلِيٍّ قد يكون واحداً مما يلي:
* قد يكون فعلاً مَاضياً، أو فعلاً مضارعاًن أو فعل أمر، مثل: "بَنَى الأمير المدينة - يبني الأمير المدينة - يا هامانُ ابْنِ لي صَرْحاً".
* وقد يكون غَيْرَ فِعْلِ، لكنَّهُ في معنى الفعل، وهو ستة أنواع، هي:
"1- المصدر 2- اسم الفعل 3- اسم المفعول 4- الصفة المشبّهة 5- اسم التفضيل 6- الظرف والجار والمجرور".
الأمثلة:
أوّلاً - من المصدر:
* قولنا: "دوامُ الدولَةِ عَدْلُها" ففي هذا المثال أسندنا العدل وهو مصدر "عَدَلَ" إلى غير ما هو له، وهو دوام الدولة، فالعدلُ ليسَ هو دوامَ الدولة، لكنَّهُ سبَبٌ في دوامها.
* قول الخنساء من قصيدة ترثي بها أخاها صخراً:
*فَمَا عَجُولٌ لَدَى بَوٍّ تُطِيفُ به * لَهَا حَنِينَانِ إِعْلاَنٌ وإِسْرَارُ*
*أَوْدَى بِهِ الدَّهْرُ يَوْماً فَهْيَ مُرْزِمَةٌ * قَدْ سَاعَدَتْهَا عَلى التَّحْنَانِ أَظْآرُ*
*تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ * فَإنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وإدْبَارُ*
*يَوْماً بِأَوْجَعَ مِنِّي يَوْمَ فَارَقَنِي * صَخْرٌ ولِلْعَيْشِ إِحْلاَءٌ وإِمْرَارُ*
عَجُول: أي: ثَكْلَى، ومُرَادُها: ثَكْلَى من النوق.
بَوّ: جِلْدُ وَلَد الناقة يُحْشَى تِبْناً ويُقَّرَّبُ من أمْه الثكلَى لتدر عليه.
تُطِيفُ به: أي: تَدور حوله.
أَوْدَى به الدّهر: أي: أهلكه.
مُرْزِمَة: يُقالُ" أزْرَمَتِ الناقة، إذا صوّتَتْ حنيناً على ولدها.
أَظْآرُ: أي: نوقٌ تُرْضِعُ غَيْرَ أَوْلادها من حنينها على أولادها.
وللعيش إِحْلاَءٌ وإمْرَارُ: أي: وللعيشِ أحوال يُقَدّمُ بها حلاوة، وأخرى يقدّم بها مرارة.
والشاهد في قولها:
*تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ * فَإنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وإدْبَارُ*
أي: هذه الثكْلَى مِنَ النوق تَرْتَعُ (أي: ترعَى) في أوقات غفلتها وسُلُوّها عن ولَدِها، حتَّى إذا تذَكَّرَت وَلَدَها ثار بها الحنين فصارت تُقْبِلُ وتُدْبِرُ على غير هُدىً، لكن الخنساء لم تَقُلْ هكذا، وإنما جعلَتِ الناقَةَ كُلَّها هي الإِقبال والإِدْبار، فقالت: "فإنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وإِدْبارُ
الإِقبال مصدَرُ "أقبل" والإِدْبارُ مصدر "أدْبَر" ومرادُها الإِشعارُ بأنّها صارت في التَّصَوُّر إقبالاً وإِدْباراً، لطغيان هذين الوصفين على الذات وسائر الصفات.
* قولي صانعاً مثلاً:
*يَرَى السُّخَفَاءُ الْمُلْكَ عَرْشاً وَتَاجَهُ * وَمَا الْمُلْكُ إِلاَّ الْعَدْلُ والْجُودُ والْحَزْمُ*
أي: سبَبُ ظفر الْمَلِكِ بسُلْطانِهِ على شبعه واكتسابه الْمُلْكَ الحقيقي أن يقيم العدل، وتخلّق بالجود وبالحزم.
* قول الشاعر:
*سَيذْكُرُني قَوْمي إِذَا جَدَّ جِدُّهُمْ * وفي اللّيلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ الْبَدْرُ*
فَنَسَبَ فعل "جَدَّ" إلى المصدر المضاف إلى ضمير قومه، أي: إذا جَدُّوا، والمرادُ الإِشعارُ بأنْ أمرهم الجدَّ إذا انْضَمّ إليه جدُّ آخرُ فوق المعتاد فأقْلَقَهُمْ وأحْوَجَهُمٍ إلى معين، فإنَّهُمْ سَيَذْكُرُونني حنيئذٍ.
ثانياً - من اسم الفاعل:
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) بشأن مَنْ أوتي كتابه بيمينه:
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)}.
راضية: اسم فاعل، وقد جاء في هذا التعبير القرآني إسناد الرّضا في كلمة "راضية" إلى العيشة، مع أنّ الراضي هو صاحبُ العيشة، إذْ يَرْضَى عن عيشته الحسنة، فالعيشة في الحقيقة مرضيّة.
والعلاقة الّتي صحَّحَت استخدام هذا المجاز العقلي كون العيشة محيطة بحياة صاحِبِها، ورضاهُ بها يُشيع الرّضا في كلّ ما يحيط به.
والتحليل النفسيّ لهذا يكْشِفُ أنّ من كان سعيداً فإنّه يرى الدنيا كلّها من حوله سعيدة، ومن كان حزيناً فإنّه يرى الدُّنيا كلَّها من حوله حزينة، وهكذا.
* قولهم: "طريق سائر" مع أنه مسيرٌ فيه، و"نَهْرٌ جارٍ" مع أنّه مجريٌّ فيه، للإِشعار بأنّ التصوُّرَ يَرَى الطريق يسير لامتلائه بمن يمشي فيه، وبأنّ حُفْرَة النَّهر تجري لامتلائها بالماء الجاري.
* قولهم: "نهارُهُ صائم" و "لَيْلُهُ قائم" فإسنادُ الصَّيام إلى النهار، والقيام إلى اللّيل، مع أنّ فاعل الصيام والقيام هو الرّجل المتعبّد بداهة، يَعْتَمِدُ على مَدِّ في التصوّر للإِشعار بأنّ النهارَ واللَّيْلَ يَصُومانِ ويقومان معه بمشاعره ووجدانه.
* ما جاء في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إنّي أحْمَدُكَ عَلَى الْعِرْقِ السَّاكِنِ واللَّيْلِ النَّائم".
أي: على العاقية والنْومِ في اللَّيل، فجَاء وصف اللّيْل بالنوم مع أنه وصف لمن ينام فيه والوصف اختصار لنسبةٍ بَيْنَ رُكْنَيْ إسنادٍ في جملة مفيدة.
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (العلق/ 96 مصحف/ 1 نزول): بشأن الذي ينهى عبداً إذا صلّى:
{كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)}.
جاء في هذا النّصّ وصف الناصية باسم الفاعل: "كاذِبة وخاطئة" مع أنّ الكاذب والخاطىء هو صاحب الناصية، لكنّ الناصية جزءٌ منْهُ، فَجَذْبُهُ من ناصيته لإِذْلاله وتعذيبه يكون بسب كونه كاذباً وخاطئاً، والملابسة والعلاقة بين الناصية وصاحِبها من الأمور الظاهرة.
والوصف كما سبق هو اختصار لنسبه بين ركني إسنادٍ في جملة تامّة، إذْ يُقالُ في هذه الجملة: "ناصيةٌ كاذبة" و "ناصِيةٌ خاطئة".
لَنَسْفَعَنَّ: أي: لنَقْبِضَنَّ وَنَجْذِبَنَّ.
ثالثاً - من اسم المفعول:
* قولي ضارباً مثلاً:
*دَارُهُ مَهْجُورَةٌ مِنْ حِبِّه * ونَعِيمُ الْوَصْلِ لِلْكُوخِ الْبَعِيدِ*
ففي هذا إسنادُ اسم المفعول وهو "مهجورةٌ" إلى الدّار، مع أنّ المهجور صاحبها، ولكنّ الْمشَاعِرَ النفسيّة مَدَّتْ أبْعَادَ الهجْرِ، فجعَلَتْ الدارَ كُلَّها مهجورة، مع أنْ المتكلّم يَعْلَمُ أنّ الهجْرَ هو لصاحب الدار، لا للدّار، فتجوَّزَ في التعبير لِيُشْعِرَ الآخرينَ بما شعَرَ هو به.
* وقولهم: سَيْلٌ مُفْعَمٌ، ففي هذا إسناد المفعول "مُفْعَم" إلى السيل، مع أنَّ المفعَمَ (أي: المملوءَ) هو الوادي الذي جرى فيه السي، أمّا السيل فهو "مُفْعِم" بكسر العين اسم فاعل.
* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول):
{إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103)}.
الشهود: هو الحضور المصحوب بإدراك الحواس.
فجاء في هذا النصّ إسنادُ المشهوديّةِ للْيَوْم، مع أنَّ اليوْمَ اسْمٌ لزمَنٍ، وهو لا يُدْرَكُ بالْحوَاسّ، لكِنّ الذي يُشْهَدُ ويُدْرَكُ بالحواسّ هو ما يَحْصُل في اليوم من أشياء وأحداثٍ تُرى أو تُسْمَع أو تُلْمَسُ. ولمّا كان كلُّ شيءٍ في ذلك اليوم سيكونُ مشهوداً محضوراً غير غائب، كان إطلاق المشهوديَّةِ على اليوم دالاًّ على هذِهِ المشهوديَّة الشّاملة لكلّ ما فِيه بأخْصَرِ عبارَة، فَهُو مِنَ المجاز العقليّ.
رابعاً - من الصفة الْمُشَبَّهَة:
* قولنا: فلانٌ رِداؤه شَريف، وإزارُه عفيف، ففي هذا القول إسناد الشرف إلى الرداء، والمراد أنه شريف الحسب والنسب، وإسناد العفّة إلى الإِزار، والمراد أنّه ذو عفّةٍ في فرجه الواقع تحت الإِزار، والملابسة واضحة.
كلمتا "شريف وعفيف" هما صفتان مشبهتان، والصفة المشبّهة، هي لفظ مصوغٌ من مصدر اللازم للدلالة على الثبوت، مثل: أحمر وحمراء، وعطشان وعطشى، وحسَن، وشجاع، وجبان، وفَرِح، ونَجِس، وطاهر، وبخيل، وكريم.
* وقولنا: فلانٌ سَيْفُه جبان، وصُنْدوق ماله بخيل.
ففي هاتين العبارتين إسناد الْجُبْنِ إلى السيف وإسناد البخل إلى صندوق المالِ، والمراد صاحبُهما، والملابسةُ أو العلاقة كَوْنُ المذموم مالِكَهُما أو المتصرّفَ بهما.
* وكالوصف في: "الكتاب الحكيم" و "الأسلوب الحكيم" إذا قلنا: إن الحكمة صفة صاحب الكتاب والأسلوب.
خامساً - من أفعل التفصيل:
* قولنا: إزار فلانِ أعَفُّ من إزار فلان، وسيفُهُ أشجع من سيفه، وصندوقه أكرم من صندوقه، ودارهُ أكثر ترحيباً بالضُّيُوفِ من دارِه.
سادساً - من الظرف والجار والمجرور:
* قولنا: الشُّجَاعُ حينَ المبارزة، وعند اللّقاء، وفي ساحَةِ الوغَى.
أي: تُعْرَفُ وتَظْهَرُ شَجَاعة الشُّجَاعِ في وقت المبارزة، ومكان اللّقاء، وفي ساحةِ الحرب.
علاقات المجاز العقلي:
أمّا المجاز العقلي فهي كلّ مُلاَبَسةٍ أو علاقة تُصَحّح التجوز في مفاهيم البلغاء والأدباء، في المجاز العقلي وفي المجاز المرسل الآتي بيانه في موضعه إن شاء الله.
وقد أحصى منها علماء البلاغة وعلماء أصول الفقه زائداً على عشرين علاقة، منها: "السببّة - المسببّة - إطلاق الكلّ على البعض - إطلاق البعض على الكلّ - إطلاق اللازم وإرادة الملزوم - إطلاق الملزوم وإرادة اللازم - إطلاق المطلق وإرادة المقيّد - إطلاق المقيد وإرادة المطلق - إطلاق العام وإرادة الخاص - إطلاق الخاص وإرادة العامّ - إطلاق الحالّ وإرادة المحل - إطلاق المحلّ وإرادة الحالّ - إقامة المضاف إليه مقام المضاف - إقامة المضاف مقام المضاف إليه - علاقة الجوار - اعتبار ما كان عليه الشيء - اعتبار ما يؤول إليه الشيء - علاقة الآليّة - علاقة البدليّة والعوض - إطلاق المعرّف باللاّم وإرادة واحدٍ منكر - إطلاق النكرة في الإِثبات وإرادة العموم - علاقة التضادّ" إلى غير ذلك من علاقات.
ومن هذه العلاقات ما يصلح في المجاز العقلي، ومنها ما لا يصْلُحُ، وذوق البليغ هو الذي يُحْسِنُ تصيُّد العلاقة لما يصوغ من كلام يَتَجوَّزُ فيه عن ذكر الحقيقة إلى مُلابِسٍ من مُلاَبِسَاتها.
***
(7) الجملة المفيدة بين الإِثبات والنفي
تنقسم الجملة المفيدة من جهة الإِثبات والنفي إلى قسمين:
القسم الأول: الجملة المثبتة، وهي الجملة الّتي خلَتْ من أداةٍ من أدوات النفي، فالإِسنادُ فيها بين الْمُسنَدِ والْمُسْنَدِ إلَيْهِ (بين المحكومِ به ولمحكُومِ عليه) إسنادٌ مُثْبَتٌ، ولول كان مضمون الجملة يمكن أنْ تُصَاغَ له جملةَ منفيّة.
مثل: "العنقاءُ طائُرٌ مَعْدُومٌ".
هذه جُمْلةٌ مُثْبَتَةٌ، ويُمكن أنْ يُصاغ لمضمونها جملةٌ أخرى منفيّة نقولُ فيها:
"لا وُجُودَ لطائر العنقاء".
القسم الثاني: الجملة المنفيّة، وهي الجملة التي دخلتْ عليها أداةُ من أدواتِ النفي دلّتْ على نفي نِسْبَةِ الْمُسْنَدِ إلى المُسْنَدِ إلَيْهِ فيها، ولو كان مضمون الجملة يُمْكِنُ أن تُصَاغ له جملة مثبتة.
مثل: "لا وُجود لطائر العنقاء" و "لا يعلم الكفار أنهم إلى النار صائرون".
هاتان جملتان منفيتان، ويُمْكِنُ أن يُصاغ لمضمونهما جملتان أخريان مثبّتان نقول فيهما:
"العنقاء طائر مَعْدُومٌ"، و "الكفارُ يَجْهَلُونَ أنَّهم إلى النار صائرون".
أدوات النفي التي تنفي الجمل:
أدوات النفي التي تنفي الجمل في اللّسان العربي ثمان، هي: "لاَ - لاتَ - لَيْسَ - مَا - إنْ - لَمْ - لَمَّا - لَنْ".
وفيما يلي بيانٌ حولَ هذه الأدوات:
شرح الأداة الأولى: كلمةُ "لاَ" وتأتي حرفَ نَفْي على خمسة أوجه:
الوجه الأول: أنْ تكونَ عاملةً عملَ "إنَّ" تنصِبُ الاسْمَ وتَرْفَعُ الخبر، وذلِكَ إذا أُرِيدَ بها نفيُ الجِنْسِ على سبيل التنصيص، ومن أمثلة هذا الوجه قولُ أبي الطيّب المتنبِّي يمدح عليّ بن أحمد الخرساني:
*ولاَ ثَوْبَ مَجْدٍ غَيْرُ ثَوْبِ أبْنِ أَحْمَدٍ * عَلَى أَحَدٍ إلاَّ بِلُؤْمٍ مُرَقَّعُ*
الوجه الثاني: قد تكونُ بِقلَّةٍ عاملةً عَمَلَ "لَيْسَ" تَرْفَعُ الاسم وتنصبُ الخبر، ومن أمثلة هذا الوجه قولُ الشاعر:
تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأَرْضِ بَاقِيَا * وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللهُ واقِيَا*
وقولُ أبي الطيّب المتنبّي:
*إِذا الْجُودُ لَمْ يُرْزَقْ خَلاَصاً مِنَ الأَذَى * فَلاَ الْحَمْدُ مَكْسُوباً وَلاَ الْمَالُ بَاقِيَا*
الوجه الثالث: أن تكونَ عاطفةً بشروطٍ مبيّنة عند النحويين، مثل: "جَاءَني رَجُلٌ لاَ امْرَأَة".
ومِنْ أمثلة هذا الوجه قولُ امْرِىءِ الْقَيْس:
*كَأَنَّ دِثَاراً حَلَّقَتْ بِلَبُونِهِ * عُقَابُ تَنُوفَى لاَ عُقابُ الْقوَاعِلِ*
دِثار: اسْمُ راعٍ كان يرعى الإِبل.
حَلَّقَتْ: أي: ذهبت.
بلَبُونِه: أي: بنُوقِهِ ذَواتِ اللَّبَن.
الْعُقاب: طائر من كواسر الطير قويّ المخلب، ولفظه مؤنث، ويُجْمَعُ على "أَعْقُبٍ" و"عِقْبْان".
تَنُوفَى: اسم جَبَلٍ عالٍ تَأْوِي إليه العِقْبان الشديدةُ القويّة.
الْقَوَاعِل: صِغَارُ الجبال التي تأوي إليها العِقْبانُ الصّغارُ والضِّعاف.
الوجه الرابع: أن تكون جواباً مناقضاً للجواب بلفظ "نَعَمْ" وهَذِه تُحْذفُ الْجُمَلُ بَعْدَهَا بكَثْرَةٍ.
الوجه الخامس: أن تكون على خلاف ما سبق:
فإن كان ما بعدها جملةً اسميّة صَدْرُها مَعْرِفَةٌ أو نكرة ولم تَعْمَلْ فيها، أو كان ما بَعْدَها فِعْلاً ماضِياً لفظاً أَوْ تَقْدِيراً وجب تكرارها، إلاَّ في الدّعاء، وإرادةِ المستقبلِ في الفعل الماضي.
ومن أمثلة هذا الوجه:
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول:
{لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}.
* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الصافات/37 مصحف/ 56 نزول):
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (45) بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47)}.
وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُون: أي: ولاَ هُمْ عَنْ شُرْبِهِم لَهَا يَسْكَرُونَ حتَّى تَذْهَبُ عُقولُهُم، يُقَال لُغَةً: شَرِبَ خَمْراً فَأَنْزَفَ، أي: سَكِرَ أو ذهب عقله.
* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/ 57 مصحف/ 31 نزول) بأن الكافر:
{فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى (31) وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)}.
***
شرح الأداة الثانية: كلمة "لاَتَ" وهي حرف نفي، قال جمهور النحويين: هي مؤلّفة من كلمتين: هما "لاَ" النافية، و"التاء" الَّتِي لتأنيث اللّفظة، كما في "ثمَّت" وَ "رُبَّت" وإنّما وجبَ تحريكُ التاء في "لاَتَ" لالْتِقاءِ السّاكنَيْن.
وقال جمهور النحويين: إنّها تَعْمَلُ عَمَل "لَيْس" وهي خاصَّةٌ بِنَفْي الْحِين، ولاَ يُذْكَرُ بَعْدَهَا إلاَّ أَحَدُ مَعْمُولَيْهَا.
ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول):
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)}.
***
شرح الأداة الثالثة: كلمة "لَيْسَ" وهي فعلٌ لاَ يَتَصَرَّف، ويدُلُّ على نَفْي الحالِ، ويَنْفِي غَيْرَهُ بقرينة، وهو يَرْفَعُ الاسْمَ ويَنْصِبُ الخَبَر، ومن الأمثلة:
* قول الله عزَّ وجلَّ خطاباً لرسوله بشأن الكافرين في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{*لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ...}. [الآية 272].
* قول المتنبّي في مَدْحِ طاهِرِ بْنِ الْحُسين:
*فَشَرَّقَ حَتَّى لَيْسَ لِلشَّرْقِ مَشْرِقٌ * وغَرَّبَ حَتَّى لَيْسَ لِلْغَرْبِ مَغْرِبُ*
***
شرح الأداة الرابعة: كلمة "ما" الحرفية، وتأتي حرْفَ نَفْيٍ، وتدخُلُ على الجملَتَيْن الاسميّة والفعليّة:
* فإذا دخَلَتْ على الجملة الاسمية أعملها الحجازيّون والتهاميُّونَ والنَّجْدِيُّونَ عَمَل "لَيْسَ" بشروط.
* وإذا دخلت على الجملة الفعليّة لم تَعْمَلْ.
* وهي تخلِّص الفعل المضارع إذا دخلت عليه للحالِ عند جمهور النحويين، ما لم تُوجَدْ قرينةٌ تدُلُّ على الاستقبال.
***
شرح الأداة الخامسة: كلمةُ "إِنْ" وهي حرف.
فمن وجوه هذه الكلمة أن تأتي نافية، وتَدْخُل على الجملتين الاسميّة والفعلية، ولا يشترط أن يأتي بعْدها في الجملة "إلاّ" أو "لمّا" حتَّى تكونَ نافية، وبعضهم اشترط ذلك.
ومن أمثلة استعمال "إِنْ" حرف نفي ما يلي:
* قول الله عزَّ وجلّ في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول):
{...إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)}.
أي: ما الكافرون إلاَّ في غرور.
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الطارق/ 86 مصحف/ 36 نزول):
{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)}.
أي: ما كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْها حَافِظٌ.
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول):
{قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68)}.
أي: ما عندكم من حُجَّةٍ ذَاتِ سُلْطَانِ بِهذا الذي تقولونه.
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) خطاباً لرسوله:
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِي? أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109)}.
أي: وما أدري أقريبٌ أمْ بعيدٌ تُوعَدُونَ.
***
شرح الأداة السادسة: كلمة "لم وهي حرف نفي وجزْمٍ يجزم الفعل المضارع، ويقلبُ زمَنَهُ فيجعَلُهُ ماضياً.
الأمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ...} [الآية 283].
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البينة/ 98 مصحف/ 100 نزول):
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)}.
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184)}.
* قول المتنبّي يمدح أبا عُبَادَة بن يحيى البحتري:
*لَمْ أُجْرِ غَايَةَ فِكْرِي مِنْكَ فِي صِفَةٍ * إِلاَّ وَجَدْتُ مَدَاهَا غَايَةَ الأَبَدِ*
شرح الأداة السابعة: كلمة "لَمَّا" وَهِي حَرْفُ نفي وجزم، يجزم الفعل المضارع، ويَقْلِبُ زمنَهُ فيجعلهُ ماضياً مثمل "لَمْ" لكنَّ "لمَّا" تُفَارقُ "لَمْ" في خمسة أمور:
الأمر الأول: أنّها لا تقترن بأداة شرط، بخلاف "لم".
الأمر الثاني: أنّ منفيَّها مُسْتَمِرُّ النفي إلى زمان التكلّم، بخلاف "لَمْ" فقد ينقطع نفيُها في بعض أزمان الماضي، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الإِنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول):
{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1)}.
أي: ثُمَّ كان شيئاً مذكوراً في الزمانِ الماضي.
الأمر الثالث: إنّ الغالب في منفيّ "لمَّا" أنْ يكون قرِيباً من الحال.
الأمر الرابع: قالوا: إنّ منفيّ "لمَّا" متوقَّعٌ ثُبوتُهُ بخلاف منفي "لم".
أقول: هذا مُعْتَرَضٌ عليه بقول الله عزّ وجل في سورة (عبَس/ 80 مصحف/ 24 نزول):
{كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ (24)}.
إذِ الاَيةُ فيها زَجْرٌ يَوْم القيامة للعاصي الذي لمَّ يَقْضِ ما أَمَرَهُ الله به، وقد صار أمراً غير ممكن الحصول، وغير متوقّع، بعد انتهاء زمن الابتلاء.
الأمر الخامس: أنّ منفيّ "لمَّا" جائز الحذف، فتقول: أنَا قاصدٌ الحجّ إلى بيت الله الحرام ولمَّا، أي: ولمَّا أصِلْ. بخلاف "لم".
***
شرح الأداة الثامنة: كلمة "لَنْ" وهي حرف نفي ونَصْبٍ للفعل المضارع، واسْتِقبال.
قالوا: ولا تفيد توكيد النفي ولا تأبيده خلافاً للزمخشري.
أقول: أمّا أنّها لا تفيد التأبيد فهو حقٌّ، لأنّ في كثير من النصوص التي توجد فيها "لن" ما يدلُّ على أنّ التأبيد غير مدلولٍ عليه فيها.
وأمّا التأكيد فأرى أنّها تُفِيده، لأن مَبْنَى حرف "لن" فيه زيادة لفظية على مبنى حرف "لا" فهي آكَدُ منها.
***
رأيٌ لِلْحَوْفِي حول أدوات النفي
قال الْحَوْفِي: أصل أدوات النفي "لا" و"ما" لأنّ النفي إمّا في الماضي، وإمّا في المستقبل، والاستقبال أكثر من الماضي أبداً. قال: و"لا" أخفّ من "ما" فوضعوا الأخفّ للأكثر، ثُمَّ إنّ النفي في الماضي إمّا أن يكون نفياً واحداً مستمراً، أو نفياً فيه أحكامٌ متعدّدة، وكذلك النفيُ في المستقبل، فصار النفي على أربعة أقسام، واختاروا له أرْبَعَ كلمات: "ما" و"لم" و"لن" و"لا".
وأمّا "إنْ" و"لمَّا" فليسا بأَصْلَيْن.
فـ "ما" و"لا" في الماضي والمستقبل متقابلان، و "لم" كأنَّه مأخوذٌ من "لا" و"ما" لأنّ "لم" نفي للاستقبال لفظاً، وللمضيّ معنًى، فأُخِذَ اللاَّمُ مِن "لا" الّتي هي لنفي المستقبل، والميم من "ما" التي هي لنفي الماضي، وجُمِعَ بينَهُما إشارةً إلى المستقبل والماضي، وقُدِّم اللاّم على الميم إشارة إلى أَنَّ "لا" هي أصل النفي، ولهذا يُنْفَى بها في أثناء الكلام، فيُقالُ: لم يفْعَلْ زيْدٌ ولاَ عَمْرو.
وأمّا "لَمَّا" فَتَرْكيبٌ بعْدَ تَرْكيب، كأنّه قَالَ: "لَمْ" و"ما" لتوكيد معنى النفي في الماضي، وتفيد الاستقبال أيضاً، ولهذا تُفِيد "لمّا" الاستمرار.
أقول: كلامُ الْحَوْفِي رَأيٌ في تحليل الوضع اللّغوي، إلاَّ أنّ اللّغات يَصْعُبُ الجزم بتعليل أوضاعها، إلاَّ ما كان منها متبادراً لِلْفَهْم، أو خاضعاً لمقاييس تجريبيّة.
***
قضايا حول النفي في الجملة
القضيةُ الأولى: نفيُ الذَّاتِ الموصُوفة قَدْ يكونُ نَفْياً للصفة دون الذّات، وقد يكون نفياً للذّاتِ والصفة معاً.
(1) فمن أمثلة نفي الصفة دُونَ الذّات، قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) بشأن الرُّسُلِ من البشر:
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ (8)}.
فالنفْيُ في هذه الآيَةِ مُسَلَّطٌ علَى عدم أكلهم للطعام لا عَلَى كَوْنِهِمْ جَسَداً، فهم جَسَدٌ وَيَأْكُلُونَ الطَّعَام.
(2) ومن أمثلة نفي الذاتِ والصفة معاً:
* قولُ الله عزَّ وجلَّ بشأن الفقراء المتعففين عن المسألة في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً...} [الآية 273].
أي: لاَ يسألُونَ الناسَ مطلقاً فلاَ يَحْصُلُ منهم إلحافٌ في المسألة.
أقول: لا مانع من أن يسألُوا برفق دون إلحافٍ.
الإِلحاف: الإِلحاح في المسألة مع عدم الحاجة.
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) بشأن الظالمين يوم القيامة:
{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)} [الآية 273].
أي: لاَ يَكُونُ لَهُمْ شَفيعٌ مُطْلَقاً وبذلك ينتفي الشفيعُ ووصْفُهُ، وفائدة ذكر الوصف قَطْعُ طَمَعِهِمْ بأنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمْ من دُونِ اللهِ من الملائكة أو الصالحين سيشفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ رِبِّهِمْ، فلَوْ شفَعوا لهم لَمْ يَسْتَجِب الله لشفاعتهم.
***
القضيّة الثانية: قد يُنْفَى الشَّيْءُ كُلُّه لِعَدم كمالِ وصْفِهِ، أو لانتفاء ثمرته، فمن أكلَ طعاماً لم ينتفع منه يقول: مَا أكَلْتُ، ومَنْ شَرِبَ شراباً لم يستَمْتعْ بهِ يقول: مَا شَرِبْتُ.
ومن الأمثلة على هذه القضيَّة من القرآن، قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعلى/ 87 مصحف/ 8 نزول):
{وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا (13)}.
فنفى عنه الموت، لأنّ ما هو فيه لَيْسَ بموتٍ، ونَفَى عنه الحياة لأنّ مَا هو فيه ليسَ حياةً طيّبةً ذاتَ راحةٍ من العذاب.
***
القضية الثالثة: نفيُ الأعمّ يَدُلُّ على نفي الأخصّ، وإثباتُ الأعمّ لا يدُلُّ على إثبات الأخَصّ. وإثباتُ الأخصّ يدلُّ على إثبات الأعَمْ، ونفي الأخصّ لا يَدَلُّ على نفي الأعمّ.
ونفيُ المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصْلِ الفعل.
الأمثلة:
* إذا قلنا "لا يوجد في الدار إنسان" فهو يدلُّ على أنه لا يوجد فيها امرأة، لأنَّ لفظ "إنسان" أعَمّ، يَشْمَلُ الرَّجُلَ والمرأة والطفل والطفلة.
* وإذا قلنا: "يوجد في الدار إنسان" فهو لا يدُلُّ على وجود رجلٍ حتماً، أو وجود امرأة حتماً، بل يمكن أن يكون الموجود واحداً غير مُعيَّن ممّا ينطبق عليه لفظ "إنسان" الذي هو أعم من لفظ "رجل" ومن لفظ "امرأة"
* وإذا قلنا: "يوجد في الدار إنسان" فهو يدلُّ على وجود حيوان فيها، لأنّ لفظ "إنسان" أخصُّ من لفظ حيوان، فالإِنسان هو حيوان ناطق.
* وإذا قلنا: "لا يوجَدُ في الدار إنسان" فهو لا يَدُلُّ على عدم وجود حيوان مطلقاً، لأن لفظ "حيوان" أعَمُّ من لفظ "إنسان" فقد يوجد فيها حيوان غير إنسان.
* وإذا قُلْنا: "ليْسَ فُلاَنٌ ظلاَّماً" لم يَدُلَّ هَذا القولُ على أنَّه ليسَ ظالماً مطلقاً.
وأمّا قول الله عزّ وجلّ: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [182/ آل عمران/ 3]. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [46/ فصلت/ 41]. {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [29/ ق/ 50].
فهو من دقَّة الأداءِ البيانيّ لإِجراءِ التقابُل بين أفراد الظلم، وأفراد العبيد، فلو أنَّه تعالَى ظَلَمَ كُلَّ واحدٍ من عباده أقلَّ ظُلْمٍ لكان بالنسبة إليهم جميعاً ظلاَّماً، لكَّنهُ لا يفْعَلُ ذلك فهو ليْسَ بظلاّم.
فإذا قيل: فهل يظلم الله عزّ وجلّ بعضَ عبيده أقَلَّ ظُلْمٍ ولو شخصاً واحداً؟
فالجواب: أنَّ الله عزّ وجلّ نفى ذلك عن نفسه في نصوصٍ أخرى، منها ما يلي:
* قول الله تعالى في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول):
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)}.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول):
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}.
* وقول الله عزَّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول):
{...وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)}.
وبهذا تَكَامَلَتِ النُّصُوصُ في بيان كُلِّ عَناصِر الموضوع، من كلّ جوانبه، وهذا من وجوه إعجاز القرآن، فمِنْ أُسْلُوبِ القرآن تجزئةُ مَوْضُوعاتِه إلى عناصر جزئيَّةٍ، وتناوُلُ كلِّ عنصر منها ببيانٍ خاصٍّ يحيط به، ولدى جَمْعِ كلِّ البيانات حول الموضوع الواحد يكونُ الموضوع قَدْ أُحِيطَ بِهِ من كُلِّ جوانبه، وأَوْضَحَ البيان كلَّ عناصِره.
***
(8) دَلاَلاتُ الجملة الخبريّة بحسب أحوالها
لدى تقسيم الجملة إلى خبريّة وإنشائيّة عرفنا أنّ الخبر هو الكلام الذي يحتمل الصّدقَ والكذبَ، باعتبار كونه مجرّد كلام، دون النظر إلى قائله، ودون النظر إلى كونه مقترناً يما يدلُّ على إثباته حتماً، أو نفيه حتماً، ومدّلُولُهُ لا يتوقف على النطق به، وللجملة الخبرية أحوال ودلالات مختلفات:
أولاً
دلالات الجملة الخبرية الاسميّة التي لا يكون خبرها جملةً فعليّة
الجملة الخبريّة الاسميّة الّتي لا يكون خَبَرُها جملةً فعليّة، تُفِيدُ بأصْلِ وضْعها الحكْمَ بإثبات أو نفي نسبة المسند (= المحكوم به) إلى الْمُسْنَد إليه (= المحكوم عليه) فقط، دون إفادة حدوثٍ ولا استمرارٍ ولا تَجَدُّدٍ، والأصل فيها التحدّث بها عن الواقع عنْد إِنْشاء الجملة.
فإذا أرَدْنَا الإِخْبار عن هذه النسبة في الماضي أضفنا إليها ما يدلّ على الزمن الماضي، أو جعلنا مع الكلام قرينة تدلُّ عليه.
وإذا أردنا الإِخبار عن هذه النسبة في المستقبل أضفنا إليها ما يدُلُّ على الزمن المستقبل، أو جعلنا مع الكلام قرينة تدلّ عليه.
وإذا أردنا إفادة الاستمرار والدوام أضفنا إليها ما يَدُّلُّ على ذلك، أو اكتفينا بالقرائن اللّفظِيَّة أو الفكريَّةِ الدالَّةِ عليه.
فقولنا: "سعيدٌ قائم - سُعَادُ نائمة - اللهُ ربُّ العالمين - نوحٌ رسول الله - الجنَّةُ دار نعيم المتقين - النّار دار عذاب المجرمين - الشمس طالعة - الشمس غير طالعه - العنقاء لا وجود لها - النار محرقة".
كلُّ هذه الجُمَلِ لا تدُلُّ بأصل وضعها على أكثر من إثبات النسبة أو نفيها بين رُكْني الإِسناد.
والأصل فيها إرادة الحال عند إنشاء هذه الجمل، ويُمْكِنُ أن يُراد بها الدّوام بقرينةٍ عقليّة، في مثل: "الله ربّ العاملين" للعلم بأنَّه ليس للعالمين ربٌّ غَيْرُه، ولا بُدَّ للعالمين من ربٍّ دواماً أو بدلالةٍ لفظيَّة صريحة في مثل: اللهُ رَبُّ العالمين دواماً، أو بقرينة لفظية غير صريحة.
ويَصْرِفُ عَنْ إِرَادَةِ الحال عند إنشاء الجملة قرينةٌ عقلية في مثل: "نوحٌ رسول الله" أي: كان رسول الله لقومه في زمانه، للعمل بأنّ نوحاً عليه السلام قد مات من آلاف السنين، وفي مثل: "الجنَّةُ دَارُ نَعيم المتقين" أي: ستكون دار نعيم المتقين بعد دخولهم فيها يوم الدّين، للعلم بأنّهم الآن لم يدخلوها مع أنّها معدَّةٌ لهم. أو دلالةٌ لفظيّة كأن نقول: "نوح عليه السلام رسول الله في زمنه الذي مضى" و"الجنَّةُ دار المتقين بعد الحساب وفَصْلِ القضاء يوم الدّين"، أو قرينة لفظية غير صريحة.
ومن القرائن التي تدلُّ على الدوام المدحُ أو الذمُّ أو تقديم الجملة على أنَّها حِكْمَةٌ يُسْتَرْشَدُ بها.
* من الأمثلة التي تدلُّ قرينة المدح فيها على الدوام والاستمرار قول الله عزّ وجلّ لرسوله في سورة (القلم/ 68 مصحف/ 2 نزول):
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}.
* ومن الأمثلة التي تدلُّ قرينةُ الذّمّ فيها على الدوام والاستمرار، قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول):
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً...} [الآية 6].
فقد جاء هذا النص في معرض التحذير من الشيطان وذمّه.
*وسَوْقُ الْجُمْلَةِ مَسَاقَ حِكْمَةٍِ يَحْسُنُ الاسترشادُ بها لِيَكُونَ قَرِينَةً على الدوامِ والاستمرار، نَجِدُ لَهُ أَمْثِلَةً كثيرة، منها:
"رَأْسُ الحكمةِ مَخَافَةُ الله - الصّحَّةَ تَاجٌ على رُؤوسِ الأَصِحَّاء - في الْعَجَلَةِ النَّدامَةُ وفي التَّأَنِّي السَّلاَمةُ - الْبَرَكَةُ فِي الْبُكُورِ".
***
ثانياً
دلالات الجملة الخبريّة المشتملة على فعل ماضٍ
ولا تفيد الجملة الخبريّة الإِثباتِيَّةُ المشتملة على فعل ماضٍ أكثر من إثبات حدوث النسبة الحكميّة في الزمن الماضي، فلا تَدُلُّ على الاستمرار إلاَّ بمساعدة من القرائن اللفظيّة أو العقلية.
فإذا قُلنا: "خطبَ صالحٌ ابنةَ الشيخ عثمان - نام الخطيب عبد الرحمن على المنبر - صعد أبي إلى غار حراء" فإنّ هذه الْجُمَل لا تفيد بحسب أصل الوضع أكثر من حدوث النِّسَبِ الحكميّة الّتي عليها في زمن مضى، ويكفي لتحقيق صدقها أقَلُّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ الفعل الماضي من معنىً يدلُّ عليه.
* لكنّ القرائن العقليّة قد تجعل الفعل الماضيَ دالاًّ على الاستمرار والدوام، وقد يكون ذلك من الازل إلى الأبد، كفعل "كان" في الجمل التي تتحدّث عن ذات الله وصفاته مثل:
"وكان الله عليماً حكيماً - إنَّ الله كان سميعاً بصيراً - وكان الله غنيّاً حَمِيداً" أي: هو دواماً عليم حكيم سميع بصير غنيٌّ حَمِيد.
* ومن القرائن اللّفظيّة أن نقول: "ثَرْوَةُ بلادنا تَعْتَمِدُ على إنتاج الحبوب وقد كانت بلادنا تُنْتج الحبوب من قديم الزمان" أي: فهي ما زالت تنتجها.
أمّا الجملة الخبريّةُ السّالِبة المشتملةُ على فعلٍ ماضٍ أو مضارع منفي بحرف "لَمْ" أو حرف "لمَّا" فهي تَدُلُّ ذهْناً على استيعاب الزمن الماضي بمقتضى النفي، لأنّه لو حدث المنفيّ فيها ولو مرَّةً واحدةً في الزَّمان الماضي لما صَحَ النّفْيُ، لكن إذا وُجِدَ قيد يُحَدِّدُ قدْراً من الزّمنِ الماضي أوْ قرينةٌ تدلُّ عليه، في غير نفي المضارع بحرف "لمّا" فالنفي عندئذٍ لا يَسْتَوْعِبُ كلَّ الزَّمَنِ الماضي.
أمّا نفي المضارع بحَرف "لمّا" فقد سبق أنّ المنْفِيَّ بها مُسْتَمِرُّ النفي إلى زمان التكلّم.
***
ثالثاً
الجملة الخبرية المشتملة على فعل مضارع
يقول النحويّون: الفعل المضارع يُسْتَعْمَل للدّلالة على وقتين: الحال والاستقبال، أي: لأحدهما أو لَهُما معاً، فإذا دخلت عليه "لم" أو "لمَّا" انقلب زمنه إلى الماضي، وإذا دخلت عليه "لام التوكيد" أو "ما" النافية تعيّن للحال، وإذا دخلت عليه "السين أو سوف" تعيّن للاستقبال.
أمّا علماءُ البلاغة فيرونَ أنّ الجملة الخبريّة المشتملة على فعل مضارع غيرِ مقلوب الزمن إلى الماضي، وغير مُتَعَيِّنٍ بالأدوات للحال أو للاستقبال، تفيد تجدُّدَ حُدُوثِ النّسبة الحكميّة فيها، بمقضتى دلالة الفعل المضارع، مع إفادة تتابع تَجَدُّد الحدوث، سواء أكانت الجملة مُثْبتَةً، أم منفيّة، ما لم يَصْرِف عن هذه الدلالة صارف.
فإذا قال قائل: "تَعْمَلُ أُسْرَتُنَا، أو أُسْرَتُنا تَعْمَل: أنا أَعْمَل في التجارة، وابني يعمل في العمران، وبنتي تَعْمَلُ في الخياطة، وزوجتي تعمل في أعمال البيت". فظاهر هذا الكلام يدلُّ على أنّهم جميعاً يعملون في حركة متجدّدة تَمْلأُ بحَسَب المعتاد في عُرفِ الناس أوقاتَ العملِ الَّتِي يعمل فيها الناس لكسب أرزاقهم وتأدية وظائفهم، والقيام بمطالب حياتهم.
وكذلك إذا قال: " لا يَعْمَلُ أحَدٌ من أُسْرَتِنَا" فإنّه ينفي وُجوُدَ العمل ذي الحركة المتجددة بتتابع، ولا ينفي وجود أيِّ عمل ما.
وإذا قال قائل يَصِفُ وَادِياً فيه رياضٌ غنَّاء: "النهرُ يَجْري، والزمانُ يَسِيرُ دُونَ مزْعِجَات، والرّيَاحُ تَعْبَثُ بالْغُصُون، والطُّيُورُ تَتَنَقَّلُ بين أَغْصَانِ الشَّجَر وَتُغَرِّدُ، ونحن نَسْتَمْتعُ بأنواعِ الطّيبات: فإنَّهُ يَدُلُّ بصِيَغ الفعل المضارع التي اسْتَعْمَلَها في الْجُمَلِ الَّتي قالها على أَنَّ الأحداث الّتي أخْبَر بها أحداثُ متجدّدة متكرّرة في المكان والزمان اللَّذَيْنِ تَحَدَّثَ عنهما.
وحين نقول: "الأرض تدور - والشمس تجري - واللَّيْلُ والنهار يتعاقبان - ولا يُوجَدُ شركاء لله في ربوبيّته ولا في إلَهيته".
فإنّ هذه الجمل تدُلُّ على دَوام التجدّد دون ملاحظة نهاية، ما لم تدلَّ قرينة عقليَّةٌ أو لفظيَّةٌ أو نصٌّ صريح عليها.
هذا هو الذي يتبادر من الاستعمال في كلّ جملة خبرية تشتمل على فعل مضارع، سواء أكانت الجملة اسميّة أم فعليّة.
وعلى متدبّر كتاب الله أن يُلاحظ هذه الدلالة، حتّى يكون على بصيرةٍ في تدبُّره.
أقول: يُلاَحَظُ في النُّصوصِ القرآنيّةِ كَثْرَةُ استعمال اسم الفاعل واسم المفعول دالَّين علَى ما يَدُّلُّ عليه الفعلُ المضارع من تَجَدُّد الحدوث وتكراره، ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) بشأن "عاد" قوم الرسول "هود" عليه السلام، إذْ أَنْفَذَ الله قَضَاءَه بإهْلاَكهم ونَجَاةِ هُودٍ والَّذِينَ آمنوا معه:
{فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (72)}.
أي: كَذَّبُوا فيما مَضَى مِنْ عُمْرِهِمْ قَبْلَ لحظة إِهلاكهم بآياتِنَا، وَمَا كانوا مُؤمِنينَ بَها مُسْتَقْبَلاً لوْ أَمْهَلْنَاهُمْ، فحالَتُهُمْ النفسيَّةُ حالةٌ مَيْئُوسٌ منها، إذْ وصَلُوا إلى دركة التَّعَنُّت والعناد والإِصرار على الكفر، رغم وضوح الأدلّة والبراهين التي دمَغَتْهم، واستيقنتها قلوبهم.
***
رابعاً
الجملة الخبريَّة المشتملة على شرط
قد تُؤَلَّفُ جُملَةٌ خبرية مُرَكَّبَةٌ من جملتين فأكثر، إذْ يعقد الشرْطُ بينهما أو بينها رابطاً لإِثبات حُكْم أَوْ نفيه، وللشرط أدواتٌ تدلُّ عليه، فتصير كُلُّ جُملة مِنْ عناصر الجملة المركّبة بمثَابَةِ مفرد في جملة بسيطة.
والجملة الخبريّة الشرطيّة تنقسم إلى قسمين:
* الجملة الشرطيّة المتصلة.
* الجملة الشرطيّة المنفصلة.
الجملة الشرطية المتّصلة:
هي التي يكون الحكم في جملة جواب الشرط فيها مرتبطاً ارتباطاً شرطيّاً بالحكم في الجملة التي جُعِل حُكْمُهَا شرطاً، مثل:
1- مَنْ ماتَ على الإِيمان الحقِّ دَخَلَ الجنَّة.
هذه الجملة الشرطيّة المركّبةُ من جملَتَيْن بسيطتين انعقد بينهما ارتباط شرطي، دلَّت على قضيَّةٍ شرطيّةٍ واحدة، هي الحكم بدخول الجنة بشرط تحقُّق الموت على الإِيمان الحقّ.
2- إذا كانت الرّوح حالَّةً فِي الجسد، كان الجسد حيّاً.
وهذه الجملة الشرطيّة كسابقتها، وقد دلّت أيضاً على قضيَّةٍ شرطيّةٍ واحدة، هي الحكم بحياة الجسد بشرط تحقُّقِ وجود الروح فيه.
الجملة الشرطيَّةُ المنفصلة:
هي الجملة التي يكون الحكم فيها متردّداً بين احتمالَيْنِ فأكثر، وحين يلاحظ المتكلّم الذي يريد إصدار الحكم انحصار التردّد بين عدَدٍ من الوجوه أو الاحتمالات، فإنّه يُعَبِّر عن ذلك بمثل قوله: إمّا أن يكون الأمر كذا، وإمّا أن يكُون الأمر كذا، أي: لا يخلو عن واحدٍ منهما، أو لا يخلو عنهما، مثل:
(1) إمّا أن يكون العدد زوجاً وإمّا أن يكون فرداً.
(2) جَلِيس السُّوءِ إمّا أنْ يُغْوِيَك وَإمَّا أن يوقعَك في التهمة.
(3) إمّا أَنْ تكون الشمس طالعة وإمّا أن تكون غاربة.
وإذا حلَّلْنَا الجمل الشرطيّة التي من هذا القبيل فإننا نجدها ترجع من جهة المعنى إلى جملتين شرطيتين فأكثر.
فقولنا مثلاً: "إِمَّا أنْ يكون العدد زوجاً وَإِمَّا أنْ يكون فرداً" ينحلّ من جهة المعنى إلى ما يلي:
إذا كانَ العدد زوجاً فهو غير فرد. وإذا كان العدد فرداً فهو غير زوج.
وإذا لم يكن العدد زوجاً فهو فرد. وإذا لم يكن العدد فرداً فهو زوج.
إذن: فهذه الجملة الشرطيّة المنفصلة بقوة أربع جمل شرطيّة متصلة من جهة المعنى.
وقولنا مثلاً: "جليس السّوء إمّا أن يُغويَك وَإِمَّا أن يُوقِعَكَ في التُّهْمَةَ" ينحلّ من جهة المعنى إلى ما يلي:
إذا لم يُغْوِكَ جليسُ السوء أوقعكَ في التُّهمَة. وإذا لم يوقِعْكَ في التُّهمَةِ أغواك. أي: لا يخلو الأمر عن واحد منهما وربما يجتمع الأمران.
بهذا التحليل يتَّضحُ لنا أنَّ الجملة غير الشرطية تشتمل على حكم بين شيئين دون ارتباط بحكم آخر، فهي بسيطة، وأنّ الجملة الشرطيّة المتصلة تشتمل على حكم بين شيئين مرتبط بحكم آخر، فهي مركّبة تركيباً متوسّطاً، وأنّ الجملة الشرطيّة المنفصلة تشتمل على حكم متردِّدٍ بين شيئين فأكثر، فهي تنحلّ من جهة المعنى إلى جملتين شرطيّتين متصلتين فأكثر، فهي مركّبةٌ تركيباً أعلى.
وفي الجمل الشرطيّة إيجازٌ لا يوجد في غيرها لو أُرِيد التعبير عن مضمونها بجمل غير شرطيّة.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|