تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
إن إبراهيم كان أمة
المؤلف:
معروف عبد المجيد
المصدر:
تلك الرسل
الجزء والصفحة:
ص 103 - 148
2025-08-05
25
اجتمع المنجمون في مدينة (بابل) واصطفوا أمام مليكهم (نمرود) وقد تربع على أريكته المطهمة في قصره المشيد الحافل بمظاهر الأبهة والفخامة.
واستدعى نمرود وزيره ومنجمه (آزر) ليمثل بين يديه ويخبره بما يراه في حساب النجوم.
فقال آزر:
أرى يا سيدي أن رجلا يأتي في هذا الزمان فينسخ هذا الدين ويدعوا الى دين آخر.
وكان (نمرود بن كنعان) وثنيا وطاغية جبارا فاهتم للأمر.
فسأل آزر قائلا: وفي أي البلاد يكون؟
فأجاب الوزير المنجم: في هذه البلاد.
فسأله نمرود متوجسا: فهل ولد أم لم يولد بعد؟
فقال آزر: لم يخرج بعد الى الدنيا.
فحزم نمرود أمره وأصدر قراره قائلا:
فلنفرق من هذه اللحظة بين الرجال والنساء.
وفشى الخبر سريعا في المدينة.
وعم الهلع والرعب بابل وقد شرع رجال نمرود في تنفيذ الأمر الملكي.
ولم يكن الأمر يسيرا بالطبع بل كان يحتاج إلى تدابير إستثنائية.
ولكن إرادة الطواغيت تسري ولو على رقاب العباد.. ما داموا يحكمون بالحديد والنار وإن كانت عين الله لا تنام.
فجعل جنود نمرود الرجال في جانب من المملكة والنساء في جانب آخر.
ولم تكن هناك من حيلة للشعب المغلوب على أمره سوى الرضوخ أمام حد السيف وسياط الجلادين.
وتغير شكل الحياة في مملكة نمرود.
ولكن الشمس كانت تطلع وتغرب كما هو دأبها في كل زمان.
وذات صباح مشرق غادرت امرأة منزلها وسارت في نقابها متجهة إلى غار خارج المدينة.
وكانت وكأنها تعرف هذا الغار.
حتى إذا وقفت على بابه فانها تلفتت يمينا ويسارا ثم إذا اطمأنت من عدم وجود العيون والمراقبين دخلت الغار وأغلقت بابه خلفها بأحد الأحجار.
ولم تمكث السيدة سوى زمن يسير حتى وضعت طفلا وسيما وديعا أسمته إبراهيم. فقمطته وأرضعته ثم تركته وحيدا داخل الغار وسدت بابه بالحجارة وقفلت عائدة إلى منزلها.
وكان نمرود الطاغية قد وكل بكل امرأة حامل من يذبح وليدها إذا كان ذكرا.
وظل الوليد ابراهيم بمنأى عن الذبح في الغار المهجور.
وأجرى الله له لبنا من إبهامه.
وكانت أمه تأتيه بين الفينة والأخرى فيدهشها الأمر.
حيث كان طفلها يشب في الغار كل يوم كما يشب غيره في شهر.
حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره.
وفي يوم من الأيام زارته أمه كعادتها.
فلما تملت حسن وجهه وجماله عز عليها أن تفارقه.
ولكنها تذكرت الخطر المحدق فنهضت مدمعة العودة.
فلما أرادت مفارقة ابنها فانه تشبث بها وقال: يا أمي أخرجيني وخذيني
معك إلى منزلنا في المدينة.
فانفطر قلب الأم حزنا وعطفا فضمته إلى صدرها الحنون الدافيء وسالت دموعها فبللت رأسه الملقى على صدرها.
فألح الابن قائلا: يا أمي لو عدت بي معك إلى المدينة..
فكفكفت الأم دموعها ومسحت شعره بأناملها الرقيقة.
وقالت: با بني إن الملك إذا علم بأنك ولدت في هذا الزمان قتلك فقال إبراهيم: ولم يا أماه؟
فأجابت: لأنه لا يعبد الله وقد أخبروه بأن رجلا يأتي في هذا الزمان ومعه دين آخر ينسخ به دين الملك فأمر بقتل كل ذكر يولد.
وغرق إبراهيم في تأملاته بينما فارقته أمه في الغار وعادت إلى المدينة.
ومرت الأيام على هذه الحال والصبي إبراهيم ينمو ويشب حتى صار فتى.
إلى أن أخذته أمه معها إلى دارها ذات يوم.
فالتف حوله إخوته وقد أدهشهم أمره.
فلما علموا أنه أخوهم رقوا له وأنسوا به وقد زرع الله حبه في قلوبهم.
وكان (تارخ) والد إبراهيم قد فارق الحياة.
فلم يره إبراهيم ولم ير إبراهيم، وقد حملت به أمه دون أن يظهر أثر لحملها وقد أصبح اليوم شابا فتيا.
وذات مساء ....
كان إبراهيم جالسا بين اخوته.
فجاء عمه آزر لزيارتهم.
فلما رآه عجب لأمره وسأل أمه قائلا:
من هذا الفتى؟
فأجابت: إنه ابني.
فقال: وكيف ولدتيه؟
فقالت: حملت به قبل وفاة أبيه.
فاستفسر مندهشا: وكيف بقي في سلطان الملك والملك يقتل كل من يولد من الذكور؟
فأجابت الأم أو دعته الغار حتى شب.
فنظر آزر إلى إبراهيم فملأ الله قلبه به حبا.
ولكنه ما لبث أن قال لأم إبراهيم:
ويحك، إن الملك إذا علم بهذا قتله ونزلت منزلتنا عنده..
فقالت أم إبراهيم: لا عليك إن الملك إذا لم يشعر به بقي لنا وإن شعر به كفيتك الاحتجاج عنه.
فأخفى الوزير المنجم أمره على الملك وكان آزر مقربا من نمرود وكان يتخذ له الأصنام، ويأمر بصنعها ثم يدفعها إلى أولاده وأولاد أخيه فيبيعوها للناس.
فود إشراك إبراهيم في بيع الأصنام حتى إذا كان ذات يوم دفع آزر إلى ابن أخيه إبراهيم بعدد من الأصنام ليبيعها الناس.
فلم يرفض إبراهيم.
وعندما تسلم الاصنام علق في عنق كل منها خيطا ثم أخذ يجرها على الأرض
وهو ينادي: من يشتري ما لا يضره ولا ينفعه وانتشر الخبر في المدينة وشاع بين أهلها.
فبعث آزر من أحضره غاضبا وقال:
لم فعلت هذا يا إبراهيم؟
فتوجه إبراهيم إلى الأصنام قائلا: تكلمي
فلم تنطق الأصنام
فأسقط في يد آزر ونهى إبراهيم عن ذلك.
ولكن إبراهيم لم يستجب...
فعند ذلك أمر عمه آزر - وهو وزير الملك - بحبسه ومنعه من الخروج.
حتى كان يوم المهرجان
ظل الناس في مدينة بابل أياما عديدة يتجهزون ويعدون العدة ليوم المهرجان
وهو عيدهم السنوي الأكبر.
فغصت المدينة بمظاهر الصخب والزينة وعمتها مشاهد الفرح.
وكان من عادتهم الاحتفال بهذا اليوم خارج المدينة حيث يكبون على إقامة المراسم والطقوس الوثنية.
وكان إبراهيم (عليه السلام) محبوسا بأمر من عمه آزر بجرم النيل من الأصنام والاستهزاء بها
فرق له قلب عمه في يوم العيد وأطلق سراحه من الحبس ليخرج مع القوم ويشاركهم أفراحهم في يوم المهرجان.
ولكن إبراهيم (عليه السلام) كره الخروج معهم وفضل البقاء في المدينة.
فوكله عمه ببيت الأصنام.
فلما ذهبوا وخلا إبراهيم (عليه السلام) بأصنامهم فانه عمد إلى طعام وأدخله إلى بيت الأصنام.
فكان يدني الطعام من الصنم ويقول له: كل وتكلم
فلم يكن الصنم يأكل أو ينطق.
وعندئذ كان إبراهيم (عليه السلام) يأخذ القدوم فيكسر يدي الصنم ورجليه، ثم ينتقل إلى صنم آخر.
حتى فعل ذلك بجميع الأصنام.
فلما فرغ من أمرهم أخذ القدوم وعلقه في عنق كبيرهم وكان قائما في الصدر.
ثم جلس في الانتظار.
وعادت الجموع إلى المدينة، يتقدمها نمرود في ركبه الملكي المجلل بأسباب الأبهة والعظمة.
وتوجهوا إلى بيت الأصنام لاختتام الطقوس.
فلما نظروا إلى الأصنام وجدوها جميعها محطمة وعلى رأسها الصنم الأكبر وقد علق القدوم في رقبته
فاشتاط نمرود غضبا وصاح قائلا:
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59] ؟ فأجاب عدة من الملأ قائلين: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
وكان إبراهيم (عليه السلام) قائما في ركن قصي من بيت الأصنام يراقب الأحداث عن كتب.
فجره الجلاوزة حتى مثلوا به أمام نمرود فسأله كبير الكهنة: أنت فعلت هذا بالهتنا يا إبراهيم؟
فأجاب (عليه السلام): بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون..
وعندئذ ازداد نمرود حنقا والتهب صدره غيظا.
فأعرض عن إبراهيم (عليه السلام) وقال: ائتوني بآزر ثم غادر بيت الأصنام إلى قصره.
ومثل آزر بين يدي نمرود الجبار
فصاح به نمرود غاضبا.
لم خنتني وكتمت هذا الولد عني؟
فأجاب آزر وقد طأطأ برأسه:
إن هذا لمن عمل أمه أيها الملك...
فقال نمرود: ولكنه يعيش تحت إمرتك وفي كنفك
فأجاب آزر: صدقت أيها الملك ولكن أمه ذكرت أنها تقوم بحجته.
فاستدعى نمرود أم إبراهيم في الحال وقد خيم التوتر والتوجس على قصر بابل.
ولم يكد يمضي سوى اليسير من الوقت حتى كانت أم إبراهيم ماثلة بين يدي نمرود.
فسألها نمرود حانقا: ما حملك على كتمان أمر هذا الغلام حتى فعل بآلهتنا ما فعل؟
فأجابت: أيها الملك نظرا مني لرعيتك
فتساءل نمرود في دهشة: وكيف ذلك؟
فأجابت أم إبراهيم: لأني رأيتك تقتل أولاد رعيتك فكاد يذهب النسل فقلت إن كان هذا الذي يطلبه الملك دفعته إليه ليقتله ويكف عن أولاد الناس.
فسألها نمرود وقد نفذ صبره: وإن لم يكن؟
فأجابت أم إبراهيم: وإن لم يكن بقي لنا ولدنا وقد ظفرت به الآن فشأنك به.
فكف نمرود عن أولاد الناس، وصب اهتمامه على إبراهيم (عليه السلام) وقد أدرك أن الأمر قد فاته ثم أمر بحبسه حتى يرى فيه رأيه..
وجمع نمرود وزراءه ومستشاريه وكبار رجال البلاط.
واستشارهم في أمر إبراهيم.
ولم يكن القوم على شيء من الحنكة والرشد.
فقالوا النمرود: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68]
ولم يقولوا له كما قال أصحاب فرعون في أمر موسى (عليه السلام): أرجه وأخاه.
وأعجب نمرود بمشورة رجاله وظن أن فيها الخلاص من إبراهيم.
فأمر بإعداد العدة لحرق محطم الأصنام..
انطلقت الأعداد الغفيرة تجمع الحطب وتكدسه في ساحة أعدت خصيصاً لهذا الأمر على مبعدة من المدينة.
حتى إذا جاء نمرود ليشهد المكان ذات يوم وجده مهيبا ومريعا فانتفخ عجبا وخيلاءا وتضاعف أمله في الخلاص من إبراهيم واستتباب الأمور في مملكته كما كانت في السابق.
وقرر أن يشهد الأمر بنفسه.
وعندئذ أمر جلاوزته وجنوده بإقامه بناء عظيم مرتفع حتى يشرف منه على النار ويرى كيف تلتهم إبراهيم.
ولما كان الأمر مهولا فقد احتاروا في كيفية إلقاء إبراهيم في النيران وقد التهبت وارتفعت ألسنتها المحرقة.
فألقى إبليس الفكرة في روع نمرود.
وفي الحال، التفت نمرود إلى زبانيته وأمرهم باتخاذ المنجنيق ليلقوا بإبراهيم في النار، فلا يضرهم حرها..
واستمر العمل قائما على قدم وساق حتى شيدوا منصة عالية لنمرود ورجاله وفرغوا من تصنيع المنجنيق.
ثم أشعلوا النيران في الحطب، فارتفعت ألسنة اللهب إلى عنان السماء وامتدت الحرارة حتى كان الطائر يحترق من مسيرة فرسخ وكان آزر ما زال يحنو على ابن أخيه ويشفق عليه من الحرق.
فكان يزوره خلسة ويخبره بأمر النيران التي أعدوها لحرقه ويدعوه للرجوع عما هو عليه.
بينما كان إبراهيم (عليه السلام) يدعوه لعبادة الواحد الأحد، المنجي الصمد ووعده بالاستغفار له إن هو عاد عن عبادة الأصنام.
فلم يكن من أمر آزر إلا أن تمسك بالهته وقد تيقن من ذهاب إبراهيم رمادا في أجيج النيران المستعرة.
فلما تبين لأبراهيم (عليه السلام) أن عمه عدو الله تبرأ منه.
وجاء اليوم الموعود.
فأتوا بإبراهيم من محبسه وقيدوا يديه وقدميه ووضعوه في المنجنيق ليقذفوا به إلى النيران عند إشارة من يد نمرود.
وجلس نمرود في أبهى حلله يحفه رجال البلاد البلاط الملكي وقد اعتلى سدة في المنصة الشاهقة واصطف الجنود واحتشدت الجماهير ودقت الطبول وبدأت مراسم الحرق.
ووقف الجميع وقد حبسوا أنفاسهم في صدورهم بانتظار إشارة الملك وألقى نمرود نظرة متعالية على الجمع الغفير، من فوق منصته المرتفعة.
وأعجبه أن كل هذه الحشود تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه.
وزاده عجبا وخيلاءا أنه لو شاء لما أحرق هذا الفتي إبراهيم ولأبقى على حياته فعاش طول عمره عبد إحسانه وربيب نعمائه كما سولت له نفسه.
ولكن مشيئته كانت جهنمية، فلم تأب إلا حرق الفتى والتخلص منه وعودة الملك إلى هدوء البال ورخاء العيش.
وانتفخ كبرياءا وقد ظن أن كل ذلك بامكانه فقال بغطرسة:
حرقوه وانصروا الهتكم.
وألقى إليهم بإشارة البدء.
وتعالت الصيحات من كل جانب.
وارتفع الصراخ والعويل.
واشتد الضجيج والعجيج.
وأخذ الجلاوزة إبراهيم فوضعوه في المنجنيق.
ثم ما لبثوا إلا أن أطلقوه ليلقي بالفتى في النيران.
فازداد النحيب، وتفاقمت الضوضاء، وعلت الجلبة
وهنالك ضج الملأ الأعلى.
فقالت الملائكة: يا رب خليلك إبراهيم يحرق
فقال الله عز وجل: أما أنه إذا دعاني كفيته.
فدعا إبراهيم (عليه السلام) ربه جلت قدرته بسورة الاخلاص.
وقال: يا الله، يا واحد، يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، نجني من النار برحمتك.
فلما كان في الهواء يحمله المنجنيق إلى أخدود النار التقى معه جبرائيل.
فقال له: يا إبراهيم هل لك إلى من حاجة؟
فقال إبراهيم السلام: أما إليك فلا وأما إلى رب العالمين فنعم.
فأوحى الله إلى النار: (كوني بردا وسلاما على إبراهيم).
وأتمرت النار بأمر ربها فكانت بردا وسلاما.
حتى اصطكت أسنان إبراهيم (عليه السلام) من البرد
فنزل جبرائيل (عليه السلام) معه وجلس يحدثه وسط النيران وقد نبت النرجس حولهما.
ونظر نمرود ماذا بإبراهيم وقد جلس في روضة خضراء وحواليه أشجار نضرة، وأنواع من الزهور والنباتات مما لا يوجد في الفصول الأربعة.
وجبرائيل قد جلس بجواره على هيئة شيخ يسامره.
فاندهش نمرود.. أيهما دهشة
ولكنه تميز غيظا واستشاط غضبا
فترك منصته المشيدة حانقا وهو يقول لآزر:
ما أكرم ابن أخيك هذا على ربه
ثم غادر المكان وقد أسقط في يده
فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين
واحتشدت الجموع حول إبراهيم بين حائر ومندهش ومكذب ومصدق.
ولكن الحقيقة كانت سافرة للعيان.
وكانت المعجزة الالهية تجسيدا لنور الحقيقة.
ورغم قوة الاعجاز وانبلاج الحق سافرا بلا حجب ولا أستار فقد ازداد القوم غيا وضلالا.
وراحوا في ضلالتهم يعمهون.
وهذا هو ديدن المستكبرين.
وذات يوم...
استدعى نمرود إبراهيم ليلقي عليه حجته بزعمه وقد حالت السماء بينه وبين النيران.
فلما جيء بإبراهيم حاجه نمرود في ربه وقال:
من ربك يا إبراهيم؟
فأجاب إبراهيم (عليه السلام): {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]
فقال نمرود مكابرا: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258].
فسأله إبراهيم: وكيف ذلك؟
فأجاب نمرود:
أعمد إلى رجلين ممن قد وجب عليهما القتل فأطلق واحدا وأقتل واحدا فأكون أمت وأحييت.
فلما قال ذلك لم يمهله إبراهيم (عليه السلام) وأراد أن يرد عليه حجته وقد أدرك المناورة.
فقال لنمرود مفاجئا: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] وأخلى نمرود سبيل إبراهيم حتى يجد وسيلة أخرى لمحاججته أو القضاء عليه.
فكان إبراهيم (عليه السلام) يدعو قومه الى التوحيد فيقبلون على عبادة الأوثان.
وكان يراهم مقبلين على عبادة الأصنام فيقول لهم: {مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85 - 87] ؟(عليه السلام).
كما كان يقول لعمه آزر: {رَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]
وأخذ إبراهيم يواصل دعوته رغم جحود القوم فأراه الله ملكوت السماوات الأرض وليكون من الموقنين.
وذات مساء..
جن على إبراهيم الليل.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]
{قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]
{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]
{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} [الأنعام: 77]
{قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 77]
{فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 77]
{قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام: 78]
{قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام: 78]
{فَلَمَّا أَفَلَتْ} [الأنعام: 78]
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] واستمر الصراع ضاريا بين الحق والباطل فعارض الناس إبراهيم وحاجه قومه {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80]
وخوفوه بأصنامهم فرد عليهم قائلا: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80] ولما حاجه قومه بالباطل فان إبراهيم (عليه السلام) حاجهم بالحق وقال لهم في استدلال قويم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81]
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 83] ولما نازع نمرود إبراهيم (عليه السلام) في الإحياء وأقام إبراهيم عليه الحجة فبهت الذي كفر..
فانه توعده بالقتل إن لم يحي الله له الميت بحيث يشاهده أمامه..
وأتى جلاوزة نمرود بإبراهيم (عليه السلام). فقال له نمرود:
يا إبراهيم إن لم يحي إلهك ميتا الآن أمامي قتلتك..
وتوجه إبراهيم (عليه السلام) إلى الله قائلا: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] فقال له ربه وهو العالم بدقائق الأمور: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة: 260] ؟
قال: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]
قال: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260].
وأخذ إبراهيم (عليه السلام) أربعة من الطير كما أمره ربه.
وقيل بأنها كانت طاووسا ونسرا وديكا وبطا.
فالطاووس يريد به زينة الدنيا.
والنسر يريد به طول الأمل.
والديك يريد به الشهوة.
والبط يريد به الحرص والطمع.
فذبحهن إبراهيم (عليه السلام) وعزل رؤوسهن ودق لحمهن في الهاون مع عظامهن وريشهن حتى اختلطن.
ثم جعلهن عشرة أجزاء على عشرة جبال.
وجلس نمرود الجبار بين رجال حاشيته في انتظار الحدث العظيم.
وكان يظن بأن الغلبة ستكون له على إبراهيم هذه المرة.
فجعل يحث إبراهيم (عليه السلام) على إتمام الأمر بينما إبراهيم (عليه السلام) يقف متوجها إلى الله تعالى سائلاً إياه اللطف والكرامة.
ثم لم تكد تمضي سوى برهة يسيرة حتى نادى إبراهيم (عليه السلام) الطيور الأربعة ودعاهن قائلا: (أئتين بإذن الله).
وكان نمرود ما زال متعلقا بآمال الانتصار.
وأنت لحظة الاعجاز الفاصلة.
فتطايرت الأجزاء العشرة بعضها إلى بعض.
اللحوم والريش والعظام.
حتى استوت الأبدان كما كانت وجاءت الطيور الأربعة ترفرف وتسعى بين يدي إبراهيم (عليه السلام).
فاستولت الدهشة على نمرود وحاشيته.
وأيقن بالهزيمة..
وعندئذ صرف إبراهيم (عليه السلام) وقد نجاه الله من القتل بعزته وحكمته.
بينما راح نمرود يعمه في الضلال مأخوذا بطغيانه وجبروته.
وانثنى يفكر في خطة جديدة يتخلص بها من إبراهيم، وقد جحد بالمعجزة
الالهية واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا.
واعتز لهم إبراهيم باليد السلام وما يعبدون من دون الله.
بينما كان نمرود قد دبر له أمرا.
فأمر رجاله بنفي إبراهيم من البلاد.
وأن يخرجوه بمن معه بعد تجريده من كافة أمواله.
فانطلق الجند الى بيت إبراهيم.
واستولوا على جميع ما عنده من مال وماشية وعقار.
وأمروه بالخروج فورا من المدينة ووجد إبراهيم (عليه السلام) نفسه وجها لوجه أمام الطغاة الناهبين.
فسألهم عن سبب الاستيلاء على أمواله.
فأجابوه بأنه جمعها من بلادهم فلا حق له بالخروج بها.
فحاجهم إبراهيم قائلا: فلو أخذتم ماشيتي ومالي فان حقي عليكم أن تردوا علي ماذهب في بلادكم من عمري فبهت القوم من حجته واختصموا الى القضاء.
قضاء الطاغية بالطبع ومثل نبي الله وخليله أمام قاضي نمرود فأقام إبراهيم الحجة على القاضي أمام الملأ.
فقضى بالحق لإبراهيم.
فما كان من أمرهم إلا أن خلوا سبيله وسبيل ما شيته وماله.
فجعل خليل الرحمان يتجهز للرحيل عن مسقط رأسه ومرابع صباه ومجالي شبابه.
وخرج إبراهيم (عليه السلام) من مدينته تشيعه شوارعها ومنازلها وقد هاجت في نفسه الذكريات.
وانطلق الى بيت المقدس ومعه نبي الله لوط (عليه السلام) وزوجته الوفية سارة وكانت بنت خالته.
ومضى بين الجبال والسهول والوديان يشق طريق هجرته الى الله.
حتى خرج من سلطان نمرود.
فتنفس إبراهيم (عليه السلام) الصعداء وقد نجا من الطاغية.
ولكنه ما لبث أن وجد نفسه في سلطان طاغية آخر..
فبينما كان إبراهيم (عليه السلام) يسير بركبه النبوي اعترضه رجال السلطان الجديد وكان من الفراعنة.
فأمره كبيرهم بفتح متاعه ليأخذوا منه نصيب الملك.
ففك إبراهيم (عليه السلام) متاعه إلا هو دجا ضن عليه بالفتح.
فأمره الرجل بفتحه.
فأبى إبراهيم (عليه السلام) وقال له: خذ ما شئت من ذهب أو فضة ولكني لا أفتحه
فثارت وساوس الرجل وأبي إلا فتحه
فوقف إبراهيم (عليه السلام) دونه.
وعندئذ نحاه رجال الملك بالقوة وفتحوا ما أبي إبراهيم فتحه.
فغضب إبراهيم بله السلام غضبا شديدا وهم بالامتناع لكنهم وقفوا دونه..
ولما فتح رجال الفرعون الهودج راعهم ما فيه.. وتراجعوا إلى الخلف حائرين.
فقد كانت بداخله سيدة فائقة الحسن والجمال.
وأخذ كبير رجال الفرعون بحسنها فسأل إبراهيم (عليه السلام): ما هذه منك؟
فأجاب إبراهيم (عليه السلام): هي حرمتي وابنة خالتي.
فبعث رسولا إلى الملك ليعلمه بالأمر.
فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالهودج بمن فيه.
وأقبل الرجال على حمل الهودج والذهاب به إلى الملك...
فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): لا أفارق الهودج.
فحملوه مع الهودج إلى الملك.
فلما مثلوا بين يديه أمر إبراهيم بفتح الهودج.
فقال له إبراهيم (عليه السلام): إن به حرمتي وابنة خالتي وأنا أضن بها على الظهور أمام الغرباء.
فغضب الملك عضبا شديدا وأمر رجاله بفتح الهودج.
فلما رأى سارة بهره حسنها وذهب بليه جمالها الخلاب...
فلم يملك إلا أن مد يده إليها..
فأعرض إبراهيم (عليه السلام) بوجهه ودعا الله تعالى قائلا: (اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي)
فلم تصل يد الملك إليها ولم ترجع إليه.
فاندهش الملك مما جرى وأدرك أن وراء ذلك سرا يجهله. وقد رأي الله في وجه إبراهيم (عليه السلام).
وأراد الملك أن يكتشف سر إبراهيم وأن تعود يده إلى حالتها الأولى. وكانت قد بلغته بعض أخباره.
فقال لإبراهيم (عليه السلام):
لابد وأن إلهك هو الذي فعل بي هذا..
فأجابه إبراهيم (عليه السلام): بلى فالهي غيور ويبغض الحرام.
فقال له الملك:
فادع إلهك أن يرد على يدي فان أجابك فاني لا أتعرض لها ولك.
فدعا إبراهيم (عليه السلام) قائلا: (إلهي رد عليه يده ليكف عن حرمتي).
فاستجاب الله تعالى دعاء خليله إبراهيم (عليه السلام) ورد على الملك يده.
بينما يشهد الملأ في المجلس الملكي ما يجري أمام أعينهم وقد أخذ العجب منهم مأخذه..
ولكن الملك لم يتمالك نفسه مرة أخرى فأقبل على سارة ببصره ثم عاد فمد يده نحوها.
فأعرض إبراهيم (عليه السلام) كراهية منه في أن يرى ذلك.
ودعا قائلا: (اللهم احبس يده عنها).
فجمدت يد الملك ولم تصل إليها.
فقال الملك لإبراهيم (عليه السلام):
إن إلهك لغيور وإنك لغيور فادع إلهك لكي يرد على يدي فانه إن فعل لم أعد أفعل.
فاستدرك إبراهيم (عليه السلام) قائلا: أسأله ذلك على أنك إن عدت لا تسألني أن أسأله مرة أخرى.
فأجابه الملك: نعم ولك ذلك.
فتوجه إبراهيم (عليه السلام) بالدعاء إلى الله وقال:(اللهم إن كان صادقا فرد عليه يده).
وقبل الله دعوة خليله ونبيه.
فعادت يد الملك إليه..
تلك الرسل.
ولما رأى الملك ذلك، وشاهد تلك المعجزة بعينيه فان إبراهيم (عليه السلام) عظم عنده.
فأكرمه وقربه وكف عنه.
وقال له:
انطلق حيث شئت ولكن لي إليك حاجة.
فقال له: ما حاجتك؟
فأجاب الملك:
حاجتي هي أن تأذن لي أن أقدم لزوجتك جارية قبطية جميلة وعاقلة تكون لها خادما.
فشكره إبراهيم (عليه السلام) وأذن له.
فقدم الملك (هاجر) ووهبها لسارة.
وأخذ إبراهيم (عليه السلام) يعد نفسه لاستئناف سفره وهجرته.
وخرج الملك يمشي خلف إبراهيم (عليه السلام) إجلالا له وإعظاما حتى ودعه.
وعند الوداع سلم على إبراهيم (عليه السلام) وصافحه قائلا:
أشهد أن إلهك لحليم كريم وأشهد لك بالفضل والكرامة وقد جعلني أرغب في دينك.
فحياه إبراهيم (عليه السلام) وقدم له فروض الاحترام والتبجيل وواصل طريق الهجرة.
وقد انضم إلى ركبه مؤمن جديد، حيث كانت (هاجر) ابنة للملك (اخناتون) الموحد.
وكانت قد وقعت في سبي الهكسوس عندما أغاروا على مصر..
وسار إبراهيم (عليه السلام) حتى وصل إلى بيت المقدس، في أعلى الشامات وهي منطقة (حبرون) آنذاك.
وكان قد خلف لوط (عليه السلام) أدناها في قرية ظالمة يأتي أهلوها الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين وقيل بأنها سدوم.
وأمره أن يحذرهم وينذرهم بالهلاك إن لم يكفوا عن فعلهم الشنيع.
بينما استمر إبراهيم (عليه السلام) في دعوة الناس إلى الايمان بالله وتوحيده.
وحده..
وتعاقب الزمان على إبراهيم (عليه السلام) وهو يعيش في فلسطين داعيا إلى الله
حتى صار شيخا وأتى عليه الكبر.
وكان الله تعالى لم يرزقه ذرية.
حيث كانت امرأته سارة عاقرا.
ومع رغبة إبراهيم الام السلام في الولد، فانه لم يتزوج على سارة إعظاما لها وإكراما ومعرفة بحقها. وكانت سارة سيدة جليلة على قدر من الايمان كبير.
فشعرت بما يختلج في صدر إبراهيم (عليه السلام) وهي التي تدرك مكنونات قلبه الكبير.
فأتبعت سخاءها بسخاء عظيم جعلها تكبر أكثر فأكثر في عين إبراهيم (عليه السلام).
إذ وهيبته جاريتها هاجر زوجة له على الله تعالى يرزقه الولد منها.
فأكبر إبراهيم (عليه السلام) فعلها وهي ابنة خالته الوفية.
ولم تكد تمضي سوى شهور حتى وهب الله تعالى ابنا لإبراهيم (عليه السلام) وأمره بتسميته إسماعيل وكان بكره من هاجر.
وعندئذ فقط تحققت دعوة إبراهيم (عليه السلام) عندما دعا ربه وهو في سبيل الخروج من بابل قائلا: { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].
وفرحت سارة بفرح زوجها إبراهيم (عليه السلام) وقربت هاجر إليها وغمرتها هي وولدها إسماعيل بألوان العناية والعطف والرعاية.
ولم يكن لها وهي المؤمنة الصابرة الوفية الكريمة أن تحسد هاجر أو تؤذي إبراهيم أو أن تمزقها مشاعر الغيرة وهي السيدة الجليلة العظيمة.
بل إنها سألت إبراهيم (عليه السلام) أن يتوجه إلى الله بالدعاء رجاء أن يرزقها الذرية هي الأخرى.
ولكن يبدو أن الغيرة كانت قد أخذت تشق طريقها إلى قلب سارة.
فعندئذ أمر الله إبراهيم (عليه السلام) أن يأخذ ابنه إسماعيل وزوجه هاجر ويرحل بهما إلى مكان بعيد.
وكان هذا المكان واديا غير ذي زرع عند بيت الله المحرم.
ولما أوحى الله سبحانه وتعالى إلى إبراهيم (عليه السلام) بأن يرحل مع زوجه هاجر وولده إسماعيل إلى بيته المحرم.
فانه (عليه السلام) استعد للسفر وخرج من (حبرون) قاصدا مكة المكرمة حتى وافاها وعليه وعثاء السفر.
فوضع رحله محل البيت الحرام وكان واديا غير ذي زرع ولا ماء.
ولكن كانت فيه بعض الأشجار التي استظلوا تحتها.
وكان إسماعيل (عليه السلام) ما زال طفلا صغيرا.
وعندما أراد إبراهيم العودة إلى الشام والانصراف عن ذريته فانه ألقى عليهم نظرة ملؤها الشفقة والعطف...
وهو على وشك أن يتركهم وحدهم في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع.
وكان متيقنا أنه تعالى سيكفيهم أليس الله بكاف عبده؟
فلما جهز رحله واستعد للمسير فانه (عليه السلام) التفت إلى زوجته هاجر وولده إسماعيل ثم توجه إلى الله تعالى بقلب سليم..
وأخذ يدعو ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون} [إبراهيم: 37] وبقيت هاجر وحدها مع طفلها الصغير.
فلما ارتفع النهار واشتدث حرارة الشمس عطش إسماعيل بل الكلام وطلب الماء.
فقامت هاجر تسير في الوادي في موضع المسعى، ونادت: (هل في الوادي من أنيس؟).
ولما لم يجبها أحد فانها صعدت على الصفا تبحث عن الماء.
ولمع لها السراب في الوادي فظنت أنه ماء. فنزلت في بطن الوادي وسعت.
وبلغت المسعى فغاب عنها إسماعيل.
ثم لمع لها السراب في موضع الصفا.
فهبطت إلى الوادي تطلب الماء.
فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا.
فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات.
ولما تعثر على الماء..
فلما كان الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل نظرة الأم الرؤوم.
فاذا بالماء يتفجر تحت قدميه.
فدهشت هاجر لما أبصرت عينا ينبع منها الماء الزلال.
ولما كان الماء سائلا فانها جمعت حوله رملا وزمته حتى لا يتسرب في الوادي.
وأخذت تغرف من الماء وتطفئ ظمأ وليدها الصغير.
وعكفت الطيور والدواب على بئر زمزم ترتوي من مائها العذب الوفير.
وكانت قبيلة (جرهم) تنزل في عرفات.
فلما شاهدت مجمع الطيور تابعت الأثر نحو مكة.
فوجدت سيدة وصبيا نازلين في ذلك الموضع يستظلان بشجرة وقد ظهر لهما الماء.
فأقبل جمع من القبيلة وقصدوا هاجر وسألوها وهم في حيرة من الأمر.
وقالوا: من أنت؟ وما شأنك؟ وما هو شأن هذا الصبي.؟
فأجابت: أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمان وهذا ابنه.
فقالوا لها: أفتأذنين لنا أن نكون بالقرب منكم؟
فأذنت لهم.
فنزلوا بالقرب منهم وأنست هاجر وإسماعيل بهم.
واستجاب الله دعاء خليله إبراهيم (عليه السلام) عندما ناجاه قائلا: فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.
وبلغ إسماعيل (عليه السلام) مبلغ الرجال.
وجاء إبراهيم (عليه السلام) ذات مرة ليزور زوجه وابنه.
فلما كان في مكة نزل عليه الوحي الالهي: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
وأمر الله تعالى إبراهيم واسماعيل (عليه السلام) ببناء الكعبة.
فجعلا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان:
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 128] (عليه السلام).
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] وعندما أقيمت قواعد البيت ورفعها إبراهيم وإسماعيل جعله الله مثابة للناس وأمنا.
ثم جاء النداء الالهي: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]
وتواصلت رسالة الحج قادمة من السماء فبعدما انتهى إبراهيم وولده إسماعيل (عليه السلام) من بناء البيت، جاء الوحي الالهي من جديد:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] فباتت مكة المكرمة مهوى للقلوب ومنزلا للعاشقين الربانيين.
وهوت أفئدة من الناس إلى أهلها من آمن منهم بالله واليوم الآخر.
واكتملت المناسك ...
وتقبل الله دعاء إبراهيم (عليه السلام) عندما سأله قائلاً:
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [البقرة: 126] ومما ورد في الروايات بهذا الشأن أيضا.
أن الله تعالى عندما أمر إبراهيم ببناء البيت لم يكن يدري في أية بقعة على وجه الدقة. فأوحى الله إليه بأن ذلك يكون في البقعة التي أنزل الله فيها القبة على آدم (عليه السلام) فأضاء لها الحرم.
فلم تزل القبة قائمة حتى كان طوفان نوح (عليه السلام).
فلما عم الطوفان الأرض رفع الله تلك القبة قبل أن تغرق.
فسميت بالبيت العتيق.
وعند رفع قواعد البيت من جديد كان إبراهيم واسماعيل يأتيان بالأحجار من ذي طوى، وقد حدد لهما جبرائيل (عليه السلام) مكان البناء.
حتى أتما بناء الكعبة إلى تسعة أذرع ثم دل الله إبراهيم على موضع الحجر فاستخرجه وأمره بوضعه في مكانه الذي هو فيه الآن.
وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم من الجنة أشد بياضا من الثلج ثم تغير لونه إلى السواد عندما مسته أيادي الكفار والمشركين والخطاة.
ثم إذا اكتمل بناء البيت العتيق وعلم الله تعالى نبيه إبراهيم (عليه السلام) المناسك وأمره بأن يؤذن في الناس بالحج جاء وقت الإبتلاء الكبير..
فعندما انتهى إبراهيم بمعية ابنه اسماعيل (عليه السلام) من رفع قواعد البيت والأتيان بالمناسك وقد جعله الله للناس إماما..
فانه ذات ليلة كان ينام ناعم البال مطمئن القلب شاكرا الله على نعمائه ...
وإذا به يرى رؤيا في منامه عجيبة..
فلقد أمر الله نبيه وخليله إبراهيم (عليه السلام) بذبح ولده الوحيد اسماعيل.
ولما كانت رؤيا الأنبياء صادقة فان إبراهيم (عليه السلام) قام من نومه وقد عزم على إطاعة الأمر الالهي وذبح فلذة كبده.
إلا أنه راح يفكر في كيفية إخبار ولده بذلك.
ثم ماذا سيقول لأمه هاجر.. وكيف سيقع عليها هذا الخبر المؤلم..
وأنار الله قلب خليله ونبيه بأن دله على الطريق..
فذات صباح وقد بلغ معه ولده اسماعيل السعي...
قال له والده إبراهيم (عليه السلام): يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك..
ولأنه كان حكيما ورحيما فقد قال لولده وكأنه يستشيره ويشركه في الأمر والقرار فانظر ماذا ترى وكان إسماعيل (عليه السلام) شابا مؤمنا ترعرع في كنف الرسالة وفي ظلال النبوة، واغتسل قلبه الطاهر بشذى الوحي الالهي.
فقال لوالده وهو الابن المؤمن المطيع: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين..
وكانت كلمات اسماعيل (عليه السلام) المفعمة بالطاعة والرضوخ للأمر الإلهي، بلسما الجراح إبراهيم الفاغرة.
فاستسلما لأمر الله ورضيا به.
وعزم إبراهيم (عليه السلام) على تنفيذ ما رآه في المنام.
وعندئذ عندئذ أقبل شيخ كبير واقترب من إبراهيم (عليه السلام).
وقال له: يا إبراهيم.. ماذا تريد من هذا الغلام؟
فأجابه إبراهيم (عليه السلام): أريد أن أذبحه
فقال له: سبحان الله أتذبح غلاما لم يعص الله طرفة عين؟
فأجابه إبراهيم (عليه السلام) قائلا: إن الله أمرني بذلك.
فاستدرك الشيخ قائلا: إن الله ينهاك عن ذلك وإنما أمرك به الشيطان
فصاح به إبراهيم (عليه السلام) وقد وقف على حقيقته ويلك، إن الذي بلغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به.
فلم يدعه الشيخ بل أخذ يلح عليه ويقول: يا إبراهيم إنك إمام يقتدى بك وإنك إن ذبحته ذبح الناس أولادهم
فأعرض عنه إبراهيم (عليه السلام) وأخذ بعد العدة ويهيئ المكان لذبح ولده إسماعيل وإن هذا لهو البلاء العظيم ...
وأضجع إبراهيم (عليه السلام) ولده اسماعيل (عليه السلام) وتله للجبين.
وأخرج المدية..
فقال له ابنه اسماعيل (عليه السلام): يا أبت اشدد رباطي ووثاقي حتى لا أضطرب.
واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيء فتراه أمي.. فتشتد مصيبتها ويزداد حزنها ...
واشحذ شفرتك ...
وأسرع من السكين على رقبتي ليكون أهون علي فان الموت شديد..
فرق إبراهيم (عليه السلام) لولده وأكبره وقال له بلسان الوالد المبتلى: نعم العون أنت يا بني على أمر الله وأخذ إبراهيم (عليه السلام) المدية ووضعها على قفا ولده اسماعيل (عليه السلام) وقد كان ساجدا فقال له الذبيح: ألا تشد وثاقي يا أبتاه؟
فأجابه خليل الرحمان (عليه السلام): كلا يا بني لا أجمع عليك الوثاق والذبح وذكر إبراهيم (عليه السلام) اسم الله على ذبيحته وجر المدية على رقبة إسماعيل (عليه السلام) ...
وقد رفع خليل الرحمان رأسه إلى السماء، وهو يقول: (اللهم تقبل منا هذا القليل).
فلما جر المدية المشحوذة على رقبة الذبيح المستسلم لأمر الله...
فاذا بالمدية تنقلب على الجهة الأخرى فنظر إبراهيم (عليه السلام) فرأى جبرائيل (عليه السلام) ظاهرا أمامه وقد أبعد إسماعيل (عليه السلام) من تحت المدية ووضع كبشا مكانه..
وعندئذ جاء النداء من ميسرة مسجد الخيف:
{أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104، 105] وأمر الله تعالى خليله إبراهيم (عليه السلام) بأن يذبح الكبش العظيم فداء لولده إسماعيل (عليه السلام).
وكان الكبش ذبحا عظيما قيل بأنه رتع في رياض الجنة أربعين عاما ثم أنزله الله فدية لإسماعيل (عليه السلام).
وقيل بأنه كان ذلك الكبش الذي تقبله الله تعالى من هابيل عندما قربه قربانا.
بل وقيل في أمر الذبح غير ذلك.
فماذا قيل يا صديقي؟
قيل نقلاً عن الامام الرضا (عليه السلام) أن الله تعالى لما أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح الكبش الذي أنزله عليه مكان ابنه اسماعيل فانه (عليه السلام) تمنى أن يكون قد ذبح ابنه اسماعيل وأنه لم يؤمر بذبح ذلك الكبش مكانه يا لها من خلة يا صديقي ولكن لماذا؟ وهل يتمنى إنسان ذبح ولده؟
كلا ولكن ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح اعز ولده بیده[1]
وما حكمة ذلك؟
حكمته أن يستحق أرفع درجات أهل الثواب على المصائب فياله من عزم صادق، وبلاء مبين استحق عليه إبراهيم (عليه السلام) أن يكون للناس إماما..
نعم يا عزيزي بل إنه قيل في الذبيح أيضا كلام آخر..
كلام آخر.؟ فما هو
زعمت طائفة أن الذبيح هو إسحاق وليس اسماعيل وما دليلهم على ذلك؟
استدلوا بقوله تعالى: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112].
ولكن ما وجه الدلالة في ذلك على أنه هو الذبيح؟
قالوا: أي بشرناه بنبوة إسحاق وصبره على الذبح.
ولكنه بعيد يا صديقي والسياق لا يساعد عليه.
نعم.. هذا صحيح.
فكيف ردوا على هذه الطائفة؟
ردوا بقول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم): أنا ابن الذبيحين أي اسماعيل وعبد الله. ثم إن اسحاق (عليه السلام) لم يولد إلا بعد اسماعيل (عليه السلام) حيث بشر الله به إبراهيم (عليه السلام) بعد حادثة الذبح كما هو ظاهر من سياق آيات القرآن الكريم.
أحسنت يا أخي فلعل هذا الزعم ورد أيضا عن طريق الاسرائيليات وعسى أن يكون كذلك، فهل تركت الاسرائيليات أمرا إلا وزجت بأنفها فيه ورغم ذلك يصدقها البعض...
ولما عاد إبراهيم (عليه السلام) إلى الشام مرة أخرى استقبلته سارة بلهفة شديدة حيث كانت قد بقيت فترة طويلة وحيدة بدونه.
فبينما كان إبراهيم (عليه السلام) يقص عليها بعض ما حدث عند بيت الله الحرام...
إذا بنفر يمرون به ويلقون (عليه السلام).
فرد عليهم السلام واستضافهم.
ولما رأى منهم هيئة حسنة وتوسم فيهم فضلا فانه أبي إلا خدمتهم بنفسه.
وكان خليل الرحمان صاحب ضيافة.
فما لبث إن جاء بعجل سمين حنيذ.
ولكنه عندما قربه إليهم ووضعه بين أيديهم
رأى أيديهم لا تصل إليه.
فنكرهم وأوجس منهم خيفة..
وكان سبب خوف إبراهيم (عليه السلام) من ضيفه
إنهم كانوا في ذلك الزمان إذا هم أحدهم بامرئ سوءا لم يأكل عنده.
يقول: إذا أكرمت بطعامه حرم علي أذاه فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوءا
فاضطربت مفاصله وكانت امرأته سارة قائمة تخدمهم فضحكت، وقالت لزوجها إبراهيم (عليه السلام): ولماذا تخاف يا إبراهيم؟ وأنت هنا ومعك أهلك وغلمانك..
وعندئذ، حسر جبرائيل (عليه السلام) العمامة عن وجهه حيث كانوا ملائكة ومنهم جبرائيل (عليه السلام) فعرفه إبراهيم (عليه السلام).
فقال جبرائيل لسارة أيتها الضاحكة أما أنك ستلدين غلاما يقال له إسحاق ومن ورائه غلام يقال له يعقوب.
فارتاعت سارة وأقبلت وقد صكت وجهها.
وقالت: { أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72]
فقالوا لها: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى وقد تعرف على الملائكة المقربين.
فانه (عليه السلام) خاطبهم قائلا: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الحجر: 57]
{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ } [الحجر: 58] فسألهم: ومن هؤلاء؟
فقالوا: {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70]
فأخذ إبراهيم (عليه السلام) يجادلهم في قوم لوط
فقال لهم: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32]
فأجابوه: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32]
ولأن إبراهيم (عليه السلام) كان حليها أواها منيبا فانه مازال يجادلهم في قوم لوط.
وما زالوا هم يقولون {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31]
ولم يقطع إبراهيم (عليه السلام) جدالهم إلا أن قالوا له:
{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76] ونفذ أمر الله تعالى في قوم لوط
بينما استمر ابراهيم (عليه السلام) يحمل أعباء الرسالة ويدعو إلى التوحيد ويبلغ الوحي إلى العباد.
حتى كان ذات يوم..
فذات يوم عاد إبراهيم (عليه السلام) إلى داره...
فوجد بها رجلا حسن الصورة على هيئة جميلة ما رآها من قبل.
فقال له: من أنت يا هذا؟ وما خطبك؟
فأجابه: أنا ملك الموت
فقال إبراهيم (عليه السلام): سبحان الله ومن الذي يكره زيارتك وأنت بهذه الصورة؟
فقال له: يا خليل الرحمن إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيرا بعثني إليه في هذه الصورة وإذا أراد بعبد شرا بعثني إليه في غير هذه الصورة
فسأله إبراهيم (عليه السلام): أداع إذا أم ناع؟
فقال ملك الموت (عليه السلام): بل ناع يا إبراهيم فأجب
وكان خليل الرحمان متشوقا إلى لقاء خليله.
ولكنه قال لملك الموت فهل رأيت خليلا يميت خليله؟
فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جل جلاله.
فقال: إلهي قد سمعت بما قال خليلك إبراهيم..
فقال الله جل جلاله: يا ملك الموت، اذهب إليه وقل له: وهل رأيت حبيباً يكره
لقاء حبيبه؟
فعندئذ.. لبي إبراهيم (عليه السلام) فقبض بالشام.
سلام عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ولكن أما تحدثنا يا صديقي عن صحف إبراهيم (عليه السلام) التي ورد ذكرها في القرآن؟
نعم يا عزيزي فقد ورد في بعض الروايات أن صحف إبراهيم (عليه السلام) كانت أمثالا كلها.
فهل أوردت هذه الروايات ما جاء فيها؟
نعم بعضا من ذلك
فهلا قرأت شيئا من؟
بل تعال لنقرأه معا.. يا عزيزي أيها الملك المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فاني لا أردها وإن كانت من كافر وعلى العاقل مالم يكن معتلا أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه عز وجل وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال...
فان هذه الساعة عون لتلك الساعات.
وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث:
مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم.
وأسرع الحبيب إلى لقاء حبيبه فلم يكن قد بقي له من أمل سوى ذلك اللقاء بعد أن أراه ملكوت السماوات والأرض وأحيا له الموتى وجعل النار عليه بردا وسلاما وابتلاه بكلمات فأتمهن...
وجعله للناس إماما..
وعندما كان رسول الاسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم) في معراجه فانه مر على شيخ جالس تحت شجرة وحوله أطفال..
فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): من هذا الشيخ يا جبرئيل؟
فقال: هذا أبوك إبراهيم
قال: فمن هؤلاء الأطفال حوله؟
فقال هؤلاء أطفال المؤمنين حوله يغذيهم
فياله من كريم في الأرض وكريم في السماء.
[1] عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1، ص: 209
الاكثر قراءة في قصة النبي ابراهيم وقومه
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
