تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
علاقة نظرية الكم بفروع العلوم الطبيعية الأخرى
المؤلف:
فرينر هايزنبرج
المصدر:
الفيزياء والفلسفة ـ ثورة في العلم الحديث
الجزء والصفحة:
ص95
2025-05-14
17
ذكرنا فيما سبق أن مفاهيم العلوم الطبيعية يمكن معرفتها بوضوح من خلال علاقاتها. تم إدراك هذه الإمكانية الأول مرة في كتاب "المبادئ" لنيوتن ، ولهذا السبب بالتحديد كان التأثير الهائل لعمل نيوتن على تطور العلوم الطبيعية ككل في القرون التالية. يبدأ نيوتن كتابه "المبادئ بمجموعة من التعريفات والبديهيات المتشابكة مع بعضها بعضا بطريقة تشكل ما يمكن أن نطلق عليه نسقا مغلقاً يمكن أن نمثل كل مفهوم برمز رياضياتي ونمثل للعلاقات بين المفاهيم المختلفة لمعادلات رياضياتية برموز تضمن الصورة الرياضياتية هذه عدم حدوث أي تناقضات داخل النسق بهذه الطريقة يمكن تمثيل حركات الأجسام المختلفة تحت تأثير القوى الفعالة بحلول ممكنة لهذه المعادلات. ويمكن النظر إلى نسق التعريفات والبديهيات الذي يتم كتابته في مجموعة من المعادلات الرياضية على أنه وصف لبنية أزلية للطبيعة. هذه البنية لا تتوقف على مكان خاص أو زمان بذاته.
إن الارتباط بين المفاهيم المختلفة في هذا النسق متقاربة للغاية، بحيث لا يمكن للمرء بوجه عام أن يغير أيا منها دون تقويض دعائم النسق ككل. لهذا السبب كان يتم اعتبار نسق نيوتن لفترة طويلة نسقا نهائيا، وكانت مهمة العلماء في هذه الفترة هي التوسع في ميكانيكا نيوتن إلى مجالات أوسع من الخبرة تطورت الفيزياء، في حقيقة الأمر، وفقًا لهذا النسق على مدار نحو قرنين من الزمان.
يمكن للمرء المرور من نظرية حركة نقاط الكتلة إلى ميكانيكا الأجسام الصلبة إلى الحركات الدوارة، كما يمكنه معالجة الحركات المتصلة للسائل أو الحركات الاهتزازية لجسم مرن فقد تطورت هذه الأجزاء من الميكانيكا أو الديناميكا تدريجيًا في علاقة وثيقة مع تطور الرياضيات، بخاصة حساب التفاضل، كما خضعت النتائج لاختبار تجريبي و أصبحت الصوتيات وديناميكا السوائل جزءا من الميكانيكا، وكان تطبيق ميكانيكا نيوتن واضحا في علم آخر هو علم الفلك. لقد أدت التحسينات التي دخلت على المناهج الرياضياتية تدريجيا إلى المزيد والمزيد من الدقة في حركات الكواكب وتفاعلاتها المتبادلة، وعندما تم اكتشاف ظاهرتي الكهرباء والمغناطيسية، وتم مقارنة القوى الكهربائية أو المغناطيسية بقوى الجاذبية وآثارها على حركة الأجسام التي تم دراستها على غرار ميكانيكا نيوتن، وأخيرا، في القرن التاسع عشر، أمكن رد نظرية الحرارة إلى الميكانيكا عبر افتراض أن الحرارة تتكون فعليا من حركة إحصائية معقدة لأصغر أجزاء المادة من خلال الجمع بين مفاهيم النظرية الرياضياتية للاحتمال ومفاهيم الميكانيكا النيوتونية تمكن كل من كلوسيوس Clausius وجيبس Gibbs وبولتسيمان Boltzmann من توضيح أنه يمكن تفسير القوانين الأساسية في نظرية الحرارة باعتبارها قوانين إحصائية تنتج عن ميكانيكا نيوتن عند تطبيقها على الأنساق الميكانيكية المعقدة. حتـــى هـذه المرحلة تم اختبار البرنامج الذي وضعته الميكانيكا النيوتونية بصورة متماسكة للغاية، وأدى إلى فهم حقل واسع من الخبرة. وقد ظهرت أولى الصعوبات في مناقشات الحقل الكهرومغناطيسي في بحث فاراداي وماكسويل. فقوى الجاذبية في الميكانيكا النيوتونية تعتبر من المعطيات، وليست موضوعا يخضع لمزيد من الدراسات النظرية. ومع ذلك، فإن مجال القوة ذاته أصبح في بحث فاراداي وماكسويل موضوع للبحث؛ أراد الفيزيائيان معرفة كيف يختلف مجال القوة باعتبارها دالة عن المكان والزمان. لذلك، حاولا أن يضعا معادلات لحركة المجالات، بدلا من أن يضعا قانونا للأجسام التي تقوم عليها تلك المجالات. أدى هذا التغير مرة أخرى إلى وجهة نظر اعتنقها العديد من العلماء قبل نيوتن. فالفعل، كما بدا لهم، يمكن أن ينتقل من جسم إلى آخر فقط إذا تلامس الجسمان مع بعضهما بعضاء بالتصادم مثلاً أو بالاحتكاك.
قدم نيوتن فرضا جديدا أو غريبا للغاية عندما افترض أن القوة تعمل على مسافة طويلة. يستطيع المرء الآن من نظرية مجالات القوة أن يرجع إلى الفكرة الأقدم القائلة: إن الفعل ينتقل من نقطة إلى أخرى مجاورة، فقط من خلال وصف سلوك المجالات في حدود معادلات تفاضلية، وقد ثبت أن هذا الفعل ممكن، ومن ثم
بدا الوصف على هذا النحو الوارد في معادلات ماكسويل حلا مرضيا لمشكلة القوة. هنا قد تغير فعلا البرنامج الذي قدمته الميكانيكا النيوتونية. فقد كانت البديهيات والتعريفات التي قدمها نيوتن تشير إلى الأجسام وحركاتها، أما مجالات القوة مع ماكسويل على ما يبدو، قد اكتسبت الدرجة نفسها من الواقعية التي تعادل واقعية الأجسام في نظرية نيوتن. بطبيعة الحال لم يكن لهذا الرأي أن يقبل بسهولة، ولكن لكي نتجنب مثل هذا التغير في مفهوم الواقع بدا من المعقول مقارنة المجالات الكهرومغناطيسية بمجالات التشوه المرن أو الإجهاد - مقارنة موجات الضوء في نظرية ماكسويل بموجات الصوت في الأجسام المرنة. لذلك، اعتقد كثير من الفيزيائيين أن معادلات ماكسويل تشير فعليا إلى تشوهات الوسط المرن وأطلقوا عليه الأثير، وقد أعطى هذا الاسم لتوضيح أن الوسط على درجــة مــن الخــــة والرشاقة بحيث يمكن أن يخترق مادة أخرى دون أن نراه أو نشعر به. لم يكن هذا
التفسير مرض تماما؛ لأنه لا يفسر الغياب الكامل لأية موجات ضوء طويلة.
أظهرت أخيرا نظرية النسبية، التي ستتم مناقشتها في الفصل التالي أنه لا بد من أن نتخلى بشكل حاسم عن مفهوم الأثير باعتباره جوهرا، وهو المفهوم الذي تشير إليه معادلات ماكسويل، لا يمكننا أن نناقش هنا هذه النقطة، بيد أن النتيجة كانت ضرورة اعتبار المجالات واقعا مستقلا. ثمة نتيجة ما زالت أكثر غرابة نتجت عن نظرية النسبية الخاصة وهي اكتشاف خصائص جديدة للمكان والزمان هذه العلاقة بين المكان والزمان لم تكن معروفة، من قبل، ولم تكن موجودة في الميكانيكا النيوتونية.
وقد توصل العديد من الفيزيائيين، تحت تأثير هذا الوضع الجديد تماما، إلى نتيجة، و وإن كانت متسرعة إلى حد ما، مؤداها أنه قد تم أخيرا تفنيد الميكانيكا النيوتونية. فالواقع الأولى هو المجال وليس الجسم، وإن الوصف الصحيح لبنية المكان والزمان جاء من قبل صيغ لورنتز و آينشتين وليس من قبل بديهيات نيوتن. تقدم ميكانيكا نيوتن قيم تقريبية جيدة في حالات كثيرة، ولكن يجب إدخال تحسينات عليها لتعطى وصفا أكثر دقة للطبيعة.
إن العبارة التي توصلنا إليها أخيرا من وجهة نظر نظرية الكم تبدو وصفا فقيرا للغاية للوضع الفعلي فهي أولا تتجاهل حقيقة أن معظم التجارب التي يتم من خلالها قياس المجالات، ترتكز على الميكانيكا النيوتونية، وثانيا، إنه لا يمكن إدخال تحسينات على الميكانيكا النيوتونية، بل يمكن استبدالها بشيء مختلف تماما.
لقد تعلمنا من تطور نظرية الكم أن المرء ينبغي أن يصف الموقف في الحدود التالية، حيث يمكن استخدام مفاهيم الميكانيكا النيوتونية لوصف الوقائع فـــي الطبيعة، وأن القوانين التي صاغها نيوتن في هذا الصدد صحيحة تماما، ولا يمكن إدخال تحسينات عليها. لكننا لا يمكن وصف الظواهر الكهرومغناطيسية على نحو كاف باستخدام مفاهيم الميكانيكا النيوتونية إلا إن التجارب في المجالات الكهرومغناطيسية وموجات الضوء، جنبا إلى جنب مع التحليل النظري الذي قدمه كل من لورنتز وماكسويل وأينشتين قد أدت إلى نسق مغلق جديد من التعريفات والبديهيات والمفاهيم التي يمكن التعبير عنها برموز رياضياتية، والذي هو مترابط
بالمعنى المستخدم نفسه في نسق ميكانيكا نيوتن ولكن بطريقة مختلفة تماما.
و لذلك، لا بد من تغير تلك الأمال التي رافقت عمل العلماء منذ نيوتن. فالتقدم الواضح في العلم لا يتحقق دائما إلا باستخدام قوانين الطبيعة المعروفة لتفسير الظواهر الجديدة. ففي بعض الحالات فقط يمكن فهم الظواهر الجديدة التي تم ملاحظتها بمفاهيم جديدة تم صياغتها بحيث تتوافق مع الظواهر الجديدة بالطريقة نفسها التي صيغت بها مفاهيم نيوتن لكي تتوافق مع الوقائع الميكانيكية. مرة أخرى هذه المفاهيم الجديدة ترتبط بنسق مغلق ويتم التعبير عنها برموز رياضياتية. لكن إذا كانت الفيزياء، أو العلوم الطبيعية بوجه عام تقدمت بهذه الطريقة، فإن السؤال المثار هنا: ما العلاقة بين مجموعات مختلفة من المفاهيم؟ إذا ظهرت نفس المفاهيم نفسها أو الكلمات في مجوعتين مختلفتين، وتم تعريفها بشكل مختلف فيما يتعلق بعلاقاتها وتمثلاتها الرياضياتية بأي معنى يمكن لهذه المفاهيم أن تمثل الواقع؟
لقد برزت هذه المشكلة عند اكتشاف نظرية النسبية الخاصة، حيث ينتمي مفهومي المكان والزمان إلى كل من الميكانيكا النيوتونية ونظرية النسبية، بيد أن مفهومي الزمان والمكان كانا مستقلين في الميكانيكا النيوتونية؛ بينما مرتبطان في نظرية النسبية عن طريق تحويل لورنتز Lorenta Transformation. يمكن للمرء في هذه الحالة الخاصة أن يظهر أن عبارات نظرية النسبية تقترب من عبارات الميكانيكا النيوتونية عندما تكون سرعات النظام أقل كثيرا من سرعة الضوء. من هذا لا يمكن تطبيق المفاهيم النيوتونية على الوقائع التي تظهر فيها السرعات التي تقترب من سرعة الضوء. و ... ومن ثم يمكن للمرء، في نهاية المطاف، أن يكتشف حدودا جوهرية للميكانيكا النيوتونية، لا يمكن رؤيتها إلا من خلال مجموعة من المفاهيم المترابطة وليس من الملاحظات البسيطة للنظم الميكانيكية.
وهكذا فإن العلاقة بين مجموعتين من المفاهيم المترابطة تتطلب بحثا دقيقا جدا.
وقبل الدخول في مناقشة عامة حول بنية أي مجموعة مغلقة مترابطة من المفاهيم وعلاقاتها الممكنة، علينا أن نقدم وصفا مختصرا لهذه المجموعات من المفاهيم
المعروفة في الفيزياء. يمكن للمرء أن يميز أربعة نظم بلغت بالفعل شكلها النهائي. المجموعة الأولى هي الميكانيكا النيوتونية والتي ناقشناها بالفعل. فقد كانت مناسبة لوصف كل النظم الميكانيكة وحركة السوائل والتذبذب المرن للأجسام والتي تضم علم الصوتيات، والإستاتيكا، والديناميكا الهوائية.
أما النظام المغلق الثاني من المفاهيم فقد تشكل خلال القرن التاسع عشر في ارتباط بنظرية الحرارة. على الرغم من ارتباط نظرية الحرارة في نهاية الأمر بالميكانيكا من خلال تطور الميكانيكا الإستاتيكية، بيد أنه ليس من الواقعي أن نعتبرها جزءا من الميكانيكا. ففي حقيقة الأمر تستخدم نظرية الحرارة الظاهرياتية (الفينومنيولوجية) عددا من المفاهيم التي لا يوجد ما يقابلها في أفرع الفيزياء الأخرى، مثل الحرارة، والحرارة النوعية و الأنتروبي، والطاقة الحرة وهلم جرا. فإذا استطاع المرء أن ينتقل من هذا الوصف الظاهرياتي إلى التفسير الإحصائي، وذلك باعتبار الحرارة ،طاقة، تتوزع إحصائيا بين عدد كبير جدا من درجات الحرية التي ترجع إلى البنية الذرية للمادة، عندئذ لا يكون ثمة ارتباط بين الحرارة و الميكانيكا ليس أكثر من ارتباط بالديناميكا الكهربائية أو بأي أجزاء أخرى في الفيزياء. إن المفهوم الأساسي في هذا التفسير هو مفهوم الاحتمالية، الذي يرتبط، بشكل وثيق، بمفهوم الأنتروبيا في النظرية الظاهرياتية. بالإضافة إلى هذا المفهوم، تحتاج النظرية الإحصائية للحرارة مفهوم الطاقة. بيد أن أية . مجمو عة مترابطة من البديهيات والمفاهيم في الفيزياء تحوي بالضرورة مفاهيم الطاقة، وكمية الحركة وكمية الحركة الزاوية والقانون، حيث يتم حفظ هذه المقادير وفق شروط محددة. وهذا يحدث بالضرورة إذا كانت هذه المجموعة المترابطة عازمة على وصف الخصائص المحددة للطبيعة التي هي صحيحة في كل وقت وفي كل مكان.
بعبارة أخرى، لا تتوقف هذه السمات على المكان والزمان، أو – كما يقول الرياضيون - تظل هذه السمات ثابتة تحت التحولات التحكمية في المكان والزمان و الدورانات في المكان وتحولات جاليليو - أو لورنتز - ومن ثم، يمكن الجمع بين نظرية الحرارة وأي نظام مغلق آخر من المفاهيم.
نجد أصول النظام المغلق الثالث للمفاهيم و البديهيات في ظاهرتي الكهرباء و المغناطيسية، حيث بلغ هذا النظام صورته النهائية في العقد الأول من القرن العشرين من خلال أعمال لورنتز و آينشتين و منيكوفسكي، حيث يضم هذا النظام، الديناميكا الكهربائية، والنسبية الخاصة، والبصريات والمغناطيسية، ويمكن أن يضم المره نظرية بروى عن موجات المادة المواكبة لكل الضروب المختلفة للجسيمات الأولية، ولكن لا يمكن ضم النظرية الموجية لشرود نجر.
في نهاية المطاف، يأتي النظام المترابط الرابع الذي هو أساسا نظرية الكسم التي وصفناها في أول فصلين فالمفهوم الأساسي هو مفهوم دالة الاحتمال، أو المصفوفة الإحصائية، كما يطلق عليها علماء الرياضيات. فهي تضم الميكانيكا الكمية والموجية، ونظرية الأطياف الذرية، والكيمياء ونظرية الخصائص الأخرى للمادة الموصلية الكهربائية، المغناطيسية الحديدية وهلم جرا.
يمكن توضيح العلاقة بين هذه المجموعات الأربع من المفاهيم بالطريقة التالية: حيث تتضمن المجموعة الأولى من الثالثة، كحالة حدية حيث يمكن اعتبار عة الضوء لا متناهية في الكبر، وتتضمن في المجموعة الرابعة كحالة حدية حيث يمكن اعتبار ثابت بلانك لا متناهيا في الصغر. تنتمي المجموعة الأولى والثالثة جزئيا إلى المجموعة الرابعة باعتبارها معرفتين قبليتين لوصف التجارب. ويمكن أن ترتبط المجموعة الثانية مع أي من المجموعات الثلاث الأخرى دون أدنى صعوبة حيث تستمد أهميتها من علاقتها بالمجموعة الرابعة هذا الوجود المستقل للمجموعتين الثالثة والرابعة يفترض وجود مجموعة خامسة، حيث تعتبر المجموعات الأولى والثالثة والرابعة حالات حدية لها ربما نجد هذه المجموعة الخامسة يوما ما مرتبطة بنظرية الجسيمات الأولية.
لقد أسقطنا من هذه القائمة. مجمو رعة المفاهيم المرتبطة بنظرية النسبية العامة، ذلك لأن هذه المجموعة لم تبلغ بعد صورتها النهائية. لكن علينا أن نؤكد أنها تختلف اختلافا تاما عن المجموعات الأربعة الأخرى.
يمكن أن نعود بعد هذه النظرة العابرة إلى السؤال الأكثر عمومية وهو، ما الذي يجب أن نعتبره سمات مميزة للنسق المغلق من البديهيات والتعريفات؟ ربما كان أهم ملمح هو احتمالية إيجاد تمثيل رياضياتي منسق له. يضمن هذا التمثيل عدم وجود تناقضات في هذا النسق، ومن ثم يجب على هذا النسق أن يصف مجالاً واسعا من الخبرة. هذا التنوع الهائل من الظواهر في هذا المجال يجب أن يتطابق مع عدد كبير من حلول المعادلات في التمثيل الرياضيائي لا يمكن أن نستنتج بوجه عام من هذه المفاهيم مدى قصور هذا المجال، فالمفاهيم ليست معرفة بشكل دقيق في علاقتها بالطبيعة رغم التعريف الدقيق لعلاقاتها الممكنة. سيتم التعرف على هذا القصور من الخبرة من حقيقة أن المفاهيم لا تسمح بوصف كامل للظواهر الملاحظة بعد هذا التحليل الموجز لبنية الفيزياء المعاصرة يمكن أن نناقش العلاقة بين الفيزياء وغيرها من العلوم الطبيعية تعد الكيمياء هي أقرب الجيران إلى الفيزياء، ففي حقيقة الأمر فإن هذين العلمين قد وصلا، من خلال نظرية الكم، إلى وحدة مكتملة إلا إنهما انفصلا منذ مائة عام مضت، فقد كان منهجهما في البحث مختلفا تماما، وكانت مفاهيم الكيمياء في ذلك الوقت لا تجد ما يناظرها في الفيزياء. فقد كانت مفاهيم من قبيل التكافؤ، والفاعلية، والقابلية للذوبان، وسرعة التبخر لها خاصية ،كيفية، ومن ثم كان من الصعوبة بمكان أن تتدرج الكيمياء ضمن العلوم الدقيقة، وعندما تطورت نظرية الحرارة في منتصف القرن الماضي بدأ العلماء في تطبيقها على العمليات الكيميائية، ومنذ ذلك الحين تم تحديد البحث العلمي في هذا المجال بالتطلع إلى رد قوانين الكيمياء إلى ميكانيكا الذرات. ومع ذلك علينا أن نؤكد أن هذا لم يكن ممكنا داخل إطار الميكانيكا النيوتونية. و لكي نقدم وصفا كيفيا لقوانين الكيمياء كان يجب على المرء أن يصيغ سقا رحبا من المفاهيم في الفيزياء الذرية. وهذا ما تم إنجازه بالفعل في نظرية الكم نهاية المطاف، وهي النظرية التي استمدت جذورها من الكيمياء مثلما استمدت جذورها أيضا من الفيزياء الذرية. لذا كان من السهولة بمكان أن نرى أنه من غير الممكن أن نرد قوانين الكيمياء إلى ميكانيكا نيوتن للجسيمات الذرية، ذلك لأنه يتبدى عن سلوك العناصر الكيميائية درجة من الثبات لا يتوفر بشكل كامل في الأنساق الميكانيكية. هذه النقطة لم تكن مفهومة تماما إلا في إطار نظرية بور للذرة عام 1913. لهذا يمكن أن ننتهي إلى القول إن مفاهيم الكيمياء هي جزء متمم للمفاهيم الميكانيكية. فإذا ما عرفنا أن الذي يحدد الخصائص الكيميائية لذرة ما هو الحد الأدنى من ثباتها، عندئذ لا يمكننا الحديث، في الوقت نفسه، عن حركة الإلكترونات في الذرة.
من جانب آخر قد تكون العلاقة بين البيولوجيا والفيزياء والكيمياء شبيهة جدا بتلك العلاقة التي كانت منذ مائة عام مضت بين الكيمياء والفيزياء. فمناهج البيولوجيا تختلف عن تلك المناهج في الفيزياء والكيمياء، كما أن المفاهيم البيولوجية النموذجية لها خاصية كيفية، مقارنة بمفاهيم العلوم الدقيقة. فمفاهيم مثل الحياة، العضو والخلية ووظيفة العضو والإدراك الحسي ليس لها نظير في الفيزياء أو الكيمياء. من جهة أخرى، معظم التقدم الذي تحقق في البيولوجيا خلال الأعوام المائة الأخيرة جاء جراء تطبيق الكيمياء والفيزياء على حياة الكائن الحي، وإن هدف البيولوجيا في عصرنا هو تفسير الظواهر البيولوجية على أساس القوانين الفيزيائية والكيميائية المعروفة، مرة أخرى يبزغ سؤال وهو ما إذا كان ثمة تبرير لهذا الأمل. وكما هو الحال في الكيمياء، يمكن للمرء أن يتعلم من الخبرة البيولوجية البسيطة أن الكائنات الحية تكشف عن درجة في الثبات التي لا تتوفر في البنيات العامة المعقدة التي تتكون من أنواع عديدة مختلفة من الجزيئات على أساس القوانين الفيزيائية والكيميائية وحدها، ومن ثم يمكن إضافة قوانين الفيزياء والكيمياء في بعض الأحيان قبل أن نصل إلى فهم كامل للظاهرة البيولوجية. فيما يتعلق بهذا السؤال تم مناقشة وجهتين مختلفتين من النظر في الأدبيات البيولوجية، تشير وجهة النظر الأولى إلى نظرية دارون Darwin) في التطور وعلاقتها يعلم الوراثة الحديث إن المفهوم الوحيد، وفق هذه النظرية، الذي يمكن إضافته إلى مفاهيم الفيزياء والكيمياء لفهم الحياة، هو مفهوم التاريخ، إن الحقبة الزمنية الهائلة، التي تبلغ نحو أربعة ملايين عاما والتي مرت منذ تكوين الأرض، قد أتاحت للطبيعة إمكانية تجريب هذا التنوع اللامحدود لبنيات مجموعة من الجزيئات. كان هناك بين هذه البنيات مجموعة استطاعت أن تنسخ نفسها باستخدام مجموع صغيرة من المادة المحيطة، ومن ثم تمكنت هذه البنيات من التكاثر بأعداد هائلة. وقد وفرت التغيرات العرضية في البنيات تنوعًا كبيرا في البنيات الموجودة. راحت البنيات المختلفة تتنافس على المادة المستمدة من البيئة المحيطة من خلال طريقة "البقاء للأصلح، ومن ثم حدث في نهاية المطاف تطور الكائنات الحية. لا شك أن هذه النظرية تحمل قدرا كبيرا جدا من الصدق، ويدعي العديد من البيولوجيين أن إضافة مفهومي التاريخ والتطور إلى مجموعة مترابطة من مفاهيم الفيزياء و الكيمياء بعد كافيا لتفسير كل الظواهر البيولوجية. وإحدى الحجج التي تستخدم مرارا وتكرارا لدعم هذه النظرية هي أن قوانين الفيزياء والكيمياء التـي تــم اختبارها في الكائنات الحية كانت صحيحة وهكذا يبدو بوضوح أن ليس ثمة مكان الوجود قوة حيوية تختلف عن قوى الفيزياء.
من جهة أخرى، فإن هذه الحجة بالذات فقدت الكثير من أهميتها بسبب نظرية الكم، فإذا كانت مفاهيم الفيزياء والكيمياء تشكل مجموعة مغلقة ومترابطة، أعنى نظرية الكم، لذا من الضروري عند استخدام مفاهيم لوصف الظواهر، أن تكون القوانين المرتبطة بهذه المفاهيم صحيحة أيضا، لذلك، عندما تعالج الكائنات الحية على أنها أنظمة فيزيوكيميائية، فضروري أن نتصرف بهذه الطريقة. إن السؤال الوحيد الذي يمكن أن يعلمنا شيئا ما عن مدى ملائمة هذه الوجهة من النظر، أن نعرف ما إذا كانت المفاهيم الفيزيوكيميائية تسمح بوصف الكائنات الحية أم لا أجاب البيولوجيون عن هذا السؤال بالنفي، وتمسكوا بوجهة النظر هي الأخرى التي سنعرض تفسيرها في التو.
ربما نعبر عن وجهة النظر الثانية بالمصطلحات التالية: من الصعوبة بمكان أن نرى كيف يمكن لمفاهيم من قبيل الإدراك الحسي، ووظيفة العضو، و العاطفة باعتبارها جزءا من مجموعة مترابطة من مفاهيم نظرية الكم مضافا إليها مفهوم التاريخ من جهة أخرى، هذه المفاهيم تعد ضرورية لوصف متكامل للحياة، حتى لو استثنينا في هذه اللحظة الجنس البشري كونه يثير إشكاليات جديدة تتجاوز البيولوجيا. لذلك كان من الضروري لفهم الحياة أن نذهب فيما وراء نظرية الكـــم ونشيد مجموعة جديدة مترابطة من المفاهيم يمكن أن تنتمي إليها الفيزياء والكيمياء باعتبارها حالات حدية. ويمكن للتاريخ أن يكون جزءاً جوهريا منها، فضلاً عن مفاهيم الإدراك الحسي والتكيف والعاطفة، إذا كانت هذه الوجهة من النظر صحيحة فإن الجمع بين نظرية دارون والفيزياء والكيمياء لا يعد كافيا لتفسير الحياة العضوية، ولكن قد يكون صحيحا، إلى حد كبير، أن نعتبر الكائنات الحية- باعتبارها أنظمة فيزيوكيميائية - مجرد ،آلات، كما يقول ديكارت ولابلاس Laplace) - وأنها ستستجيب لذلك إذا تم معالجتها بهذه الطريقة، يمكننا أن نفترض في الوقت نفسه أن معرفتنا بالخلية الحية قد تكون متممة لمعرفة كاملة يبنيتها الجزيئية، وهذا ما افترضه بور. ولما كان الوصول إلى هذه المعرفة الكاملة لهذه البنية إلا بالقضاء على الخلية الحية، فمن الممكن منطقيا أن تحول الحياة دون التحديد الكامل للبنية الفيزيوكيميائية الضمنية. حتى لو اعتنقنا وجهة النظر الثانية، فلن نوصى على الأرجح، باتباع منهج آخر في البحث البيولوجي غير المنهج المتبع في العقود الماضية محاولة تفسير أكبر قدر ممكن على أساس القوانين الفيزيو كيميائية المعروفة، ووصف سلوك الكائنات بدقة دون تحيزات نظرية
يعتنق معظم البيولوجيين المحدثين وجهة النظر الأولى أكثر من الثانية، بيد أن الخبرة المتاحة في الوقت الحاضر ليست كافية أن نحسم الأمر فيما يتعلق بهاتين الوجهتين من النظر. أما تفضيل العديد من البيولوجيين لوجهة النظر الأولى يعود ثانية إلى الثنائية الديكارتية التي اخترقت بعمق العقل البشري خلال القرون الماضية. فلما كان الشيء المفكر يقتصر على الإنسان على "الأنا"، وبالتالي لا يكون للحيوانات ،روح وتنتمي بشكل كامل إلى "الشيء الممتد. لذلك، يمكن فهم الحيوانات عموما، كما تقول الحجة بالمصطلحات نفسها التي نفهم بها المادة، وإن الجمع بين قوانين الفيزياء والكيمياء معا ومفهوم التاريخ أيضا، يصبح كافيا لتفسير سلوكها، ولا يظهر وضع جديد يستوجب مفاهيم جديدة تماما إلا عندما يتدخل الشيء المفكر. إلا إن الثنائية الديكارتية تعد إفراطا في التبسيط يؤدي إلى مخاطر جسيمة، لذا من الممكن أن تكون وجهة النظر الثانية صحيحة.
بعيدا عن هذا السؤال، الذي لم نحسمه ،بعد فإننا ما زلنا بعيدين، بشكل واضح، عن مجموعة المفاهيم المغلقة والمترابطة لوصف الظواهر البيولوجية، إن درجة التعقيد في البيولوجيا تثبط الهمم لدرجة أننا لا يمكن أن نتصور أي مجموعة من
المفاهيم يمكن أن تحدد، بشكل قاطع العلاقات التي تسمح بالتمثيل الرياضياتي. فإذا ما ذهبنا لأبعد من البيولوجيا وأضفنا علم النفس إلى هذا النقاش، عندئذ ينتفي أي شك من أن مفاهيم الفيزياء والكيمياء والتطور لا تكفي لوصف الوقائع. فيما يتعلق بهذه النقطة فقد غيرت نظرية الكم اتجاهنا إزاء المعتقدات التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر. ففي تلك الحقبة كان يميل بعض العلماء إلى الاعتقاد في تفسير الظواهر النفسية على أساس فيزياء وكيمياء المخ. ليس ثمة مبرر لمثل هذا الافتراض من وجهة النظر الكمية النظرية. وعلى الرغم من أن الوقائع الفيزيائية التي تحدث في المخ تنتمي إلى ظواهر نفسية؛ فإننا لا نشك البتة في أن المخ يعمل كالية سيكوكيميانة (نفس) (كيميائية) إذا تم التعامل معه على هذا النحو؛ ولكي نفهم الظواهر النفسية علينا أن نبدأ من حقيقة أن العقل البشري يدخل باعتباره موضوعا وذاتا معا في العملية العلمية لعلم النفس.
فإذا ما عدنا إلى مجموعات المفاهيم المختلفة التي تشكلت في الماضي أو التي ربما تتشكل في المستقبل في محاولة إيجاد طريقنا في هذا العالم عبر وسائل العلم، فإننا سنجد أنها مرتبة بحسب أهمية الدور الذي يلعبه العنصر الذاتي في هذه المجموعة. يمكن اعتبار الفيزياء الكلاسيكية صورة نتحدث بها عن العالم باعتباره شيئا منفصلاً تماما عن ذواتنا تطابق المجموعات الأولى من المفاهيم هذه الصورة المثالية، بحيث تتفق المجموعة الأولى وحدها مع "القبلية" في فلسفة كانط. أما في المجموعة الرابعة مجموعة نظرية الكم، فيدخل الإنسان باعتباره موضوعا في العلم من خلال الأسئلة التي توجه للطبيعة بمصطلحات قبلية العلوم الإنسانية. لا تسمح نظرية الكم بالوصف الموضوعي الكامل للطبيعة، وربما من الأهمية بمكان لفهم البيولوجيا فهما كاملا أن يطرح الإنسان مثل هذه الأسئلة حيث ينتمي هو ذاته، باعتباره جنساء إلى الكائنات الحية، بعبارة أخري، أن نعرف بالفعل ماهية الحياة قبل أن نفرد لها تعريفا علميا، ولكن ربما يتعين علينا أن لا ندخل في تأملات عن البنية المحتملة المجموعات المفاهيم التي لم تتشكل بعد.
فإذا ما أجرينا مقارنة بين النظام والتصنيفات الأقدم التي تنتمي إلى الحقب المبكرة من العلوم الطبيعية، فسترى أننا قد قسمنا العالم لا إلى مجموعات مختلفة من الأشياء، ولكن إلى مجموعات مختلفة من العلاقات. فقد كنا نميز، على سبيل المثال في حقبة العلم القديم مجموعات مختلفة من المعادن والنباتات والحيوانات و البشر. كان يتم اعتبار هذه الأشياء حسب مجموعتها ذات طبائع مختلفة، مصنوعة من مواد مختلفة، ويتجدد سلوكها وفق قوى مختلفة. إلا إننا نعرف الآن أنها جميعا عة محسنو من المادة نفسها، المركبات الكيميائية المختلفة نفسها التي من الممكن أن تدخل في أي شيء في المعادن كما في الحيوانات أو النبات؛ فضلا عن أن هذه القوى التي تعمل بين الأجزاء المختلفة للمادة هي في نهاية المطاف، القوى نفسها التي تعمل في كل نوع على حدة. أما ما يمكن تمييزه هو نوع العلاقة ذات الأهمية ظاهرة معينة. فعندما نتحدث مثلا عن فعل القوى الكيميائية، إنما نعنى نوعا من العلاقة الأكثر تعقيدا أو حالة مختلفة عن تلك التي تم تفسيرها وفق الميكانيكا النيوتونية. يبدو العالم إذن نسيجا معقدا من الوقائع التي تتعاقب فيها أو تتداخل أو تضم أنواعا مختلفة من العلاقات التي تحدد جوهر الكل.
عندما تمثل مجموعة من العلاقات عبر مجموعة مغلقة ومترابطة من المفاهيم، والبديهيات والتعريفات والقوانين التي بدورها يعاد تمثيلها بنهج رياضياتي، فإننا في حقيقة الأمر، نعزل هذه المجموعة من العلاقات ونجعلها مثالية بهدف توضيحها، ولكننا حتى عندما نحقق بهذه الطريقة توضيحا كاملا، لا نعرف مدى دقة هذه المجموعة من المفاهيم التي تصف الواقع.
يمكن أن نعتبر هذه المثاليات جزءا من اللغة البشرية التي تشكلت من العلاقة التفاعلية بيننا وبين العالم، ومن استجابات الإنسان لتحدى الطبيعة. يمكن أن نقارن في هذا الصدد بين أساليب الفن المختلفة، لنقل مثلا فن العمارة والموسيقي. يمكن أيضا أن نتعرف على أسلوب الفن من خلال مجموعة من القواعد الصورية المطبقة على مادة هذا الفن بالذات ربما لا يكون في مقدورنا تمثيل هذه القواعد بالمعنى الدقيق، بمجموعة من المفاهيم الرياضياتية والمعادلات، بل من خلال عناصرها الجوهرية التي لها صلة قوية بالعناصر الجوهرية للرياضيات. فالتساوي والتباين والتكرار والتطابق وبنيات مجموعة محددة، كلها تلعب دورا جوهريا في كل من الفن والرياضيات. عادة ما نحتاج عدة أجيال لتطوير هذا النسق الصوري الذي يطلق عليه، فيما بعد الأسلوب الفني لتطوير هذا الأسلوب الفني من بداياته البسيطة وحتى الصور المتقنة الغنية التي ميزت كمال هذا الأسلوب. يتركز اهتمام الفنان على عملية البلورة، حيث تتخذ مادة الفن، بفضل فعل الفنان ذاته، صورا متنوعة تتولد من المفاهيم الصورية الأولى لهذا الأسلوب، وما إن يكتمل هذه العملية يبدأ الاهتمام في التناقص، لأن "الاهتمام" يعني أن تنحاز إلى شيء ما، أن تشارك في عملية الحياة حتى تبلغ هذه العملية غايتها في النهاية يمكن هنا أن نطرح سؤالاً مرة أخرى، وهو إلى أي مدي تمثل القواعد الصورية لهذا الأسلوب الفني واقع الحياة الذي يهدف إليه الفن؟ لا يمكن أن نقطع أن الفن قادرا على تقرير ذلك من خلال القواعد الصورية. إن الفن دائما مثاليا ؛ والمثال يختلف عن الواقع - على الأقل يختلف عن واقع الظلال، كما كان يقول أفلاطون - بيد أن المثالية ضرورية لعملية الفهم.
قد تبدو المقارنة بين مجموعات المفاهيم المختلفة في العلوم الطبيعية مع الأساليب المختلفة في الفن، بعيدة للغاية عن الصدق بالنسبة لهؤلاء الذين يعتبرون أساليب الفن هي نتاجات يحكمها العقل البشري لهذا يذهب هؤلاء إلى القول، إن هذه المجوعات المختلفة من المفاهيم في العلوم الطبيعية، والتي تمثل الواقع الموضوعي، تعلمناها من الطبيعة فهي ليست تحكمية على الإطلاق، فضلا عن كونها نتيجة ضرورية للزيادة التدريجية لمعرفتنا التجريبية بالطبيعة. فيما يتعلق بهذه النقطة يتفق معظم العلماء؛ ولكن هل الأساليب المختلفة للفن هي نتاج تحكمي للعقل البشري؟ لا يجب هنا أن تضللنا مرة أخرى الثنائية الديكارتية. ينشأ التفاعل بيننا وبين العالم، أو بشكل أكثر تحديدا، بين روح العصر والفنان، ربما تكون روح العصر حقيقة موضوعية مثل أية حقيقة في العلوم الطبيعية، تجلب هذه الروح سمات محددة للعالم، مستقلة عن الزمن، وهي بهذا المعنى أزلية. يحاول الفنان من خلال عمله أن يجعل هذه السمات قابلة للفهم، وهذه المحاولة هي التي تؤدي به إلى صور الأسلوب الفني الذي يعمل وفقا لها.
وعلى هذا فإن العمليتين عملية العلم وعملية ،الفن، لا يختلفان كثيرا. فكلاهما يشكل عبر القرون اللغة البشرية التي نستطيع من خلالها التحدث عن أكثر الأجزاء بعدا عن الواقع، فضلاً عن أن مجموعة المفاهيم المترابطة، بالإضافة إلى الأساليب المختلفة للفن، هي كلمات أو مجموعة كلمات في هذا اللغة.