تحريك المسؤولية السياسية للحكومة من قبل الحكومة نفسها
المؤلف:
محمد عبد الكاظم عوفي
المصدر:
مسؤولية الحكومة السياسية في دستور جمهورية العراق لسنة 2005
الجزء والصفحة:
ص55-59
2025-12-15
46
يذهب البعض الى انه يمكن تحريك المسؤولية السياسية للحكومة من قبل الحكومة نفسها ، وأن تحريك المسؤولية السياسية بناء على مبادرة الحكومة نفسها يسمى (مسألة الثقة) ، والثقة بالحكومة هو اجراء يتم وفقا له اعراب البرلمان عن ثقته في الحكومة القائمة وموافقته على استمرارها وممارسة مهامها(1). إذ إن الحكومة في النظام البرلماني كهيئة جماعية لا تستطيع ممارسة وظائفها إلا بمقتضى الثقة التي يمنحها إياها البرلمان وتطرح الحكومة مسألة الثقة بنفسها في حالتين :-
الأولى : عند عرض برنامجها الوزاري : إذ أن من المبادئ المعروفة في النظم البرلمانية وجوب إن تحوز الحكومة المنتخبة على ثقة البرلمان كشرط أساسي لاستمرارها في الحكم ، وهذا يستوجب عليها إن تتقدم إلى البرلمان ببرنامج عملها ، الذي يمثل سياستها العامة في المجالين الداخلي والخارجي ، وما تقترح تنفيذه على هذين الصعيدين خلال السنوات القادمة ، والتي تمثل مدة بقائها في الحكم ، من اجل إن يتمكن البرلمان من دراسته وأبداء الملاحظات عليه وتقرير مدى منحه الثقة لها من عدمه على أساسه(2). فالبرنامج الوزاري يعتبر إذن بداية العلاقة بين البرلمان والحكومة ، كما يعد الأساس في إمكانية ممارسة البرلمان لوسائله الرقابية بقصد مساءلة الحكومة سياسيا(3). ولكن هناك رأي يذهب الى ان الاقتراع على هذه الثقة في هذه الحالة قد لا تكون هناك حاجة اليه ، وذلك لان الحكومة يفترض انها قد حصلت على ثقة البرلمان لحظة تشكيلها ، لان رئيس الدولة يختار رئيس الحكومة من بين الأغلبية البرلمانية ، ويقوم الاخير باختيار وزرائه من تلك الأغلبية ، ثم يتم تشكيل الحكومة بكاملها بموجب قرار من رئيس الدولة ، ومن ثم فيمكن إن لا تطلب الحكومة ثقة البرلمان ، ولكن العمل يجري على إن تطلب الحكومة من البرلمان عند تشكيلها وعرض برنامجها الوزاري مسألة الثقة لصالحها(4). وهذا الاتجاه الذي تبناه النظام الدستوري البريطاني ، إذ أن طلب الحكومة الثقة من البرلمان يعتبر أمرا غير ضروري ، وذلك لان الثقة بالحكومة واضحة كل الوضوح بعد انتهاء الانتخابات وظهور نتائجها ، حينما تكون الأغلبية البرلمانية التي تقوم بتشكيل الحكومة وخرجت من البرلمان هي نفسها الأغلبية التي حازت على الثقة بفوزها في الانتخابات البرلمانية(5).
وهذا الامر ينطبق كذلك على النظام الدستوري الكويتي بموجب دستور الكويت لسنة 1962 اذ تنص المادة (98) منه على إن " تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة ، وللمجلس إن يبدي ما يراه من ملاحظات بصدد هذا البرنامج " . ولكن يتضح من هذا النص إن الحكومة عندما تقوم بتقديم برنامجها فور تشكيلها إلى مجلس الأمة لا يعني ذلك إنها تطلب من المجلس الثقة بها كما يحدث في الأنظمة البرلمانية الأخرى (6). ولكنها تقدم هذا البرنامج ثم تستمع لملاحظات المجلس عليه وتأخذ بتلك الملاحظات باعتبارها صادرة عن ممثلي الشعب (7). وسبب ذلك هو إن هذا الدستور رغم تبنيه للنظام البرلماني ، ألا إنه لم يشترط على الحكومة إن تتقدم ببرنامجها الوزاري إلى مجلس الأمة ، لكي تستطيع مباشرة اختصاصاتها الدستورية ، وإنما اكتفى بالثقة التي يمنحها رئيس الدولة (الامير) للحكومة (8). وفي هذه النقطة يقترب الدستور الكويتي من الدستور الفرنسي لسنة 1958 ويبتعد عن النظم البرلمانية التقليدية ، لأنه وإن كان قد تبنى بالأصل النظام البرلماني ، إلا إنه اخذ كذلك ببعض مظاهر النظام الرئاسي في هذه الحالة وبعض الحالات الاخرى (9).
وبالمقابل فإن بعض الأنظمة الدستورية البرلمانية الاخرى تقضي بخلاف ذلك ، إذ إنها توجب على الحكومة الحصول على ثقة البرلمان كشرط أساس لممارسة مهامها ، وهذا هو الاتجاه الذي تبناه النظام الدستوري العراقي بموجب المادة (76/ رابعا) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي نصت على إن " يعرض رئيس مجلس الوزراء المُكلف ، أسماء اعضاء وزارته والمنهاج الوزاري على مجلس النواب ويعد حائزاً على ثقته ، عند الموافقة على الوزراء منفردين والمنهاج الوزاري بالأغلبية المطلقة "(10). ومن هذا النص يتضح بأن هذا النظام قد سار على خلاف النظامين البريطاني والكويتي ، إذ إن الحكومة لا يكون لها أي وجود قبل الحصول على ثقة مجلس النواب ، ولا تستطيع مباشرة مهامها الدستورية قبل الحصول على تلك الثقة ، فالمجلس يتخذ قراره بمنح الثقة على أساس عنصرين هما اعضاء الحكومة ومنهاجها الوزاري ، حيث يقوم رئيس الحكومة المكلف من قبل رئيس الجمهورية بعرض أسماء اعضاء وزارته ، فضلا عن منهاجها الوزاري على المجلس(11). ويعطى المجلس الوقت الكافي لدراستهما ويحال المنهاج إلى لجنة خاصة من بين أعضائه تتولى إعداد تقرير بشأنه(12). ثم يتم التصويت وفقا لهذا التقرير في المجلس بالأغلبية المطلقة ، أما بالقبول أو الرفض أو التعديل ، وأما بالنسبة للوزراء فيتبع مناقشتهم التصويت بالقبول أو الرفض(13). ووفقا لرأي المحكمة الاتحادية العليا – وهو رأي منتقد لأنه يتعارض مع نصوص الدستور - لا وجوب على رئيس الوزراء المكلف تسميته اعضاء وزارته جميعهم ، كما لا يوجد هناك مانع عليه بتسميتهم أصالة أو وكالة وعلى دفعات ، ومن حق مجلس النواب الموافقة على الوزراء والمنهاج الوزاري خارج المدة المنصوص عليها في الدستور(14). و(من وجهة نظر الباحث) لا يمكن اعتبار تلك الحالة من حالات تحريك مسؤولية الحكومة السياسية ، وذلك لان الثقة لم تمنح بعد للحكومة أو احد الوزراء فكيف يتأتى للبرلمان سحبها !!! كما إن ذلك يتناقض مع التعريفات التي اوردناها في بداية هذا الفصل لمسؤولية الحكومة السياسية ، والتي تتفق على إن تلك المسؤولية لا تثور الا إذا ارتكبت الحكومة أو الوزير تصرفات لا تتفق في نظر البرلمان أو غالبية اعضائه مع احكام الدستور.
وأما الحالة الثانية : فهي طرح الثقة أثناء مدة ولاية الحكومة بعد تشكيلها وعرض برنامجها الوزاري : إذ يمكن للحكومة طرح الثقة بنفسها أيضا في حالات معينة وفي أي وقت أثناء مدة ولايتها ، كأن تقوم بتقديم طلب معين أو مشروع قانون الى البرلمان كقانون الموازنة العامة أو قرض أو معاهدة أو غيرها للموافقة عليه ، أو بالعكس عندما يقوم بعض اعضاء البرلمان أو أحدى لجانه بتقديم مقترحات قوانين إلى الحكومة أو الاقتراح بتعديل المشروعات المقدمة من الحكومة ، ولكن ترفض الأخيرة ذلك الاقتراح أو التعديل وتحدد موقفها قبل إجراء التصويت على الاقتراح أو التعديل ، فتبين إن الاقتراع عليه بالقبول أو الرفض معناه سحب الثقة منها أو عدمه(15). فإذا وافق البرلمان على القانون الذي تطلبه الحكومة ، فإن ذلك يعني احتفاظها بالثقة فتستمر في أداء مهامها ، وبالعكس إذا رفض البرلمان الموافقة عليه فإنها تفقد الثقة ويتوجب عليها الاستقالة(16). فالاقتراع في هذه الحالة يكون له وجهان الاول : هو الاقتراع على النص القانوني المقترح ؛ والثاني : هو الاقتراع على مسألة الثقة بالحكومة . ويلاحظ بإن طرح الحكومة الثقة بنفسها اثناء مدة ولايتها يعتبر أمرا طبيعيا في النظم البرلمانية ، وهو معروف في بريطانيا ، اذ تسمى هذه الاقتراحات باقتراحات الثقة (Confidence Motions) ... . واما في الكويت والعراق فلا يوجد نص .
وأخيرا لابد من الاشارة إلى إنه نظرا للدور الذي يلعبه رئيس الوزراء في النظام البرلماني فإن الدساتير عادة ما تقصر حق تحريك (مسألة الثقة) بالحكومة على رئيس الوزراء فقط ، وليس لوزير أو أكثر ممارسة هذا الحق وإن كان لهم إن يستقيلوا أو يطرحوا الثقة بأنفسهم بشكل منفرد ، وذلك لان رئيس الوزراء يعد رئيس الحكومة والمنفذ لسياستها العامة ، ومن ثم فإن القرار الصادر بسحب الثقة منه يعد قرارا موجها للحكومة بكامل هيئتها ، ويؤدي بالتالي إلى استقالتها ، ومن ثم فلا يمكن تصور المسؤولية الفردية لرئيس الوزراء من خلال طرح مسألة الثقة بنفسه لإن استقالته تؤدي دائما الى استقالة الحكومة بكامل هيئتها ولاتقتصر عليه بمفرده .
______________
1- معجم القانون ، اصدار الهيئة العامة لشؤون المطابع الاميرية ، القاهرة ، 1999 ، ص 11.
2 - د. محمد قدري حسن ، رئيس الوزراء في النظم البرلمانية المعاصرة (دراسة مقارنة) ، دار الــفكر العربي ، القاهرة ، 1987. ص 89 وما بعدها.
3- د. عادل الطبطبائي ، مفهوم البرنامج الوزاري في الدستور الكويتي ، بحث منشور بمجلة الحقوق ، كلية الحقوق ، جامعة الكويت ، السنة الحادية والعشرون ، العدد الأول ، 1997 ، ص 27.
4- د. موريس دوفرجيه ، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري (الأنظمة السياسية الكبرى) ، ترجمة د. جورج سعد ، الطبعة الثانية ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، 2014 ، ص 128.
5- د. عبد الله ناصف ، مدى توازن السلطة السياسية مع المسؤولية في الدولة الحديثة ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1981، ص 102.
6- د. يحيى الجمل ، النظام الدستوري في الكويت مع مقدمة في دراسة المبادئ الدستورية العامة ، مطبوعات جامعة الكويت ، كلية الحقوق والشريعة ، 1970-1971 , ص 370 ، وكذلك د. ع علي السيد الباز ، السلطات العامة في النظام الدستوري الكويتي ، مجلس النشر العلمي ، جامعة الكويت ، الكويت ، 2006 , ص 176- 178. ود. عادل الطبطبائي ، السلطة التشريعية في دول الخليج العربي نشأتها – تطورها - العوامل المؤثرة فيها، منشورات مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية ، الكويت ، 1985، ص 320.
7- وهذا ما عبرت عنه المذكرة التفسيرية للدستور الكويتي عند تعليقها على المادة (98) بأنها " أوجبت على كل وزارة جديدة أن تتقدم فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة ، ولكنها لم تشترط لبقاء الوزارة في الحكم طرح موضوع الثقة بها على المجلس ، بل اكتفت بابداء المجلس ملاحظاته بصدد هذا البرنامج ، والمجلس طبعا يناقش البرنامج جملة وتفصيلاً ، ثم يضع ملاحظاته مكتوبة ويبلغها رسميا للحكومة وهي – كمسؤولة في النهاية امام المجلس – لابد وان تحل هذه الملاحظات المكان اللائق بها وبالمجلس المذكور" ، منشورة على الموقع الالكتروني لمجلس الأمة الكويتي تاريخ تسجيل الدخول في 3/2/2014 ، الساعة (10) صباحا: http://www.kna.kw..
8- وهذا ما عبرت عنه المذكرة التفسيرية للدستور الكويتي بأن " تنحي الوزارة وتشكيل وزارة جديدة – ولو كان أعضائها كلهم أو بعضهم اعضاء بالوزارة السابقة – امر توجبه الاصول البرلمانية التي تذهب في هذا الشأن إلى ابعد من ذلك المدى ، إذ تقرر أن الوزارة الجديدة لا يستقر بها المقام – أو لا تعين أصلا تعييناً نهائيا – ألا بعد الحصول على ثقة المجلس النيابي الجديد ..... ولكن المادة (57) لم تصل في هذا المضمار البرلماني إلى هذا الحد ، واكتفت بمجرد أعادة تشكيل الوزارة على النحو الذي يرتئيه امير البلاد ، على أن يكون هذا التعيين نهائيا وغير معلق على اصدار قرار من المجلس بالثقة بالوزارة الجديدة ".
9- د. عبد الفتاح حسن ، مبادئ النظام الدستوري في الكويت ، دار النهضة العربية ، بيروت ، لبنان ، 1968، ص 311.
10- ينظر كذلك المادة (49/ أولا) من النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي لسنة 2007.
11- ينظر محاضر الجلسات التي استضاف فيها مجلس النواب رئيس مجلس الوزراء (نوري كامل المالكي) لمناقشة البرنامج الحكومي ، الجلسة رقم (6) في 20/5/2006 ، انجازات مجلس النواب العراقي لعام 2006 ، إصدار مجلس النواب ، الدائرة الاعلامية ، بغداد ، 2014 ، ص 24 . والجلسة رقم (40) في 10/3/2010 ، انجازات مجلس النواب العراقي لعام 2010 ، إصدار مجلس النواب ، الدائرة الاعلامية ، بغداد ، 2012 ، ص 15.
12- ينظر المادة (49/ ثانيا) من النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي لسنة 2007.
13- د. وائل عبد اللطيف الفضل ، أصول العمل النيابي (البرلماني) ، دون دار نشر ، بغداد ، 2006 ، ص 268- 269. وكذلك د. حسين عذاب السكيني ، الموضوعات الخلافية في الدستور العراقي (النظام البرلماني / السلطة التنفيذية) ، ج (4) ، الغدير للطباعة ، البصرة ، 2009 ، ص 56.
14- ينظر قرار المحكمة الاتحادية العليا المرقم (93/ اتحادية /2010) المؤرخ في 19/12/2010 ، أحكام وقرارات المحكمة الاتحادية العليا لعام 2010 ، المجلد (3) ، جمعية القضاء العراقي , بغداد ، 2011 ، ص 56. وكذلك قرارها المرقم (53/ اتحادية /2011) المؤرخ في 18/10/2011 ، أحكام وقرارات المحكمة الاتحادية العليا لعام 2011 ، المجلد (4) ، جمعية القضاء العراقي , بغداد ، 2012 ، ص 20.
15- د. محمد قدري حسن ، رئيس الوزراء في النظم البرلمانية المعاصرة (دراسة مقارنة) ، دار الــفكر العربي ، القاهرة ، 1987، ص 410.
16- كما حدث في بريطانيا عندما طلب أحد الوزراء من مجلس العموم الموافقة على اعتماد أضافي ولكن المجلس لم يوافق على ذلك الطلب ، واعتبر رئيس الوزراء ( تشرشل) أن هذا الطلب يتصل بالسياسة العامة للوزارة ورفضه يعني طرح الثقة بالوزارة كلها ، الأمر الذي أجبر المجلس في النهاية على الموافقة على الطلب . د إبراهيم عبد العزيز شيحا، وضع السلطة التنفيذية ( رئيس الدولة – الوزارة ) ، منشأة المعـــارف ، الإسكندرية ، 2006 ، ص 61.
الاكثر قراءة في القانون الدستوري و النظم السياسية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة