تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
نظرية الكم وجذور العلوم الذرية
المؤلف:
فرينر هايزنبرج
المصدر:
الفيزياء والفلسفة ـ ثورة في العلم الحديث
الجزء والصفحة:
ص63
2025-05-12
26
يعود مفهوم الذرة إلى أبعد بكثير من بداية العلم الحديث في القرن السابع عشر، حيث تمتد أصوله إلى الفلسفة اليونانية القديمة، فقد تم تدشين المفهوم الرئيسي للمادية في تلك الحقبة المبكرة من قبل لوقيبوس Leucippus وديمقريطس Democritus من جهة أخرى، فإن التفسير الحديث للوقائع الذرية لا يكاد يتشابه مع الفلسفة المادية الحقيقية، بل يمكن القول إن الفيزياء الذرية انحرفت بالعلم بعيدا عن النزعة المادية في غضون القرن التاسع عشر. لذلك سيكون من المفيد أن نقارن تطور الفلسفة اليونانية نحو مفهوم الذرة مع الوضع الحالي لهذا المفهوم في الفيزياء الحديثة.
ظهرت لأول مرة فكرة أصغر وحدة بناء لا تنقسم من المادة مرتبطة بتطوير مفاهيم المادة والوجود والصيرورة، التي ميزت الحقبـة الأولــى للفلسفة اليونانية، هذه الحقبة التي بدأت في القرن السادس ق.م. مع طاليس Thales مؤسس المدرسة الملطية، الذي نسب إليه أرسطو عبارته إن الماء أصل كل الأشياء. على الرغم من هذه العبارة تبدو غريبة بالنسبة لنا؛ فإنها تعبر، كما أعرب عن ذلك نيتشه، عن ثلاث أفكار أساسية في الفلسفة الأولى، السؤال عن العلة المادية للأشياء، الثانية الحاجة إلى الإجابة عن هذا السؤال بطريقة تتوافق مع المنطق العقلاني ودون اللجوء إلى الأساطير أو التصوف، الثالثة المسلمة القائلة بأنه لا بد من أن نتمكن، في نهاية المطاف أن نرد كل شيء إلى مبدأ واحد. كانت عبارة طاليس أول تعبير عن فكرة الجوهر الأولى الذي تصدر عنه كل الأشياء العابرة الأخري، بالتأكيد، إن كلمة الجوهر في هذا العصر لم تكن تفسر بالمعني المادي الخالص الذي نعزوه إليها في كثير من الأحيان اليوم، كانت الحياة مرتبطة أو كامنة في هذا "الجوهر". فقد نسب أرسطو أيضا لطاليس قوله "إن كل الأشياء مليئة بالآلهة ما زلنا في سياق السؤال الذي طرح عن العلة المادية لكل الأشياء، أنه ليس من الصعوبة أن نتصور أن طاليس قد أخذ بهذه الوجهة من النظر لاهتمامه في المقام الأول بالأرصاد الجوية، نعرف أن الماء من بين كل الأشياء الذي يتخذ أشكالا متنوعة، فقد يتخذ في الشتاء صورة الثلج أو الجليد، ويمكن أن يتحول إلى بخار، ويمكن أن يتشكل ليأخذ شكل السحب، ويبدو أنه يتحول إلى تراب حيث تشكل الأنهار دلتاه، فضلا عن كونه ينبع من الأرض. إن الماء شرط الحياة، لذلك، فإذا كان ثمة جوهر أولى، فمن الطبيعي أن نفكر في الماء أولا.
لقد تم دفع الجوهر الأولى للأمام عن طريق أنكسيماندر Anaximander، الذي كان تلميذا لطاليس وعاش في المدينة نفسها أنكر أنكسيماندر أن يكون الجوهر الأولى الماء أو أيا من الجواهر المعروفة ، قال بأن الجوهر الأول هو اللانهائي، الأبدي السرمدي الذي يحوي العالم، هذا الجوهر الأولى يتحول إلــى جواهر أخري مألوفة بالنسبة لنا يورد ثيوفراستوس () اقتباس من أنكسيماندر يقول فيه: إن الأشياء تتحلل مرة أخرى إلى الشكل الذي نشأت عنه، هذا قدرها، ذلك لأنها تعوض وترضي بعضها بعضا تكفيرا عن ما ارتكبته من ظلم وفقا للترتيب الزمني". سنجد في هذه الفلسفة أن نقيض الوجود والصيرورة يلعب الدور الرئيسي، حيث ينحل الجوهر الأول اللانهائي والسرمدي الوجود اللامتمايز إلى أشكال عديدة والتي بدورها تؤدي إلى صراعات لا تنتهي. تعتبر عملية الصيرورة نوعا من المهانة للوجود اللامتناهي - ينحل إلى الصراع السرمدي الذي يتم التكفير عنه بالعودة إلى صورة هلامية دون شكل أو صفة.
إن الصراع المعني هنا هو صراع بين الساخن والبارد، بين النار والماء بين الرطب والجاف وهلم جرا. أما الانتصار المؤقت لأحدهما على الآخر يكمن في الظلم الذي يجعلهم في نهاية المطاف يقدمون إصلاحا في تسلسل زمني. وفقا لأنكسماندر، هناك حركة أزلية، خلق وفناء للعوالم من اللامتناهي إلى اللامتناهي.
قد يكون من المثير للاهتمام أن نلاحظ في هذه المرحلة أن مشكلة ما إذا كـــان الجوهر الأول أحد الجواهر المعروفة، أم لا بد من أن يكون شيئا مختلفا تماما - تظهر هذه المشكلة في صورة مختلفة في الجزء الأكثر حداثة في الفيزياء الذرية. يحاول الفيزيائيون اليوم إيجاد قانون أساسي لحركة المادة بحيث يمكن أن نستمد منه رياضيا كل الجسيمات الأولية وخصائصها، ربما تشير هذه المعادلة الأساسية للحركة إلى موجات من نوع معروف موجات بروتون و ميزون، أو إلى موجات ذات طابع مختلف أساسا، لا علاقة له بأي موجات معروفة أو جسيمات أوليــــة. يعني هذا في الحالة الأولى أن كل الجسيمات الأولية الأخرى يمكن ردها بطريقة ما إلى أنواع قليلة من الجسيمات الأولية "الجوهرية". اتبعت الفيزياء النظرية، في حقيقة الأمر، خلال العقدين الماضيين هذا النوع من البحث. أما في الحالة الثانية يمكن رد كل الجسيمات الأولية المختلفة إلى جوهر كلي ما نطلق عليه الطاقة أو المادة. ولكن لا أحد من الجسيمات الأولية يمكن أن يفضل نفسه على الآخرين كونه أكثر جوهرية، هذا الرأي الأخير يتطابق بطبيعة الحال، مع عقيدة أنكسيماندر. وأنا على قناعة من صحة وجهة النظر هذه في الفيزياء الحديثة، بل دعونا الآن نعود إلى الفلسفة اليونانية.
أما ثالث الفلاسفة الملطيين، فكان أنك سيمينس Anaximenes، زميل أنا كسيما ندر، من تعاليمه أن الهواء هو الجوهر الأولى، فإذا كانت نفوسنا، وهي هواء، مصدر وحدتنا، فإن النسمة والهواء تطوقان العالم بأسره، يقدم أنكسيمينس فكرة في الفلسفة الملطية مؤداها أن عملية التكثيف والخلخلة تسبب تحول الجوهر الأول إلى مواد أخري كان تكثيف بخار الماء إلى سحب هو المثال الواضح، بطبيعة الحل لم يكن يعرف الفرق بين بخار الماء والهواء في ذلك الوقت.
يشغل مفهوم الصيرورة مكانا رئيسيا في فلسفة هرقليطس Heraclitus الذي ينتمي إلى مدينة أفسوس، فقد اعتبر أن ما يتحرك، النار، هو العنصر الجوهري، وتكمن الصعوبة هنا في محاولة التوفيق بين فكرة المبدأ الجوهري الواحد والتنوع اللانهائي من الظواهر ، كان الحل بالنسبة له الاعتراف أن صراع الأضداد هو في حقيقة الأمر نوعا من الانسجام. لأول وهلة، يبدو العالم بالنسبة لهرقليطس واحد ومتعدد، هو مجرد توتر معاكس " من الأضداد وهو ما يشكل وحدة الواحد، يقول: يجب أن نعرف أن الحرب عامة تسري على كل شيء، وأن الصراع هو العدالة، وأن جميع الأشياء تأتي إلى حيز الوجود وتزول بالصراع".
إذا ما عدنا إلى الوراء للنظر في تطور الفلسفة اليونانية في هذه اللحظة، سيدرك المرء أنها كانت تحمل، منذ بدايتها وحتى هذه الحقبة، توترا بين الوحدة والكثرة. يتكون العالم بالنسبة لحواسنا، من تنوع لانهائي من الأشياء والأحداث والألوان والأصوات، ولكي نفهم هذا علينا أن نقدم نوعا ما من النظام، والنظام يعني أن ندرك ما هو متساو، يعني نوعا من الوحدة من هنا ينبثق الاعتقاد أن ثمة مبدأ جوهريًا واحدا، وفي الوقت نفسه هناك صعوبة أن ينبثق عن هذا الواحد التنوع اللانهائي من الأشياء. إن وجود علة مادية لكل الأشياء كان نقطة بداية طبيعية لأن العالم يتألف من مادة. بيد أن المرء الذي يتحمل فكرة الوحدة الجوهرية إلى مداها المتطرف فإنه يصل إلى الوجود اللانهائي الأزلي اللامتميز، وبالتالي لا يستطيع بذاته سواء كان ماديا أم لا - أن يفسر التنوع اللانهائي للأشياء، وهذا أدي بدوره إلى التضاد بين الموجود والصيرورة، وفي نهاية المطاف جاء حل هرقليطس وهو أن التغير في ذاته هو المبدأ الجوهري، أو كما قال عنه صفوة الشعراء: التغير الخالد الذي يجدد العالم "، إلا إن التغير في حد ذاته ليس علة مادية وبالتالي تمثل النار في فلسفة هرقليطس عنصرًا جوهريا، فالنار هي المادة وهي القوة المحركة معا. قد نلاحظ في هذه المرحلة أن الفيزياء الحديثة، بطريقة ما، تقترب للغاية من عقائد هرقليطس، فإذا ما استبدلنا بكلمة "النار " كلمة "الطاقة". فربما كررنا عباراته كلمة كلمة من وجهة نظرنا الحديثة، فالطاقة في حقيقة الأمر جوهر، والذي منه تصنع كل الجسيمات الأولية وكل الذرات ومن ثم كل الأشياء، والطاقة هـي التــي تتحرك، الطاقة جوهر، لأن مقدارها لا يتغير ومن الممكن بالفعل أن تتكون الجسيمات الأولية من هذا الجوهر كما وجدنا في العديد من التجارب على تخليق الجسيمات الأولية من الممكن تحويل الطاقة إلى حركة وإلى حرارة وإلى ضوء وإلى جهد، يمكن أن نطلق على الطاقة بأنها العلة الجوهرية لكل تغير في العالم بيد أن مناقشة هذه المقارنة بين الفلسفة اليونانية وأفكار العلم الحديث ستكون لاحقا. عادت الفلسفة اليونانية في فترة ما إلى مفهوم الواحد في تعاليم بارميندس Parmenides الذي عاش في إيليا جنوب إيطاليا كانت مساهمته الأكثر أهمية بالنسبة للفكر اليوناني، أنه قدم حجة منطقية خالصة في الميتافيزيقا. لا يمكن للمرء معرفة اللاوجود لأنه مستحيل، ولا يمكنه التعبير عنه باللغة، ذلك أن ما يمكن التفكير فيه هو ما يوجد إذن، الذي يوجد فقط هو الواحد ولا يوجد ثمة صيرورة أو فناء، رفض بارميندس وجود الفراغ لأسباب منطقية. ولما كان كل تغير يتطلب فراغا، كما يفترض، فقد رفض أن يكون التغير ضربا من الوهم.
إن الفلسفة لم تركن طويلاً عند هذه المفارقة، فقد غيــر أنبــادوقليس Empedocles، من الساحل الجنوبي لصقليا، للمرة الأولى من الواحدية إلــى نـــوع من التعددية، ولكي يتجنب هذه الصعوبة قال بأنه لا يمكن للواحد أن يفسر تنوع الأشياء والوقائع، فقد افترض أربعة عناصر أساسية هي التراب والماء والهواء والنار، تجتمع العناصر معا وتنفصل بفعل الحب والبغض، أما الحب والبغض، فيمكن معالجتهما، في كثير من الأحيان، على أساس كونهما ماديين، تماما مثل العناصر الأربعة الأخرى، فهما المسؤولان عن التغير الخالد. يصف أنبادوقليس تشكل العالم في الصورة التالية : في البدء كان هناك عالم واحد لا متناه، كما في فلسفة بارميندس. وقد اندمجت العناصر الأربعة في جوهر واحد عن طريق الحب، وعندما مات الحب وأتت البغضاء انفصلت العناصر جزءًا جزءا، بعد ذلك انفصلت كل العناصر وخرج الحب من العالم، وفي النهاية، جمع الحب مرة أخري العناصر معا وماتت البغضاء لكي نعود ثانية إلى العالم الأصلي. يمثل مذهب أنبادو قليس تحولا واضحا نحو النظرة الأكثر مادية في الفلسفة اليونانية. فالعناصر الأربعة ليست مبادئ أولية بل هي جواهر مادية، وهنا لأول مرة يتم التعبير عن الفكرة التي تقول بمزج وفصل بضعة جواهر، والتي هي مختلفة اختلافا جوهريا، هذه الفكرة تفسر التنوع اللانهائي للأشياء والأحداث. لا يلجأ إلى هذه التعددية أولئك الذين تعودوا أن يفكروا في المبادئ الأولية، إلا إنها تمثل حلا وسطا وجيها يتفادى صعوبة الواحدية ويسمح بتأسيس نظام ما.
كانت الخطوة التالية نحو مفهوم الذرة من وضع ا أنكساجوراس Anaxagoras الذي كان معاصراً لأنبادو قليس، عاش في أثينا ما يقرب من ثلاثين عاما، ربما في النصف الأول من القرن الخامس ق.م.، يؤكد أنكساجوراس على فكرة المزج، وعلى الفرض القائل أن سبب كل تغير هو المزج والفصل، إلى جانب افتراض وجود تنوع لا نهائي للبذور التي لا حصر لها والمتناهية في الصغر والتي تتألف منهـا كــل الأشياء. لا تشير هذه البذور إلى العناصر الأربعة لأنبادوقليس، فهناك عدد لا يحصى من البذور المختلفة، إلا إن هذه البذور قد امتزجت معا وانفصلت مرة أخري، وبهذا يحدث التغير يسمح مذهب أنكساجوراس لأول وهلة بتفسير هندسي لمصطلح "المزج" فلما كان يتحدث عن بذور متناهية الصغر، فمن الممكن تصور مزيج من نوعين من الرمال يختلفان في اللون. وقد تختلف البذور في العدد وفي مواضعها النسبية . يفترض أنكساجوراس أن البذور توجد في كل شيء. يقول: "كـــل الأشياء توجد في كل شيء وليس في إمكانها أن تبتعد لأن في كل شيء جزء من كل شيء إن الكون عند أنكساجوراس لا يتحرك عن طريق الحب والبغض كمــــا عند أنبادوقليس، بل عن طريق "النوس" Nous الذي يمكن ترجمته "بالعقل".
لم يكن لهذه الفلسفة للوصول لمفهوم الذرة سوى خطوة واحدة، ظهرت هذه الخطوة مع لوقيبوس وديمقريطس من أبديرا، تحول نقيض الموجود واللاموجود في فلسفة بارميندس إلى نقيض "الامتلاء" و"الخواء". فالموجود ليس وحدة واحدة، حيث يمكن أن يتكون عددا لا نهائيا من المرات إنها الذرة أصغر وحدة من المادة لا تنقسم الذرة أزلية لا يمكن إتلافها، ولها حجمًا محدودًا ، فتصبح الحركة ممكنة من خلال الفضاء الفارغ بين الذرات وهكذا ولأول مرة في التاريخ يظهر صوت معبر عن فكرة وجود جسيمات متناهية الصغر، والتي نطلق عليها الجسيمات الأولية" باعتبارها وحدات بناء أساسية للمادة.
وفقا لهذا المفهوم الجديد للذرة، لا تتكون المادة فقط من "الامتلاء" بل أيضا من "الخواء" الفضاء الفارغ الذي تتحرك فيه الذرات، لقد تم تجاهل اعتراض بارميندس ضد الخواء والذى يقضى بأن غير الموجود لا يعتبر موجودا، لأنه ببساطة تجاهل الاستجابة للخبرة. يمكن القول من وجهة نظرنا الحديثة إن الفضاء الفارغ بين الذرات لم يكن عدمًا في فلسفة ديمقريطس، بل يحمل الهندسة والحركة، وهذا الذي يجعل ترتيب الذرات وحركتها ممكنة، إلا إن إمكانية الفضاء الفارغ دائما ما تمثل إشكالاً مثيرا للجدل في الفلسفة. كانت إجابة نظرية النسبية العامة أن الهندسة نتاج المادة أو أن المادة نتاج الهندسة، هذه الإجابة تتطابق بشكل وثيق مع وجهة النظر التي أخذ بها العديد من الفلاسفة، وهـي أنـه يـتم تعريف الفضاء عن طريق امتداد المادة، بيد أن ديمقريطس تجاوز هذه الوجهة من النظر ليجعل التغير والحركة ممكنين. كانت ذرات ديمقريطس كلها من نفس الجوهر، لها صفة الوجود، بيد أن لها أحجاما وأشكالاً مختلفة وتوصف بأنها قابلة للانقسام بالمعنى الرياضياتي وليس المادي. كما يمكن للذرات أن تتحرك وأن تشغل مواضع مختلفـة فــي الفضاء، لكن ليس لها خصائص مادية أخرى، فهي ليس لها لون أو رائحة أو طعم، يفترض أن خصائص المادة التي ندركها بحواسنا هي نتاج حركات و أوضاع الذرات في الفضاء. تماما مثلما نكتب التراجيديا والكوميديا باستخدام نفس الحروف الأبجدية. ندرك التنوع الهائل من أحداث هذا العالم من خلال نفس الذرات ومن خلال ترتيباتها وحركاتها المختلفة. أثبتت الهندسة والحركة، اللتان من المحتمل أن يكونا قد نتجا عن الخواء، أن لهما أهمية أكبر بطريقة ما مقارنة بالوجود الخالص. لقد قال ديمقريطس في هذا الاقتباس: قد يظهر الشيء ويكون له لون، ويظهر الشيء ويكون له حلاوة أو لذوعة، لكن الذرات والفضاء الخواء هما فقط من لهما وجودا حقيقيا".
أما الذرات في فلسفة لوقيبوس فهي لا تتحرك بالصدفة. يبدو أن لوقيبوس يعتقد في الحتمية الكاملة، فقد كان معروفا بقوله : يحدث العدم من لا شيء، بيد أن كل شيء يأتي من السبب والضرورة لا يقدم الذريون أي علـة للحركة الأصلية للذرات، ذلك يوضح لماذا اعتقدوا في الوصف السببي للحركة الذرية السببية التي يمكن أن تفسر الأحداث اللاحقة عن طريق الأحداث السابقة، إلا إنها لا يمكن البتة أن تفسر البداية.
تبنى الفلاسفة اليونانيون فيما بعد الأفكار الأساسية للنظرية الذرية وأدخلوا عليها تعديلات جزئية مقارنة مع الفيزياء الذرية الحديثة يجدر بنا أن نشير إلى تفسير المادة عند أفلاطون من خلال محاورته "تيماوس("). لم يكن افلاطون فيلسوفا ذريا، بل على العكس، يذكر ديوجينس لبريشيوس أن أفلاطون كان يبغض ديمقريطس كثيرا ، وكم تمنى أن تحرق كل كتبه. بيد أن بعضا من أفكار أفلاطون لو اجتمعت تكون قريبة من المذهب الذري مع مذاهب المدرسة الفيثاغورية وتعاليم أنبادو قليس.
كانت المدرسة الفيثاغورية فرعا من الأورفية () التي ترجع إلـــى تأليـــه الارتباط بين الدين والرياضياتية التي كان لها آنذاك أثر كبير على الفكر البشري. لقد ارتأى الفيثاغوريون أن أول شيء يمكن إدراكه هو تلك القوة الخالقة الكامنة في الصيغ والرياضياتية، فاكتشافهم أن صوت الوترين ينسجمان إذا كانت النسبة بين طولهما نسبة بسيطة، وهذا يبرهن على أن الرياضيات يمكن أن تكون وسيلة لفهم الظواهر الطبيعية، لا توجد ثمة مشكلة بالنسبة للفيثاغورين حول عملية الفهم، كانت النسبة والرياضياتية البسيطة بين أطول الأوتار هي التي تخلق الانسجام في الصوت. كان ثمة الكثير من التصوف في مذاهب المدرسة الفيثاغورية التي تبدو لنا صعبة الفهم جعل الفيثاغوريون الرياضيات جزءا من دينهم، كما أنهم تطرقوا إلى نقطة جوهرية في تطور الفكر البشري، يمكن أن أقتبس هذه العبارة من برتراند رسل تتعلق بفيثاغورس : "لم أعرف أي إنسان آخر كان له هذا التأثير في مجال الفكر كما لفيثاغورس".
كان أفلاطون على علم من اكتشاف الفيثاغورين للمجسمات الصلبة المنتظمة وإمكانية الجمع بينها وبين عناصر أنبادو قليس. كما ناظر بين أصغر الأجزاء البسيطة لعنصر التراب بالمكعب، وعنصر الهواء بالمجسم الثماني، وعنصر النار بالمجسم الرباعي وعنصر الماء بالمجسم ذي الوجوه العشرين، لا يقول أفلاطون هنا سوي: "لا يزال هناك مركب خامس استخدمه الإله في رسم خطوط هذا الكون".
فإذا كان من الممكن أصلاً أن نعقد مقارنة بين الذرات والمجسمات المنتظمة التي تمثل العناصر الأربعة، فقد أوضح أفلاطون أن هذه المجسمات المنتظمة غير قابلة للانقسام. أقام أفلاطون المجسمات المنتظمة على مثلثين قاعديين هما المثلث المتساوي الأضلاع، والمثلث المتساوي الساقين، واللذين شكلا معــــــا ســــطح المجسمات. ومن ثم يمكن للعناصر أن تتحول إلى بعضها البعض على الأقل جزئيا)، يمكن تفكيكك المجسمات المنتظمة إلى مثلثات و أن تتشكل منها مجسمات منتظمة جديدة. فعلى سبيل المثال من الممكن أن يتفكك الجسم الرباعي ومجسمان ثمانيان إلى عشرين مثلث متساوي الأضلاع، والتي يمكن ضمها معا لتشكل مجسما ذا عشرين وجه هذا يعني أن ذرة واحدة من النار وذرتين من الهواء يمكن أن يجتمعا لإعطاء ذرة واحدة من الماء. إلا إن المثلثات الأساسية لا يمكن اعتبارها مادة، كونها ليس لديها امتداد في الفضاء، ولا يتم خلق وحدة من المادة إلا إذا وضعت المثلثات لتشكل معا مجسمًا منتظماً. إن أصغر أجزاء المادة في فلسفة ديمقريطس ليست موجودات جوهرية، بل هي صور رياضية، يبدو جليا هنا أن الصورة أهم بكثير من الجوهر التي هي صورة له.
بعد إلقاء نظرة شاملة سريعة على الفلسفة اليونانية حتى تشكيل مفهوم الذرة. دعونا نرجع إلى الفيزياء الحديثة لنطرح سؤالا: كيفية مقارنة وجهة نظرنا الحديثة في الذرة ونظرية الكم - تشير كلمة "الذرة" تاريخيا إلى الشيء الخطأ في الفيزياء والكيمياء الحديثة. أما خلال إحياء العلوم في القرن السابع عشر فكانت أصغر الجسيمات ينتمي إلى ما يسمي بالعنصر الكيميائي والذي كان يمثل نظاما معقدًا إلى حد ما من وحدات أصغر، تسمي اليوم بالجسيمات الأولية. بدا واضحا أن أي شيء في الفيزياء الحديثة ينبغي مقارنته بذرات ديمقريطس وبالجسيمات الأولية مثل البروتون والنيترون والإلكترون والميزون.
كان ديمقريطس على وعي تماما بحقيقة أنه من الممكن للذرات، عن طريق حركتها وترتيبها، أن تفسر خصائص المادة اللون والرائحة والطعم، إلا إنها لا تمتلك هي ذاتها هذه الخصائص، لذلك أخذ ديمقريطس في تجريد الذرة من هذه الخصائص فأصبحت الذرة، بالأحرى، مجرد قطعة مجردة من المادة، بيد أن ديمقريطس ترك للذرة خاصية الوجود خاصية الامتداد في الفراغ، والشكل والحركة، لقد أبقي على هذه الخصائص لصعوبة التحدث عن الذرة على الإطلاق، إذا تم تنحية هذه الصفات جانبا عنها، بيد أن هذا يعني من جهة أخرى، أن مفهومه عن الذرة لا يفسر الهندسة والامتداد في القضاء أو الوجود لأنها لا يمكن ردها إلى شيء ما أكثر جوهرية. إن وجهة النظر الحديثة فيما يتعلق بالجسيم الأولي تبدو أكثر اتساقا وراديكالية. دعونا نناقش هذا السؤال : ما الجسيم الأولي؟ نقول ببساطة مثلا "تيترون"، ولكن لا نعطي صورة واضحة المعالم لما نعنيه بهذه الكلمة، يمكن أن نستخدم صورا عديدة لوصفه مثلاً أنه جسيم" ومرة موجة أو حزمة موجية. بيد أننا نعرف أنه لا واحدة من هذه التوصيفات دقيق. بالتأكيد ليس للنيترون لونا أو رائحة أو طعما، وبهذا الخصوص فإنه يشبه الذرة في الفلسفة اليونانية، لكن إذا ما جردنا الجسيم الأولى من خصائص أخرى على الأقل إلى حد ما، فإن مفاهيم و الحركة، مثل الشكل والحركة في المكان لا يمكن تطبيقها عليه بدقة . إذا ما أراد المرء أن يعطي وصفا دقيقا للجسيم الأولي. وهنا أؤكد على كلمة "دقيـــق"، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن أسجله هنا باعتباره وصفا هو أنه دالة احتمال. بيد أن المرء سيجد بعد ذلك أن خاصية الوجود إذا) كان يحق لنا أن نطلق عليه خاصية) لا تنتمي إلى الوصف الذي وصفناه، يمكن أن نشير إلى إمكانية الوجود أو النزوع نحو الوجود، لذلك فإن الجسيم الأولى ما زال في الفيزياء الحديثة أكثر تجريدا مقارنة بالذرة عند اليونانيين. وهو بهذه الخاصية يبدو أنه أكثر اتساقا باعتباره مفتاحا لتفسير سلوك المادة.
تتكون كل الذرات في فلسفة ديمقريطس من نفس الجوهر، إذا كان لنا أن نستخدم هذه الكلمة أصلا تحمل الجسيمات الأولية في الفيزياء الحديثة كتلة محددة كما تحمل صفات أخرى. فلما كانت الكتلة . والطاقة، وفقا لنظرية النسبية، هي في الأساس المفهوم نفسه، فهذا يجعلنا نقول إن كل الجسيمات الأولية مكونة من الطاقة. يمكن تفسير هذا على أن تعرف الطاقة على أنها جوهر أولي للعالم. إن مصطلح الجوهر" له حقا خاصية أساسية يتمتع بها من حيث إنه يُحفظ، وكما أشرنا من قبل، فإن وجهات نظر الفيزياء الحديثة، في هذا الصدد، قريبة إلى تلك التي قال بها هرقليطس، إذا فسرنا عنصر النار على أنه يعني الطاقة. إن الطاقة في حقيقة الأمر، هي ما يتحرك، والتي يمكن أن نطلق عليها العلة الأولى لكل تغير، ويمكن أن تتحول الطاقة إلى مادة أو إلى حرارة أو إلى ضوء، يمكن أن نجد
هذا الصراع بين الأضداد في فلسفة هرقليطس في صورتين مختلفتين من الطاقة. الذرات في فلسفة ديمقريطس أزلية، ووحدات من المادة غير قابلة للفنــــاء، ولا يمكن أن تتحول البئة أحدهما إلى الأخرى. تتخذ الفيزياء الحديثة، فيما يتعلق بهذه المشكلة، موقفا محددا ضد مادية ديمقريطس وأفلاطون والفيثاغوريين، بالتأكيد ليست الجسيمات الأولية أزلية ولا وحدات من المادة غير قابلة للفناء. فهي في حقيقة الأمر يمكن لأحدهما أن تتحول إلى الأخري، كما في واقع الأمر، إذا كان ثمة جسيمان يتحركان عبر المكان بطاقة حركية عالية جدا، ثم اصطدما، فقد ينتج العديد من الجسيمات الأولية الجديدة من خلال الطاقة المتاحة، بينما يختفي الجسيمان الأصليان في أثناء عملية التصادم. فقد لوحظ في كثير من الأحيان أن مثل هذه الوقائع تقدم أفضل دليل على أن الجسيمات مصنوعة من نفس الجوهر هي الطاقة. إلا إن التشابه بين وجهات النظر الحديثة مع تلك التي قال بها أفلاطون والفيثاغوريين يمكن أن تحمل لأبعد من ذلك، فالجسيمات الأولية في محاورة "كيماوس" لأفلاطون في النهاية ليست جوهرا، بل هي صورة رياضياتية. كل الأشياء أعداد"، هذه الجملة تعزي إلى الفيثاغوريين كانت الصور الرياضياتية المتاحة آنذاك هندسة الجسيمات صور المنتظمة أو المثلثات التي تشكل سطوحها لا يوجد ثمة شك في نظرية الكم الحديثة. إن الجسيمات الأولية تصبح أيضا في نهاية المطاف صورا رياضياتية، ولكن لها طبيعة أكثر تعقيدا. اعتقد الفلاسفة اليونانيون في الصور الساكنة ووجودها في المجسمات الصلبة المنتظمة، ومع ذلك، فإن العلم الحديث، منذ بدايته في القرنين السادس عشر والسابع عشر قد انطلق من مشكلة ديناميكية وهي: أن العنصر الثابت في الفيزياء منذ نيوتن ليس صورة تركيبية أو هندسية، وإنما هو قانون ديناميكي. تبقى معادلة الحركة طوال الوقت بهذا المعنى أزلية، في حين تكون الأشكال الهندسية مثل المدارات متغيرة، وعلى هذا فإن الصور الرياضياتية التي تمثل الجسيمات الأولية ستكون حلولا لقانون ما أزلي لحركة المادة. وفي حقيقة الأمر، هذه مشكلة لم تحل بعد، فالقانون الأساسي لحركة المادة غير معروف حتى الآن، لهذا لم يعد ممكنا بعد أن نستخلص رياضيا خصائص الجسيمات الأولية من هذا القانون، إلا إن الفيزياء النظرية تبدو في حالتها الراهنة ليست بعيدة عن هذا الهدف، ويمكن أن نقول على الأقل بنوع القانون الذي سنتوقعه. ربما تكون معادلة الحركة النهائية للمادة معادلة موجية كمية غير خطية لحقل عوامل موجي يمثل المادة، وليس أي نــــوع خاص من الموجات أو الجسيمات. من الممكن أن تكون المعادلة الموجية مساوية لمجموعة معقدة من المعادلات التكاملية التي لها قيم وحلول خاصة كامنة كما يقول الفيزيائيون. هذه الحلول الخاصة الكامنة تمثل في النهاية الجسيمات الأولية، إنهـا الصور الرياضية التي ستحل محل المجسمات المنتظمة عند الفيثاغوريين، ولعلنا نذكر الآن أن هذه الحلول الخاصة ستنتج عن المعادلة الأساسية للمادة بنفس العملية الرياضياتية التي تنتج بها الاهتزازات التناغمية للوتر الفيثاغوري عن المعادلة التفاضلية للوتر. بيد أن هذه المشكلات - كما قلنا لم تحل بعد.إذا تتبعنا مجري التفكير الفيثاغوري ربما يحدونا الأمل أن يتحول قانون الحركة الأساسي إلى قانون رياضي بسيط، حتى لو وضعنا في الاعتبار الحالات الذاتية الكامنة Eigenstates المعقدة للغاية من الصعوبة بمكان أن نعطي أي حجة وجيهة لهذا الأمل في البساطة، باستثناء حقيقة أنه من الممكن حتى الآن أن نكتب المعادلات الأساسية في الفيزياء بصورة رياضياتية بسيطة. هذه الحقيقة تتناسب مع الديانة الفيثاغورية، ويشاركهم عدد من الفيزيائيين في هذا الاعتقاد، إلا إنه ليس ثمة حجة قاطعة بعد تبين أن الأمر لا بد من أن يكون هكذا.
قد نضيف هنا حجة تتعلق بمشكلة تتردد كثيرا عند غير المتخصصين، خاصة بمفهوم الجسيم الأولى في الفيزياء الحديثة : لماذا يدعي الفيزيائيون أن جسيماتهم الأولية لا تنقسم إلى أجزاء صغيرة؟ إن إجابة هذا السؤال تظهر بوضوح كيف يتم مقارنة العلم الحديث، الأكثر تجريدا ، مع الفلسفة اليونانية. تسير الحجة كالأتي: كيف يمكن أن ينقسم الجسيم الأولى؟ بالتأكيد عبر استخدام قوي شديدة وأدوات حادة للغاية، والأدوات الوحيدة المتاحة هي جسيمات أولية أخرى، لذلك فإن التصادم بين جسيمين أوليين لهما طاقة عالية جدا سيكون والوسيلة الوحيدة التي يمكن عن طريقها تقسيم الجسيمات يمكن تقسيمها بالفعل في هذه العملية إلى عدد كبير من الشظايا؛ بيد أن هذه الشظايا هي مرة أخرى جسيمات أولية، وليست أجزاء صغيرة منها، تنتج كتل هذه الشظايا عن الطاقة الحركية الضخمة لجسيمين متصادمين. بعبارة أخرى، إن تحول الطاقة إلى مادة من الممكن أن يجعل شظايا الجسيمات الأولية مرة أخرى هي الجسيمات الأولية نفسها.
بعد هذه المقارنة بين وجهات النظر الحديثة في الفيزياء الذرية والفلسفة اليونانية يجدر بنا أن نضيف تحذيرا، إن هذه المقارنة لا يجب أن تجعلنا نسيء الفهم. ربما يبدو لأول وهلة أن الفلاسفة اليونانيين لديهم حدسنا بارغا جعلهم يصلون إلى نتائج مشابهة جدا مع ما لدينا في العصور الحديثة بعد قرون عديدة من العمل الجاد في التجارب والرياضيات. ومع ذلك فإن تفسير مقارنتنا على هذا النحو قـد أسيء فهمه تماما، ذلك لأن هناك فرق هائل بين العلم الحديث والفلسفة اليونانية يكمن في الاتجاه التجريبي للعلم الحديث، تأسس العلم الحديث، منذ جاليليو ونيوتن على دراسة تفصيلية للطبيعة، وعلى مسلمة أن العبارات الصحيحة هي التي تم التحقق منها أو على الأقل يمكن التحقق منها عن طريق التجربة، أما فكرة أن المرء يمكنه أن يختار بعض الوقائع بذاتها من الطبيعة عبر تجربة ما لدراستها بالتفصيل والكشف عن القانون الثابت وراء هذا التغير المستمر، فهذا لم يخطر على بال الفلاسفة اليونانيين. لذلك، وقف العلم الحديث في بداياته، مقارنة بالفلسفة القديمة، على أرضية أكثر تواضعا وثباتا، ومن ثم فإن عبارات الفيزياء الحديثة تبدو أكثر جدية بطريقة ما مقارنة بالفلسفة اليونانية، فعندما يقول أفلاطون، على سبيل المثال، أن أصغر جسيمات النار هي الشكل الرباعي، ولكن ليس من السهل أن تفهم ما الذي يعنيه حقا، هل المجسم الرباعي يتعلق بشكل رمزي بعنصر النار، أم إن أصغر جسيمات النار يعمل بطريقة ميكانيكية لمجسمات رباعية صلبة أو باعتباره مجسمات رباعية مرئة، وبأية قوة يمكن أن نفصلها إلى مثلثات متساوية الأضلاع وهلم جرا؟ دائما ما يسأل العلم الحديث في نهاية المطاف: كيف للمرء مثلاً أن يقرر ، بطريقة تجريبية، أن ذرات النار مجسمات رباعية وليست مكعبات؟ لذلك، عندما يقرر العلم الحديث أن البروتون هو حل مؤكد للمعادلة الأساسية للمادة، فهذا يعني أننا يمكن أن نستنتج رياضيا من هذا الحل كل الخصائص الممكنة للبروتون ويمكن التحقق من صحة هذا الحل تفصيليا عن طريق التجربة إن إمكانية التحقق من صحة العبارة تجريبيا، وبدرجة عالية من الدقة، ولأي عدد من التفاصيل، تعطي وزنا هائلاً للعبارة، وهذا لم يصاحب عبارات الفلسفة اليونانية المبكرة. على أية حال، هناك بعض العبارات الفلسفية القديمة تقترب، إلى حد ما، من عبارات العلم الحديث، وهذا يوضح ببساطة أن المرء يمكنه أن يكتسب مجموعة من الخبرات العادية إزاء الطبيعة دون أن نجري تجارب ونبذل جهودا دؤوبة لكي نحصل على نظام منطقي لهذه الخبرة لنفهم ذلك من مبادئ عامة.