الأثر العملي لمحمد بن السائب في التفسير
المؤلف:
المَجمع العلمي للقران الكريم
المصدر:
المدون الأول لعلم احكام القران محمد بن السائب الكلبي
الجزء والصفحة:
ص 83 – 91
2025-05-07
619
انماز محمد بن السائب في سعة علمه في التفسير، وكان يصرُّ على رأيه في ذلك لايعبأ بالأهواء ولم يحاب الأمراء[1]، حتى قيل إنّ سليمان بن علي - عمّ السفّاح والمنصور وكان والياً على البصرة- استقدم محمّد بن السائب من الكوفة إلى البصرة وأجلسه في داره يملي على الناس القرآن حتّى إذا بلغ إلى آية في سورة براءة[2]، ففسرها على خلاف ما يعرف فقالوا: لا نكتب هذا التفسير، فقال الكلبي: واللّه لا أمليت حرفا حتّى يكتب تفسير هذه الآية على ما أنزله اللّه فرفعوا ذلك إلى سليمان بن علي فقال: اكتبوا ما يقول ودعوا ما سوى ذلك[3].
فقد كان يفسّر القرآن بما رواه عن شيخه أبي صالح عن ابن عباس، فلم يكن مفسّراً برأيه، حتى إنّه قد روى حديثاً عَن أَبِي صَالِحٍ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وآله قَال: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَإِنْ أَصَابَ لَمْ يُؤْجَرْ[4]، فلابدّ أنْ يكون قد عمل بهذا الحديث، وأخذ بما نصّ فيه، والتنزه عن القول برأيه.
وروى عبد الوهاب بن عطاء عن الكلبي أنّه قال: كل ما لم أسنده لكم فهو كله عن أبي صالح عن ابن عباس[5]، وهو واضح الدلالة.
وروي عنه فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ { يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قَالَ يَمْحُو الله مِنَ الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ وَيَمْحُو مِنَ الأَجَلِ وَيَزِيدُ فِيهِ، قالَ: قُلتُ لَهُ مَنْ حَدَّثَكَ، قَال: حَدَّثني أَبُو صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبد الله بْنِ رَبَابَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله[6].
فعندما سُئل بقولهم من حدثك؟ أسند حديثه إلى النبي صلى الله عليه وآله ، ويفهم من ذلك أنّ ما يقوله من تفسير لابد من محدّث قد حدّثه به فيسنده إليه، حتى كان ذلك مورداً للطعن فيه وفي هذا قال علاء الدين البخاري ت730هـ - من علماء الجمهور:طَعَنُوا فِيهِ بِأَنَّهُ يَرْوِي تَفْسِيرَ كُلِّ آيَةٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسَمَّى زَوَائِدَ الْكَلْبِيِّ[7]، فأين ذلك من التفسير بالرأي؟!
ولعلّ هذه القرائن كافية لنفي دعوى القول بالرأي في تفسيره. ولكن يحتمل أنْ يكون في هذا التفسير زيادة على ما فيه من لدن بعضهم كما نقل ابن حبان منفرداً عن جرير بن حازم قال: كُنَّا نسْمع تَفْسِير الْكَلْبِيّ خَمْسمِائَة آيَة ثمَّ كثر بعد[8]، وهذا إن صح فلا يُعدّ قدحاً في المؤلف بل بمن زاد فيه.
نماذج من تفسيره:
ضمّت كتب التفسير والتراجم في طياتها كثيراً من نماذج تفسير محمد بن السائب، يمكن أن نعرض للقارئ بعضاً منها وهي على النحو الآتي:
أ- في اسباب النزول:
1- أخرج الحافظ الكبير عبيد اللّه بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني الحذّاء الحنفي النيسابوري، أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ:أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْمُذَكِّرُ إِمْلَاءً قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَاضِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً }[قَالَ]: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ- فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا، وبِدِرْهَمٍ نَهَاراً، وبِدِرْهَمٍ سِرّاً وبِدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا قَالَ: حَمَلَنِي عَلَيْهَا رَجَاءُ أَنْ أَسْتَوْجِبَ عَلَى الله الَّذِي وَعَدَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَلَا إِنَّ ذَلِكَ لَكَ. فَأَنْزَلَ الله الْآيَةَ فِي ذَلكَ[9].
2- حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَن أَبِي صَالِحٍ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَا أَبْسَطُ مِنْكَ لِسَانًا وَأَحَدُّ مِنْكَ سِنَانًا وَأَمْلأُ مِنْكَ جَسَدًا فِي الْكَتِيبَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ اسْكُتْ فَإِنَّكَ فَاسِقٌ فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يستوون}.
يَعْنِي بالمؤمن عَلِيًّا(عليه السلام) ، وَيعني بالفاسق الْوَلِيدَ الْفَاسِقَ[10].
ب- في عموم التفسير
1- وقال أبو بكر بن عياش: سألني الأعمش عن المتقين؟ فأجبته، فقال لي: سل عنها الكلبي؛ فسألته فقال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم} قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال:«نرى أنه كذلك» ولم ينكره[11].
2- أَخْبَرَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنِ ابْنِ صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ رِئَابٍ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وآله قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وفِي الْآخِرَة }، قَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْعَبْدُ أَوْ تُرَى لَهُ»[12].
وهذه الرواية غير مسندة إلى ابن عباس لكنها من
تفسير الكلبي.
ج- في تفسير آيات الأحكام
1- في قوله تعإلى:{وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ والْمُعْتَر} [الحج: 36]، روي عن السَّاجِيُّ، عن بُنْدَار، عن مُحَمد بن جعفر، عن شُعْبَة، قَال: قَال الكلبي: القانع الذي يسأل والمعتر الذي يعتريك كأنه يتعرض[13].
2- في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } قال: الكبائر كلّ شيء سمى الله تعالى فيه النار لمن عمل بها، أو شيء نزل فيه حدّ في الدنيا، فمن اجتنب من هذا وهو مؤمن كفر الله عنه ما سواه من الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، وشهر رمضان إلى شهر رمضان إن شاء الله تعالى[14].
هذه نماذج مختارة ومختصرة من تفسير الكلبي محمد بن السائب، ذكرناها بإيجاز لئلا يطول المقام على القارئ، ومن أراد الزيادة فليطلبها في كتب التفسير والتراجم، فهي متناثرة بين تلك المصنفات، وكلّها من تفسير محمد بن السائب، فلم يُطبع تفسيراً جامعاً له، وإنّما هو ما زال مخطوطاً في المكتبات.
وكتاب تفسيره هذا، له اثرٌ موجودٌ في المكتبات، قد استقصى أحد الباحثين جميع نسخه المخطوطة في المكتبات، منذ سنة 144هـ إلى القرن الثاني عشر [15].
وهذا الكتاب غير أحكام القرآن - عند بعض العلماء،- وهناك ممّن أشار بأنّ للكلبي كتاباً واحداً – ومرَّ ذلك في المبحث الأول- وعلى أساس ذلك فإن تفسيره هذا أحكام القرآن ذاته الذي عُدَّ المُدوَّن الأول في هذا الفن كما
[1]يُنظر الغارات ط - القديمة؛ ج1 ؛ ص124
[2]قال الشيخ معرفة: ويبدوا أنّ الآية هي قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها})[التمهيد في علوم القرآن ط مؤسسة التمهيد ): 10/ 218]
[3]الفهرست، ابن النديم: 139.
[4]«الكامل في ضعفاء الرجال» 7/ 274):
[5]تفسير السمرقندي بحر العلوم 1/ 290:
[6]يُنظر المصدر السابق: 7/ 282):
[7]كشف الأسرار شرح أصول البزدوي» 3/ 72 - 73)
[8]«المجروحين لابن حبان ت زايد» 2/ 256):
[9]شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، ج1، ص: 140
[10]الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 282.
[11]يُنظر تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث 1/ 243:
[12]الطبقات الكبرى ط دار صادر 3/ 574
[13]الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 278:
[14]يُنظر تفسير السمرقندي بحر العلوم 1/ 297:
[15]معجم مصنفات القرآن الكريم، دكتور علي شواخ: 2/ 166 - 169، رقم 1005 .
الاكثر قراءة في تراجم المفسرين
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة