عقود الزواج في العهد البطلمي
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 535 ــ 540
2025-11-10
63
لقد دلَّ فحص عقود الزواج منذ بداية العهد البطلمي على أنها بدأت تأخذ شكلًا وصيغة ثابتين سارت على نهجهما طول مدة حكم هذه الأسرة، ولم يحدث في جوهرهما إلا تغييرات ضئيلة من حيث التفاصيل، وأول ما يلفت النظر في عقود زواج هذه الفترة أن موادها كانت في معظمها تَنصَبُّ على المحافظة على حقوق المرأة أكثر منها عن حقوق الزوج.
ويُلحَظ أن الرجل في هذا العهد كان هو الطرف الأول بصورة عامة؛ لأنه هو الذي كان يدفع الصداق؛ ولذلك فإنه هو الذي كان يقول للزوجة لقد دفعت لك صداقك الذي كان قدره كذا قطعًا (= دبنات) من الفضة، وكان يسبق دفع الصداق العبارة التالية: لقد اتخذتك زوجة، أو لقد جعلت منك زوجة، وبعبارة أخرى كان يقابل دفع الصداق للمرأة أن تصبح في طاعة الرجل وملك يمينه. ثم يُذكَر بعد ذلك في العقد ما على الرجل من واجبات نحو زوجه من حيث النفقة التي كان لا بدَّ أن يدفعها حتى تعيش عيشة راضية؛ وكذلك تُذكَر الغرامة التي كان عليه أن يدفعها إذا هو سرَّحها، وهو ما يقابل عندنا في الشرع الإسلامي: مؤخر الصداق.
غير أن الأمر لم يقتصر في العقود البطلمية على دفع غرامة، بل كانت هناك حقوق أخرى يُنصُّ عليها في صلب العقد، وذلك أن يكون لها حق الثلث في كل ما يملك الزوج من عقار، وكذلك كانت تُراعَى حقوق أولادها في الميراث. يضاف إلى ذلك أن كل ما كانت تحضره معها الزوجة من جهاز كان يسجل في قائمة يُبيَّن فيها مفردات هذا الجهاز، وقيمة كل قطعة منه نقدًا، ويتعهد الزوج بردِّه لها إذا سرَّحها أو إذا أرادت هي أن تفارقه بالمعروف دون أن ترتكب ذنبًا أو خطيئة.
هذه هي الخطوط العريضة لمحتويات عقود الزواج في العهد البطلمي، غير أن موضوع الأساس الذي كان يقوم عليه قانون الزواج كان موضوعًا مَثار نقاش طويل اختلفت فيه آراء علماء الديموطيقية الذين درسوا هذه العقود.
وكان أول من أثار هذا الخلاف هو الأثري «إدجرتون» في مقال ممتع (1)، وذلك عندما أخذ يعزز الرأي الذي أبداه الأستاذ «ينكر» في هذا الصدد (2)، ورأي الأستاذ «ينكر» هو أن عقود الزواج التي كانت تبرم بين الزوج وزوجه لم يكن الغرض منها جعل هذه العلاقة تبرز إلى حيز الوجود، وقد عاضده فيه الأستاذ «إدجرتون»؛ إذ يقول: إننا إذا استثنينا الجملة الافتتاحية التي تأتي في صدر كل عقد زواج تقريبًا، وهي: «لقد جعلت منك زوجة، أو لقد اتخذتك زوجة.» فإنه يتضح أن العقد كله مبني على حقوق مادية، وذلك يحبذ النتيجة التي وصل إليها الأستاذ ينكر، وهي أن هذا البيان لم يكن أمرًا أساسيًّا في وثيقة زواج، وذلك لأنه قد حُذِف في أحد العقود مشيرًا بذلك إلى البردية المحفوظة بالمتحف البريطاني (3)، وقَبِل هذا الرأي وعزَّزه الأثري «بواك» (4).
وبعبارة أخرى اعتبر هؤلاء العلماء أن عقود الزواج البطلمية هذه ليست إلا اتفاقات زواج بالمعنى المفهوم لنا زعمًا منهم إلى عدم وجود عبارة: «لقد اتخذتك زوجة لي.» في العقد السالف الذكر الذي أشار إليه «ينكر» غير أن هذا الرأي قد تصدَّى له الأستاذ مصطفى الأمير، وبرهن على أنه خاطئ من أساسه، فيقول: ولكني أرى أن النتيجة التي وصل إليها «ينكر» تحتاج إلى إعادة نظر الآن، وذلك لأنها قامت على سوء فهم لهذه الوثيقة، والواقع أن هذه الوثيقة الوحيدة الهامة تابعة لمجموعة من الأوراق البردية عددها أربع، وكلها مؤرخة بالسنة الخامسة من عهد «دارا الأول» (518ق.م) وهذه الأوراق تنظم بعض اتفاقات عُمِلت بعد زواج وقع بين رجل وامرأة كان كل منهما متزوجًا من قبل، وكانت المرأة قد رُزِقت بولد من زواجها الأول، ورزقت من زواجها الثاني ابنة، والاتفاق الذي حدث كان كالآتي(5):
(1) في الورقة الأولى يعترف الرجل بأنه تسلم نقودًا من المرأة (زوجه).
(2) في الورقة الثانية يعترف بأن ابنته ترثه مع أولاده السابقين واللاحقين.
(3) وفي الورقة الثالثة تخصص المرأة نصف متاعها هي لابنها الأكبر (من زوجها الأول).
(4) وفي الورقة الرابعة تعطي المرأة النصف الآخر من ثروتها ابنتها (من زوجها الثاني).
ومن ثم نفهم أن الوثيقة الأولى التي هي موضوع البحث ليست عقد الزواج الثاني، ولكن هي عبارة عن الاعتراف بتسلم المهر الذي دفعته المرأة من قبل عندما تم الزواج، وهذا بلا شك هو السبب في عدم ذكر عبارة: «لقد جعلت منك زوجة.» في البيان الافتتاحي الذي ورد في الوثيقة.
ومما سبق يتضح جليًّا أن عبارة: «لقد جعلت منك زوجة.» أو «لقد اتخذتك زوجة.» وهي التي يُفتتَح بها عقد كل زواج في العهد البطلمي هي التي تعد الإعلان الرسمي للزواج الذي يقرره الزوج والزوجة في بيت والد الزوجة. هذا ولما كنا نعلم أن هذا الإعلان يتم قبل إنهاء الزواج، فإنه في استطاعتنا أن نستنبط بصورة مؤكدة أن وثائق الزواج كانت في الواقع تعد السجل الرسمي الدال على الاعتراف بحدوث الزواج؛ ولا نزاع في أن مثل هذه العقود كانت ضرورية؛ لتجعل الزواج أمرًا شرعيًّا أمام القانون. هذا وليس لدينا من البراهين ما يعضد ما فرضه «إدجرتون» عندما يقول: «إن الرجل قد يكون له أطفال وُلِدوا له من المرأة قبل أن يعقد عليها رسميًّا.» حقًّا قد يكون مصيبًا في حالة واحدة وهي إذا كان قد تمَّ الاتفاق بين الرجل والمرأة بزواج عرفي دون عقد زواج رسمي، وهذا ما يحدث كثيرًا في عهدنا الحاضر، ثم إنه بعد أن رُزِق منها أولادًا وَجَد أنه لا بد من الاعتراف بهم، ومن ثَم حرَّر عقد زواج رسمي معترفًا بهم، وبخاصة إذا كان قد تزوج قبل ذلك ورزق أولادًا.
على أنه من جهة أخرى لدينا براهين عدة تبرهن على أن عقود الزواج هذه كانت تعمل في كثير من الأحوال بين أرامل كانوا قد رُزِقوا أطفالًا من زواجهم الأول، ولا أدلَّ على ذلك مما توحي به إلينا قصة «ستني» التي عدَّها «إدجرتون» يراعة مدغدغة عندما اتخذت حجة في هذا الصدد، فهي تقدم لنا أقوى دليل قاطع يبرهن على أنه لا يوجد زواج دون تحرير عقد شرعي يثبت الزواج؛ وذلك أن «ستني» عندما أراد أن يفعل فعلته المنكرة التي أرادها مع «تابوبو» نجد أنها قد أبت عليه ذلك، وطلبت إليه أن يكتب لها حجة بهبة؛ وقد لبَّى طلبها على الفور، غير أنها لم تكتف بذلك فطلبت إليه أن يأمر أولاده بأن يوقِّعوا على هذه الحجة، ولا بد أن نذكر هنا أن القانون الذي صدر في عام 21 من حكم الملك العائش وقتئذٍ، وهو الذي أشير إليه في أوراق «أسيوط» الديموطيقية ينصُّ على ما يأتي: «إذا أراد إنسان أن يحرِّر حُجَّة بهبة لامرأة ويعطي عقارًا خاصًّا به لشخص آخر، وذلك دون موافقة الزوجة أو ابنها الأكبر بالتوقيع على الحجة فإن للزوجة أو لابنها الأكبر الحق في الاعتراض على الشخص الذي أُعطَى هذا العقار »(6) .
ومن المحتمل أن مثل هذا القانون كان معمولًا به عند وقوع قصة «ستني»، وأن ما طلبته «تابوبو» كان خوفًا من تطبيق هذا القانون إن هي لم تتخذ هذا الاحتياط. على أن «تابوبو» لم تقف عند هذا الحدِّ، بل بالغت في مطالبها؛ إذ طلبت إلى «ستني» أن يقتل أولاده خوفًا من أن يدَّعوا بأنهم قد وقَّعوا على هذه الحُجَّة قهرًا، وبذلك يمكنهم أن يطلبوا حقوقهم منها، ومن أولادها في المستقبل.
والواقع أن الغرض من قتل أولاد «ستني» كان يرمي إلى غرض قانوني، ولم يكن المقصود منه أولًا إيقاع الضرر «بستني» كما ذكر «إدجرتون» بل كانت تريد «تابوبو» بذلك ضمان مركزها الاجتماعي بوصفها زوج «ستني»، وفي الوقت نفسه كانت تريد تأمين عقارها لأولادها من بعدها خوفًا من أولاد «ستني» الذين كانوا من زوجة أخرى.
وخلاصة القول: قد أصبح من الواضح أنه لما كانت قصة «ستني» على الرغم من أنها أسطورة فإنها مع ذلك تعكس أمامنا صورة عن العادات والإجراءات القانونية المصرية التي كانت متَّبعة في هذا العهد؛ وعلى ذلك فإنه ليس من المنطق أن نعتبرها بمثابة كابوس شنيع كما يراها «إدجرتون».
يضاف إلى ذلك أنه لا يمكننا أن نصف هذه القصة بأنها تخطَّت حدود الأدب بالمعنى الذي رآه «إدجرتون»، وبخاصة عندما نفهم أن كل أفعال «تابوبو» كانت ترمي إلى الحصول على الاحترام والمنزلة التي تليق بزواج شرعي حتى ولو أنها تُلام على استخدام شهوة «ستني» البهيمية للوصول إلى غرضها، وللحصول على عقار لأولادها.
نعود إلى سؤال سأله الأستاذ «زيدل» في هذا الصدد، وهو محقٌّ فيه كل الحق، وهو: ما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في زواج صحيح في مصر القديمة؟ وهذا السؤال يصبح من الأهمية بمكان عندما نعلم على حسب رأي كلٍّ من «ينكر» و«إدجرتون» أن ترتيبات الزواج على ما يظهر لم تكن تشمل هذا الفرض.
فيقول «إدجرتون»: إن الجواب الذي توحي به قصة «أهوري» و«نا-نفر-كا-بتاح» عن ذلك بسيط وطبيعي، والواقع أنه يتفق تمام الاتفاق مع عادات الزواج عند الأقوام الأخرى لدرجة أني لا أتردد في احتمال صحته. فنجد أن والد العروس يجعلها تُزف في حفل شعبي إلى بيت العريس ليلًا ومعها هدايا ثمينة. أما العريس فيولم وليمة عظيمة يَحضُرها المدعوون ومعهم هداياهم، وبعد الانتهاء من الوليمة يذهب العروسان إلى فراشهما سويًّا؛ وفي الوقت المناسب بعد ذلك تضع الزوجة ذكرًا، ولكن يُلحَظ أن كون الزوجة والزوج في هذه الحالة كانا أخًا وأختًا فإن ذلك لا يعتبر إلا تفصيلًا قد أضفى كثيرًا من الجمال على القصة عند مجتمع مصري، ومع ذلك فإن ذلك لا يؤثر على سير الإجراءات.
والواقع أن الزوجين كانا الولدين الوحيدين للملك، وأن زواجهما في هذه الحالة كان هو الأمل الوحيد لفلاح البيت المالك وبقائه، فقد أصبح ذلك الضمان الوحيد في أنه يجب ألا يحذف أي تفصيل من عقد الزواج، أو من المحتمل من الإدلاء به. على أن ارتباط الأخ والأخت بحب وثيق بينهما وحبهما لابنهما، لم يكن في حاجة إلى وثيقة شرعية لنقل أملاكهما لابنهما، غير أن القصَّاص الذي قصَّ قصة «ستني» يخبرنا بدقة اسم الذكر المولود حديثًا، وقد سجل اسمه في حينه في كتاب «بيت الحياة»، لم يغب عنه أن يخبر مجلسه أن والدي الطفل كانا قد تزوَّجا زواجًا شرعيًّا، والظاهر إذن أن الزواج الشرعي كان يتم إما بمجرد اعتبار الخطيبين أنفسهما أنهما زوج وزوجة أو بالاعتراف الفعلي أو الضمني أمام الجمهور بأنهما قد تزوَّجا، وأن مجرد جلوسهما معًا في وليمة الزواج يعد اعترافًا ضمنيًّا بأنهما قد تزوجا، وليس لدينا أي سبب لنفرض أنه كان يوجد هناك أية حاجة لإقامة أي حفل آخر لإتمام الزواج، ومن المحتمل جدًّا أن موافقة والِدَي العروسين وكذلك والِدَي العروسة كانت مستحبة.
ولا شك في أن «أهوري» لم يكن في مقدورها أو لم تكن ترغب في إتمام الزواج من أخيها إلا بعد حصولها على موافقة والدهما الملك، وبعد ذلك نجد أن «إدجرتون» يقول لنا: «إن رأيه هذا الذي دوَّناه هنا ليس إلا مجرد نظرية؛ لأن البراهين على صحتها لا تزال تعوزه.»
والواقع أن عدم وجود إشارة إلى وثيقة خاصة بالزواج إلا في آخر قصة «ستني» وأعني بذلك زواج «نا-نفر-كا-بتاح» من «أهوري»؛ لدليل على أن الوثائق لم تكن الحاجة ماسة إليها، والحقيقة أننا لا نكاد ننتظر في الأحوال الخاصة بزواج مصري ملكي كما هي الحال في موضوعنا؛ أن نجد الصيغة القانونية التي كان يتطلبها الزواج من الأفراد العاديين، ويقول الأستاذ مصطفى الأمير إنه بمقتضى ما ذكرناه آنفًا من براهين قوية فإنه لا يمكن قبول نظرية كلٍّ من «ينكر» و«إدجرتون» بخصوص نظام الزواج المصري، ولا نزاع في أن الوثائق المصرية المعروفة عند علماء الديموطيقية بأنها عقود زواج كانت في الواقع ضرورية من الوجهة القانونية قبل الاعتراف بالزواج رسميًّا، وذلك حتى على الرغم من أن طبيعة هذه الوثائق كان أساسها المنفعة (7)، فإن المهم فيها كان القانون الخاص بتنظيم ملكية الزوجة وأولادها والمحافظة على جهازها، وعلى أية حال يقترح الأستاذ «زيدل» أن قوانين الزواج هذه كان من تأثيرها أن تبرز العلاقة الزوجية إلى حيز الوجود، ثم استخلص أن الفحوى النفعية المحضة لهذه الاتفاقات الزوجية من الممكن أن تكون بالضبط هي ما يكوِّن الزواج في القانون المصري.
..........................................
1- Edgerton noets on Egyptian Marriage Chiefly in the Ptolemaic Period. P. 180
2- Papyrus Lonsdorfer I Seitzungsberichte der Akademie der Wissen-schaften in Wien, Phil. hist. Pl. CXCVII (1921) 2 Abh. 31–47
3- B. M. 10120 A.
4- JEA XII, 100 ff.
5- وهذه الأوراق هي: B. M. 10120 A; and B and Bibl. Nat. 216 and 217 for Which see Revillout Notice. P. 408, Reich. B.M. P. 27; and Grieffith Ryl. III P. 28
6- Thompson, suit. B. Note 16, P. 13 and 32.
7- Edgerton Ibid. PP. 3-4.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة