الفساد الإداري في العراق في العهد الملكي
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 34-38
2025-10-26
51
لم يتوقف الفساد في العهد الملكي، بل كان امتداداً للفساد المستشري في عهد الدولة العثمانية واستمر بأشكال وصور متعددة، وترسخت أعراف وتقاليد فاسدة مثل الرشوة واختلاس المال العام والمحسوبية والواسطة .... الخ. وعند تأسيس الدولة العراقية على أنقاض الولايات العثمانية بعد الاحتلال البريطاني، كان من الطبيعي أن ترث فيما ورثت كل التركة الثقيلة التي انحدرت إليها من الدولة العثمانية بما فيها تقاليد وأعراف الفساد السياسي والإداري والمالي الذي كان منتشراً ـ كما ذكرنا. لقد تغير الوضع الاقتصادي للقادة بعد عام 1920 حيث أصبح الكثير منهم أغنياء وظهر ذلك من خلال طراز حياتهم ونفقاتهم، فعدد من القادة السياسيين الذين اعتمدوا على مهنتهم أو وظائفهم كمصدر للمعيشة برزوا فيما بعد كملاك عقارات في المدينة وأراضي زراعية وأن حجم الثروة التي جمعها بعض الأشخاص خلال فترة قصيرة فاق بمدى شاسع إمكانية رواتب الوظيفة كمصدر مالي، وتبقى الحقيقة ثابتة بأن الثروة كانت حصيلة مصدر آخر هو سلطة المناصب الإدارية على مختلف مسوياتها، فاستغلال الوظيفة من أجل الحصول على المال استشرى إلى درجة دفعت الملك غازي سنة 1936 بخطابة في البرلمان إلى الاستغاثة بالمسؤولين للتمسك بالنزاهة في تصريف الشؤون الحكومية، بالإضافة إلى ذلك ورغم معارضة العديد من المسؤولين طالب عدد من النواب بتشريع (لائحة الإثراء غير المشروع التي كانت تهدف للاستقصاء عن مصادر ثروات الوزراء وكبار المسؤولين ومحاسبة من استغلوا سلطاتهم في هذا المجال (1).
كما استغلت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929 من قبل الجشعين في بيع المواد المغشوشة وانتشرت جرائم السرقة والاحتيال والنصب وتحول الاختلاس إلى ظاهرة عمت دوائر الدولة من دون استثناء فلا تخلو الجرائد يومذاك من أكثر من خبر عن حوادث الاختلاس وتقديم مرتكبيها إلى المحاكم وجراء ذلك اضطرت الحكومة إلى تشكيل عشرات اللجان الانضباطية حتى في مجلس الوزراء ووزارة الدفاع (2)، ولم يكن الفساد الموجود يثير اهتمام أو قلق أي جهة من الجهات وكأنه أمر طبيعي(3). إلا أن الملك الراحل فيصل الأول وجه مذكرة في آذار عام 1932 في عهد وزارة نوري السعيد الثانية إلى ساسة العراق البارزين الذين عاصروه وتعاونوا معه أو عارضوه، وضمنها كل تجاربه وتقييمه للوضع آنذاك، ، وطلب إليهم أن يدرسوها بعناية ويمعنوا النظر فيما ورد فيها من تشخيص للمشاكل التي كانت تعاني منها الدولة العراقية الناشئة ، ومن اقتراحات لمعالجة تلك المشاكل ويقدموا إليه ملاحظاتهم عليها، فقد ورد في آخر المذكرة التي سماها (وصية) ما يأتي (أنه لمن المحزن و المبكي معاً أن نقوم بتشييد أبنية ضخمة بمصاريف باهظة وطرق معبدة بملايين الروبيات ولا ننسى - الاختلاسات وتصرف أموال هذه الأمة المسكينة التي لم تشاهد معملاً يصنع لها شيئاً من حاجاتها. وأني أحب أن أرى معملاً لنسيج القطن بدلاً من دار حكومة وأود أن أرى معملاً للزجاج بدلاً من قصر ملكي). و في الفقرة (10) منها قال الملك : ( على موظفي الدولة أن يكونوا آلات مطيعة ونافعة حيث هم واسطة الإجراءات ومن يحس منه أنه يتداخل مع الأحزاب المعارضة ضد الدولة، ينحى عن عمله وعليه أن يعلم أنه موظف قبل كل شيء وخادم لأي حكومة كانت) وأقترح إنشاء مدرسة لأعداد الموظفين وتأهيلهم، لكن المقترح لم يكتب له النجاح لأسباب عديدة أهمها كثرة المخاطبات وتعقيد الإجراءات(4).
كما أمر الملك غازي بإجراء إصلاحات اقتصادية وعمرانية في البصرة بعد زيارته لها في نيسان 1934 ومطالبة أهلها باحتياجاتهم، وكذلك بعد زيارته لشمال العراق في حزيران 1934 حيث طلبت الحكومة توفير الكثير من الخدمات للمواطنين في الموصل (5).
أما الأحزاب والصحف ورجال السياسة فكان ما يشغل بالهم هو موضوع الخلاص من الانتداب وتقليص النفوذ البريطاني داخل العراق وتقليل نفوذ المستشارين البريطانيين داخل الوزارات والمؤسسات المختلفة، أما الفساد السياسي والمالي فكان آخر ما يشغل بالهم، و يمكن ملاحظة ذلك من خلال الرجوع إلى صحف تلك الأيام، فلم يكن يهمها مثلاً المخالفات الدستورية في ما يتعلق بعدم إجراء الانتخابات البرلمانية طبقاً لنصوص الدستور، حيث كان النواب جميعاً يعينون بالتشاور بين الملك والوزارة مع أن القوانين كانت تنص على الانتخابات لاختيار النواب ولم تكن حالات استغلال النفوذ أو الإثراء غير المشروع تهم الأغلبية بقدر ما يهمهم أن يجري ذلك بشكل متساو بالنسبة لجميع الفئات والجهات (6) فضلاً عن انشغال الجميع وراء الكواليس السياسية لإشغال المناصب السياسية و الإدارية المختلفة وتحقيق التوازن بين مختلف الفئات والمجموعات، وكان شيوخ العشائر هم الحكام الفعليون لجزء كبير من الريف، فقد كان الشيخ يمثل المجتمع المفكك أو التعددي وكان الملك يمثل المجتمع الموحد، وهذا يعني وجود تناقض بين وجود الملك في بغداد ووجود العشائر، وقد أولت الحكومة اهتماماً بالعشائر خلال السنوات اللاحقة، وزاد الارتباط بين الحكومة والشيوخ بزواج الوصي عبد الإله من ابنة احد رؤساء العشائر عام 1953.(7)
كما شجع النظام الملكي الإقطاع كنظام اجتماعي كان في طريقه إلى الزوال بشكل نهائي نتيجة تطور العلاقات الاجتماعية كانعكاس للواقع المادي الجديد آنذاك، إذ أدت تلك السياسة إلى نزوح الفئات الفلاحية هرباً من الاستغلال لينشئوا مناطق بائسة مادياً في ضواحي العاصمة، ذلك أن وجود دستور ينص على المساواة بين المواطنين لم يجد له مكاناً في ارض الواقع بسبب غياب الديمقراطية المبنية على إشراك جميع المواطنين من جهة وفصل السلطات من جهة أخرى(8)
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار الفساد الإداري في العهد الملكي تركيز المناصب العليا السياسية والإدارية في بعض العوائل وفي أشخاص بعينهم، الأمر الذي أدى إلى نشوب الصراع بين هؤلاء الأشخاص للفوز بالمناصب، فقد وصفت السياسة في العهد الملكي بأنها صراع مستمر بين النخبة من أجل القوة والنفوذ على حساب القيم والممارسات العملية كالكفاءة والخلق والمبادرة، حيث كان الأفراد يعاملون وفق معايير شخصية كالقرابة والصداقة و المصالح وكذلك تطبيق القوانين(9). وكانت السلطة ضعيفة حيث تستمد القوة من تبوء الفرد منصباً وزارياً أو عدة مناصب وزارية في آن واحد، كذلك تستمد من اعتبارات متداخلة رسمية وغير رسمية مثل الثروة أو العلاقة مع البريطانيين أو استعمال المنصب لدعم النفوذ الشخصي، إن احتكار المناصب الوزارية من قبل بعض أفراد النخبة وبعض العوائل المعروفة، أثار توتراً على مختلف الأصعدة، فقد ساد التوتر بين أعضاء النخبة من جهة، وبينهم وبين القوى السياسية الشعبية المعارضة من جهة أخرى، الأمر الذي أدى بالبلاط إلى التسريع في عملية (تدوير الكراسي باستبدال الوزراء بل شمل رئيس الوزراء أيضا كما حدث في عام 948 (10).
ويشير الحسني إلى أن أهم ما منيت به المملكة في الاحتلال الثاني عام 1941 هو فقدان الثقة في الحياة وانصراف لفيف من الزعماء والسياسيين والوزراء إلى جمع المال بأية صورة كانت ومشاركة التجار والزراع والشركات في الإثراء على حساب الشعب الأمر الذي أدى إلى تسيب أمور المملكة، وحشد الدوائر الحكومية بالأميين وأنصاف المتعلمين وانتشار الفوضى والرشا بين معظم الموظفين(11). واجهت النخبة منذ أواسط الأربعينيات تحديات متصاعدة من قبل الجماعات الواعية التي ناهضت النظام ورفضت الواقع الفاسد المتمثل بهيمنة فئة على مقاليد الحكم، فقد بقيت المناصب الوزارية مغلقة بوجه أبناء الشعب رغم ازدياد عدد المتعلمين وذوي الخبرة والكفاءة وكانت حكراً على الوجوه التي تعاقبت على الحكم ومن عوائل محددة، واستمرت معاناة الجهاز الإداري من الفساد في الأربعينيات وحتى الخمسينيات فالإثراء غير المشروع وبيع الوظائف الحكومية كانت صفات ميزت سلوكية الكثير من المسؤولين ووصلت الحالة إلى قيام وزارة (حمدي الباجه جي 1944) بالاستقصاء عن الفساد ومحاولة معاقبة بعض الموظفين وقوبل ذلك بمعارضة بعض أعضاء النخبة لأنه يحمل بين طياته تهديداً لمصالحهم ومصادر إثرائهم غير المشروع، وحتى لو كان باستطاعة الحكومة تنفيذ هذا الإجراء فأن آثاره ستكون محدودة نظراً لامتداد الفساد إلى آفاق لا يمكن لوزارة الباجه جي السيطرة عليها. فقسم من المسؤولين قد دخلوا السوق كتجار يشترون ويحتكرون سلعاً أساسية مثل الشاي، السكر، الأقمشة مسببين شحه في الأسواق أدت إلى ارتفاع الأسعار مما عاد عليهم بأرباح طائلة، كما أصبح بعضهم شركاء مع ملاك الأراضي وشيوخ العشائر، واستغلوا ظهور عصر المكننة الزراعية وارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق الخارجية لتسهيل تصدير كميات كبيرة من الحبوب على حساب تلبية حاجة السوق المحلية(12).
إن تدهور الحالة الاقتصادية نتيجة الفساد أدى إلى ظهور ( أزمة الخبز) عام 1948 أثناء وزارة صالح جبر وهو وصف للحالة الاقتصادية وشحة هذه المادة الحيوية، كما إن نقص المواد الغذائية وارتفاع الأسعار وانخفاض الرواتب والأجور والفساد الإداري كانت عوامل أثارت سخط الجماهير التي عبرت عن استيائها بالمظاهرات التي جوبهت بالقوة، فأثناء وزارة ارشد العمري 1946 وفي شهر حزيران أعلن المئات من عمال شركة نفط كركوك الإضراب وفتحت قوات الشرطة النار عليهم وقتلت عشرين منهم (13). وتضامن معهم المواطنون في بغداد من خلال المظاهرات التي أدت إلى مقتل وإصابة العديد، كذلك عمدت أحزاب المعارضة مثل: الاستقلال والوطني والديمقراطي والأحرار إلى تنظيم تجمعات للاحتجاج على قسوة الشرطة والإجراءات الحكومية التعسفية، إن أهم الأسباب التي تؤدي بالوزراء أو الإداريين إلى كسب المال بطرق غير مشروعة، هو لتقوية مراكزهم الشخصية بمواجهة المعارضة أو الخصوم، من خلال صرف المال على المؤيدين والمتعاونين والمقربين، وهذا الصرف يسمى (الصرف الإستراتيجي) حيث تكون السلطة السياسية غير قادرة على توجيه الجهاز الإداري، ووجود قوى غير رسمية تفرض نفسها على الكيان الحكومي (14) . استمرت الأوضاع على هذا الشكل ولأسباب عديدة - ليست مجال بحثنا - حدثت ثورة 14 تموز 1958 التي أنهت الحكم الملكي.
_______
1- أنظر:- د. نزار توفيق الحسو الصراع على السلطة في العراق الملكي، دراسة تحليلية في الإدارة والسياسة، مطابع دار آفاق عربية بغداد 1984، ص 91.
2- للمزيد، أنظر لطفي جعفر فرج الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933. 1939، بغداد، مكتبة اليقظة العربية، ص 110 وما بعدها.
3- أنظر د عبد الجبار المنديل، الفساد في العراق في الماضي والحاضر، المركز الوثائقي لحقوق الإنسان في العراق، منشور على الموقع: www.iraqpaper.net 4 ، ص 2.
4- للمزيد، أنظر: عبد الكريم الأزري، مشكلة الحكم في العراق من فيصل الأول إلى صدام، بدون ذكر دار الطبع، 1991، ص 2 و ما بعدها. وجدير بالذكر أن المؤلف كان يعمل رئيساً للديوان الملكي آنذاك وقد أطلع على أجوبة الساسة المذكورين، إلا أنه لم يحتفظ بها،
5- للمزيد، أنظر د. لطفي جعفر فرج الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933. 1939، بغداد، مكتبة اليقظة العربية ، ص 85 وما بعدها.
6- أنظر - د. عبد الجبار المنديل، مصدر سابق، ص 2
7- أنظر حنا بطاطو العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الكتاب الأول من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الأولى، بيروت، 1990 ، ص 46 وما بعدها.
8- الفساد الإداري في العراق مقال منشور على الموقع: www.annabaa.org
9- لمزيد من التفصيل أنظر د نزار توفيق الحسو الصراع على السلطة في العراق الملكي، دراسة تحليلية في الإدارة والسياسة، مطابع دار آفاق عربية بغداد 1984، ص 24
10- من هؤلاء الأشخاص الذين تسلموا مناصب لمرات متعددة نوري السعيد 47 مرة عمر نظمي 21، توفيق السويدي 19، علي ممتاز الدفتري ،18 ، صالح جبر 17، عبد المحسن السعدون ،15، وهناك من تسلم لمرات اقل انظر:- د. نزار توفيق الحسو، مصدر سابق ص 149 وما بعدها.
11- أنظر: عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث ، 7 ، ج /2 ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1989، ، ص3 .
12 - أنظر- د. نزار توفيق الحسو الصراع على السلطة في العراق الملكي، دراسة تحليلية في الإدارة والسياسة، مطابع دار آفاق عربية بغداد 1984 ، ص 150.
13- لقد حدثت عدة إضرابات في هذه الأعوام، إضراب عمال السكك 1945، وعمال الميناء 1946، للمزيد أنظر:- ماريون فاروق سلوغلت وبيتر سلوغلت من الثورة إلى الدكتاتورية، العراق منذ 1958، ترجمة مالك النبراسي، منشورات الجمل 2003، ص71.
14- أنظر:- د. نزار توفيق الحسو، مصدر سابق، ص 90 وما بعدها.
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة