تعلق أحبّاء الله بحبل الله المتين
المؤلف:
الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
المصدر:
أصلحُ الناسِ وأفسدُهُم في نهج البلاغة
الجزء والصفحة:
ص 113 ــ 115
2025-12-10
16
إن التمسك بأوثق حبلٍ للهداية وأقوى عرى الخلاص هو سمة من سمات عباد الله المصطفين والقرآن يحكي أيضا عن هذه الخصوصية ويقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
إن أحد معاني (العروة) أنها عبارة عن مقبض مثبت على الأوعية بحيث يتم نقلها بسهولة فلا تقع بسهولة من يد الإنسان، ولكن هنا في هذه الآية فقد فسر المراد من (العروة الوثقى) الإيمان بالله والكفر بالطاغوت ظاهرا، والولاية لأمير المؤمنين وأبنائه المعصومين (عليهم السلام) باطنا، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك ما يلي: (مَنْ أَحَبُّ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انفِصَامَ لَهَا فَلْيَسْتَمْسِكُ بولايَةِ أَخِي وَوَصِيي عَلَيْ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ لَا يَهْلِكَ مَنْ أَحَبَّهُ وَتَوَلاهُ وَلَا يَنْجُو مَنْ أَبْغضَهُ وَعَادَاهُ) (1).
على الرغم من أن الإنسان قد يعيش في بعض الأحيان حياة هادئة، ويكون واثقا من نفسه ومن تصرفاته، وينأى بنفسه بعيدا عن الانحرافات والانزلاقات، فلا يجد نفسه بحاجة إلى وسيلة للخلاص، ولكن الحقيقة هي أن الإنسان دائما ما يكون عرضة للسقوط والانزلاق، فهو يكون في بعض الأحيان - حينما يتعرض لبعض عواصف الحياة والمواقف الحرجة ـ مثل شخص معلق بين السماء والأرض، أو كالشخص الذي علق بين الأمواج العاتية أو على شفا حفرة من النار أو واد عميق، وإذا ترك دون أن يأخذ بیده فسوف يسقط ويتدمر، فإذن، يجب أن يحصل على مقبض قوي وحبل قوي غير قابل للانقطاع كي يُحرر نفسه من السقوط والهلكة، هذا المقبض والحبل هو نفس الإيمان بالله الذي يحفظ الإنسان في حصنه المنيع، ويمنعه من الوقوع في دوامة الانحراف والمعصية.
نحن على شفا جرف جهنم، والمعصية هي عتبة السقوط في جهنم والذنوب التي يتم ارتكابها من خلال اللسان والعين والأعضاء الأخرى تجعلنا نقع في نار جهنم، ولكي نهرب من شراك المعاصي وننجو من السقوط، يجب أن ننور قلوبنا بنور الإيمان من خلال التعلق بحبل الله المتين، فنقوم بتهيئة الأرضية للسعادة ونيل رضوان الحق تعالى فكما أن متسلقي الجبال يمنعون سقوطهم وموتهم بواسطة تثبيت الحبال على الجبال والصخور، فكذلك نحن يجب علينا أن نتمسك أيضا بحبل الله المتين، يعني القرآن، ونجعل سلوكياتنا ومعتقداتنا منسجمة مع تعاليم القرآن كي نتجنب خطر السقوط في جهنم مما يؤدي بنا إلى شاطئ الأمن وسكينة السعادة والصراط الإلهي المستقيم، إن العمل بالقرآن والاعتصام بالله يمنع الإنسان على الدوام من السقوط والدمار، ويسوقه نحو الصراط المستقيم للسعادة وحسن الطالع، قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [آل عمران: 101].
إننا غالبا ما نغفل عن الحاجة إلى الله والتمسك به وعن عوامل الهداية التي وضعها لنا؛ ولكن الحقيقة هي أن الحاجة إلى الله هي حاجة واقعية ودائمة، بل نحتاج إليها في حياتنا أكثر من التنفس، فنجد أن المؤمنين المخلصين وخاصة أولياء الله الذين تنورت أبصار قلوبهم وفتحت على الحقائق، لا يغفلون عن الله ولو لحظة واحدة، فيتوسلون إليه على الدوام، ويطلبون منه أن يدخلهم إلى حريم حمايته، وألا يكلهم إلى أنفسهم.
وبذلك يتضح أن طريق السعادة والكمال الأبدي الإنساني، ليس معبدا، والسير فيه ليس أمرا سهلا، بل هو طريق عسير مليء بالمنحنيات والحكمة من وجود المصاعب والتعرجات التي في هذا الطريق الطويل هي أنها توجد مراتب ودرجات لا نهاية لها للإنسان الذي يتحرك في طريق الكمال والقرب الإلهي، ويجب أن يكون طريق الله بلا نهاية وغير محدود من أجل أن يسير فيه - من جهة - الأشخاص العاديون ذوي القدرات المحدودة، فيقطعوا مقداراً من الطريق بمقدار استعدادهم وسعتهم الوجودية، فيتمتعوا بالمواهب المعنوية ومراتبهم، ومن جهة أخرى يجب أن يسير شخص مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) بنحو يتناسب مع استعداداته وسعته الوجودية غير المحدودة ليصل إلى المراحل النهائية لمسير التقرب إلى الله، يجب أن يحوي هذا الطريق صعودا وهبوطاً حتى يتوقف الكسالى وطلاب الراحة والعافية عن الحركة، وكي يتمكن أصحاب الهمم العالية والمناضلون من أن يعبروا المسارات والمنحدرات في هذا الطريق الخطير جدا، وأن يصلوا إلى مقصد سعادتهم بسلام، كما أن وجود هذه المصاعب في هذا الطريق توضح لنا قيمة عبادات الأنبياء وأولياء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج 67، الباب 4، ص 132، ح 1.
الاكثر قراءة في التربية الروحية والدينية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة