علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
الأحاديث القدسيّة
علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
بيان ألفاظ مستعملة على اصطلاح أهل هذا الشأن
المؤلف:
أبو الحسن علي بن عبد الله الأردبيلي التبريزي
المصدر:
الكافي في علوم الحديث
الجزء والصفحة:
ص 114 ـ 125
2025-05-12
21
المقدمة الثانية: في بيان ألفاظ مُستعمَلَة على اصطلاحِ أَهلِ هدا الشأن
[السُّنَّة: لغة واصطلاحًا]:
فمنها السُّنّة؛ وهي في الأصل: السِّيرة والطريقة.
وفي الاصطلاح: يراد بها عند الإطلاق: قولُ النّبيّ (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، وفِعلُه، وتقريرُه مما لَم ينطِقْ به الكتابُ العزيزُ صَريحًا (1)، ولذلك يقال: الأدلّة الكتاب والسُّنَّة وكذا.
[الحديث: لغة واصطلاحًا]:
ومنها الحديث: وهو في الأصل ضدُّ القديم، يقال: حدث يحدث حدوثًا وحدثانًا، ومنه حديث عائشة: "لولا حَدَثانُ قومكِ.. " (2) الحديث، وفي حديث الحسن: "حَادِثُوا هذه القلوبَ بذكْرِ اللهِ" (3) أي: اجلوها.
وقد يُطلقُ على المعنى القائم بالنَفس، يقال: حدَّثتُ نفسي بكذا (4).
والتّحديث: تفعيل من الحدث.
والمحدِّث كأنّه يُوجِدُ الأمرَ الحديثَ، أي: يجلو القلوبَ به.
وفي الاصطلاح عند الإطلاق: يُراد به ما يُرفَعُ إلى رسول الله (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم) من قوله وفعله فتكون السُّنّة أَعمّ منه.
وقيل: ومن تقريره (5)، فتكونُ السُّنّة مُرادفةً له.
والسُّنّة في الغالب تستعمل في الأحكام، والحديث فيها وفي غيرِها، فيكون الحديثُ أعمَّ منها من هذا الوجه.
[الخبر: لغة واصطلاحًا]:
ومنها الخبر: وهو يُطلَقُ على قَولٍ يَحتمِلُ الصِّدقَ والكَذِبَ، وعلى معناه القائم بالنفس، فيقربُ معناهُ من معنى الحديث، ويقال: خَبَرْتُ الأمرَ أخْبُرُهُ، إذا عرفتُهُ على الحقيقة، ومنه اسم الله تعالى: الخبير، أي: العالم بما كان وبما يكون.
وقال أبو الدرداء: "وجدت الناسَ: اخْبُرْ تَقْلَهْ" (6)، أي: إن تَعرفْهم تُبغِضْهُم (7).
فإنْ فرض اشتقاقُ الأخبار من (خَبَرْتُ) فيكون أخصَّ من الحديث.
[أقسام الخبر من حَيث الثبوت]:
وهو إمّا متواتر، إذا بلغ رواته مبلغًا يمنع العقلُ تواطؤهم على الكَذبِ، من تَواتر الرِّجالُ: إذا جاؤوا واحدًا بعد واحدٍ بفترة، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أي: رسولًا بعد رسول بفترة، وهو يفيد اليقين، كحديث: "مَن كَذَب عليَّ فلْيتبوَّأُ مقعده من النَّار" (8).
وإمّا آحاد: وهو الذي لم يبلغ رواته هذا الحدَّ.
ثم إنْ زاد رواته على ثلاثة يُسمَّى مستفيضًا أيضًا، وهو يفيد الظَّنَّ القويَّ (9) إن كان مستجمعًا للشُّروط على ما يُذْكَر إن شاء الله تعالى.
ويجب العملُ به بالإجْماع.
[الأثر: لغة واصطلاحًا]:
ومنها الأثر: وهو في الأصل: ما ظهر من مَشْي الشَّخص على الأرض (10)، قال زُهَير (11): والمرْءُ ما عَاشَ مَمْدُودْ له أملٌ … لا يَنْتَهي العُمْرُ حتَّى يَنتهي الأثَرُ
أي: إذا مات لا يَبقَى لقَدَمِهِ أثرٌ على الأرض (12).
وفي الاصطلاح: يطلق على الحديث المرفوعِ والموقوفِ (13)، وعند كثيرٍ من الناس عند الإطلاق مخصوص بالموقوف.
[السند: لغة واصطلاحًا]:
ومنها السّند؛ وهو في الأصل: ما ارتفع من الجبل، وفي حديث أُحُدٍ: "رأيتُ النِّساءَ يسندن في الجبل" (14)، أي: يُصَعَّدن.
والإسنادُ رفعُ الشَّيء إلى علوِّ، ويستعملُ كلاهما بمعنًى، وهو الإخبار عن طريق المتن(15)، والمُحدِّث يرفعُ الحديثَ إلى مُنتهاهُ بإخْباره.
[المتن: لغة واصطلاحًا]:
ومنها المتن، وهو إمّا من المتانة، وهي الشِّدَّة والقُوَّة، ومنه: اسمُ الله تعالى: (المتين)، أي: الشَّديد القويُّ، الذي لا يلْحقُهُ من الأفعال مشقَّةٌ وكُلفةٌ.
وإنَّما من قولهم: مَتنتُ الكبش؛ إذا شققتُ جلدة بيضته واستخرجتها (16).
والمراد به عندهم: نفس الدَّليل من الكتاب والسُّنّةِ والإجماعِ، إذ فيها قوّة في إثبات أحكام الله تعالى، أو محلّ استخراج الأحكام.
[المسند: لغة واصطلاحًا]:
ثم المسند من الحديث، هو: الذي اتّصل إسناده من راويه إلى منتهاه، فإن كان منتهاه رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم -؛ يُسمَّى المسندَ المرفوعَ.
وإن كان الصحابيّ؛ يُسمَّى الموقوف.
وإن كانْ التابعيّ؛ يُسمَّى المقطوعَ (17).
وعن ابن عبد البرّ: أنَّ المسند يقال للمرفوع وإن لم يكن مُتَّصلًا (18).
وعن الحاكم: أنّ المسند هو المرفوع المتّصل لا غير (19).
فهذه ثلاثة أقوال، ولعلَّ القولَ الأوّل أظهر (20).
[[المتّصل]]
وإذا قيل: هذا متّصل عند الإطلاق لا يُراد إلّا المتَّصل المرفوع، وهذا يُقوِّي القولَ الأخيرَ، وسيمرُّ بك ما تحتاج إليه شيئًا فشيئًا في تضاعيف الأبواب إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قلت: قوله: "ممّا لم ينطق به الكتاب العزيز صريحًا"، يجعل الحد غير جامع؛ فإنّه يُخرِجُ ما جاء في القرآن الكريم صريحًا، وأكّده النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، كالأمر بالصلاة والزكاة ونحوهما، فهذا القيد مخلٌّ بالتعريف، وهو تقييد غريب!! فتأمّل.
(2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1583، 3368، 4484)، ومسلم في "صحيحه" (1333) من حديث عائشة.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (رقم 63) والآجري في "أدب النفوس" (رقم 18 - بتحقيقي)، وابن الجوزي في "ذم الهوى" (ص 66)، من طريق أبي عبيدة الناجي، وابن المبارك في "الزهد" (254) من طريق مبارك بن فضالة، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 144) والخطيب في "المتفق والمفترق" (3/ 1597) (رقم 1054، 1055) من طريق عيسى بن عمر الثقفي جميعهم عن الحسن البصري قوله. وهو مشهور في كتب الأدب، انظر - على سبيل المثال -: "الكامل" للمبرِّد (1/ 272، 2/ 850 - ط الدَّالي).
(4) ومنه حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري" (5269) و"صحيح مسلم" (127) عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، قال: "إنّ الله تجاوز عن أمتي ما حَدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلَّم". ولا يطلق (الكلام) على ما في (النفس) إلا بقيدٍ، فالأصل خلافه، فتأمّل!
(5) ويضاف كذلك ما فيه صفات النبي - صلى الله عليه [وآله] وسلم -.
(6) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1/ 225) عن سفيان عن أبي الدرداء موقوفًا، وهو منقطع، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" - كما في "المطالب العالية" (11/ 780) -، وأبو الشيخ في "الأمثال" (رقم 117)، والطبراني في "مسند الشاميّين" (4/ 358)، والقضاعي في "مسنده" (1/ 369)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 38) من طريق أبي بكر بن أبي مريم، واضطرب فيه؛ فمرَّة يرويه عن عطية بن قيس، ومرة عن سعد بن عبد الله الأغطش كما عند الخطابي في "العزلة" (رقم 203)، وخولف في رفعه - كما مرَّ -، وهو ضعيف سرق بيته فاختلط ولعلّ هذا من تخاليطه. والله أعلم.
(7) قال ابن الاثير في "النهاية" (4/ 105): "القِلَى: البُغضُ، يقال: قَلاه يَقلِيه قِلىً وقَلىً، إذا أبغضه"، يقول أبو الدرداء: جرِّب الناس، فإنّك إذا جرَّبتهم قَلَيتَهم وتركتهم؛ لما يظهر لك من بواطن سرائرهم، فلفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، أي: مَن جَرَّبهم وخبرهم أبغضَهُم وتركهم. ومعنى نظم قوله: وجَدْت الناسَ فعولًا فيهم هذا القولُ".
(8) أخرجه البخاري (107) من حديث الزبير، وهو في "الصحيحين" من حديث غيره، وليس في لفظ الزبير التقييد بالعمد، وانظر تحقيقنا لأحاديث: جزء الجويباري" ضمن "مجموعة أجزاء حديثية" (رقم 13).
(9) هذا كلام غير واحد ممّن ألف في المصطلح وأصول الفقه، زعموا أنَّ الآحادَ الذي لم يبلُغْ حدَّ التواتر لا يفيدُ العلمَ؛ وهذا كلامٌ باطل قطعًا، حتّى عند الجماهير؛ لأنّنا ينبغي أن نبقى على تذكّر بأنَّ مرادهم بالآحاد ما ليس بمتواتر، ومذهب جماهير الأصوليّين والمحدّثين أنَّ الآحاد إذا لحقته قرينة، ولو كان فردًا غريبًا؛ فإنّه يفيد العلم، كأَنْ يوجد حديث غريب في "الصحيحين" - أو في أحدهما -؛ فهذه قرينة، فكيف إذا كان للحديث شواهد وطرق وما شابه، ولذا؛ هذا الحد أمره إلى المحدّثين وإلى أهل الصنعة الحديثيّة، وليس إلى مَن لا يعرف من هذه الألفاظ إلَّا الرسوم والمصطلحات، ولا يعرف حقائق الأشياء.
ولذا نقول: لا يقول عاقل بتصديق خبر كُلِّ أحدٍ وإفادته العلم، إلا إِنْ ثبت عند أهل الصنعة الحديثيّة، قال ابن تيمية في "المسودة" (244): "فإنَّ أحدًا من العقلاء لم يقل إنَّ خبر كلّ واحدٍ يُفيد العلم".
وقال ابن القيّم في "الصواعق المرسلة" (2/ 359 - 360): "خبر الواحد بحسب الدليل الدالّ عليه؛ فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه، وتارة يظنّ كذبه إذا كان دليل كذبه ظنيًّا، وتارة يتوقّف فيه؛ فلا يترجّح صدقه ولا كذبه، إذا لم يقم دليل أحدهما، وتارة يترجّح صدقه ولا يجزم به، وتارة يجزم بصدقه جزمًا لا يبقى معه شكّ، فليس خبر كلّ واحد يفيد العلم ولا الظنّ". والقائلون بإفادة خبر الواحد العلم، وقع بينهم خلاف في نوعه: هل هو ضروريّ أو نظريّ؟ وهل يُفيد علم طمأنينة أو يقين؟ انظر التفصيل في: "البحر المحيط" (4/ 238 - 240). والمشهور من أقوال الأصوليّين: أنّه يُفيد العلم الضروري، والجميع متّفق على أنّ المتواتر يفيد العلم واليقين، والخلاف إنَّما هو في نوع هذا العلم؛ فمَن نظر إلى أنَّ العقل يضطر إلى التصديق به، وأنّ اليقين يحصل به في حق مَن ليس له أهليّة النظر، قال: إنَّه ضروري، ومَن نظر إلى افتقار المتواتر إلى مُقدِّمَات، وإنْ كانت تلك المقدِّمَات بدهيّة، قال: إنَّهُ نظريّ.
فهو - على التحقيق - خلاف صوريّ من هذه الناحية.
والعلم اليقينيّ يُؤخَذ من التواتر بقسميه: العامّ والخاصّ؛ فهو ليس لازمًا للتواتر بالحَدِّ الذي ذكره المصنّف، قال ابن تيميّة في "مجموع الفتاوى" (18/ 50 - 51): "كذلك العلم الحاصل عقيب الخبر؛ تارةً يكون لكثرة المخبرين، وإذا كثروا فقد يفيد خبرهم العلم - وإن كانوا كفّارًا -، وتارةً يكون لدينهم وضبطهم، فرُبَّ رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم ما لا يحصل بعشرة وعشرين لا يوثق بدينهم وضبطهم، وتارةً قد يحصل العلم بكون كلّ من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر - مع العلم بأنّهما لم يتواطآ، وأنّه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك -، مثل مَن يروي حديثًا طويلًا فيه فصول ويرويه آخرُ لم يلقه. وتارةً يحصل العلم بالخبر لمَن عنده الفطنة والذكاء والعلم بأحوال المخبرين وبما أخبروا به ما ليس لمَن له مثل ذلك، وتارة يحصل العلم بالخبر لكونه روي بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم ولم يكذّبه أحدٌ منهم؛ فإنَّ الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان، كما يمتنع تواطؤهم على الكذب.
وإذا عُرِفَ أنَّ العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرّد العدد، عُلِمَ أنَّ مَن قيَّد العلم بعددٍ مُعيّن وسوَّى بين جميع الأخبار في ذلك؛ فقد غلط غلطًا عظيمًا.
ولهذا كان التواتر ينقسم إلى: عامّ، وخاص.
فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنّة ما لم يتواتر عند العامّة؛ كسجود السهو، ووجوب الشفعة، وحمل العاقلة العقل، ورجم الزاني المحصن، وأحاديث الرؤية، وعذاب القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك.
وإذا كان الخبر قد تواتر عند قومٍ دون قوم، وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم؛ فمَن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه، كما يجب ذلك في نظائره، ومَن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلّم ذلك لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحّته، كما على النّاس أن يسلّموا الأحكام المجمع عليها إلى مَن أجمع عليها من أهل العلم؛ فإنَّ الله عصم هذه الأُمّة أن تجتمع على ضلالة.
وإنّما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم؛ إذ غير العالم لا يكون له قول، وإنّما القول للعالم، فكما أنَّ مَن لا يعرف أدلّة الأحكام لا يعتدّ بقوله؛ فمن لا يعرف طرق العلم بصحّة الحديث لا يعتدّ بقوله.
بل على كُلِّ مَن ليس بعالمٍ أن يتبع إجماع أهل العلم".
قال أبو عبيدة: يتأكّد ما قاله ... ابن تيمية بأمور:
الأول: لو اشترطنا - كما يقول بعضهم اليوم - للاستدلال في العقيدة بالتواتر اللفظي! لقلنا: قولكم هذا عقيدة، ونحتاج إلى نصٍّ متواترٍ تواترًا لفظيًّا دليلًا عليه، وهو معدوم! فسقط الشرُّ! ودفن منذ ولادته!
الثاني: من لوازم هذا الاشتراط أنَّ عقيدة النّاس مضطربة، ولا نعرف - على فرض صدقه - كتابًا اعتمد على مثله، ولا زال المصنّفون في التوحيد يعتمدون الأحاديث والآثار ممّن هي دونه.
الثالث: ومن لوازم هذا الاشتراط - أيضًا - إلغاء الاستدلال بالمتواتر من الخبر؛ لأنَّ تواتر الأخبار لم يبلغنا إلّا عن طريق الآحاد؛ فعاد الأمر إليه.
والقول بحجيّة خبر الواحد - إذا تلقّته الأُمّة بالقبول تصديقًا له، أو عملًا به - وإفادته العلم هو "الذي ذكره المصنّفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخّرين اتَّبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيرًا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء، وأهل الحديث والسلف يعي ذلك". قاله [ابن تيمية] في "مجموع الفتاوى" (13/ 351). وقال بعدها: "وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجبًا للقطع به؛ فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أنَّ الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة". وقال (13/ 353) أيضًا: "والنّاس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممّن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميّز بين الصحيح والضعيف؛ فيشك في صحّة أحاديث، أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعًا بها عند أهل العلم به. وطرف ممّن يدَّعي اتّباع الحديث والعمل به، كلّما وجد لفظًا في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثًا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحّته، حتَّى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلّف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلًا له في مسائل العلم، مع أنّ أهل العلم بالحديث يعرفون أنّ مثل هذا غلط". قال أبو عبيدة: والفريق الثاني في كلام ابن تيمية أبعد بعض الغيورين ممّن لم يفهم الحديث على الجادة؛ فاسترسل في تماديه وعناده في القول بعدم حجيّة الآحاد! ولا قوَّة إلا بالله. وكلام ابن تيمية السابق في تقسيم المتواتر إلى: عام وخاص يحل (العقدة) في موضوع الاستدلال بالآحاد في (العقيدة)! ويؤكّد أنّ المتواتر - بالحد الذي ذكره المصنّف - ليس هو - فقط - الذي يفيد العلم، وذكره ]ابن تيمية] عن أكثر الأشعريّة، قال: "وأمَّا الباقلانيّ؛ فهو الذي أنكر ذلك، وتبعه مثل أبي المعالي، وأبي حامد، وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن الخطيب، والآمدي، ونحو هؤلاء". قلت: وقولهم هذا مأخوذ من المعتزلة؛ فهم الذين اخترعوا التلازم بين العلم والتواتر! قال أبو المظفّر السمعاني - فيما نقله عنه السيوطي في "صون المنطق" (ص 160 - 161) -: "إنّ الخبر إذا صحّ عن رسول الله (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، ورواه الثقات والأئمّة، وأسنده خَلَفُهم عن سَلَفِهم إلى رسول الله (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، وتلقّته الأُمَّةُ بالقبول؛ فإنَّهُ يوجب العلم فيما سبيله العلم.
هذا قول عامّة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنّة.
وإنّما هذا القول الذي يذكر أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم بحال، ولا بُدَّ من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به؛ شيء اخترعته القدريّة والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار، وتلقّفه منهم بعض الفقهاء - الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت -، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول".
وقد نصر القول بحجيّة خبر الآحاد في العقيدة والأحكام جمعٌ من المعاصرين، وعلى رأسهم شيخنا الألباني في كتابه "الحديث حجّة بنفسه في العقائد والأحكام"، ولمعاصرينا مؤلفات كثيرة فيه، من أهمّها: "أخبار الآحاد في الحديث النبوي" لابن جبرين، و"خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته" لأبي عبد الرحمن القاضي برهون، و"خبر الواحد وحجيته" لأحمد الشنقيطي، و"أخبار الآحاد في الحديث النبوي" لعبد الله المطرفي، و"حكم الاحتجاج بخبر الواحد إذا عمل الراوى بخلافه" لحسان فلمبان، و"خبر الواحد في السنة" لسهير مهنا، وحجية خبر الآحاد في العقيدة" لشعبان إسماعيل، و"هذا عهد النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم) إلينا" لمصطفى سلامة، و"خبر الواحد مُستنده وحجيّته" لمحمد رضا طلب، و"أصل الاعتقاد" لعمر الأشقر، و"ردّ شبهات الإلحاد عن الآحاد" لعبد العزيز بن راشد، وغيرها كثير.
(10) جاء في حاشية في الأصل: "الأثر في الشريعة: عبارة عمّا أُضيف إلى الصَّحابي قولًا كان أو فعلًا، وإنّما كان أثرًا؛ لأنّه من آثار أقوال النبي - صلى الله عليه [وآله] وسلم ".
(11) ليس في "ديوانه" المطبوع، وهو في "النهاية" (1/ 23)، و"لسان العرب" منسوب إليه، وكذا في "فتح المغيث" (1/ 189 - 190 - ط المنهاج).
(12) النهاية (1/ 23).
(13) ظاهر تسمية الطحاوي لكتابه "شرح معاني الآثار" يدل عليه، لاشتماله عليهما، وكذا الطبري في كتابه "تهذيب الآثار".
ولكن تسمية البيهقي كتابه "معرفة السنن والآثار" ينبئ عن حصر الأثر فيما يروى عن الصحابة، وعليه يدل كلام الشافعي في "الرسالة" (ص 218) قال: " … أخذناه استدلالًا بالكتاب والسنة والآثار" ونحوه فيه (ص 508) وفي "الأم" (5/ 106)، والمسألة مصطلح، ولا مشاحة فيه.
(14) أخرجه بهذا اللفظ (يسندن): أبو داود (2662)، وأصله عند البخاري (3039، 4043) بلفظ: "يشتددن" من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -.
(15) انظر "النهاية" (2/ 408) مادة (سند)، وفي هامش الأصل: "الإسناد عبارة عن طريق المتن، أي: لكلّ اسم الراوي، أي: راوي الحديث. إنّ الأسانيد جمع السند وهو الطريق الذي يوصل أسماء الرواة، والإسناد رفع الحديث إلى قائله".
(16) كذا في الأصل! وفي "لسان العرب" (13/ 399)، مادة (متن): "ومَتَنْتُ الكبش: شَققت صَفْنَه واستخرجت بيضته بعروقها، أبو زيد: إذا شققت الصِّفَنَ - وهو جلدة الخُصْيَتين، فأخرجتهما بعروقهما، فذلك المتْن".
(17) هذا هو مذهب الخطيب البغدادي أيضًا فقد قال في "الكفاية" (1/ 96): "وصفهم للحديث بأنّه مسند يريدون أنّ إسناده متّصل بين راويه وبين من أسند عنه، إلا أنّ أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أسند عن النبي - صلى الله عليه [وآله] وسلم -".
وقال الحافظ شارحًا قول الخطيب ومتعّقبًا إيّاه في "النكت" (1/ 506): "فالحاصل أنّ المسند عند الخطيب ينظر فيه إلى ما يتعلّق بالسند، فيشترط فيه الاتصال، وإلى ما يتعلّق بالمتن فلا يشترط فيه الرفع إلا من حيث الأغلب في الاستعمال، فمن لازم ذلك أنّ الموقوف إذا اتّصل سنده قد يُسمَّى مسندًا، ففي الحقيقة لا فرق عند الخطيب بين المسند والمتّصل إلا في غلبة الاستعمال فقط". مع التنبيه إلى أنَّ المصنَّف لم يذكر الأغلبيّة. والله أعلم.
(18) فقد قال في "التمهيد" (1/ 21 - 23): "وأمَّا المسند فهو ما رفع إلى النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم) خاصّة؛ فالمتّصل من المسند مثل: مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، ومالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، ومالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، ومالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، ومالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أو أبي سلمة بن عبد الرحمن أو الأعرج عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، وأيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، أو ما كان مثل هذا كله، والمنقطع من المسند مثل: مالك عن يحيى بن سعيد عن عائشة عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، وعن عبد الرحمن بن قاسم عن عائشة عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، وعن ابن شهاب عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، وعن ابن شهاب عن أبي هريرة، وعن زيد بن أسلم عن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، فهذا أو ما كان مثله مسند؛ لأنّه أسند إلى النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، ورفع إليه، وهو مع ذلك منقطع؛ لأنَّ يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم لم يسمعا من عائشة، .... ".
وتعقّبه ابن حجر فقال في "النكت": (1/ 506): "وأمّا ابن عبد البر فلا فرق عنده بين المسند والمرفوع مطلقًا فيلزم على قوله أن يتّحد المرسل والمسند، وهو مخالف للمستفيض من عمل أئمّة الحديث في مقابلتهم بين المرسل والمسند، فيقولون: أسنده فلان وأرسله فلان".
(19) فقد قال في: معرفة علوم الحديث" (ص 137): "والمسند من الحديث أن يرويه المحدّث عن شيخ يظهر سماعه منه لسن يحتمله، وكذلك سماع شيخه من شيخه، إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور إلى رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم -".
وهذا هو مذهب أبي عمرو الداني في "جزء في علوم الحديث" (ص 48 بتحقيقنا)، وتقي الدين ابن دقيق العيد في "الاقتراح" (ص 196)، وحكاه ابن حجر في "النكت" (1/ 507) عن أبي الحسن ابن الحصار في "المدارك" له. ثم قال الحافظ (1/ 507 - 508): "والذي يظهر لي بالاستقراء من كلام أئمّة الحديث وتصرّفهم أنّ المسند عندهم ما أضافه من سمع النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، إليه بسند ظاهره الاتّصال، فمن سمع أعمّ من أن يكون صحابيًّا، أو تحمّل حال كفره، وأسلم بعد النبي (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلّم)، لكنّه يخرج من لم يسمع كالمرسل والمُعضل، وبسند يُخرج ما كان بلا سند… وظهور الاتصال يخرج المنقطع لكن يدخل منه ما فيه انقطاع خفيّ كعنعنة المدلس والنوع المسمَّى بالمرسل الخفيّ، فلا يخرج ذلك عن كون الحديث يُسمَّى مسندًا، ومن تأمّل مصنّفات الأئمّة في المسانيد لم يرها تخرج عن اعتبار هذه الأمور. وقد راجعت كلام الحاكم بعد هذا فوجدت عبارته: "والمسند ما رواه المحدّث عن شيخه .... " فلم يشترط حقيقة الاتصال، بل اكتفى بظهور ذلك - كما قلته تفقّهًا، ولله الحمد - " انتهى كلام الحافظ، وقد قال الحاكم بعد التعريف السابق (ص 143): "ثم للمسند شرائط غير ما ذكرناه، منها أن لا يكون موقوفًا ولا مرسلًا ولا معضلًا ولا في روايته مدلّس". فذكره للتدليس يبعد كلام الحافظ فيما نسبه إليه من عدم اشتراط حقيقة الاتصال والاكتفاء بظهوره. والله أعلم.
(20) بيَّنتُ الأقوال والاختلاف مع سببه وبيان الراجح في شرحي على "جزء في علوم الحديث" لأبي عمرو الداني، المُسمَّى بـ "بهجة المنتفع" (ص 85 - 87)، وهو من منشورات الدار الأثريّة، عمان، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.