أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-11-2018
2753
التاريخ: 31-7-2019
2442
التاريخ: 8-6-2021
3153
التاريخ: 1-12-2019
1814
|
النبي صلى الله عليه وآله وزواج فاطمة
توفيت رضوان الله عليها في السنة الثالثة عشر للبعثة وقد حزن عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) حزناً عظيماً وكانت وفاتها في عام وفاة عمه «أبو طالب»، ولذلك فقد سمِّي ذلك العام بعام الحزن لحزنه على فقدها وفقد عمه «أبو طالب». نعم توفيت خديجة المرأة الرابعة التي دخلت حياة النبي في أحرج أدوارها لم تخرج من حياته أبداً فقد خلَّفت له أغلى وأثمن ذكرى مقدسة، وهي الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين. وقد جاء في بعض الرويات أنها خلفت للنبي أربع بنات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة (وسوف نناقش هذا الموضوع في محله إنشاء الله). وقد أصبحت الزهراء قطب الرحى في حياة أبيها العظيم حتى أنه كان يسميها بأم أبيها. وقد قامت منه مقام البنت والأم فهي تجهد أن تعوضه بحنانها عما افتقده بأفتقاد أمها خديجة، وهي تسعى أن تكون لرسالته كما كانت أمها من قبل. لم تمنعها حداثة السن عن التعرف إلى جميع مشاكل أبيها وآلامه مهما كانت المشاكل مهمة ومهما كانت الآلام هائلة. لم تضعف ولم تهن ولم تتردد او تتراجع. وقد جاء في رواية عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم الى سلى (1) جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعه بين كتفيه فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهره، والنبي ساجد لا يرفع رأسه حتى أنطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وطرحته عنه ثمّ أقبلت عليهم تؤنبهم على ذلك.
هذه إحدى الروايات التي تدل على منزلة الصديقة في قلب أبيها ومحلها من دعوته ورسالته وكأنها قد شعرت مع حداثة سنها بأنها مسؤولة عن أن تكون المرأة الخامسة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد واكبت سيره بكل شجاعة وإقدام.
ونحن الآن لا نكاد نتصور مدى ما كانت تتطلبه من شجاعة، هي وجميع المسلمات في ذلك العصر.
فنحن الآن، وبعد أن عمت كلمة الإسلام جميع الأقطار الإسلامية والحمد لله، لا تكاد تجرؤ إحدانا أن تجهر بالكلمة الإسلامية صريحة واضحة. وكانت الزهراء صلوات الله عليها قد أنصهرت بأفكار الإسلام روحياً وفكرياً فقد كانت وهي بنت أعظم رجل عرفه التاريخ وريحانته الغالية والتي كان النبي يدعوها بأم أبيها ويقول: فاطمة بضعة مني من أرضاها فقد أرضاني ومن أغضبها فقد أغضبني. وكان يقول حينما يقبلها إني أشم منها رائحة الجنة، وهي الحوراء الإنسية، وكانت عنده بمنزلةٍ ما فوقها منزلة. فكانت آخر من يراه عند سفره وأول من يلقاه عند رجوعه من السفر. وكانت هي من أنحصر فيها نسله صلوات الله عليه ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجهل ذلك.
نعم كانت هي هكذا وكانت أكثر من هذا ولكنها ومع كل هذه المميزات الروحية والمعنوية كانت بسيطة في إسلوب حياتها لا تكاد تختلف عن أي أمرأة فقيرة، فبيتها متواضع للغاية لا يحوي إلاّ النزر القليل من الأثاث الضروري الذي لا يمكن الأستغناء عنه.
فهي مثال المرأة المسلمة المترفعة عن المواد الدنيوية والصاعدة بروحها وروحياتها إلى أفق الكمال وسماء العصمة والفضيلة. فإن النفس البشرية إذا أستنارت بنور الإسلام وإذا نفذت إلى مكنوناتها تعاليمه وحِكمه استغنت بمعنوياتها عن كل ما تحتاج إليه النفوس الضعيفة من مقومات لشخصيتها.
نعم هكذا كانت فاطمة الزهراء وهي ريحانة النبوة وزهرة الهاشميين فتاة ترعرعت في أحضان الأبوة الرحيمة، وهكذا كانت هي عروس تزف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. فقد خطبت إلى أبيها من قبل كثيرين كان منهم أكابر الصحابة والرسول يردهم بشتى الحجج والمعاذير ويقول لهم أنه ينتظر فيها أمر السماء فقد كان صلوات الله عليه يعلم أن نسله قد أنحصر في فاطمة، وأن فاطمة وبعلها وأبناءها هم الذين سوف يكونون الامتداد لرسالته ولدعوته السماوية. ولهذا فقد كان ينتظر الرجل الجدير بتحمل هذه المسؤولية فلم يكن يتوخى في زواجها مالاً ولا ثراءً ولكنه كان ينتظر لها الكفء.
وفي يوم مبارك، وبعد أن كان النبي صلى الله عليه وآله قد رد كل من تقدم لخطبة الزهراء وبما فيهم أبو بكر وعمر، أقبل علي أمير المؤمنين عليه السلام الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما كان يقبل، فيحييه ويجلس اليه كما كان يجلس، ولكن الرسول يحس أن أبن عمه قادم لأمر هام وقد عرف ذلك بفراسته الشخصية وبالإيجاء النبوي. فيقبل عليه وهو يسأله متلطفاً مشجعاً وكله حب وحدب على الشاب العزيز الجالس أمامه. هذا الشخص الغالي الذي آخاه وأصطفاه والذي فتح له قلبه رضيعاً ومهد له بيته صبياً.
وها هو الآن يوشك أن يسلمه أغلى شيء عنده وأعز مخلوقة عليه، ثمّ يقول: ما حاجة ابن أبي طالب وما الذي يشغل فكرك يا ابن العم؟ وكانت هذه الكلمات الرحيمة هي التي شجعت أبن عم الرسول على أن يقول بصوت خفيضٍ وهو يغض بصره أمام رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: ذكرت فاطمة بنت رسول الله، ثمّ يسكت ولا يقوى على الإفاضة أكثر مما قال، فيجيبه الرسول وهو على ما عليه من بشر ورقَّةٍ لا متناهية مرحباً وأهلاً. ويسكت لحظة ليعود فيسأله حدباً مشفقاً وهل عندك شيء؟ فيجيبه علي وهو لا يزال مغضٍ ببصره إلى الأرض، لا يا رسول الله. فيمسك الرسول لحظة ثمّ يتذكر أن علياً أصاب درعاً من مغانم بدر فيعود ليسأله أين درعك الذي أعطيتك إياه يوم كذا؟ فيجيب علي وقد غلبه التأثر لما يلقى من بِرِّ النبي ورعايته وما يلمس من روح ابن عمه وصفائها وهو يعلم أنه جاء يخطب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة التي هي أعز مخلوقة عند رسول الله، فيجيب: هي عندي يا رسول الله. فيقوم النبي صلوات الله عليه ثمّ يدخل على أبنته الغالية ليرى رأيها فيما يطلبه أبن عمه وأخوه ويقول لها متلطفاً رفيقاً باراً: يا عزيزة أبيها الغالية لقد ذكرك أبن عمك علي فما رأيك في هذا يا بنتاه. والزهراء كانت تعرف ابن عمها علياً، وتعرفه كما لا يعرفه غيرها من الناس.
فهو سيف أبيها ودرعه والفادي له بنفسه، والبائت على فراشه، وحامل لوائه. هذا عدا أنها كانت تسمع دائماً مدحه والإعجاب فيه من رسول الله (صلى الله عليه وآله). وكانت تشعر دائماً وأبداً أن أبن عمها علياً هو أقرب المسلمين للرسول وأحبهم إليه وهي الآن على ثقة من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) راغب في هذا محبذ له، وإلاّ فما كان ليسألها عن رأيها فيه، فما أكثر ما خطبت الى أبيها قبل اليوم وكان يردهم دون أن يسألها عن رأيها في الخطاب. وعلى هذا ولكونه جاء ليرى رأيها في علي بن أبي طالب، عرفت الزهراء صلوات الله عليها رأي أبيها في علي وفي هذه الخطبة؛ ولكنها مع هذا تسكت ولا تتمكن أن تجيب، فما عساها أن ترد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحياؤها العذري يمنعها من التصريح بما تريد، ورضاؤها بهذا الخاطب وقبولها لهذه الخطبة يمنعانها من الرفض فتطرق إلى الأرض ولا تجيب. والرسول (صلى الله عليه وآله) في كل هذا يتطلع إليها ويقرأ ما ينطبع على ملامحها من أحاسيس وأنفعالات ويشعر أنها راضية، ويحس أنها مرتاحة مسرورة فيقوم وهو متهلل الوجه، باسم الثغر ويقول: سكوت الباكر علامة رضاها، فلا ترد عليه ولا تعترض. فيبتسم ويخرج إلى أبن عمه ليخبره برضاء الزهراء ويقول له: أين الدرع يا علي؟ فيذهب علي مسرعاً ويأتي بالدرع فيأمره النبي أن يبيعها ليجهز العروس بثمنها. وقد أشتراها عثمان بأربع مائة وسبعين درهماً حملها علي صلوات الله عليه ووضعها أمام الرسول، فتناولها بيده الكريمة ثمّ دفعها إلى بلال ليشتري ببعضها طيباً وعطراً ويدفع الباقي إلى أم سلمة لتشتري جهاز العروس. ثمّ يجمع النبي صحابته وآله ويشهدهم أنه زوج ابنته فاطمة من أبن عمه علي بن أبي طالب على أربع مائة مثقال من الفضة على السُّنة القائمة والفريضة الواجبة ثمّ قدم للضيوف حلوى العرس الهاشمي النبوي وهو وعاء تمر.
على هذا النمط البسيط وعلى هذا النحو القدسي تمت خطبة الزهراء بنت رسول الله إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وتأخر الزفاف إلى الوقت الذي يتم فيه جهاز العروس ويهيأ بيت العريس.
نعم هكذا بكل بساطة تمت خطبة أعظم خطيبين. فالزهراء عندما خطبت لابن عمها لم تكن تفكر في شيء مما يشغل أفكار غيرها من العرائس. لم تكن تهتم بما يملك عريسها من مال وما يهيأ لها من أثاث ورياش. لم تكن تحفل بالسفاسف من الأمور كأن تكون خطبتها رسمية عامة شاملة تعمر بالترف والبذخ. لم تكن تحفل بكل هذه الأمور الدنيوية فهي أبنة رسول الله وابنة خديجة الكبرى.
أوليست أمها هي التي بذلت المال رخيصاً في سبيل العقيدة؟ أوليست أمها هي التي استبدلت القصر الشامخ بالبيت المتواضع والترف الزاهي بشظف العيش ومره؟
وها هي أبنتها فاطمة تُخطب إلى علي أمير المؤمنين بهذه الروعة اللامتناهية التي كونتها هذه البساطة في الخطبة. فالإمام علي كان يخطب شخص الزهراء بنت رسول الله، والزهراء صلوات الله عليها قبلت بالزواج حباً بعلي وبشخصه لا غير. فلولا أن خاطبها كان غير علي بن أبي طالب لما رضيت أن تفارق أباها وبيته إلى أي زوج كان، ولكنها كانت تعلم أنها بزواجها من علي بن أبي طالب تتقرب إلى أبيها وإلى رسالته أكثر منها قبل الزواج، وأنها إذا قرنت حياتها بحياة علي تمكنت أن تسند علياً بجهادها الإسلامي وأن تركز جهاد أبن عمها بمؤازرتها له. ولذلك فقد تلقت عرض الزواج بكل ارتياح.
وإني لأعجب لما كتبته الدكتورة بنت الشاطيء في كتاب بنات النبي، وما عللت فيه رضاء الزهراء بعلي بن أبي طالب وما بينته في أسلوب هو أقرب الى الخيال القصصي منه إلى الواقع. فقد عزت الدكتورة بنت الشاطئ زواج فاطمة، والدافع الذي دفعها لذلك دخول عائشة في بيت النبي وفي حياته بعد أن كانت الزهراء معرضة عن الزواج في إصرار، وهذه الفكرة القصصية الخيالية كان من الممكن فرضها على عائلة غير عائلة رسول الله وعلى أسرة غير أسرته صلوات الله عليه، كأن تأتي الدكتورة لتحدثنا حديث أسرةٍ عادية مكونة من أب وأربعة بنات وأم، ثمّّ تتزوج البنات الثلاث وتعرض الرابعة عن الزواج إيثاراً لصحبة أبيها عن غيره، وتموت الزوجة الأولى فتدخل في حياة الأب زوجة جديدة لا تؤثر تأثيراً بالغاً على مكانة البنت الرابعة التي كانت في البيت، ولكن الزوجة الثانية التي تدخل في حياة الأب بعد الأم الراحلة أمرأة ثانية تستهويه وتمتلكه وعند ذلك تفهم البنت الرابعة التي آثرت صحبة أبيها عن الزواج أنها لم تعد كما كانت في بيت أبيها وفي قلبه بعد أن شغلت المرأة الجديدة حياة أبيها واستمالت قلبه نحوها ولم تترك للبنت الباقية في بيت أبيها مجالاً لدلال أو رغد من العيش.
وهنا يجب أن نفترض أولاً أن رب الأسرة رجل ضعيف الشخصية ضئيل العاطفة مندفع وراء ملذاته الحسية لكي نتمكن من الإنسجام مع هذه الأقصوصة ونصدقها كما هي.
فإن أي زوج وأي أب إذا كان قوي الشخصية ولو قليلاً وإذا كان يحمل عاطفة أبوية ولو عاطفة جزئية، ايمكن لنا أن نصدق أنه يخضع لسلطان أمرأة مهما كانت تلك المرأة ومهما تمتعت به من سحر وفتنة، ولا يمكن للمرأة تلك أن تجعل بيته يضيق بابنته التي كانت حسب بداية الأقصوصة تمتنع عن الزواج حباً في أبيها وإيثاراً لصحبته.
ومن المؤكد أن بيت الأب لا يضيق بابنته إلاّ إذا ضاق الأب بابنته ولا يضيق الأب بابنته إلاّ إذا كان معدوم العاطفة مسلوب الشخصية.
عند هذا وبعد كل هذه الفروض لنا أن نصدق هذه القصة كما جاءت بها الدكتورة (كصورة من حياتهن ).
ولكن هذه الأقصوصة إذا طالعتنا بها الدكتورة وهي تنسبها إلى أهل بيت النبوة، وإلى أسرة يكون الأب فيها رسول الرحمة وتكون البنت فيها فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، ولا يمكن لنا أن نصدقها بأي حال من الأحوال. ولا يصح أن نصدقها أيضاً لما تستلزمه من فروض لا تنطبق على أهل البيت.
فنحن إذا سلمنا أن الزهراء كانت رابع بنات أربعة فيجب علينا إولاً أن نتعرف على أزواج أخواتها والسبب في عزوفها عن الزواج بعد أخواتها الأخريات، ونرى أن أختين من أخواتها قد لاقيا من المحن والاضطهاد الشيء الكثير حتى أن أزواجهما أرجعاهما إلى بيت رسول الله عداءً لهما ولرسول الله (صلى الله عليه وآله).
فنحن إذا سلمنا بوجود أخوات للزهراء وجب علينا أن نسلم بزواجهن وبأزواجهن، وفي هذا دليل كافٍ نفهم منه عزوف الزهراء عن الزواج إذا صح أنها كانت عازفة كما تزوجت أخواتها بعد أن رأت بعينها المصائب التي أصابت أخواتها من هذا الزواج. وشتان بين أزواج أخواتها وبين من رضيت به زوجاً لها وقريناً. فزواج أخواتها ونوعيته أكبر مثبط لها عن قبول هذه التجربة. وخطبة الإِمام علي لها وخصوصياته أكبر دافع لها لقبول العرض بالرضاء التام. كان ذاك هو المانع وكان هذا هو الدافع لا أكثر ولا أقل. طبعاً هذا إذا سلمنا مع الدكتورة بوجود أخوات للزهراء صلوات الله عليها ثم أنها كانت تعلم أن حاجة أبيها لها وهو في مكة أكثر منها وهو في المدينة. فقد كان الاضطهاد والشرك والظلم قد خف وتلاشى في المدينة. ولما علت كلمة الإِسلام اطمأنت الزهراء على أبيها وعلى راحته النفسية ثم أنها حينما كانت ترفض الزواج كانت ترفضه لكي لا تخرج من حياة أبيها ولكي لا تبعد عن رحابه وعرينه. وزواجها بعلي كما كانت تعلم واثقة أنه سوف يقربها لأبيها ويدنيها إليه أكثر وأكثر، وأنها لن تترك بيت أبيها بل ستكوِّن لأبيها بيتاً جديداً هو بيتها الذي يضمها وابن عمها علي بن أبي طالب. وفعلاً فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ هذه الآية الكريمة كلما مر على باب فاطمة وعلي: (... إنما يُريد الله ليذهبَ عنكم الرجٌسَ أَهل البيت ويُطهَّركم تطهيراً) الآحزاب/33. صدق الله العظيم.
وقد عرفت الزهراء كل هذا ولأجل هذا رضيت بابن عمها وآثرت بيته على البقاء في بيت أبيها. ولا دخل لآي امرأة من نساء النبي في زواجها ودواعيه، وإنما أعرضت عن الزواج لعدم وجود الكفء، وأقدمت عليه بعد أن وثقت من كفاءة الزوج.
ولا أدري كيف سمحت الدكتورة بنت الشاطيء لنفسها أن تفسر قبول فاطمة للزواج بدخول عائشة في حياة النبي، وتقلص مكانة البنت في قلب أبيها. هذه البنت التي كانت كل شيء لآبيها في قلبه وحياته. وقد جاء في الاستيعاب عن السيدة عائشة نفسها أنها سُئلت أي الناس كان أحب إلى رسول الله؟ قالت: فاطمة فسُئلت: فمن الرجل؟ قالت: زوجها. وجاءت هذه الرواية أيضاً عن الترمذي: وفي الاستيعاب بسنده عن ابن بريدة عن أبيه، وفي المستدرك بسنده عن جميع بن عمير وصعصعة، وقد رواه الترمذي بسنده عن بريدة مثله. وروي الحاكم في المستدرك وصححه بسنده عن جميع بن عمير قال: دخلت مع أمي على عائشة فسمعتها من وراء الحجاب وهي تسألها عن علي فقالت تسألينني عن رجل والله ما أعلم رجلاً كان أحب إلى رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من علي، ولا في الأرض امرأة كانت أحب إلى رسول الله من امرأته فاطمة؟ وقد كان رسول الله يكرر دائماً أن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها وأن فاطمة شجنة مني، يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواضحة.
ونشطت أم سلمة لكي تجهز العروس الغالية فاشترت لها قميصاً بسبعة دراهم وخماراً بأربعة دراهم وقطيفة سوداء خيبرية وسريراً مزملاً بشريط وفراشين من خيش حَشوُ أحدهما ليف، وحَشوُ الآخر من صوف الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حَشوُها إذخر، وستراً رقيقاً من صوف، وحصيراً هجرياً ورحى لليد ومخضباً من نحاس، وهو إناء تغسل فيه الثياب، وسقاءاً من أدم وقبساً للبن وشناً للماء ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء وكوزاً من خزف ونطعاً من أدم وعباءة قطوانية وقربة ماء. ولما أتمت أم سلمة هذا الجهاز البسيط الرائع روعة قدسية لا متناهية، جاءت إلى رسول الله صلوات الله عليه فجعل يقلبه بيده الكريمة وهو يقول: بارك الله لأهل البيت. ثم إنه رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بارك لقوم جل أنيتهم الخزف. وفي بعض الروايات أنه استعبر وبكى وهو يقلب جهاز حبيبته المتواضع. وكان العريس مشغولاً بدوره أيضاً يجهز بيته ويهيِّئُهُ لاستقبال ابنة رسول الله. وكان جهاز الإِمام صلوات الله عليه أن نشر رملاً ليناً في صحن الدار ونصب خشبة من حائط إلى حائط للثياب وبسط إهاب كبش ومخدة ليف: وفي رواية ابن سعد عن بعض من حضرن عرس فاطمة قلن: دخلنا البيت مع العروس فإذا إهاب من شاة على مصطبة ووسادة فيها ليف وقربة ومنخل ومنشفة وقدح، وهذا ما روي عن أثاث أمير المؤمنين وهو في طريقه لمصاهرة رسول الله. وعندما أتم الإِمام تجهيز بيته وتهيئته. وعلم أصحابه أنه قد أكمل ذلك قال له جعفر وعقيل: ألا تسأل رسول الله يدخل عليك أهلك؟ فقال لهم: الحياء يمنعني من ذلك. فقاما عنه ولقيا أم أيمن مولاة رسول الله فذكرا لها ذلك فدخلت إلى أم سلمة فأعلمتها وأعلمت نساء النبي أن علياً قد أتم تجهيز بيته، وهو يرغب أن ينقل إليه أهله. فاجتمعن عند رسول الله وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنا قد اجتمعنا لأمر لو كانت خديجة في الأحياء لقُرَّت عينها به. وروي عن أم سلمة أنها قالت لما ذكرنا له خديجة بكى رسول الله وقال: خديجة وأين مثل خديجة، صدقتني حين كذبني الناس ووازرتني على دين الله وأعانتني عليه بمالها، إن الله عز وجل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد لا صخب فيه ولا نصب. وقالت أم سلمة فديناك بآبائنا وأمهاتنا إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك غير أنها قد مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا وبينها في الجنة. يا رسول الله هذا أخوك وابن عمك علي بن أبي طالب يحب أن تدخل عليه زوجته. فقال النبي: حباً وكرامة. ثم إنه دعا بعلي فدخل وهو مطرق حياءاً وقامت أزواج النبي ودخلن البيت فسأله النبي أتحب أن أدخل عليك أهلك فأجاب علي وهو مطرق: أجل فداك أبي وأمي. فقال: أُدخلها عليك إنشاء الله. ثم قام إلى نسائه وأمرهن أن يزين فاطمة ويطيبنها ويصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة وأن يفرشن لها بيتها الذي هيأه ابن عمها.
فدبت الحركة في بيت النبوة وعمت الفرحة على وجوه أهل البيت وشاعت ابتسامة محببة على وجه الرسول وهو يرى نفس الابتسامة قد غمرت وجه ابن عمه وأخيه وغمرت قلب الرسول موجة من رضاء لما آنسه على ابن عمه من لهفة وشوق ولما أحس به من نشاط حيوي شاع على علي في حركاته وتصرفاته. وفُرش بيت العروس الجديد وزُيِّنت العروس وطُيِّبت ونُحرت الذبائح وأُطعم الطعام، وأمر النبي صلى الله عليه واله وسلم أن ينادي على رأس داره: أجيبوا رسول الله، فبسط النطوع في المسجد وصدر الناس وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وامرأة رفعوا ما أرادوا ولم ينقص من الطعام شيء. ثم دعا رسول الله بالصحائف فملئت، ووجهها إلى منازل أزواجه ثم أخذ صحفةً فقال هذه لفاطمة وبعلها وبعد أن أكل الناس وشبع كل جائع أتى رسول الله ببغلته الشهباء، وثنى عليها قطيفة وجاء إلى فاطمة الزهراء وهي بين نساء المسلمين وقد هيأنها للزفاف، وأخذ بيدها وقال لها اركبي ثم ساعدها على الركوب وأمر سلمان أن يقود البغلة وسار صلوات الله عليه خلفها ومعه حمزة وجعفر وعقيل وبنو هاشم كلهم مشهرين سيوفهم وهم يكبرون ويهللون. ومشت نساء النبي وراء العروس وهن يرجزن ويكبرن، ونساء المسلمين من حولهن يتلون الأشعار في مدح العروسين حتى دخلن الدار المباركة، وأنفذ رسول الله إلى علي فدعاه وأخذ بيد فاطمة فوضعها في يده وقال بارك الله لك في ابنة رسول الله ثم جمعهما إلى صدره وقبل بين أعينهما، وقال لعلي: يا علي نعم الزوجة زوجتك. ولفاطمة: يا فاطمة نعم البعل بعلك. ثم دعا بماء فأخذ منه جرعة فتمضمض بها ثم مجها في القصب وصب منه على رأسها ونضح على صدرها وفعل بعلي مثل ذلك وقال: اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما ثم أنه قام لينصرف فلم تملك فاطمة الزهراء دمعها ولحظ ذلك أبوها فتمهل برهة ثم قبلها في حنو.
وقال أنه تركها وديعة عند أقوى الناس إيماناً وأكثرهم علماً وأفضلهم أخلاقاً وأعلاهم نفساً. ثم انصرف وهو يدعو للعروسين وكانت أطياف خديجة في تلك الساعة تعاوده ملحاحة، فقد شعر في تلك الليلة بفراغ لخديجة عجز حتى هو أن يسده بالنسبة لابنتهما الغالية. وما أكثر ما كان يشعر بهذا الفراغ في شتى المناسبات والظروف. وبهذا بدأت الزهراء حياتها الجديدة في بيت الزوجية السعيد، البيت الذي شهد أسعد مناسبات أهل بيت النبوة، وأصبح مصدراً لإشعاعات الرسالة ومنبعاً زاخراً بالخير والبركة وقد تلاشت القيم المادية في أرجائه حتى استحالت إلى لا شيء وتعالت المثل الروحانية فيه فأصبحت كل شيء.
_______________
(1) السلى: جمعها أسلاء، جلدة يكون ضمنها الولد في بطن أمه إذا أنقطع في البطن هلكت الأم والولد. يقال: «انقطع السَّلى في البطن» أي ذهبت الحيلة وعظم الويل.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|