مراحل تطور المدن
المؤلف:
د. محمد دلف احمد الدليمي
المصدر:
تخطيط المدن والاستدامة الحضرية
الجزء والصفحة:
ص 21 ـ 34
2025-11-22
38
تطورت المدن عبر التاريخ منذ نشوئها بسبب عوامل تفاعلت مع بعضها وبشكل مستمر، اذ ان العوامل الاقتصادية والبيئية والتطور في التقنيات الحديثة والتكنولوجيا وبتفاعلها مع المجتمع لعبت دورا في تطور مورفولوجية المدينة التي تعني العلاقة بين استعمالات الأرض والوظيفة والشكل وبالتالي تمثل النسيج الحضري والنظام العمراني فيها خلال مراحل تطورها بحيث تميزت كل مرحلة مورفولوجية بخصائص عمرانية تميزها عن المرحلة التي سبقتها والمرحلة التي تليها ، من الخصائص العمرانية مادة البناء، نمط البناء، مساحة البناء ، عرض الشوارع وعناصر عمرانية كثيرة أخرى ، كل مرحلة مورفولوجية تعطي صورة لطبيعة العلاقة بين العوامل الاخرى.
يمكن ان نستعرض تطور المستقرات الحضرية منذ بداية الاستقرار البشري وبداية ظهور المدن والخصائص العمرانية لكل مرحلة ومدى تأثير العوامل الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والتكنولوجية على طبيعة العمران والاداء الوظيفي لها:
1- المرحلة البدائية :
تطورت حياة المجتمع البشري من مرحلة الجمع والالتقاط الى مرحلة الصيد ثم مرحلة تدجين الحيوان والرعي اذ كان المبدأ الذي يحكم نظام الحياة والعلاقات هو البقاء للأقوى وبعد ان حاول الانسان في مرحلة لاحقة للاستقرار بالقرب من مصادر المياه والأراضي الخصبة على شكل تجمعات صغيرة بسيطة ومزاولة الزراعة وتربية الحيوانات الامر الذي تطلبت منه البقاء في مكان بالقرب من نشاطه، من هنا بدأت أول نواة للاستقرار البشري والذي نتج عنه بداية الاستقرار الريفي (القرية) ، في بداية الأمر كان الانسان ينتج لسد حاجاته الغذائية (الاكتفاء الذاتي) وعندما زاد الانتاج بدأ يظهر التبادل بالمحصول الزراعي مع محصول آخر بين السكان (نظام المقايضة) وبمرور الزمن ظهرت الحاجة الى خزن المحاصيل وادارتها في اماكن محددة وكانت هي النواة الأولى لظهور المدينة التي كانت بداية نشونها لإدارة التعاملات التجارية للإنتاج الزراعي والحيواني للريف المجاور وكان المبدأ الذي يحكم العلاقات ونظام الحياة هو مبدأ (البقاء للأقوى) وبمرور الزمن تطورت وظائف المدينة واستعمالات الأرض فيها تدريجياً.
خصائص القرى البدائية تعكس الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي كانت سائدة آنذاك، اذ كانت القرى البدائية تتكون من عدد قليل من السكان لا يتعدا المئات بحيث يسهل التواصل بينهم ويسود فيها العائلة الممتدة التي يجتمع فيها الاب والابناء المتزوجون وكانت تعتمد على الزراعة باستخدام آلات بسيطة وعلى تربية الحيوان والصيد ، وكانت مساكن القرية مبنية من مواد محلية مثل الطين واغصان الاشجار والحشائش على شكل اكواخ او صرائف.
2ـ مدن الحضارات القديمة :
تعكس مدن الحضارات القديمة مدى التقدم التي وصلت اليه الحضارات في المجال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعمراني ، كل حضارة قدمت انموذجاً من المدن التي جمعت بين البني التحتية والتنظيم الاجتماعي والثقافي السائد في ذلك الزمن ، كما في حضارة وادي الرافدين وحضارة وادي النيل وغيرها من الحضارات الأخرى في العالم.
من ابرز الخصائص التي تميزت بها مدن الحضارات القديمة احتوائها على شبكة طرق منظمة بتصميم شبكي ، واغلب مدن الحضارات القديمة محاطة بأسوار ضخمة تحقق لها عنصر الحماية والدفاع عنها اثناء الغزوات كما هو الحال في اسوار مدينة بابل الشهيرة ، كما تشتهر مدن الحضارات القديمة بوجود معالم عمرانية عظيمة مثل الاهرامات في مصر الزقورات في مدن بلاد الرافدين والاكروبوليس في اثينا فضلاً عن وجود قنوات ونظم ري متقنة كما في مدن بلاد الرافدين ومصر القديمة اذ طورت نظم ري معقدة لنقل المياه من الانهار إلى الحقول الزراعية وقد طورت بعض المدن القديمة انظمة متقدمة للمياه والصرف الصحي مثل تلك الموجودة في موهنجو دارو في روما اذ كانت القنوات تجلب المياه الى المدينة من امان بعيدة كما واشتهرت بوجود الحمامات العامة ، وكانت المعابد والآثار الدينة تحتل مكانة بارزة في المدن القديمة مثل معابد الكرنك في مصر القديمة أو معبد زيوس في اثنا اذ تقام فيها طقوس دينية ومهرجانات عامة يجتمع فيها السكان ، وكانت المدن تمتاز بكونها مراكز تجارية يتم فيها عمليات التبادل التجاري للمنتجات الزراعية وبعض الصناعات الحرفية ، هذه الخصائص تعكس مدى التقدم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تلك الحضارات كون مدن الحضارات القديمة كانت تمثل مراكز للقوة.

3ـ المدن في العصور الوسطى
تعكس خصائص المدن في العصور الوسطى والتي امتدت الى القرن الخامس عشر تعكس الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية لتلك المرحلة، شهدت المدن تطورات مهمة لا سيما بعد سقوط الامبراطورية الرومانية حتى بداية العصر الحديث ، امتازت مدن العصور الوسطى بوجود الطرق الضيقة والمتعرجة تدل الى عدم وجود مخططات نظامية للشوارع التي رسمت بشكل عشوائي مع تداخل في البنية العمرانية فيها ، وكانت معظم المدن محاطة بالأسوار والتحصينات الدفاعية وابراج المراقبة التي تحميها من الغزوات والحروب التي كانت سائدة في تلك الفترة ، ومن ابرز المعالم العمرانية للمدن وجود الكنائس والكاتدرائيات الكبيرة التي ع هادة ما تكون في مركز المدن وقد بنيت على الطراز الروماني والقوطي وكانت تعد مراكز دينية واجتماعية هامة وقد تميزت العمارة القوطية بالقباب العالية والنوافذ المزخرفة بالزجاج الملون ، انا الأسواق فكانت من المعالم المهمة التي تقع في قلب المدن ومجاورة للكنائس ويتم في التبادل التجاري ، كانت البنى التحتية لمدن العصور الوسطى بسيطة اذ لا توجد شبكات المياه والصرف الصحي بشكل منظم اذ تعتمد اغلب المدن على مياه الابار او مياه الأنهار اما القمامة والتلوث فيشكلان مشكلة فيها لعدم وجود برامج للتخلص منها كما وان الخدمات الصحية كانت بسيطة واغلب المستشفيات كانت تدار من قبل الكنيسة.
شهدت المدن في العصور الوسطى نمو سكاني متزايد ادى الى توسعها خارج اسوارها القديمة اذ ظهرت أحياء سكنية جديدة بعد ان اكتظت المدن المسورة بالسكان، ويمكن القول بان المدن في العصور الوسطى كانت ديناميكية ومعقدة تجتمع فيها الحياة الاقتصادية المزدهرة والتقاليد الاجتماعية والدينية يقابلها تحديات الحالة الصحية والبيئية المتدهورة.
استمر النظام العضوي للمدن حتى القرن السابع عشر الذي شهد بداية تخطيط بعض المدن التي اتسمت عن سابقاتها أسلوبا جديدا في العمارة يدعى رومانسيك Romantic اعطاها اكثر مرونة في التخطيط لا سيما مدينة لندن التي ظهرت فيها الحدائق ذات الطابع الكلاسيكي المنظم وظهرت الميادين وبدأ تخطيط المناطق السكنية وفي نهاية العصور الوسطى بدأت تظهر الشوارع العريضة بدل الازقة التي كانت سائدة ومن اهم المدن التي خطط لها مدن لندن ، باريس ، برشلونة.

4ـ المدن في عصر النهضة وبداية العصر الحديث :
شهدت المدن في عصر النهضة تطورات مهمة لا سيما في مجال الفن والثقافة والعمران والابتكارات العلمية تركت تأثيرات كبيرة في مجال تخطيط وتنظيم المدن لا سيما في ايطاليا ثم انتشرت في مدن اوربا اذ اتسمت مدن عصر النهضة تخطيطا اكثر نظاميا وتعتمد المدن في توسعها على تصاميم هندسية تتضمن شوارع واسعة عكس العصور الوسطى ، وتأثر العمران بالعصور الكلاسيكية اليونانية والرومانية لا سيما في استخدام الاقواس والقباب وتصمم المباني بشكل جمالي معتمد على الفن الكلاسيكي ، وقد توسعت المدن بشكل كبير بعد أن تعرضت الى الهجرة الريفية نتيجة لتوفر فرص العمل في المدن ، شهدت المدن في عصر النهضة تحسن كبيراً في خدمات البنى التحتية كتحسين شبكات الطرق وبناء الجسور وانشاء شبكات لإيصال المياه إلى البيوت والحمامات العامة والمرافق الصحية ، كما تميزت مدن عصر النهضة بالتحت وجمالية فن العمارة والزخرفة الحضرية واهتمت بالحدائق العامة.
تعد مدينة باريس انموذج للمدن في عصر النهضة اذ تطورت المدينة القديمة بأسلوب تخطيطي جديد مبني على تحديد المحور الرئيسي للمدينة فضلاً عن انشاء الساحات والميادين والمناطق الخضراء وتوسعة الشوارع وايجاد الفراغات الضرورية في المناطق الضيقة في الجزء القديم من المدينة ، في عام 1793 وضع اول مخطط تنظيمي لمدينة باريس في عهد لويس الرابع عشر وقد ظهرت في المخطط الضواحي غير المنظمة في المدينة سابقا.

5ـ المدن بعد الثورة الصناعية :
شهدت المدن نتيجة للثورة الصناعية خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر نهضة كبيرة في مجال الاعمار وتخطيط المدن اذ تحولت المجتمعات من الاقتصاد الزراعي الى الاقتصاد الصناعي وما ترتب علية من زيادة في الدخل وتوفر فرص عمل في المدن الأمر الذي ادى الى استقطاب اعداد كبيرة من المهاجرين واكتظاظ المدن بالسكان مما ادى الى ظهور أحياء سكنية غير مخططة ولا تتوفر فيها مستلزمات المعيشة وشروط الراحة لا سيما بالقرب من المصانع في المدن واطرافها ، وبالرغم من التطورات التكنولوجية والتوسع العمراني في المدن ، واجهة المدن من مشكلات كبيرة فيما يخص التلوث البيئي بكافة اشكاله تلوث الهواء والتربة والمياه نتيجة لاستخدام الطاقة غير النظيفة في تشغيل المكائن والمصانع التي عادة ما تستخدم الفحم قبل اكتشاف النفط.
نتيجة للثورة الصناعية تطورت البنية التحتية للمصانع والمدن من خلال انشاء شبكات الطرق والسكك الحديد والموانئ لنقل المواد الخام والانتاج بالمقابل كان هناك نقص كبير في الخدمات الاساسية كالمياه الصالحة للشرب وشبكات الصرف الصحي والرعاية الصحية ومشكلات النظافة العامة وانتشار الأمراض وبمرور الزمن كان هناك تطور في الخدمات التعليمية والصحية اذ كانت المدن تتسم بالحيوية والتغيير المستمر رغم مشكلات الاسكان والبيئة لكنها ساهمت في النمو الاقتصادي والاجتماعي.
6ـ التحضر في القرن العشرين:
شهدت المدن في القرن العشرين تطورا كبيراً في مجال التخطيط العمراني نتيجة للتقدم التقني والابتكارات التي طورت مجمل الحياة الحضرية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية وتحولت المدن التقليدية الى مدن حديثة وتم التركيز من قبل المخططين على تحسين جودة الحياة الحضرية ويمكن ان نلخص اهم التطورات العمرانية التي سادة في المدن في القرن العشيرين كالاتي :
ـ اصبح التخطيط الحضري أكثر دقة وأكثر تنظيما ومركزية في وضع استراتيجيات طويلة الأمد تهدف إلى تنظيم النمو الحضري وتحديد استعمالات الارض الحضرية كالاستعمال السكني والتجاري والصناعي وتوفير الخدمات العامة المجتمعية وخدمات البنى التحتية . فضلاً عن وضع تصاميم شبكة الطرق بحيث تستوعب حركة النقل الحالية وانشاء طرق واسعة محورية تستوعب التوسع المستقبلي لحركة المرور وتحقيق سهولة الوصول.
ـ شهدت المدن نمواً سكانيا كبيرا ادى الى توسع المدن افقيا وعمودياً واصبحت الضواحي Suburbs جزءاً من المدن الكبرى ، كما شهدت المدن الكبرى الى انشاء ناطحات السحاب التي اصبحت رمز للتطور والتقدم في الابتكارات والهندسة المعمارية.
ـ تبنت المدن اسلوب العمارة الحديثة في استخدام المواد الحديثة في البناء كاستخدام الخرسانة والزجاج.
ـ تطور وسائط النقل العام بما في ذلك شبكات السكك الحديد للقطارات وطرق الحافلات وشبكات مترو الانفاق التي تربط اجزاء المدينة ولتقليل النقل الخاص لاسيما في المدن الكبيرة ، فضلاً عن المطارات التي أصبحت جزء اساسي من البنى التحتية للمدن الكبرى.
ـ من اجل تحسين جودة الحياة في المدن بدأ التركيز على توفير المساحات الخضراء والمتنزهات واستثمار الواجهات المانية لأغراض الترفيه فضلا عن تصميم المدن الصديقة للبيئة واعتماد مبدأ الاستدامة في تصميم المباني واستخدام الطاقة النظيفة.
ـ في نهاية القرن العشرين بدأت المدن بالاعتماد على التكنولوجيا الرقمية الحديثة وتكنولوجيا المعلومات في الادارة الحضرية في مجال البنى التحتية وحركة النقل ومراقبة الحركة باستخدام الكاميرات والاستشعار عن بعد.
ـ شهدت المدن في القرن العشرين نشوء المجمعات السكنية العامة لاستيعاب الاعداد المتزايدة من السكان وتوفير السكن بأسعار مناسبة.
7 ـ التمدن والاستدامة الحضرية المعاصر :
في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين وكنتيجة للنمو السكاني المتسارع في المدن وتوسع المدن فضلا عن التغيرات المناخية التي حدثت في الكرة الارضية وزيادة التلوث البيني والتحولات الاقتصادية العالمية تطلب الأمر الاعتماد على تكنولوجيا الاتصالات والتقنيات الحديثة في الادارة الحضرية ، اصبحت المدن مزيجاً من التقدم التقني والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية مع تطور في التخطيط الحضري والهندسة المعمارية التي ساهمت في تشكيل البينة الحضرية الحديثة من خلال :
ـ الادارة الحضرية في التخطيط والتنظيم والاستثمار الأمثل للموارد بهدف تحسين ورقي الحياة الحضرية من خلال توفير الخدمات المجتمعية من تعليم وصحة وترفيه وخدمات الامن والسلامة لسكان المدن فضلاً عن خدمات البنى التحتية من طرق حديثة وتحسين اده شبكات الماء والكهرباء والصرف الحصي والاتصالات ، ومن خلال التنظيم المكاني لاستعمالات الارض الحضرية واستدامتها واعتماد سياسة التجديد الحضري والحفاض على الموروث الحضاري وحماية البيئة الحضرية من التلوث وتشجيع استخدام الطاقة النظيفة.
ـ استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تخطيط المدن وحل المشكلات الخاصة بتداخل استعمالات الارض الحضرية واستدامتها عن طريق استخدام التكنولوجيا الحديثة والاستشعار عن بعد وادارة الكوارث واعتماد مبادئ المدن الذكية في الادارة الحضرية.
الاكثر قراءة في جغرافية المدن
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة