المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

وسائل رفع معدلات الاستجابة للرسائل الذاتية
4/9/2022
الأصنام شفعاؤنا؟!
17-12-2015
كلّ نبي مبعوث بلسان قومه
27-09-2015
القوانين الصوتية
1-1-2019
الانتظار، فلسفته وآثاره
2023-09-13
العوامل المؤثرة في الإنتاج الزراعي- العوامل الطبيعية- الموقع
1-2-2017


طبقات الرواة  
  
21866   03:32 مساءاً   التاريخ: 23-03-2015
المؤلف : ناصر الدين الأسد
الكتاب أو المصدر : مصادر الادب الجاهلي
الجزء والصفحة : ص222-ص254
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الجاهلي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 34061
التاريخ: 2-12-2019 1805
التاريخ: 22-03-2015 8745
التاريخ: 23-03-2015 21867

طبقات الرواة :

1-الشعراء الرواة:

أولى هذه الطبقات وأولاها بالتقديم طبقة الشعراء الرواة، وهم -فيما يبدو لنا-طائفتان: شعراء يروون، فيما يروون، شعر شاعر بعينه، فيحفظون هذا الشعر، ويتتلمذون للشعر، ويحتذون فيما ينظمون شعره، واعين مقلدين في بدء أمرهم، ثم يصبح التقليد طبيعة وفطرة يصدرون عنها صدورًا فنيًّا. وبذلك تكتمل لدينا سلسلة من الشعراء الرواة يكون لهم من الخصائص الفنية التي تجمع بينهم ما يتيح لنا أن نسميهم "مدرسة شعرية" كما سماها الأستاذ الدكتور طه حسين(1).

وطائفة ثانية من هؤلاء الشعراء الرواة يروون شعرًا لمن سبقهم ولبعض من عاصرهم من الشعراء، لا يخصون شاعرًا بعينه يتتلمذون له، وإنما يردون مناهل شتى يستقون منها ما شاء لهم الفن الشعري أن يستقوا، ثم يصدرون وقد اكتملت لهم شخصيتهم الفنية المستقلة.

وقد قسم النقاد الأقدمون الشعراء طبقات أربعة، وجعلوا الطبقة الأولى المقدمة على سائر الطبقات: الشعراء الفحول، وقد عرفوا الفحول بأنهم الشعراء الرواة(2).

وسنعرض أمثلة قليلة لكل من الطائفتين فيها غناء عن الإكثار.

فأما الطائفة الأولى، وهم الذين يتسلسلون في نسق، ويكونون مدرسة شعرية، فمن أشهرها المدرسة التي تبدأ بأوس بن حجر وتنتهي بكثير فقد كان زهير بن أبي سلمى راوية أوس وتلميذه(3)؛ ثم صار زهير أستاذًا لابنه كعب وللحطيئة(4)، حتى لقد قام الحطيئة لكعب بن زهير(5): "قد علمتم روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، فلو قلت شعرًا تذكر فيه نفسك ثم تذكرني بعدك". ثم جاء هدبة بن خشرم الشاعر وتتلمذ للحطيئة وصار راويته(6). ثم تتلمذ جميل بن معمر العذري لهذبه وروى شعره، ثم كان آخر من اجتمع له الشعر والرواية كثيرًا تلميذ جميل وراويته(7).

ولسنا في سبيل دراسة الخصائص الفنية لهذه المدرسة الشعرية(8)، فحسبنا هذا العرض التقريري الذي أورده النقاد الأقدمون، وأقر به بعض هؤلاء الشعراء أنفسهم. ومع ذلك فإننا سنعرض لخصيصة واحدة تجلو لنا حقيقة الصلة بين تلامذة هذه المدرسة؛ تلك هي: التأني في نظم الشعر وإعادة النظر فيه وتنقيحه، حتى لقد قال الأصمعي(9): زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر؛ لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكك. وكان زهير يسمي كبرى قصائده الحوليات.

وذكر كعب بن زهير في شعر له هذه "العملية الفنية" في نظم الشعر(10)، فأشار إلى أنه ينتفي ألفاظه وقوافيه انتقاء، ويتنخلها تنخلًا، ويثقف شعره حتى تلين متونه ويستوي بين يديه على ما يحب. ومن هنا جاز أن تسمَّى هذه المدرسة الشعرية مدرسة الصنعة(11).

ولم تكن الرابطة الفنية وحدها هي التي تجمع بين بعض هؤلاء الشعراء، فقد ذكر لنا الرواة أن أوسًا كان زوج أم زهير(12)، وكعب هو ابن زهير. وصلة الرحم هذه التي تربط بين أفراد المدرسة الفنية الواحدة، تنقلنا إلى مدرسة أخرى: فقد كان المسيب بن علس خال الأعشى بن ميمون، وكان الأعشى راويته وكان يطرد شعره ويأخذ منه(13).

وكذلك كان أبو ذؤيب الهذلي راوية لساعدة بن جؤية الهذلي(14)

ولو تتبعنا هذه الصلة بين شعراء الجاهلية لوجدنا الكثيرين منهم ذوي رحم.

ومن أشهر الأمثلة على ذلك -غير من ذكرنا-هؤلاء الثلاثة: المرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وطرفة بن العبد. فقد كان المرقش الأكبر عم الأصغر، والأصغر عم طرفة(15). وكذلك كان مهلهل خال امرئ القيس. فلعل الأمر في هؤلاء الشعراء قد جرى على ما جرى عليه الشعراء السابقون من أصحاب المدرسة الفنية الواحدة، ولعل المرقش الأصغر كان راوية عمه المرقش الأكبر، وطرفة راوية عمه المرقش الأصغر، ولعل امرأ القيس كان كذلك راوية خاله مهلهل(16).

والأمر بعد هذا يحتاج إلى دراسة فنية، ليس هذا مجالها، لشعر هؤلاء الشعراء حتى تنجلي لنا الأصول الشعرية التي قامت عليها كل مدرسة ومدى تأثر التلاميذ الرواة من هؤلاء الشعراء بأساتذة مدرستهم وشيوخها.

والطائفة الثانية هم الشعراء الذين لم يختصوا برواية شعر شاعر بذاته يتتلمذون له، وإنما يروون لشعراء كثيرين يتتلمذون لهم جميعًا، حتى يستقيم عودهم، ويشقوا طريقهم الشعري الذي يتفردون به ويتميزون. ولهذه الطائفة من الشعراء قيمة كبيرة في بحثنا هذا، إذ أنهم جميعًا، في أمثلتنا التي سنوردها من شعراء القرن الأول الهجري، وهم جميعًا قد رووا الشعر الجاهلي وحفظوه وتمثلوا به، بل لقد نقدوه وحكموا عليه وفاضلوا بين الشعراء الجاهليين. وقد اعتمد الرواة من علماء القرن الثاني أحكام هؤلاء الشعراء الرواة وروايتهم للشعر الجاهلي وأخذوا عنهم.

وبذلك يكون أولئك الشعراء الرواة الذين عاشوا في القرن الأول الهجري حلقة من السلسلة التي أشرنا إليها في الفصل الأول حين تحدثنا عن اتصال الرواية الأدبية من الشاعر الجاهلي إلى علماء القرن الثاني.

فمن الشعراء الرواة في القرن الأول: الطرماح. قال محمد بن سهل راوية الكميت(17): أنشدت الكميت قول الطرماح.

إذا قبضت نفس الطرماح أخلقت عرى المجد واسترخى عنان القصائد

فقال الكميت: إي والله وعنان الخطابة والرواية.

والكميت بن زيد هذا كان كذلك راوية عالمًا بلغات العرب خبيرًا بأيامها ومثالبها. ويقال: ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكميت؛ فمن صحح الكميت نسبه صح، ومن طعن فيه وهن.

وكذلك كان رؤبة بن العجاج، فقد أخذ عنه كثير من العلماء الرواة اللغة، وكانوا كذلك يأخذون عنه رواية الشعر الجاهلي ونقده والحكم عليه.

أخذ عنه يونس بن حبيب شرح قول امرئ القيس "صفر الوطاب"(18).

وكان يونس يأخذ عنه كذلك الغريب، فقال له رؤبة يومًا: حتى متى تسألني عن هذه الأباطيل وأزوقها لك! أما ترى الشيب قد بلع في رأسك ولحيتك؟ وروى عنه أبو عمرو بن العلاء أبياتًا لامرئ القيس فاضل بينها ونقدها(19).

وكان ذو الرمة راوية الراعي(20)، يروي شعره ويجعله إمامًا(21)، وكان كذلك يؤخذ عنه بعض الشعر الجاهلي، فقد أخذ عنه يونس بن حبيب قصيدة عبيد بن الأبرص الحائية التي يصف فيها المطر، وجعلها يونس، من أجل ذلك، لعبيد، وإن كان المفضل صرفها إلى أوس بن حجر(22).

ومما يدل على معرفة ذي الرمة بالشعر الجاهلي معرفة دقيقة، وطول نظره فيه، ما رُوي من أن حمادًا الراوية قدم على بلال بن أبي بردة البصرة، وعند بلال ذو الرمة، فأنشده حماد شعرًا مدحه به، فقال بلال لذي الرمة(23): كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيدًا، وليس له. قال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله. فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه... قال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا. قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري. قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.

فإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن جرير والفرزدق، وجدنا في الحديث عنهما ما يكشف عن مدى معرفة هؤلاء الشعراء بأخبار الجاهلية وأيامها ورواية شعرها. وعرفنا شيئًا آخر ذا قيمة خاصة، وهو أن علماء القرن الثاني قد أخذوا بعض علمهم عن الجاهلية وشعرها عن هؤلاء الشعراء، وخاصة جريرًا والفرزدق.

فأما جرير فقد كان جده الخطفي، واسمه حذيفة بن بدر، من القدماء العلماء بالنسب وأخبار العرب(24)، وكان كذلك شاعرًا وقد أدركه جرير وأخذ عنه(25). وروى أبو عبيدة عن مسحل بن زيداء -وهي بنت جرير-عن أبيها جرير، أخبارًا عن أيام الجاهلية منها خبر عن يوم ذي قار(26)، وكذلك روى عنه نقدًا مفصلًا لشعر بعض شعراء الجاهلية(27). وكان خلفاء بني أمية يسألونه عن الشعراء: الجاهليين منهم والإسلاميين، فيخبرهم بشعرهم وبنقده وأحكامه على هؤلاء الشعراء(28). فمن أمثلة ما كان يقوله: إن طرفة -وقد كنى عنه بابن العشرين-أشعر الناس، وإن زهيرًا والنابغة كانا ينيران الشعر ويسديانه، وإن امرأ القيس اتخذ من الشعر نعلين يطؤهما كيف شاء...

وقد كان طلب جرير والفرزدق لأخبار الجاهلية وأنساب العرب مما يضطران إليه، ليضمناه شعرهما حين يهجوان وحين يمدحان، ولذلك قال أبو عبيدة عنهما(29) "هما بئس الشيخان، ما خلق الله أشأم منهما على قومهما، إنهما أخرجا مثالب بني تميم وعيوبهم، وكانا أعلم الناس بعيوب الناس.

أما الفرزدق فقد تعلم الشعر وروايته وكلام العرب صغيرًا، وهذا أبوه غالب بن صعصعة حينما وفد على علي بن أبي طالب في خلافته ومعه ابنه الفرزدق قال لعلي(30): قد رويته الشعر يا أمير المؤمنين وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعرًا مجيدًا. وقد كان بعد ذلك يطلب الأنساب والأخبار والمثالب ليضمنها شعره حتى إنه حين قدم عمر بن لجإ التيمي البصرة خرج إليه الفرزدق ومعه راويته ابن مسويه، وكان يكتب شعره، فقال الفرزدق لابن لجإ(31):

يا أبا حفص، إن ابن عمي شبة بن عقال كتب إلي أن بني جعفر هجوه وهو مفحم، وقد استغاث بي، ولست أعرف مثالبهم ولا ما يُهجون به. قال عمر: لكني قد طانبتهم في الحال، وسايرتهم في النجع، وحضرت معهم وبدوت. فقال الفرزدق: هاتوا لي صحيفة أكتب فيها ما أريد من ذلك. قال: فأتوه بصحيفة فكتب فيها المثالب التي هجاهم بها في القصيدة التي يقول فيها:

ونبئت ذا الأهدام يعوي ودونه من الشأم زراعاتها وقصورها(32)

ويبدو أن الفرزدق كان كثير الرواية لشعر امرئ القيس حافظًا لأخباره، ويعلل العلماء كثرة روايته لشعر امرئ القيس وأخباره بأن امرأ القيس صحب عمه شرحبيل بن الحارث قبل يوم الكلاب، وكان شرحبيل مسترضعًا في بني دارم رهط الفرزدق، فلحق امرؤ القيس بعمه، فلذلك حفظ الفرزدق أخباره(33).

وبعض أخبار الفرزدق عن امرئ القيس متصلة إلى الجاهلية نفسها، وربما إلى عصر امرئ القيس نفسه، فالفرزدق يذكر أن جده قد حدثه بها، وجده شيخ كبير وهو يومئذ غلام حافظ لما يسمع(34).

وللفرزدق أحكام نقدية على الشعراء الجاهليين والمخضرمين أخذ بعضها الرواة العلماء وتناقلوها، فمن ذلك حكم الفرزدق على نابغة بني جعدة في قوله(35): كان صاحب خلقان عنده مطرف بألف وخمار بواف.

وقد قال الجاحظ(36): إن الفرزدق راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم. وقال يونس بن حبيب: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس. فهل أبلغ من هذا في الدلالة على مبلغ علم الفرزدق بأيام العرب وأخبارهم وشعرهم؟ بل حسبنا أن نذكر الأبيات التالية التي قالها من قصيدته اللامية، فإن ما فيها من تعداد لشعراء الجاهلية، ولمح من أخبارهم، ونقدات سريعة لشعرهم، دال أبلغ الدلالة على معرفته بهؤلاء الشعراء وبشعرهم معرفة واضحة المعالم. قال الفرزدق(37):

وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو يزيد وذو القروح وجرول(38)

والفحل علقمة الذي كانت له حلل الملوك، كلامه لا ينحل

وأخو بني قيس وهن قتلنه ومهلهل الشعراء ذاك الأول(39)

والأعشيان كلاهما ومرقش وأخو قضاعة قوله يتمثل

وأخو بني أسدٍ عبيد إذ مضى وأبو دوادٍ قوله يتنحل

وابنا أبي سلمى زهير وابنه وابن الفريعة حين جد المقول

والجعفري وكان بشر قبله لي من قصائده الكتاب المجمل

ولقد ورثت لآل أوس منطقًا كالسم خالط جانبيه الحنظل

والحارثي أخو الحماس ورثته صدعًا كما صدع الصفاة المعول ومما يدخل في هذا الباب قصيدة سراقة البارقي، وهو معاصر لجرير والفرزدق، ووجه الشبه بين القصيدتين في تعداد أسماء الشعراء، وذكر طرف من أخبارهم ونقد شعرهم واضح بين وقصيدة سراقة التالية تدل على أن غير جرير والفرزدق من شعراء القرن الأول قد شركوهما في العلم بشعراء الجاهلية ورواية شعرهم مما لا يبلغه إلا الرواة العلماء النقاد الدارسون لهؤلاء الشعراء وشعرهم.

قال سراقة(40):

ولقد أصبت من القريض طريقة أعيت مصادرها قريب مهلهل(41)

بعد امرئ القيس المنوه باسمه أيام يهذي بالدخول فحومل

وأبو دواد كان شاعر أمة أفلت نجومهم ولما يأفل

وأبو ذؤيب قد أذل صعابه "لا ينصبنك" رابض لم يذلل

وأرادها حسان يوم تعرضت بردى يصفق بالرحيق السلسل

ثم ابنه من بعده فتمنعت وإخال أن قرينه لم يخذل

وبنو أبي سلمى يقصر سعيهم عنا كما قصرت ذراعا جرول

وأبو بصير ثم لم يبصر بها إذ حل من وادي القريض بمحفل

واذكر لبيدًا في الفحول وحاتماً سيلومك الشعراء إن لم تفعل

ومعقرًا فاذكر وإن ألوى به ريب المنون وطائر بالأخيل

وأمية البحر الذي في شعره حكم كوحيٍ في الزبور مفصل

واليذمري على تقادم عهده ممن قضيت له قضاء الفيصل

واقذف أبا الطمحان وسط خوانهم وابن الطرامة شاعر لم يجهل

لا والذي حجت قريش بيته لو شئت إذ حدثتكم لم آتل

ما نال بحري منهم من شاعر ممن سمعت به ولا مستعجل(42)

2- رواة القبيلة:

وقد سبق لنا قول مفصل عن قيمة الشعر الجاهلي وخطره للقبيلة(43)؛ إذ هو ديوان أمجادها وأحسابها، وسجل مآثرها ومفاخرها، ومستودع آدابها وأنسابها وأخبارها. وأشرنا إلى عناية القبيلة بمدح الشعراء، وحرصها على إكرامهم واستمالتهم وذكرنا كيف كانت القبيلة تحتفي إذا نبغ فيها شاعر: فتصنع الأطعمة، وتجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعن في الأعراس، وتأتي القبائل فتهنئها(44). ودللنا على مبلغ عناية القبيلة بالشعر بأن بني تغلب كانوا يعظمون قصيدة عمرو بن كلثوم المعلقة، وكان يرويها صغارهم وكبارهم حتى هجوا بذلك، فقال بعض شعراء بكر بن وائل(45):

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يروونها أبدًا مذ كان أولهم يا للرجال لشعر غير مسئوم

يا أمير المؤمنين؟ فقد كان كثير الحديث حسنه. فلما ذكر له المنصور الحديث قال ثمامة: إن له عندنا أحاديث كثيرة ما سمعنا له بحديث هو أظرف من هذا.

وإذا رجعنا إلى كتاب واحد من كتب الأدب العامة هو كتاب "المعمرين من العرب" لأبي حاتم السجستاني، وجدنا كثيرًا من أخباره مرويةً عن أشياخ من قبيلة المعمر الذي يترجم له، فزهير بن جناب من كلب ولذلك قال(46): "حدثنا أبو حاتم قال -وقال العمري- أخبرني محمد بن زياد الكلبي عن أشياخه من كلب قالوا:..." وقال أيضًا(47): "حدثنا أبو حاتم قال: وزعم هشام بن محمد عن أبيه محمد بن السائب قال: سمعت أشياخنا الكلبيين يقولون.."، وشريح بن هانئ من بني الحارث بن كعب، ولذلك أورد بعض أخباره عن(48) "ابن الكلبي عن أبي مخنف قال: أخبرنا أشياخنا من بني الحارث قالوا..." وشرية بن عبد جعفي، فأورد بعض أخباره عن(49) "ابن الكلبي قال: سمعت أبا بكر بن قيس الجعفي يذكر عن أشياخه".

ويورد بعض أخبار ثعلبة بن كعب الأوسي عن(50) "ابن الكلبي عن عبد الحميد بن أبي عبس الأنصاري عن أشياخ قومه". ويورد بعض أخبار طيئ بن أدد عن(51) "هشام أنه سمع أشياخًا من طيئ يذكرون ذلك.." ويروي بعض أخبار هاجر بن عبد العزى عن أحد أفراد قبيلته خزاعة هو: طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي(52). وكذلك يروي بعض أخبار جليلة بن كعب عن بعض أفراد قبيلته بني جعفي هو: الوليد بن عبد الله الجعفي(53). ويروي أخبار كعب بن رداة النخعي عن بعض النخعيين(54). ويروي بعض أخبار حارثة بن عبيد الكلبي عن: شملة بن مغيث وهو رجل من ولد حارثة(55). ويروي بعض أخبار القدار العنزي عن(56): خراش قال: حدثني به قوم من عنزة.

ومع ذلك فقد كان بعض أفراد القبائل يجهلون أخبار شعرائهم؛ وليس في الأمر ما يستغرب، فليس كل القبيلة معنيًّا بذلك، وإنما العناية بهذا الضرب من العلم مما تغني فيه معرفة طائفة دون أخرى؛ غير أن ابن فارس يقول(57) -ولعل في قوله هذا استنكارًا واستهجانًا-: "سمعت أبي يقول: حججت فلقيت بمكة ناسًا من هذيل، فجاريتهم في ذكر شعرائهم، فما عرفوا واحدًا منهم، ولكني رأيت أمثل الجماعة رجلًا فصيحًا وأنشدني..." ثم يذكر أبياتًا.

فإذا كان أفراد القبيلة يعنون هذه العناية برواية شعر شعرائها، فما بالك بأولاد الشاعر صليبةً؟ لقد كان ابن الشاعر يروي شعر أبيه حتى لقد قال الراعي(58) من لم يروِ من أولادي هذه القصيدة "قصيدته اللامية" وقصيدتي التي أولها:

بان الأحبة بالعهد الذي عهدوا .......................................

فقد عقني.

وكثير من أبناء الشعراء الجاهليين عاشوا في الإسلام(59)، وبعضهم عمر طويلًا؛ وقد وفد بعضهم على خلفاء بني أمية فاستنشدوهم شعر آبائهم، وأخذ العلماء الرواة بعض هذا الشعر عنهم. فمن أمثلة ذلك:

أن معاوية بن أبي سفيان حج فرأى شيخًا يصلي في المسجد الحرام، فسأل عنه فقالوا(60): سعية بن غريض. فاستدعاه، في حديث طويل، ثم قال له: أنشدني شعر أبيك يرثي به نفسه "أي شعر السموءل" فقال: قال أبي:

يا ليت شعري حين أندب هالكًا ماذا توبنني به أنواحي

أيقلن: لا تبعد قرب كريهة فرجتها بشجاعةٍ وسماح

وهي خمسة أبيات:

ويُروى أن عدي بن حاتم الطائي عاش مائة وثمانين سنة(61)، وقد رووا عنه بعض أخبار أبيه حاتم(62).

ودخل إبراهيم بن متمم بن نويرة على عبد الملك بن مروان، فرأى فيه عقلًا وفضلًا، فقال له: أنشدنا بعض مراثي أبيك عمك. فأنشده(63):

نعم الفوارس يوم نشبة غادروا تحت التراب قتيلك ابن الأزور

حتى انتهى إلى قوله:

أدعوته بالله ثم قتلته لو هو دعاك بمثلها لم يغدر

وأخذ الرواة العلماء متمم بن نويرة عن حفيده ابن داود بن متمم، قال ابن سلام(64): أخبرني أبو عبيدة أن ابن داود بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي في الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح العطاردي، فسألناه عن شعر أبيه متمم وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته.

فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله.

وذكر الأصمعي أن حماد بن ربيعة بن النمر بن تولب قد روى(65):

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت أوص بدعد من يهيم بها بعدي

ونسبه إلى جده النمر بن تولب مع أن الناس يروون البيت لنصيب.

ودخل ابن أبي محجن الثقفي على معاوية فقال له معاوية(66): أبوك الذي يقول:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره قال: وما ذاك؟ قال: قوله:

لا تسألي الناس ما مالي وكثرته وسائلي القوم ما حزمي وما خلقي

القوم أعلم أني من سراتهم إذا تطيش يد الرعديدة الفرق

قد أركب الهول مسدولًا عساكره وأكتم السر فيه ضربة العنق

ووفد على عبد الملك وفد أهل الكوفة، فلما دخلوا عليه وكلمهم رأى فيهم رجلًا آدم طويلًا، فكلمه فأعجبه بيانه، فلما تولى تمثل عبد الملك بقول عمرو بن شأس(67):

وإن عرارًا إن يكن غير واضحٍ فإني أحب الجون ذا المنكب العمم

فالتفت الآدم إلى عبد الملك فضحك؛ فقال عبد الملك: عليّ به. فلما جيء به قال: ما أضحكك؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين عرار! فأقعده وقدمه وسامره.

وقد أخذ العلماء بعض شعر تميم بن أبي بن مقبل عن ابنته أم شريك، بل إنهم رووا عنها تفسيرها لكلمات في شعره(68).

وقد روى العلماء شعرًا لعمرو بن العاص، قال الواقدي(69): أخبرني ابن أبي الزناد أنه سمع ذلك من ابن ابن ابنه: عمرو بن شعيب بن عبد الله بن عمرو يذكره لجده.

ولا سبيل إلى الإطالة في إيراد الأمثلة فحسبنا ما قدمنا فإن فيه لغناء.

3-رواة الشاعر:

وقد كان لبعض الشعراء، وخاصة الفحول منهم، راوٍ أو رواة، يصحبونهم ويلازمونهم في حلهم وترحالهم، ويحفظون شعرهم ويروونه وينشدونه في المجالس والمحافل. وقد جرى أمر الشعراء ورواتهم في العصور الإسلامية على ما جرى عليه في الجاهلية. فقد كان للفرزدق رواة أحدهم رجل من بني ربيعة بن مالك -وهم الذين يقال لهم ربيعة الجوع-ويبدو أن هذا الراوية كان يروي عامة شعر الفرزدق، بينما كان راوية آخر لا يروي من شعر الفرزدق إلا ما كان هجاء أو نقضًا لقصائد جرير وغيره من الشعراء، وكان اسم هذا الراوية عبيدًا وهو أحد بني ربيعة بن حنضة(70). وبقي لنا من أسماء رواة جرير اسم واحد هو الحسين، وكان يكتب شعر جرير، وروى عنه العلماء بعض أخباره(71). وكان السائب بن ذكوان راوية كثير عزة(72). وأما راوية الكميت بن زيد الأسدي فهو محمد بن سهل(73). وكان كذلك للأحوص راويته(74)، ولذي الرمة راويته(75).

وربما اجتمع بعض هؤلاء الرواة يتناشدون أشعار شعرائهم ويتفاخرون بها، كما حدث حين اجتمع بالمدينة راوية جرير، وراوية نصيب، وراوية كثير، وراوية جميل، وراوية الأحوص، وادعى كل رجل منهم أن صاحبه أشعر(76).

ولسنا في حل من الإسهاب في الحديث عن هؤلاء الرواة في العصر الأموي، فأخبارهم مستفيضة، وهي موجودة في مظانها التي أشرنا إليها. وإنما ذكرناهم هذا الذكر العابر العارض، لنستأنس به على أن رواة الشاعر كان أمرًا موروثًا وعادةً موصولةً منذ الجاهلية، وإن كان كتب الأدب العربي وتاريخه تسعفنا بوفرة من الأخبار عن العصور الإسلامية ثم تشح كلما استعنَّا بها في العصر الجاهلي.

ومع ذلك فقد بقي لنا من أسماء رواة الشعراء الجاهليين اسم راوية الأعشى، أو أسماء ثلاثة من رواته. أول هذه الأسماء: عبيد "وكان عبيد هذا يصحب الأعشى ويروي شعره، وكان عالمًا بالإبل، وله يقول الأعشى في ذكر الناقة:

لم تعطف على حوارٍ ولم يقـ ـطع عبيد عروقها من خمال(77)"

وقد روى عبيد هذا عن الأعشى نفسه خبر قدومه على النعمان وإنشاده بين يديه بعض شعره(78). وروى أيضًا أنه سأله(79): ماذا أردت بقولك:

ومدامة مما تعتق بابل كدم الذبيح سلبتها جريالها

فقال الأعشى: شربتها حمراء، وبلتها بيضاء [فسلبتها لونها] (80).

وقد ذكر أبو الفرج اسمًا ثانيًا لراوية الأعشى وهو: يحيى بن متى، وقال عنه إنه(81) كان نصرانيًّا عباديًّا وكان معمرًا. قال: كان الأعشى قدريًّا وكان لبيد مثبتًا. قال لبيد:

من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الأعشى:

استأثر الله بالوفاء وبالـ عدل وولى الملامة الرجلا

وحين سئل من أين أخذ الأعشى مذهبه، أجاب: "من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك".

أما الجواليقي في المعرب فقد ذكر اسمًا ثالثًا لراوية الأعشى هو(82): يونس بن متى. ثم يورد الخبر الذي أوردناه آنفًا والذي سأل فيه هذا الراوية الأعشى عن معنى قوله: "سلبتها جريالها".

فنحن إذن أمام ثلاثة أسماء؛ فهل هي لثلاثة رواة مختلفين، أو أنه راوية واحد وأخطأ القدماء في اسمه(83)؟

أما نحن فنذهب إلى أن الأسماء الثلاثة كلها صواب، ولكنها إنما تدل على رجل واحد لا ثلاثة رجال. وليس بين أيدينا الدليل القاطع، وإنما ثمة أمران نستأنس بهما فيكون من ذلك ترجيح ما ذهبنا إليه. الأمر الأول أن الراوية الذي يروي عن هذا الراوية -راوية الأعشى-واحد في جميع الروايات وهو سماك بن حرب(84). فابن قتيبة يروي عن: حماد الراوية قال: حدثني سماك عن عبيد راوية الأعشى؛ ثم يقول في موطن آخر: وحدثني الرياشي عن مؤرج عن شعبة عن سماك عن عبيد راوية الأعشى؛ وأبو الفرج يروي عن رجاله عن: أبان بن تغلب عن سماك بن حرب قال: قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى.

ويقول الجواليقي: رُوي عن الأصمعي عن شعبة عن سماك بن حرب عن يونس بن متى راوية الأعشى. فسماك بن حرب هو وحده الراوية الذي يروي عن راوية الأعشى الذي يدعى حينًا عبيدًا، وحينًا آخر يحيى، وحينًا ثالثًا يونس. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الخبر الذي يورده ابن قتيبة مرويًّا عن: الرياشي مؤرج عن شعبة عن سماك عن عبيد راوية الأعشى، هو الخبر نفسه الذي يورده الجواليقي مرويًّا عن الأصمعي عن شعبة عن سماك بن حرب عن يونس بن متى راوية الأعشى، وهو سؤاله إياه عن معنى قوله "سلبتها جريالها" وتكاد ألفاظ الروايتين تكون واحدة إذا أضفنا هذا إلى ذلك رجحنا أن راوية الأعشى هو رجل واحد وليس ثلاثة رجال.

فكيف اختلفت الأسماء إذن؟ لقد كان هذا الراوية عباديًّا من نصارى الحيرة، فالغالب على ظننا أن يكون اسمه في أصله: يوهانس أو يوحانس، ثم مر هذا الاسم عند العرب في طورين؛ الأول: الترجمة؛ والثاني: التعريب.

ففي الطور الأول ترجموا معنى اسمه الذي يدل على العبودية للخالق فجعلوه في العربية: عبيدًا. وأما طور التعريب فقد مر أيضًا في مرحلتين، الأولى: مرحلة حرفية لا تتغير عن الأصل كثيرًا، فعربوا يوهانس وجعلوه: يونس. وأما المرحلة الثانية فقد كانت مرحلة غير مباشرة، وذلك أن يوحنا هو طور من أطوار هذا الاسم: يوحانس، فجاء العرب فعربوا يوحنا وجعلوه يحيى.

فنحن إذن نرجح، لما فصلناه من وجوه الرأي، أن هذه الأسماء الثلاثة، المختلفة في ظاهرها، ليست إلا اسمًا واحدًا في حقيقتها، يدل على راوية واحد بعينه.

4-رواة مصلحون للشعر:

وليس هؤلاء الرواة -فيما يبدو لنا-طبقة خاصة قائمة بذاتها. فلم يكن من بين الرواة من نصب نفسه لإصلاح الشعر واختص بهذا الأمر واقتصر عليه.

فقد يكون هؤلاء الرواة المصلحون للشعر: من الشعراء الرواة، أو من رواة القبيلة، أو من رواة الشاعر -وقد تحدثنا عنهم جميعًا-وقد يكونون من الرواة العلماء الذين سنتحدث عنهم بعد قليل. غير أن إصلاح الشعر موضوع قائم بذاته، ومن هنا كان إفرادنا إياه في طبقة خاصة توضيحًا للأمر وتفصيلًا لأقسامه.

وأول ما استرعى انتباهنا أننا رأينا رواة في القرن الأول يصلحون بعض الشعر الأموي؛ فمن ذلك أن شيخًا من هذيل -كان خالًا للفرزدق-دخل على رواة الفرزدق فوجدهم "يعدلون ما انحرف من شعره"، ولما جاء رواة جرير وجدهم كذلك "يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد"(85).

ووجدنا الرواة يقولون(86): أخطأ ذو الرمة حيث يقول:

قلائص ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمى بها بلدًا قفرًا

ومن أجل ذلك غيره بعض الرواة "ممن يريد أن يحسن قوله" فجعلوه: آلًا مناخة. وقالوا: إنما قاله ذو الرمة على هذا. وكان إسحاق الموصلي ينشده: آلًا، ويقول: نحتال لصوابه(87).

وقال الأصمعي(88): قرأت على خلف شعر جرير فلما بلغت قوله:

فيا لك يومًا خيره قبل شره تغيب واشيه وأقصر عاذله

فقال خلف: ويله، وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ فقال الأصمعي له: هكذا قرأته على أبي عمرو. فقال: صدقت وكذا قاله جرير، وكان قليل التنقيح مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع. فقال الأصمعي: فكيف كان يجب أن يقول؟ قال: الأجود له لو قال: فيا لك يومًا خيره دون شره. فاروه هكذا، فقد كانت الرواة قديمًا تصلح من أشعار القدماء. فقال له الأصمعي: والله لا أرويه بعد هذا إلا هكذا.

فخلف إذن يعلم أن الرواة كانوا قديمًا يصلحون من أشعار القدماء! وهو في أثناء حديثه يسوغ هذا الإصلاح إذا كان الشاعر "قليل التنقيح مشرد الألفاظ".

ومن هنا كان من العسير على الرواة، فيما يبدو، أن يجدوا في شعر شاعر يتروى في شعره، وينقحه ويهذبه، كزهير مثلًا، ما يصلحونه له. ولذلك نرى من الأمثلة التي سنوردها أنها تدور على إصلاح شعر امرئ القيس وعدي ولبيد.

فقد قال امرؤ القيس(89):

فلو أنها نفس تموت سويةً ولكنها نفس تساقط أنفسَا

وقد وجد الرواة أن "سوية" لا تقابل "تساقط أنفسَا" ومن هنا أرادوا أن يعدلوا عن هذا العيب، عيب فساد المقابلات، فغيروه، وأبدلوا مكان "سوية" "جميعةً" لأنها في مقابلة "تساقط أنفسا" أليق من "سوية".

وكذلك قال امرؤ القيس(90):

فاليوم أشرب غير مستحقب إثمًا من الله ولا واغل

فقالوا: "قد حذف الشاعر الإعراب، وليس بالحسن". وذهبوا إلى أنه يريد "أشرب" فحذف الضمة؛ ولذلك غيروه، فجعله بعضهم "فاليوم فاشرب" بصيغة الأمر.

وقال امرؤ القيس أيضًا ينوح على أبيه(91):

رب رامٍ من بني ثعل مخرج زنديه من ستره(92).

فلما أنشد الأصمعي البيت قال: أما علم أن الصائد أشد ختلًا من أن يظهر شيئًا منه؟ ثم قال "فكفيه" -إن كان لا بد-أصلح. قال المازني: فالأصمعي أصلحه: كفيه.

وقال عدي بن زيد العبادي(93):

ففاجأها وقد جمعت جموعًا على أبواب حصنٍ مصلتينا(94)

فقدمت الأديم لراهشيه وألفى قولها كذبًا ومينا

وهذه هي الرواية الأولى، ولكن في قوله "مينًا" سنادًا، ولذلك أراد المفضل الضبي أن يفر من هذا السناد فغيرها وجعلها "كذبًا مبينًا".

وقال لبيد(95):

أو مذهب جدد على ألواحه الناطق المبروز والمختوم

والكلمة الأولى من عجز البيت ألفها ألف وصل، ولكنها في هذه الرواية قطعت "فعدل عن ذلك بعض الرواة استيحاشًا من قطع ألف الوصل"، فغيروه، وجعلوه:

".... على ألواحه ن الناطق...."

وقال ابن مقبل(96): "إني لأرسل البيوت عوجًا فتأتي الرواة بها قد أقامتها".

5-رواة وضاعون:

ومجال الحديث عن الوضع والنحل ذو سعة، سنفرده في بحث خاص ونفصل القول فيه في الباب التالي. غير أننا سنشير هنا إلى بعض الموضوعات التي كان يكثر فيها وضع الشعر الجاهلي ونحله، ثم نورد عليها أمثلة من الرواة الوضاعين ومن الشعر الموضوع.

وربما كان أوسع موضوع وجد فيه الرواة الوضاعون مجالًا فسيحًا للوضع والنحل هو القصص وأحاديث السمر. وقد كان خلفاء بني أمية وبني مروان، وخاصةً معاوية وعبد الملك، يعقدون مجالس خاصة للسمر والقصص. وقد مر بنا أن معاوية كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها... وأنه كان له غلمان مرتبون يقرءون عليه الأخبار والسير والآثار من دفاتر، وكلوا بحفظها وقراءتها(97). وكان أيضًا من محدثي معاوية وقصاصيه: النخار بن أوس، ولم يكتف معاوية به بل أمره ذات ليلة أن يبغيه محدثًا غيره. فلما قال له النخار: ومعي يا أمير المؤمنين تريد محدثاً؟ أجابه معاوية: نعم، أستريح منك إليه ومنه إليك(98). ولما رأى عمرو بن العاص شغف معاوية بالمسامرة وأحاديث مَنْ مضى أشار عليه باستدعاء عبيد بن شرية الجرهمي من الرقة، وقال له إن عبيدًا من بقايا من مضى، وإنه أدرك ملوك الجاهلية، وهو أعلم من بقي آنذاك في أحاديث العرب وأنسابها، وأوصفهم لما مر عليه من تصاريف الدهر. فاستدعاه معاوية، فصار عبيد في وقت السمر سمير معاوية في خاصته من أهل بيته. ثم أمر معاوية أهل ديوانه وكتابه أن يوقعوا هذه المجالس وأحاديثها ويدونوها في الكتب(99).

ولم يكن القصص والسمر وقفًا على بلاط الخلفاء الأمويين، بل شاعت عند جمهور العامة، وانتشر القصاص في المساجد يخلطون الوعظ بالقصص والأحاديث وأخبار من مضى من العرب وغيرها من الأمم، يسوقونها للعظة والعبرة وللتسلية والسمر معًا. وأخبار هؤلاء القصاص في مساجد الأمصار كثيرة مبثوثة في مظانها(100). إنما يعنينا أن نشير إلى أمرين، الأول: أن المتصدرين في المساجد والتبيين في مواطن متفرقة كثيرة في الجزء الأول، منها من ص367 إلى 369؛ وابن قتيبة، المعارف: 202 وغيرها.

لتفسير القرآن الكريم كانوا آنذاك يستطردون في تفسيرهم إلى ذكر أخبار العرب في الجاهلية. وأخبار سائر الأمم في قصص وأحاديث. فقد كان أبو علي الأسواري مثلًا يقص في البصرة في مسجد موسى بن سيار الأسواري ستًّا وثلاثين سنة "فابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة فما ختم القرآن حتى مات؛ لأنه كان حافظًا للسير، ولوجوه التأويلات، فكان ربما فسر آية واحدة في عدة أسابيع كأن الآية ذُكِرَ فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك من الأحاديث كثيرًا. وكان يقص في فنون من القصص ويجعل للقرآن نصيبًا من ذلك(101)". والأمر الثاني أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يكتفون بذكر الأخبار مجردة، وإنما كانوا يتمثلون في وعظهم، ويستشهدون على قصصهم، بشعر جاهلي(102).

ويبدو أن هؤلاء القصاص قد بدءوا قصصهم من عهد مبكر إذ يُذكر أن أول من قص كان الأسود بن سريع التميمي، وكان من الصحابة، وكان يقول في قصصه في الميت(103):

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيَا

فسرقه الفرزدق!

ولو وقفنا قليلًا عند أخبار عبيد بن شرية التي ذكرنا أنه ألقاها في مجالس معاوية وسمره، لوجدنا فيها كثيرًا من الشعر الجاهلي. بعضه صحيح منسوب إلى شعراء معروفين، وهو محفوظ في دواوينهم(104). ولكن بعضه الآخر موضوع منحول لا شك في وضعه ونحله، من مثل الشعر الذي نسبه إلى يعرب بن قحطان(105)، وإلى عاد بن عوص(106)، وإلى ثمود وأخيه جديس(107)، وإلى عمليق وأخيه طسم(108)، وإلى حفدة عمليق وجديس(109). ومن مثل الشعر الذي قيل في وفد عاد إلى مكة حينما ذهبوا يستسقون(110)، وما قاله لقمان في نسوره السبعة(111). والأمثلة على ذلك كثيرة، وهو كله شعر غث بارد وضع وضعًا لتزيين هذه القصص والخرافات. ويبدو أن هذا الشعر كان يكسب تلك القصص شيئًا من القيمة في نفوس السامعين فيصبح موضع ثقتهم وتصديقهم، بل لقد كان معاوية -فيما يورد كتاب أخبار عبيد-يسأل عبيدًا: هل قيل في بعض تلك الأخبار والقصص شعر؟ (112).

وإذا كان وضع الشعر ونحله في مثل هذه القصص والخرافات أمرًا لا غرابة فيه، فإن العجب أن تصبح هذه القصص وما قيل فيها من شعر منحول مادةً تاريخية تضمنها كتب السير والمغازي والتاريخ. ومن أجل ذلك تصدى الرواة العلماء لهذه الأشعار في الكتب التاريخية ونبهوا على زيفها ونحلها. فنحن نجد في كتاب السيرة لابن إسحاق كثيرًا من هذا الشعر المنحول الموضوع -على كثرة ما فيه أيضًا من الشعر الصحيح الثابت عند العلماء والرواة-فاستدركه عليه ابن هشام، وأسقط كثيرًا منه وبيَّن زيفه، وذكر نقد العلماء له. وقد نبه ابن إسحاق نفسه على ذلك، فاعتذر عن إيراد مثل هذا الشعر المنحول بقوله(113): "لا علم لي بالشعر، أُوتَى به فأحمله". وقد عقب ابن سلام على ذلك بقوله(114): "ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين، والله تبارك وتعالى يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا بقية لهم. وقال أيضًا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقال في عاد: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} وقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ}.

ونقد ابن النديم ابن إسحاق أيضًا فقال(115) "ويقال: كان يُعمل له الأشعار ويؤتَى بها ويُسأل أن يدخلها في كتاب السيرة، فيفعل، فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر".

وكذلك فعل الواقدي في مغازيه، فقد أدخل فيها بعض الشعر الموضوع، وإن كان نبه على وضعه في مواطن من كتابه، فقد ذكر أن عباد بن بشر قال في مقتل كعب بن الأشرف قصيدة عدتها ثلاثة عشر بيتًا أولها(116):

صرخت به فلم يحفل لصوتي وأوفى طالعًا من فوق قصر

فعدت، فقال: من هذا المنادي فقلت: أخوك عباد بن بشر

فقال محمد أسرع إلينا فقد جئنا لتشكرنا وتقري

وهي -في رأينا-أبيات غثة مرذولة لا شعر فيها؛ وهذا الأسلوب القصصي أشبه بأسلوب شاعر الربابة الذي يعدد الحوادث تعدادًا منغمًا على أسلوب خاص.

وقد ذكر الواقدي بعد أن أوردها أن ابن أبي حبيبة قال: أنا رأيت قائل هذا الشعر. فقال ابن أبي الزناد: لولا قول ابن أبي حبيبة لظننت أنها ثبت!!

ونحن لا نقصد إلى أن نستقصي جميع الموضوعات التي كانت مجالًا للوضع والنحل، ولكننا نشير إلى موضوع آخر غير القصص وأحاديث السمر، وهو: الأنساب. وللنسب عند العربي قيمة وخطر، ولذلك كان حريصًا على كل ما يثبت أنه عربي صريح أو أنه من القبيلة التي ينتسب إليها حقًّا. وكان بعض الرواة يتقربون إلى ذوي السلطان أو ذوي المال بوضع شعر منحول فيه إشارات إلى نسبهم. فمن ذلك أن قضاعة من معد، ولكنها انتسبت إلى حمير، وزوروا في ذلك شعرًا فقالوا(117):

يا أيها الداعي ادعنا وأبشر وكن قضاعيًّا ولا تنزر

قضاعة بن مالك بن حمير النسب المعروف غير المنكر.

ومن ذلك أيضًا أنهم صنعوا أبياتًا يذكرون فيها نسب جذام ولخم وعاملة، ونحلوها أبا سمال الأسدي، وهي(118):

أبلغ جذامًا ولخمًا إن عرضت بهم والقوم ينفعهم علمًا إذا علموا

والقوم عاملة الأثرين قل لهم قولًا ستبلغه الوساجة الرسم

لأنتم في صميم الحق إخوتنا إذ يُخلق الماء في الأرحام والنسم

لم أر مثل الذي يأتون جاء به قوم يذر على مختومهم خمم

وقد عقب أبو عبد الله المصعب الزبيري بعد أن أورد هذه الأبيات بقوله: "وقال بعض من يعلم: لما قدم خالد بن عبد الله القسري أميرًا على العراق، ومعه قوم من جند الشأم، فيهم من لخم وجذام، فأهدت لهم بنو أسد بن خزيمة، فقالوا: أنتم قومنا! وأحدثوا هذا الشعر، إلا بيتًا منه: لم أر مثل الذي يأتون جاء به فإنه قديم لا يُدرى لمن هو؟ ولا من عُني به".

وموضوع ثالث -غير القصص والأسمار وغير الأنساب-كان مجالًا واسعًا أيضًا للوضع والنحل هو أخبار أيام العرب في الجاهلية. وهو موضوع يتصل بسابقيه اتصالًا وثيقًا، وتكاد ثلاثتها تكون موضوعًا واحدًا متصلًا ذا فروع مختلفة. فمن أمثلة وضع الشعر في الأخبار ونحله للشعراء الجاهليين ليكون ذلك سندًا للخبر الذي يساق ما أورد أبو عبيدة في حديث البراجم قال(119):

قال عوف بن عطية التيمي يعير لقيط بن زرارة أسر بني عامر معبد بن زرارة وفرار لقيط عنه:

هلا فوارس رحرحان هجوتم عشرًا تناوح في سرارة واد

لا تأكل الإبل الغراث نباته ما إن يقوم عماده بعماد

هلا كررت على ابن أمك معبد والعامري يقوده بصفاد

وذكرت من لبن المحلق شربة والخيل تعدو في الصعيد بداد(120)

قال أبو عبيدة: وبقية هذه القصيدة مصنوعة.

وقال أبو عبيدة أيضًا في يوم النسار(121): وأنشدوني في تصداق ذلك "أن الأسود كان رئيس الرباب يوم النسار" قول عوف بن عطية بن الخرع التيمي:

ما زال حينكم ونقص حلومكم حتى بلوتم كيف وقع الأسود

وقبائل الأحلاف وسط بيوتكم يعلون هامكم بكل مهند

قال بنو أسد وغطفان: هذه مصنوعة، لم يشهد الأسود النسار.

وحسبنا ما قدمنا في هذا الموضوع، ولنا إليه عودة في الباب التالي عند حديثنا المفصل عن الشك في الشعر الجاهلي.

6-رواة علماء:

وهذا العنوان الفرعي لا ينفي العلم عن سائر طبقات الرواة التي قدمناها؛ فقد كان بعض الشعراء الرواة علماء، وكان بعض رواة الشاعر علماء، وكان بعض رواة القبائل علماء، وكان بعض الرواة المصلحين للشعر بل بعض الرواة الوضاعين علماء. غير أن علم أكثر رواة الطبقات الثلاث الأولى كان محدودًا محصورًا في شعر شاعر بعينه أو في شعر قبيلة بعينها، وعلم أكثر رواة الطبقة الخامسة كان يدور على الموضوعات التي ذكرناها من قصص وأشعار وما يشبهها. ومن هنا قصدنا بهذا العنوان أن يدل على طبقة خاصة متميزة من الطبقات التي أشرنا إليها. ومدار تميزها وتفردها على أنها اتخذت من الشعر موضوعًا علميًّا، تدرسه دراسة، وتأخذه عن شيخ أو أستاذ، في مدرسة من مدارس علم الشعر وروايته آنذاك، ونعني بها تلك المجالس والحلقات التي كانت تعقد في المساجد أنو منازل الشيوخ، ويجتمع فيها التلاميذ من العلماء والمتعلمين، يتحلقون حول شيخ شُهد له بالحفظ والرواية ومعرفة كلام العرب والإحاطة الواسعة بشعرهم، وذلك بالاطلاع على ما سبق عصره من جهود الرواة في حفظ الشعر وتدوينه. وتكون وسيلة الدرس مزدوجة تقوم على أمرين: على قراءة ديوان الشاعر أو ديوان القبيلة والتلاميذ يتابعون القراءة في نسخ بين أيديهم أو يستمعون لمن يقرأ؛ وعلى ما يلقيه الأستاذ الشيخ من تصحيح لبعض الأخطاء، أو ذكر لوجوه الروايات، أو تفسير لغريب الألفاظ، أو شرح للمعنى العام وذكر جوه التاريخي وحوادثه وأخباره. وقد يضاف إلى هذين الرحلة إلى البادية أو الاستماع إلى من يفد منها من الأعراب.

ويبدو أن هذه الطبقة من الرواة العلماء -بهذا التعريف الذي قدمناه والتحديد الذي قيدناه به- لم تكن موجودة فبل مطلع القرن الثاني الهجري، وربما كان أول شيوخها الذين مهدوا الطريق لمن تبعهم فكانوا هم الرواد السابقين: أو عمرو بن العلاء "المتوفى سنة 154"، وحماد الراوية "المتوفى سنة 156".

ومن هنا كان قول ابن سلام(122): "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية". ومن هنا أيضًا قالوا(123): "كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، ذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه، وكان ضنينًا بأدبه". وقد أخذ عن هذين العالمين: أبي عمرو وحماد سائر من نعرف من شيوخ العلم والرواية كخلف الأحمر، والمفضل، والأصمعي، وأبي عبيدة، وأبي عمرو الشيباني. وأخذ عن هؤلاء من تلاهم: كابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب، وأبي حاتم السجستاني. ثم أخذ عن هؤلاء السكري وثعلب وأضرابهما.

وقد انقسم هؤلاء الرواة العلماء إلى مدارس، فكانت ثمة مدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة، ومدرسة المدينة، ومدرسة بغداد. وكان تلاميذ كل مدرسة وعلماؤها يتعصبون لمدرستهم ولشيوخهم، ويوثقون روايتهم، ويجرحون شيوخ المدرسة الأخرى، ويضعفون روايتهم، ويتهمونهم بالوضع والنحل والكذب.

وسنشير إلى هذه المدارس والخلاف بين شيوخها وتلامذتها، وما نتج عن هذا الخلاف من طعن وتجريح وتضعيف في فصل تالٍ.

ولو اقتصرنا في إشارتنا إلى هؤلاء الرواة العلماء على كتاب واحد هو طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي لوجدنا أن هذه الطبقة مميزة تمييزًا واضحًا يفرقها عن غيرها من الرواة؛ فلا يكاد ابن سلام يذكر هذه الطبقة إلا يصفها بأنها "أهل العلم". فمن ذلك قوله(124): "وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه..." ويقول(125): "وللشعر صناعة يعرفها أهل العلم"، و"كذلك الشعر يعرفه أهل العلم به".

ويقول(126): "وكان أبو عبيدة والأصمعي من أهل العلم، وأعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة: المفضل". ويقول(127): "ثم إنا اقتصرنا بعد الفحص والنظر والرواية عمن مضى من أهل العلم". ويقول(128): "أجمع أهل العلم أن النابغة لم يقل هذا". ويقول(129): "ولقد أخبرني أهل العلم من غطفان". ويقول(130): "كيف يروي خالد "بن كلثوم" مثل هذا وهو من أهل العلم؟" ويقول(131): "ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد".

وقد يقابل في الجملة الواحدة بين هؤلاء الرواة المدققين من أهل العلم وبين الرواة عامةً من غير وصف يقيدهم. فهو يقول(132): "... ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار التي قيلت وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة وما وضعوا، ولا ما وضع المولدون..." ويقول(133): "وقد اختلف الناس والرواة فيهم "أي في الشعراء"، فنظر قوم من أهل العلم بالشعر، والنفاذ في كلام العرب والعلم بالعربية، إذا اختلف الرواة، فقالوا بآرائهم..".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الأدب الجاهلي "ط. رابعة" ص297.

(2) البيان والتبيين 2: 9، وانظر العمدة 1: 73.

(3) ابن سلام، طبقات فحول الشعراء: 81، وابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 86. ومع ذلك فإنه يروي أنه كان لزهير أستاذ آخر هو خاله بشامة بن الغدير وأن زهيرًا قد ورث شعر خاله بشامة ورواه عنه، انظر الأغاني 10: 312، والآمدي، المؤتلف والمختلف رقم 539.

(4) ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 93.

(5) ابن سلام، طبقات فحول الشعراء: 87 وابن قتيبة، الشعر والشعراء: 106. وانظر أيضًا الأغاني 2: 165.

(6) الأغاني 8: 91، ولسان العرب "رتب".

(7) الأغاني 8: 91.

(8) لقد فصل القول فيها الدكتور طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي" انظر ص298 وما بعدها.

(9) الشعر والشعراء 1: 23.

(10) انظر ديوانه ص64.

(11) الدكتور شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي "ط. ثانية" ص13-15.

(12) ابن سلام: 81.

(13) الموشح: 51، والشعر والشعراء 1: 127.

(14) ابن قتيبة، الشعر والشعراء: 635.

(15) ابن سلام: 34، ومعجم المرزباني: 201، والأغاني 6: 136.

(16) ذكر ابن رشيق في العمدة 1: 61 "مطبعة السعادة سنة 1907" أن امرأ القيس كان راوية أبي دواد الإيادي، قال: وكان امرؤ القيس يتوكأ عليه ويروي شعره".

(17) البيان والتبيين 1: 46، والشعر والشعراء: 567.

(18) ابن سلام: 45، وبيت امرئ القيس هو:

وأفلتهن علباء جريضًا ولو أدركنه صفر الوطاب

(19) الموشح: 27.

(20) ابن سلام: 467.

(21) الموشح: 170.

(22) ابن سلام: 76-77.

(23) الأغاني 6: 88.

(24) البيان والتبيين 1: 366.

(25) طبقات فحول الشعراء: 319-321.

(26) النقائض: 647.

(27) النقائض: 1047-1048، وانظر الأغاني 8: 199-200.

(28) أمالي القالي 2: 179.

(29) النقائض: 1049.

(30) البغدادي، الخزانة 1: 206.

(31) النقائض: 907-908.

(32) ذو الأهدام: اسمه نفيع، وهو أحد بني جعفر بن كلاب. وزراعاتها: الأرض التي تزرع منها.

(33) ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 70-71، وجمهرت أشعار العرب: 85.

(34) المصدران السابقان.

(35) الأغاني 5: 28 والموشح: 64.

(36) البيان والتبيين 1: 322.

(37) النقائض: 200-201 وديوانه ص720-721.

(38) النوابغ: النابغة الذبياني والجعدي والشيباني. وأبو يزيد: المخبل السعدي. وذو القروح: امرؤ القيس. وجرول: الحطيئة.

(39) أخو بني قيس: طرفة.

(40) ديوانه، تحقيق حسين نصار، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1947، ص64-71.

(41) قرين الشاعر: شيطانه.

(42) مستعجل: كذا في ديوانه المطبوع، ولا أعلم لها وجهًا، وقد وقف عندها محقق الديوان.

(43) انظر الباب الثاني، الفصل الأول، فقرة "1".

(44) ابن رشيق، العمدة 1: 49.

(45) الأغاني "دار الكتب" 11: 54.

(46) كتاب المعمرين: 25.

(47) ص28.

(48) ص38 رقم: 36.

(49) ص39 رقم 37.

(50) ص71-72 رقم 73.

(51) ص72 رقم 74.

(52) ص73رقم 76.

(53) ص73 رقم 77.

(54) ص73 رقم 78.

(55) ص74-75، رقم 81.

(56) ص76 رقم 84 وانظر كذلك رقم 85، 880.

(57) مقدمة الصاحبي، ص: ب، جـ

(58) البغدادي، الخزانة 3: 131.

(59) من أمثلة ذلك: ابن عبيد بن الأبرص الأسدي، وقد روى عن علي بن أبي طالب "ابن سعد 6: 164" وعلي بن علقمة بن عبدة "الإصابة 5: 112"، والقاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي "معجم المرزباني: 332"، وحية بنت وهب بن أمية بن أبي الصلت تزوجها عبد الله بن صفوان "نسب قريش: 390"، وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت وابنه سعيد بن عبد الرحمن "معجم المرزباني: 366"، وكعب بن زهير بن أبي سلمى وابنه عقبة بن كعب "الشعر والشعراء 1: 92"، ومكنف وحريث ابنا زيد الخيل بن مهلهل وقد شهدا قتال الردة "الشعر والشعراء 1: 244"، وإبراهيم وداود ابنا متمم بن نويرة. ووفد إبراهيم على عبد الملك بن مزوان "الشعر والشعراء 1: 298" وابن المتلمس، كان اسمه عبد المنان أدرك الإسلام "الأغاني: ساسي 21: 122".

(60) الأغاني 3: 130-131.

(61) المعمرين: 36.

(62) ديوان حاتم "ط. لندن". 31.

(63) الموشح المرزباني: 240.

(64) طبقات فحول الشعراء: 40.

(65) الشعر والشعراء 1: 269.

(66) الشعر والشعراء 1: 388.

(67) الشعر والشعراء 1: 388، وانظر معجم المرزباني: 212-213.

(68) البكري، معجم ما استعجم "أذرع" 1: 131.

(69) الأغاني 9: 58.

(70) النقائض: 1049، والموشح: 106-107.

(71) النقائض: 430.

(72) الأغاني 9: 224، والموشح: 150, 151.

(73) الأغاني 2: 412, 417، والموشح: 193، 195.

(74) الأغاني 4: 241-242.

(75) الموشح: 184.

(76) الموشح: 159.

(77) الشعر والشعراء 1: 216. الحوار: ولد الناقة. والخمال: داء يصيب القوائم.

(78) المصدر السابق 1: 215.

(79) المصدر السابق 1: 215-216.

(80) الزيادة بين المعكفين من الجواليقي، المعرب "ط. ليبسك" ص46.

(81) الأغاني 9: 112، وقد ذكره أبو الفرج في موطن آخر "الأغاني، ساسي 21: 126" باسم: عبيد.

(82) المعرب ص46، وانظر أيضًا البغدادي، الخزانة "سلفية" 4: 197.

(83) ذهب الأستاذ أحمد محمد شاكر في تحقيقه لكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة "ص216 هامش: 1" إلى أن الجواليقي أخطأ في اسم راوية الأعشى حينما ذكر أنه يونس بن متى.

(84) ترجمته في القفطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة 2: 65 وانظر تخريج ترجمته هناك في الحاشية.

(85) الأغاني 4: 258.

(86) الموشح: 184.

(87) الموشح: 182.

(88) الموشح: 125، وانظر أيضًا العمدة 2: 192-193 ورد ابن رشيق على هذا التصحيح.

(89) المرزباني، الموشح: 85.

(90) المصدر السابق: 95.

(91) المصدر السابق: 28.

(92) في رواية: متلج كفيه؛ أي: مدخل.

(93) المصدر السابق: 22.

(94) يذكر خبر الزباء وغدرها بجذيمة الأبرش. الأديم: النطع. راهشيه: عرق جذيمة الأبرش.

(95) لسان العرب "ذهب".

(96) مجالس ثعلب: 481.

(97) المسعودي، مروج الذهب 2: 52.

(98) البيان والتبيين 1: 333.

(99) أخبار عبيد بن شرية: 312-313.

(100) انظر مثلًا: ابن سعد 6: 180، 200، 7/ 1: 121، 7/ 2: 39. والبيان =

(101) البيان والتبيين 1: 368-369.

(102) انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 119، ففيه أن صالحًا المري تمثل في قصصه بالبيت:

فبات يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجل

وتمثل الحسن في قصصه بشعر لعدي بن الرعلاء الغساني، وتمثل عبد الصمد بن الفضل الرقاشي بأبيات للأسود بن يعفر.

(103) المعارف "أوربا": 276، والبيان والتبيين: 367.

(104) مثل العباس بن مرداس، وأعشى بني وائل، وحسان بن ثابت، وأمية بن أبي الصلت، وامرئ القيس، وعبيد بن الأبرص، والنابغة الذبياني، انظر لذلك: حسين نصار. نشأة التدوين التاريخي ص19.

(105) أخبار عبيد ص316.

(106) ص317.

(107) ص318.

(108) ص318-319.

(109) ص320.

(110) ص341-353.

(111) ص356-366.

(112) انظر مثلًا ص327، ص335.

(113) طبقات فحول الشعراء: 9.

(114) المصدر السابق.

(115) الفهرست: 136.

(116) المغازي: 149.

(117) أبو عبد الله المصعب الزبيري، نسب قريش: 5.

(118) المصدر السابق: 9.

(119) النقائض: 228.

(120) العشر: شجر كبير له شوك. تتناوح: تتقابل. الغراث: الجياع. المحلق: إبل سمتها على هيئة الحلقة على أفخاذها. بداد. متفرقة.

(121) النقائض: 240.

(122) طبقات فحول الشعراء: 40.

(123) أبو البركات الأنباري، نزهة الألباء: 37

(124) ص6.

(125) الصفحة السابقة.

(126) ص21.

(127) ص42.

(128) ص50.

(129) ص92.

(130) ص123.

(131) ص23.

(132) ص39-40.

(133) ص21.

 

 

 

 

 

 

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.