محمد بن السائب وحاله في الحديث
المؤلف:
المَجمع العلمي للقران الكريم
المصدر:
المدون الأول لعلم احكام القران محمد بن السائب الكلبي
الجزء والصفحة:
ص 57 – 70
2025-05-07
719
توطئة:
كثُرَتْ أقوال الرجاليين في بيانهم لحال محمد بن السائب في الحديث وكثُرَ الجُرح في شخصه، عند العامةِ، بيْد إن الإمامية لم يقدحوا بحاله، ولعلّ للقدح في حاله أسبابًا ومسببات سنقف عليها في مبحثنا هذا؛ لذا فاننا سنستعرض أقوال الرجاليين من الأمامية والعامة، ومن ثم بيان القول الفصل للبحث فيه.
أقوال الرجاليين في حال محمد بن السائب
ذكر الرجاليون ابن السائب الكلبي في مصنفاتهم، بين من قدح به ومن ذكره بلا تصريح يبين حاله عندهم، وهذه الأقوال بين الإمامية والعامة وهي على النحو الآتيّ:
أولاً قول الإمامية في بيان حاله:
فقد ذكره علماء الإمامية من دون التعرض لقدحه، وقد عدّوه من أصحاب الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) ، فقد ذكر السيد الخوئي أنّ الشيخ قد عدّه من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) ، فيما عدّه البرقي من أصحاب الصادق (عليه السلام) [1].
وقال السيد محسن الأمين: لم يذكره أصحابنا في كتب الرجال بقدحٍ ولكن الكليني في الكافي روى حديثًا عن الكلبي النسابة يعرف منه جملة من أحواله[2].
قول العامة في بيان حاله
أما رجال الحديث عند العامة فقد جرَّحوه في الحديث، وعبّروا عن ذلك بعبارات مختلفة مؤداها واحد من قبيل قولهم مَتْرُوك الحَدِيث[3]، أو قولهم ليس بشيء[4]، أو ضعيف الحديث[5]، وغير ذلك من العبارات، والمتتبع لتلك الأقوال يصل به الحال إلى أنّها قد اقتطعت من مقولات قيلت في حقّ العالم الجليل محمد بن السائب وأن تتمة تلك الأقوال ما قال به الذهبي عنه وَكَانَ أَيْضاً رَأْساً فِي الأَنسَابِ، إِلَاّ أَنَّهُ شِيْعِيٌّ، مَتْرُوْكُ الحَدِيْثِ[6]، ومثل ذلك تندرج تلك المقتطعات من مقولات أشادت بالعالم الكلبيّ.
وقال الدوري عن يحيى بن يعلى المحاربي قال قيل لزائدة ثلاثة لا تروي عنهم بن أبي ليلى وجابر الجعفي والكلبي ... وأما الكلبي وكنت أختلف إليه فسمعته يقول مرضت مرضة فنسيت ما كنت أحفظ فأتيت آل محمد ...فحفظت ما كنت نسيت[7].
هذه وغيرها من أبرز كلماتهم فيه، تبيّن حاله عندهم، وهناك من استثنى بعض أحاديثه خاصةً التي كانت عن أبي صالح، قال ابن عدى: وللكلبيّ غير ما ذكرت من الحديث أحاديث صالحة، وخاصة عن أبي صالح[8].
هذه خلاصة أقوال الرجاليين من الشيعة والسنة في بيانهم لحال محمد بن السائب الكلبيّ في الحديث.
القول الفصل في حال محمد بن السائب
لقد بانَ في المطلب السابق حال محمد بن السائب الكلبي في الحديث عند الشيعة والعامة.
لكننا في هذا المطلب نسعى لبيان مدى واقعية ما أُحيل عليه - عن طريق العامة- من اقوال تقدح فيه، وهل أن ذلك يقتضي ترك جميع مروياته أم هنالك قول آخر؟
ولعلّ ممّا يُروى عنه كان له ما يسوغّه؛ إذ ما قيل عن محمد قيل عن غيره من العلماء، وهذا ما صرّح به علاء الدين البخاري ت730هـ وهو من علماء أهل السنة، لم يقبل بالطعن في حقه إذ قال: فَإِنْ قِيلَ مَا نُقِلَ عَنْ الْكَلْبِيِّ يُوجِبُ الطَّعْنَ عَامًّا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ رِوَايَاتُهُ جَمِيعًا قُلْنَا إنَّمَا يُوجِبُ ذَلِكَ إذَا ثَبَتَ مَا نَقَلُوهُ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ فَأَمَّا إذَا اُتُّهِمَ بِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الثُّبُوتِ وَبِالشُّبْهَةِ تُرَدُّ الْحُجَّةُ وَيَنْتَفِي تَرْجِيحُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ.
أَوْ مَعْنَاهُ لَيْسَ كُلُّ مِنْ اُتُّهِمَ بِوَجْهٍ سَاقِطَ الْحَدِيثِ مِثْلَ الْكَلْبِيِّ وَعَبْدِ الله بْنِ لَهِيعَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ طُعِنَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِوَجْهٍ وَلَكِنَّ عُلُوَّ دَرَجَتِهِمْ فِي الدِّينِ وَتَقَدُّمَ رُتْبَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ مَنَعَ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ الطَّعْنِ فِي حَقِّهِمْ وَمِنْ رَدِّ حَدِيثِهِمْ بِهِ إذْ لَوْ رُدَّ حَدِيثُ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ بِطَعْنِ كُلِّ وَاحِدٍ انْقَطَعَ طَرِيقُ الرِّوَايَةِ وَانْدَرَسَتْ الْأَخْبَارُ إذْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَنْ لَا يُوجَدُ فِيهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِمَّا يُجْرَحُ بِهِ إلَّا مَنْ شَاءَ الله تَعَالى فَلِذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلى مِثْلِ هَذَا الطَّعْنِ وَيُحْمَلُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَهُوَ قَصْدُ الصِّيَانَةِ كَمَا ذُكِرَ[9] فهذا الكلام أدنى ما يُفاد منه قبول بعض أحاديث الكلبي في قِبال ترك بعضها، وغاية مفاده هو عدم قبول الطعن بحقه مطلقاً لعلو مقامه في العلم وسمو درجته وتورّعه في الدين وما صدر من شهادة علاء البخاري يكشف ذلك.
فإن القرائن التي تحفُّ بشخصية محمد بن السائب توحي بأنَّ له مقاماً عالياً في العلم، وهو من أعلام الأنساب والتفسير والأخبار كما وصفوه فقال ابن سعد: كان عالماً بالتفسير وأنساب العرب وأحاديثهم[10].
وقال ابن خلكان عنه: صاحب التفسير وعلم النسب كان إمامًا في هذين العلمين[11].
وقال الصفدي وَهُوَ آيَة فِي التَّفْسِير وَاسع الْعلم[12].
وهو على الرغم من علو درجته في العلم قد تعرّض للجرح من رجال الحديث عند أهل السنة، بيد أن تعبيرهم بعبارات الجرح أكثرها معلّلة بتعليلات لا تضرّ بوثاقته، فليس الكذب سجية من سجاياه، وإنمّا وصف بالكذب لمذهبه الاعتقادي.
فقد علّل الساجي ضعفه لفرطه في التشيع[13] وقال الذهبي وكان أيضًا رأسًا في الأنساب إلّا أنّه شيعيّ متروك الحديث[14]، وقال صاحب الغارات ناقلاً عنهم: وقد طعن فيه وفي روايته جماعة لميله لأهل البيت عليهم السلام ونقل بعض مناقبهم[15]، وبهذا تركوا حديثه وضعَّفوه لتشيعه، ولا ملازمة بين الكذب والتشيع - كما لايخفى-
إلا التعصب الاعمى، فإن اعتقاد الشخص لاينبغي أن يكون مسوّغاً لتكذيبه.
وكان السيد محسن الامين قد شخَّص ذلك بقوله: وأما هذا القدح الذي حكاه ابن حجر فالظاهر أنّ سببه النسبة إلى التشيع .. ونسبتهم له إلى الكذب بل الكفر لروايته بعض الكرامات لأهل البيت عليهم السلامالتي لا تستطيع النفوس أن تقبلها ولا العقول أن تصدق بها[16] وأن مذهبه الاعتقادي كان سببًا لاتهامه بالكذب حتى قال الصفدي: اتّهمَ بالأخوين الْكَذِب والرفض وَهُوَ آيَة فِي التَّفْسِير وَاسع الْعلم[17]، فكأن هناك ملازمة بين الرفض والكذب!
وممّا نقل في ذلك ما روي عن يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربي قال: قيل لزائدة لم لا تروى عن الكلبي؟ قال كنت أختلف إليه فسمعته يوماً وهو يقول مرضت مرضة فنسيت ما كنت احفظ فأتيت آل محمد صلى الله عليه وسلم ... فحفظت ما كنت نسيت، فقلت لا والله لا اروي عنك بعد هذا شيئاً فتركته[18].
قال الشيخ محمد هادي معرفة تعليقاً على هذا القول، قال هذا كلام من أعمته العصبية الجهلاء، كيف يستنكر ذلك بشأن آل محمد الطيّبين الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا! أليس اللّه قد شافى عليّا (عليه السلام) من الرمد يوم خيبر، بريق النبي الكريم (صلّى اللّه عليه وآله) حسبما رواه الفريقان واتفقت عليه كلمة الأئمّة الثقات[19].
وتساءل السيد علي الميلاني[20] إذا كان هذا الرجل مجمعاً على تركه ومتّهماً بالكذب والرفض، فكيف روى عنه الجماعة وحتى بعض أصحاب الصحاح؟
وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال قال الميلاني: الواقع: إنهم كانوا يعتمدون عليه في التفسير، فقد ذكر ابن حجر عن ابن عدي: «حدّث عنه ثقات من الناس ورضوه في التفسير» ولذا روى عنه الترمذي وابن ماجة في التفسير كما عرفت ولم يكونوا يعتمدون عليه في الحديث، كما عرفت من عبارة ابن سعد حيث قال: «في روايته ضعيف جدّاً »[21].
ثمّ أردف قائلاً بل إنّ مثل عطيّة الذي لازم جماعةً من كبار الصحابة وروى عنهم، في غنىً عن الرواية عن الكلبي لكنّهم حيث كانوا يأخذون منه التفسير كانوا يحاولون التستّر على ذلك لأنّه كان يفسّر الآي ويذكر الأقوام الذين نزلت فيهم بأعيانهم - ولعلّه لذا رمي بالكذب والرفض - وكذلك كان عطيّة، فإنّه كان يكنّيه لئلاّ يعرف الرجل فتلاحقه السّلطات، لا لغرض التدليس والتلبيس . . . ويشهد بذلك كلام قاضي القضاة ابن خلكان بترجمة الكلبي: «روى عنه سفيان الثوري ومحمد بن إسحاق، وكانا يقولان: حدثنا أبو النصر، حتى لا يعرف »[22] فلو كان ما يفعله عطيّة مضرّاً بوثاقته لتوجّه ذلك بالنسبة إلى سفيان وابن إسحاق[23]
ونقل العلامة الأميني مارواه ابن حجر عن زيد بن حباب أنّه سمع الثوري يقول عجبا لمن يروي عن الكلبي قال ابن أبي حاتم فقلت لأبي ان الثوري روى عنه فقال كان لا يقصد الرواية عنه ويحكي حكايته تعجبا فيعلقه من حضره ويجعلونه رواية[24] ثم يعلق عليها بقوله: وفي هذا الاعتذار ما لا يخفى من التكلف وكيف يصرح بأنّه كذب فيما حدث به عن أبي صالح[25] فإن كان متدينًا لا يستحل الكذب فكيف كذب وإن كان لا يتدين فكيف ينسب نفسه إلى الكذب ويسقطها من أعين الناس وهو عاقل مع أن ابن عدى اعترف بأنّ له أحاديث صالحة وخاصة عن أبي صالح وهو ينافي ما ذكر ففي تهذيب التهذيب قال ابن عدي له غيرما ذكرت أحاديث صالحة وخاصة عن أبي صالح وهو معروف بالتفسير وليس لاحد أطول من تفسيره وحدث عنه ثقات من الناس ورضوه في التفسير واما في الحديث ففيه مناكير[26] ثم اضاف تعليقاً على ذلك بقوله أقول مناكيره روايته بعض مناقب أهل البيت التي لم تحملها عقولهم واحتملت مثلها أو أعظم في غيرهم وكيف يجتمع تكذيب ابن حبان المتقدم روايته التفسير عن أبي صالح مع قبول ابن عدي لأحاديثه في التفسير خاصة عن أبي صالح ورواية الثقات عنه ورضائهم إياه في التفسير[27].
هذه خلاصة ما أردنا عرضه، وبانَ منها عدم موضوعية التجريح الصادر تجاه محمد بن السائب الكلبيّ الذي هو من العلماء الأفذاذ، ومن العلماء الثقات في الحديث.
[1]يُنظر معجم رجال الحديث: 17/ 114 .
[3]«الضعفاء والمتروكون للنسائي» ص90)،
[5]«الأعلام للزركلي» 6/ 133):
[6]سير اعلام النبلاء، الذهبي: 6/248، وينظر: «الكنى والأسماء - للإمام مسلم» 1/ 435).
[7]يُنظر: «تهذيب التهذيب» 9/ 179):
[8]«قبول الأخبار ومعرفة الرجال» 2/ 72):
[9]«كشف الأسرار شرح أصول البزدوي» 3/ 72 - 73):
[10]«الطبقات الكبير» 8/ 479 ط الخانجي):
[11]«وفيات الأعيان، ابن خلكان» 4/ 309):
[12]«الوافي بالوفيات» 3/ 70):
[13]يُنظر «قبول الأخبار ومعرفة الرجال» 2/ 72):
[14]سير أعلام النبلاء 6/ 248)
[15]الغارات ط - القديمة؛ ج1 ؛ ص124)
[16]أعيان الشيعة: 9/ 339 .
[17]«الوافي بالوفيات» 3/ 70):
[18]«الجرح والتعديل لابن أبي حاتم» 7/ 270):
[19]التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، محمد هادي معرفة: 1/292.
[20] يُنظر حديث الثقلين تواتره – فقهه )، علي الميلاني: 116 .
[22]وفيات الأعيان: 4/311.
[23]المصدر نفسه: 116-117 .
[24]يُنظر «تهذيب التهذيب» 9/ 179):
[25]اشارة الى ما رواه ابن حجر بان أبو عاصم قال: زعم لي سفيان الثوري قال: قال الكلبي: ما حدثت عن أبي صالح عن ابن عباس فهو كذب فلا ترووه [تهذيب التهذيب» 9/ 180):]
[26]أعيان الشيعة: 9/ 339 .
الاكثر قراءة في تراجم المفسرين
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة