الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
سوء الظنّ وحسن الظنّ
المؤلف:
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر:
الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة:
ج3/ ص283-307
2025-02-07
299
تنويه :
إنّ سوء الظن عند ما يتحوّل إلى حالة باطنية وخصلة أخلاقية فإنّه يعدّ من أشنع الرذائل الأخلاقية التي تؤدّي إلى الفرقة بين العوائل وتمزّق المجاميع البشرية والإنسانية.
وأوّل ثمرة سلبية لسوء الظن هي عدم الاعتماد وزوال الثقة بين الناس ، وعند ما تزول الثقة فإنّ عملية التعاون والتكاتف في حركة التفاعل الاجتماعي ستكون عسيرة للغاية ، ومع زوال التعاون والتكاتف في المجتمع البشري فسوف يتبدّل هذا المجتمع إلى جحيم ومحرقة يعيش فيه الأفراد حالة الغربة والوحدة من الأفراد الآخرين ويتحرّكون في تعاملهم من موقع الريبة والتشكيك والتآمر ضدّ الآخر.
ولهذا السبب فإنّ الإسلام ولأجل توكيد ظاهرة الاعتماد المتقابل بين الأفراد والامم إهتمّ بهذه المسألة اهتماماً بالغاً ، فنهى بشدة عن سوء الظن ومنع الأسباب التي تورث سوء الظن لدى الأفراد ، وعلى العكس من ذلك فإنّه مدح وأيّد بشدّة حسن الظن الذي يفضي إلى زيادة المحبّة والاعتماد المتقابل والثقة بالطرف الآخر ، وبالتالي تحرّك المجتمع نحو التقدّم والتعالي والتكامل في مسيرته الحضارية ، واعتبر أنّ حسن الظن من الصفات والأعمال الإيجابية جدّاً ودعي الناس إلى ذلك.
ولا شك أنّ حسن الظن قد يؤدّي إلى بعض الخسارة أحياناً ، ولكن هذه الخسارة لا تقبل القياس مع الاضرار الوخيمة والآثار السلبية الكثيرة المترتبة على سوء الظن.
وطبعاً ، فإنّ لسوء الظن فروعاً وأقساماً ، وأحد أسوأ هذه الفروع هو سوء الظن بالله والذي يأتي بحثه لاحقاً.
وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة دروساً في دائرة سوء الظن وحسن الظن :
1 ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)([1]).
2 ـ (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)([2]).
3 ـ (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)([3]).
4 ـ (إِذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)([4]).
5 ـ (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ)([5]).
6 ـ (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ)([6]).
تفسير واستنتاج :
«الآية الأولى» : تستعرض الحديث عن سوء الظن وتنهى المؤمنين بصراحة وبشدة عن سوء الظن في تعاملهم الاجتماعي فيما بينهم وتشير إلى أنّه قد يكون بمثابة المقدمة إلى التجسس والغيبة وتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).
ولكن لماذا ورد التعبير (كثيراً من الظن)؟ لأن أكثر أشكال الظن بين الناس بالنسبة إلى الطرف الآخر تقع في دائرة السوء والشر ، لذلك ورد التعبير بقوله (كثيراً).
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من كلمة (كثير) أنّ أغلب الظنون هي من جنس الظنون السيئة بل إنّ الظنون السيئة كثيرة بالنسبة لها رغم أنّها بالمقايسة إلى ظنون الخير لا تكون كثيرة ، ولكن ظاهر الآية ينسجم مع المعنى الأوّل أكثر.
والملفت للنظر هو أنّ هذه الآية بعد النهى عن كثير من الظن ذكرت العلّة في ذلك وقالت بأنّ بعض الظنون هي في الحقيقة إثم وذنب ، وهو إشارة إلى أنّ الظنون السيئة على قسمين:
فمنها ما يطابق الواقع ومنها ما يخالف الواقع ، فما كان على خلاف الواقع يكون إثماً وذنباً ، وبما أنّ الإنسان لا يعلم أيّهما المطابق للواقع وأيّهما المخالف ، وعليه فيجب تجنّب الظن السيء اطلاقاً حتى لا يتورط الإنسان في سوء الظن المخالف للواقع وبالتالي يقع في الإثم وممارسة الخطيئة.
وبما أنّ سوء الظن بالنسبة إلى الإعمال الخاصّة للناس يعد أحد أسباب التجسس ، وأحد الدوافع التي تقود الإنسان إلى أن يتجسس على أخيه ، والتجسس بدوره يتسبب أحياناً في الكشف عن العيوب المستورة للآخرين وبالتالي سيكون سبباً ودافعاً للغيبة أيضاً ، ولذلك فانّ الآية الشريفة تتحدّث عن سوء الظن أوّلاً ، وفي المرحلة الثانية ذكرت عنصر التجسس ، وفي الثالثة نهت عن الغيبة.
وهناك بحث سنأتي عليه في ختام البحث عن الآيات والروايات الشريفة وهو أنّه هل أنّ سوء الظن أمر اختياري أو غير اختياري؟ وإذا كان غير اختياري فكيف يمكن النهي عنه؟ وإذا كان اختيارياً فهل يحرم مطلقاً حتى إذا لم يرتكب الإنسان عملاً بدافع من سوء الظن هذا ، أم لا؟ وتأتي «الآية الثانية» : لتتحدّث عن المنافقين من موقع الذم والتوبيخ ، وهم الذين امتنعوا من السير في ركب النبي (صلى الله عليه وآله) والخروج معه في واقعة الحديبية وتوهّموا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الذين انطلقوا إلى مكة سوف لا يعودون إلى أهليهم أبداً بل سيقتلون عن آخرهم بأيدي المشركين من قريش في حين أنّ القضية انعكست تماماً وعاد المسلمون بذلك النصر الباهر في صلح الحديبّية وهو سالمون لم يصب أحد منهم بأذى فتقول الآية : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً).
ومفردة (بور) في الأصل بمعنى شدّة الكساد ، وبما أنّ شدّة الكساد باعثة على فساد الشيء كما في المثل المعروف لدى العرب (كسد حتى فسد) فانّ هذه الكلمة تأتي بمعنى الفساد ، ثم أطلقت على معنى يتضمّن الهلكة والاندثار ، وأطلقت على الأرض الخالية من الشجر والنبات فيقال (بائر) لأنّها في الحقيقة فاسدة وميتة.
وهكذا نجد أنّ فئة المنافقين الذين عاشوا هذا الظن السيء في واقعة صلح الحديبية لم يكونوا قلّة ، ومن المعلوم أنّه لم يصيبهم الهلاك بمعنى الموت ، وعليه فإنّ (بور) بمعنى الهلاك المعنوي والمحرومية من الثواب الإلهي وخلوّ أرض قلوبهم من أشجار الفضائل الأخلاقية والشجرة الطيّبة للإيمان ، أو يكون المراد الهلاك الاخروي بسبب العذاب الإلهي ، والهلاك الدنيوي بسبب الفضيحة ، وعلى أيّة حال فالآية الشريفة تدل بوضوح على النهي عن سوء الظن وخاصة بالنسبة إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
وفي «الآية الثالثة» : من الآيات محل البحث نجد بحثاً آخر عن سوء الظن بالنسبة إلى ساحة الربوبية والحقيقة المقدّسة الإلهية في حين أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن سوء الظن بالنسبة لأفراد البشر ، فتقول الآية بعد أن قرّرت أنّ الهدف الآخر من الفتح المبين وهو فتح الحديبية أنّ الله تعالى يريد أن يعذّب المنافقين والمشركين فتقول : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).
إنّ سوء الظن بالله تعالى من جانب هؤلاء هو لانهم كانوا يتصوّرون أنّ الوعود الإلهية للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) سوف لا تتحقّق أبداً وأنّ المسلمين مضافاً إلى عدم انتصارهم على العدو فإنّهم سوف لا يعودون إلى المدينة اطلاقاً ، كما كان في ظن المشركين أيضاً حيث توهّموا أنّهم سوف يهزمون رسول الله وأصحابه لقلّة عددهم وعدم توفّر الأسلحة الكافية في أيديهم وأنّ نجم الإسلام منذر بالزوال والافول ، في حين أنّ الله تعالى وعد المسلمين النصر الأكيد وتحقّق لهم ذلك ، بحيث أنّ المشركين لم يتجرّأوا أبداً على الهجوم على المسلمين (رغم أنّ المسلمين في الحديبية وعلى مقربة من مكّة كانوا تحت يدهم ولم يكونوا يحملون أي سلاح لأنّهم كانوا قاصدين لزيارة بيت الله الحرام) وهكذا ألقى الله تعالى الرعب والخوف في قلوب المشركين إلى درجة أنّهم خضعوا ووجدوا أنفسهم ملزمين بكتابة الصلح المعروف بصلح الحديبية ، ذلك الصلح الذي مهّد الطريق للانتصارات الباهرة التي نالها المسلمون فيما بعد.
وعلى أيّة حال فإنّ القرآن الكريم يذم سوء الظن هذا ذمّاً شديداً ويعد عليه العذاب الأليم والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة.
والملفت للنظر في هذه الآية أنّ مسألة سوء الظن بالله تعالى كانت بمثابة القدر المشترك بين المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، وبيّنت هذه الآية أنّ جميع هذه الفئات والطوائف شركاء في هذا الأمر ، بخلاف المؤمنين الذين يحسنون الظن بالله تعالى وبوعده وبرسوله الكريم ويعلمون أنّ هذه الوعود سوف تتحقّق قطعاً ، ولعلّ تحقّقها قد يتأخر فترة من الوقت لمصالح معيّنة ولكنها أمر حتمي في حركة عالم الوجود ، لأنّ الله تعالى العالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا يمكن مع هذا العلم المطلق والقدرة اللّامتناهية أن يتخلّف في وعده ، ولهذا السبب فإنّ الآية التالية لهذه الآية من سورة الفتح تقول : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).
أمّا السبب الذي دفع المنافقين والمشركين أن يقعوا في حبالة سوء الظن في حين أنّ قلوب المؤمنين مملوءة بحسن الظن بالله تعالى فإنّما هو لأجل أنّ المشركين والمنافقين لا يرون من الامور إلّا ظاهرها ولا يتحرّكون إلّا من موقع الأخذ بظاهر الحوادث والوقائع دون الحقائق الكامنة في باطنها ، في حين أنّ المؤمنين الحقيقيين يتوجّهون إلى باطن الامور ويأخذون بالمحتوى والمضمون للواقعة.
وتستعرض «الآية الرابعة» أيضاً سوء الظن بالنسبة إلى الوعد الإلهي الذي تزامن مع حرب الأحزاب ، وهي الحرب التي اعتبرت أخطر الحروب التي واجهها النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون ، لأنّ المشركين كانوا قد اتحدوا مع جميع المخالفين للإسلام وشكّلوا أعظم جيش في ذلك الزمان بهدف القضاء على الإسلام والمسلمين ، وكان هذا الجيش من القوة والعظمة أنّ ضعيفي الإيمان تزلزلوا لذلك وشككوا بالوعود الإلهية في نصرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والمسلمين ، فتقول الآية حاكية عن هذه الحالة الشديدة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت العصيب : (إِذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً).
ولا شك أنّ سوء الظن بالله تعالى يختلف كثيراً عن سوء الظن بالناس ، لأنّ سوء الظن بالناس غالباً ما ينتهي بارتكاب الإثم أو سلوك طريق خاطئ في التعامل مع الطرف الآخر ، في حين أنّ سوء الظن بالله تعالى يتسبب في تزلزل دعائم الإيمان وأركان التوحيد في قلب المؤمن ، أو أنّه يكون دافعاً وعاملاً من العوامل لذلك ، لأنّ الاعتقاد بأنّ الله تعالى قد يخلف وعده يقع في دائرة الكفر ، لأنّ خلف الوعد إمّا ناشئ من الجهل أو العجز أو الكذب ، ومعلوم أنّ كل واحد من هذه الامور محال على الله تعالى وأنّ الذات المقدّسة منزّه عن هذه الامور السلبية ، ولهذا السبب فإنّ الآيات محل البحث التي تستعرض سوء الظن بالله تذم هذه الحالة بشدّة وعنف.
«الآية الخامسة» تتحدّث أيضاً عن سوء الظن بالله تعالى ، وهذه الآية ناظرة إلى غزوة أحد والتي ابتلى بعض المسلمين فيها بعد هزيمتهم في ميدان الحرب أمام المشركين بسوء الظن بالنسبة إلى الوعد الإلهي بالنصر ، فنزلت الآية المذكورة موبّخه لهم بشدّة على سوء الظن هذا ، في حين أنّ الآيات التي وردت قبلها هي في الحقيقة إشارة إلى أنّ وعد الله بالنصر على الأعداء قد تحقق في بداية الأمر في معركة أحد ، ولكنّ طلّاب الدنيا والطامعين في زخارفها غفلوا عن هجوم العدو وانشغلوا بجمع الغنائم الحربية ، وبالتالي تسببوا في الهزيمة المرّة لجيش الإسلام ، فهنا نجد أنّ الله تعالى قد وفى بعهده ووعده ولكنهم كما تقول الآية لم يتحرّكوا في خط الإيمان والاستقامة ، ثم تأتي الآية محل البحث لتقول للمسلمين : (إِذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً).
وفي ذيل هذه الآية إشارة أيضاً إلى أنّ هذا امتحان إلهي لكم ليتّضح ميزان وفاءكم واستقامتكم ومقدار إيمانكم بالله تعالى وبالإسلام.
ويتّضح من سياق هذه الآية والآيات التي قبلها هذه الحقيقة ، وهي أنّ مسألة سوء الظن بالله غالباً تصيب الأشخاص الضعيفي الإيمان في مواقع الشدّة والأزمة ، سواءاً كانوا في معركة الأحزاب ، أو في أحد أو في الحديبية ، وفي الحقيقة أنّ مثل هذه المواقع تعدّ بمثابة المختبر للكشف عن جوهر إيمان الشخص وإخلاصه.
وتأتي «الآية السادسة» والأخيرة لتستعرض أيضاً سوء الظن بشكل عام من موقع الذم وتدعو كذلك إلى حسن الظن ، وهذه الآية ناظرة إلى قصّة الإفك المعروفة في عصر النزول ، ونعلم أنّ جماعة من المنافقين اتّهموا أحدى زوجات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بخروجها عن جادّة العفاف وشاعوا ذلك بين الناس إلى درجة أنّ هذه الشائعة وبلحظات قليلة استوعبت جميع من في المدينة ، وبالرغم من أنّ هدف المنافقين حسب الظاهر هو اتهام احدى زوجات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولكنّهم في الواقع كانوا يستهدفون النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإسلام والقرآن بالذات ، وفي هذه الفترة الحرجة نزلت الآيات أعلاه لتفضح نفاق المنافقين وتزيل الحجاب عن سلوكياتهم الدنيئة وتبطل مؤامراتهم الخبيثة ، ونرى أنّ عبارات هذه الآيات من القوة والدقّة في المضامين والبلاغة بحيث أنّها تثير الاعجاب لدى كل إنسان ، والآية مورد البحث هي أحد الآيات الخمسة عشر النازلة في واقعة الإفك حيث تقول الآية : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).
والتعبير بالمؤمنين والمؤمنات يدل على أنّ من علامات الإيمان هو حسن الظن بالنسبة إلى المسلمين ، وتدلّ على أنّ سوء الظن يتقاطع مع جوهر الإيمان.
وفي الواقع فانّ هذه الآية تقسّم الناس إلى ثلاث طوائف طائفة المنافقين الذين يشيعون الإفك بين المسلمين ، وطائفة منهم هم القادة والكبار من المنافقين الذين تعبّر عنهم الآية : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ).
وطائفة ثالثة هم المؤمنون الذين توّرطوا في تصديق هذا الإفك المبين من موقع طيبة أنفسهم وطهارة قلوبهم وسذاجة عقولهم.
فهنا نجد أنّ القرآن الكريم يتحدّث في هذه الآية مخاطباً الطائفة الثالثة من موقع الذم الشديد والتوبيخ وأنّهم لماذا أصبحوا آلة وأداة بيد المنافقين الذين يشيعون الإفك والفاحشة بين الناس؟
وفي هذه الآيات الستة التي بحثت في بعضها سوء الظن بالنسبة إلى الناس وفي بعضها الآخر سوء الظن بالنسبة إلى الله تعالى نرى أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية قد وقعت موقع الذم الشديد ، وبعض الآيات أشارت إلى بعض ما يترتب عليها من الآثار السلبية على حياة الإنسان ، ولو لم يكن في بيان قبح هذه الرذيلة الأخلاقية سوى ما ورد في بعض الآيات القرآنية الشريفة لكفى ذلك ، فكيف بما ورد في الكثير من الآيات والروايات الدينية الاخرى والتي سنتحدث عنها لاحقاً؟
سوء الظن في الروايات الإسلامية :
أمّا بالنسبة إلى الروايات الإسلامية فالمتتبع يرى أنّ تقبيح هذه الرذيلة الأخلاقية وذمّها على أساس أنّها من أشنع الخصال الأخلاقية السلبية ولهذه الرذيلة صدى واسع في النصوص الدينية الروائية ، ونستعرض هنا بعض النماذج في هذا الباب :
1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «إِيّاكُم وَالظّنُّ فَانَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الكِذبِ» ([7]).
2 ـ ونقرأ في حديث آخر أيضاً عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قوله : «أَنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنَ المُسلِمِ دَمَهُ وَمالَهُ وَعرِضَهُ وَأَنَّ يَظُنَّ بِهِ السُّوءَ» ([8]).
3 ـ وفي حديث مثير عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «لا إِيمانَ مَعَ سُوءِ ظَنِّ» ([9]).
وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى سوء الظن بكلا قسميه ، سوء الظن بالنسبة إلى الناس ، أو سوء الظن بالنسبة إلى الله تعالى.
4 ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام (عليه السلام) أيضاً قوله : «إِيِّاكَ أَنْ تُسِيءَ الظّنَّ فَانَّ سُوءَ الظّنِّ يُفسِدُ العِبادَةَ وَيُعَظِّمُ الوِزرَ» ([10]).
5 ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «سُوءُ الظَّنِّ بِالمُحسِنِ شَرُّ الإِثمِ وَأَقبَحُ الظُّلمِ» ([11]).
6 ـ وورد أيضاً عن هذا الإمام (عليه السلام) نفسه قوله : «سُوءُ الظَّنِّ يُفسِدُ الامُورَ وَيَبعَثُ عَلَى الشُّرُورِ» ([12]).
7 ـ وورد أيضاً عنه (عليه السلام) أنّه قال : «شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَثِقُ بِأَحَدٍ لِسُوءِ ظَنَّهِ وَلا يَثِقُ بِهِ أَحَدٌ لِسُوءِ فِعلِهِ» ([13]).
8 ـ ونقرأ في نهج البلاغة قول الإمام علي (عليه السلام) : «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلاً (مَحمَلاً) » ([14]).
9 ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً قوله : «وَاللهِ ما يُعَذِّبُ اللهُ سُبحَانَهُ مُؤمِناً بَعدَ الإِيمانِ إِلّا بِسُوءِ ظَنِّهِ وَسُوءِ خُلُقِهِ» ([15]).
ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام الهمام (عليه السلام) نفسه : «مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ سُوءُ الظَّنِّ لَم يَترُكْ بَينَهُ وَبَينَ خَلِيلٍ صُلحَاً» ([16]).
وكذلك وردت روايات كثيرة في باب سوء الظن بالله وعدم الإيمان والتصديق بوعده حيث تحكي عن آثار سلبية خطيرة في حياة الإنسان المادية والمعنوية ، ومن ذلك :
1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «واللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلّا هُوَ لا يُعَذِّبُ اللهُ مُؤمِناً بَعْدَ التَّوبَةِ وَالاستِغفَارِ إلّا بِسُوءِ ظَنِّهِ بِاللهِ وَتَقصِيرٍ مِنْ رَجائِهِ بِاللهِ وَسُوءُ خَلُقِهِ وَاغتَيابِهِ لِلمُؤمِنينَ» ([17]).
2 ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ النبي داود (عليه السلام) قال : «يا رَبِّ ما آمَنَ بِكَ مَنْ عَرَفَكَ فَلَم يُحسِنِ الظَّنَّ بِكَ» ([18]).
3 ـ وقال الإمام علي (عليه السلام) أيضاً : «الجُبنُ وَالحِرْصُ وَالبُخلُ غَرائِزُ سُوءُ يَجمَعُها سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ سُبحانَهُ» ([19])
ومن المعلوم أنّ الشخص الذي يعيش الإيمان بالعناية الإلهية ونصرته لعباده المؤمنين فلا يجد الخوف سبيلاً إلى قلبه من الأعداء ، والشخص الذي يثق بوعد الله في مسألة الرزق ، فلا يجد الحرص سبيلاً إلى نفسه ولا يعيش البخل في حياته ، وعليه فإنّ هذه الصفات الثلاثة المذكورة في هذا الحديث الشريف هي في الواقع تنبع من سوء الظن بالله تعالى.
إن ما ورد في الروايات أعلاه يعدّ غيض من فيض الروايات الكثيرة في باب سوء الظن الواردة في المصادر المعتبرة والتي تتضمن دقائق لطيفة عن علل ودوافع هذه الرذيلة الأخلاقية وآثارها السلبية الكثيرة ، وقد أوردنا في هذا المقتطف عشر روايات في سوء الظن بالنسبة إلى الناس وثلاث روايات في مورد سوء الظن بالله وتحتوي على مفاهيم دقيقة ونكات جميلة في تحليل هذا المفهوم الأخلاقي ودراسة أبعاده المتنوعة.
حسن الظن في الروايات الإسلامية :
كما رأينا أنّ سوء الظن يفضي إلى إيجاد الخلل والارتباك في المجتمع البشري ويؤدّي إلى سقوط الإنسان الأخلاقي والثقافي ويورثه التعب والألم والشقاء والمرض الجسمي والروحي ، ففي الجهة المقابلة نجد أنّ حسن الظن يتسبب في أن يعيش الإنسان الراحة والوحدة والاطمئنان النفسي ، ولهذا السبب نجد أنّ الروايات الإسلامية الكثيرة تؤكّد على حسن الظن بالنسبة إلى الناس ، وكذلك بالنسبة إلى الله تعالى ، أمّا في مورد حسن الظن بالنسبة إلى الناس ، فنختار من الأحاديث الشريفة ما يلي :
1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ أَفضَلِ السَّجايا وَأَجزَلِ العَطايا» ([20]).
2 ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام العظيم (عليه السلام) أنّه قال : «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ أَحَسنِ الشِّيَمِ وَأَفَضلِ القِسَمِ» ([21]).
3 ـ وأيضاً ورد عن هذا الإمام (عليه السلام) قوله : «حُسنُ الظَّنِّ يُخَفِّفُ ألَهَمَّ وَيُنجِي مِنْ تَقَلُّدِ الإِثمَ» ([22]).
4 ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام العظيم (عليه السلام) أيضاً أنّه قال : «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ رَاحَةُ الَلبِ وَسَلامَةُ الدِّينِ» ([23]).
5 ـ وأيضاً ورد في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال : «مَنْ حَسُنَ ظنُّهُ بِالنّاسِ حازَ مِنهُمُ المَحَبَّةَ» ([24]).
أمّا بالنسبة إلى حسن الظنّ بالله تعالى ، فنقرأ أحاديث كثيرة في هذا الباب مذكورة في المصادر المعتبرة منها :
1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن بعض المعصومين (عليهم السلام) أنّه قال : «وَالَّذِي لا إِله إِلّا هُوَ ما أُعطِيَ مُؤمِنٌ قَطُّ خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ إِلّا بِحُسنِ ظَنِّهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَجائِهِ لَهُ وَحُسنِ خُلقِهِ وَالكَفِّ عَنْ اِغتِيابِ المُؤمِنِينَ» ([25]).
2 ـ وكذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال : «وَأَحسِنِ الظَّنَّ بِاللهِ فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : أَنا عِندَ ظَنِّ عَبدِي المُؤمِنِ بِي إنْ خَيراً فَخَيراً وَإِنْ شَرَّاً فَشَرَّاً» ([26]).
3 ـ ويشبه هذا المعنى أيضاً وبشكل جامع ما ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «وَالَّذِي لا إِله إِلّا هُوَ لا يَحسُنُ ظَنَّ عَبدٍ مُؤمِنٍ بِاللهِ إِلّا كانَ اللهُ عِندَ ظَنِّ عَبدِهِ المُؤمِنِ لأَنَّ اللهَ كَرِيمٌ بِيَدِهِ الخَيراتُ يَستَحِيي أِنْ يَكُونَ عَبدُهُ المُؤمِنُ قَدْ أَحسَنَ بِهِ الظَّنَّ ثُمَّ يُخلِفُ ظَنَّهُ وَرَجاءَهُ فَأَحسِنُوا بِاللهِ الظَّنَّ وَارغَبُوا إِلِيهِ» ([27]).
4 ـ ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم قوله : «رَأَيتُ رَجُلاً مِنْ امتِي عَلَى الصِّراطِ يَرتَعِدُ كَما تَرتَعِدُ السَّعفَةُ فِي يَومِ رِيحٍ عاصِفٍ وَجاءَهُ حُسنُ ظَنِّهِ بِاللهِ فَسَكَّنَ رَعدَتَهُ» ([28]).
5 ـ وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير حسن الظن بالله تعالى قال : «حُسنُ الظَّنِّ بِاللهِ أَنْ لا تَرجُو إِلّا اللهَ وَلا تَخافَ إِلّا ذَنبَكَ» ([29]).
تعريف سوء الظن وحسن الظن :
عند ما ترد هاتان المفردتان ويراد بهما سوء الظن أو حسنه بالنسبة إلى الناس فَإنّ لهما مفهوماً واضحاً ، فالمفهوم من سوء الظن هو أنّه كلّما صدر من شخص فعلٍ معيّن يحتمل الوجهين الصحيح والسقيم ، فنحمله على المحمل السقيم ونفسّره بالتفسير السيء ، مثلاً عند ما يرى الشخص رجلاً مع امرأة غريبة فيتصوّر أنّ هذه المرأة أجنبية وأنّ هذا الرجل ينوي في قلبه نيّة سوء تجاهها ويريد ارتكاب المنكر معها ، في حين أنّ حسن الظن يقود الإنسان إلى القول بأنّ هذه المرأة هي زوجته أو أحد محارمه حتماً ، أو عند ما يقدم إنسان على بناء مسجد أو أي عمل من أعمال الخير الاخرى ، فإنّ مقتضى سوء الظن أن يوحي للإنسان بأنّ هدف هذا الشخص هو الرياء أو خداع الناس وأمثال ذلك ، في حين أنّ حسن الظن يدفعه إلى القول بأنّ عمله هذا كان بدافع إلهي ونيّته خير وصلاح.
ومن هنا يتّضح أنّ دائرة حسن الظن وسوء الظن واسعة جدّاً ولا تنحصر في ممارسة العبادات فقط ، بل تستوعب في مصاديقها ومواردها المسائل الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية أيضاً.
وعند ما تستعمل هاتان المفردتان بالنسبة إلى الله تعالى فالمراد من حسن الظن بالله هو أن يثق الإنسان بالوعد الإلهي في مورد الرزق أو العناية بالعبد أو نصرة المؤمنين والمجاهدين ، أو الوعد بالمغفرة والتوبة على المذنبين وأمثال ذلك ، ومعنى سوء الظن بالله تعالى هو أنّ الإنسان عند ما يجد نفسه في زحمة المشكلات والمصاعب فإنّه يعيش الاهتزاز وعدم الثقة بالوعد الإلهي ، وعند ما يقع في بعض الابتلاءات العسيرة وفي المسائل المالية وغيرها فإنّه ينسى وعد الله تعالى للصابرين والذين يتحرّكون في خط الاستقامة والانضباط والمسؤولية ، ويتحرّك عندها في خط المعصية والإثم.
وقد رأينا في الروايات السابقة تعبيرات مثيرة وحيّة توضّح ما ذكرناه آنفاً عن المفهوم من هاتين المفردتين.
وهنا لا بدّ من استعراض بعض النكات المهمّة وتحليل بعض النقاط في هذا الباب :
الآثار السلبيّة لسوء الظّن
إنّ اتّساع دائرة سوء الظن في المجتمعات البشرية يترتب عليها آثار سلبية وخيمة ومضرّات كثيرة قد لا تكون مستورة على أحد من الناس ، ولكن لغرض توضيح هذا المطلب ينبغي الالتفات إلى ما يلي :
أ) إنّ من أسوأ الآثار السلبيّة لهذه الرذيلة الأخلاقية على المستوى الاجتماعي هو (زوال الثقة والاعتماد المتقابل) بين أفراد المجتمع والذي يعدّ محور المجتمعات البشرية والعنصر المهم في عملية شد مفاصل المجتمع وتقوية الوشائج والعلاقات التي تربط بين أفراده ، وقد تقدّمت الإشارة إليها إجمالاً في الروايات الشريفة المتقدّمة ، ومن ذلك قوله (عليه السلام) : «شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَثِقُ بِأَحَدٍ لِسُوءِ ظَنَّهِ وَلا يَثِقُ بِهِ أَحَذٌ لِسُوءِ فِعلِهِ» ([30]).
فنجد أنّ المجتمع البشري الذي يسوده عدم الثقة وعدم الاعتماد بين أفراده فمثل هذا المجتمع تتبخّر فيه أجواء التعاون والتكاتف وتزول منه البركات الكثيرة للحياة المشتركة في حياة الإنسان ، ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام علي (عليه السلام) قوله : «مَنْ ساءت ظُنُونُهُ اعتَقَدَ الخِيانَةَ بِمَنْ لا يَخُونُهُ» ([31]).
ب) إنّ سوء الظن يؤدّي إلى تدمير وتخريب الهدوء النفسي والروحي ، لذلك المجتمع كما يميت الهدوء النفسي لأصحاب هذه الرذيلة الأخلاقية ، فمن يعيش سوء الظن فإنّه لا يجد الراحة والاطمئنان في علاقته مع الآخرين ويخاف من الجميع وأحياناً يتصوّر أنّ جميع الأفراد يتحرّكون للوقيعة به ويسعون ضدّه ، فيعيش في حالة دفاعية دائماً وبذلك يستنزف طاقاته وقابلياته بهذه الصورة الموهومة.
ج) ومضافاً إلى ذلك فإنّ في الكثير من الموارد نجد الإنسان يتحرّك وراء سوء ظنه ويترجم سوء الظن هذا إلى عمل وممارسة وبالتالي يوقعه في مشاكل كثيرة ، وأحياناً يؤدّي به إلى ارتكاب جريمة وسفك الدماء البريئة ، وخاصة إذا كان سوء الظن يتعلق بالعرض والناموس أو يتصوّر أنّ الآخرين يتآمرون عليه ويهدفون إلى الوقيعة به في ماله أو عرضه ، بحيث يمكن القول أنّ العامل الأصلي للكثير من الحالات الجنائية هو سوء الظن الذي لا يقف على أساس متين والذي يدفع الإنسان إلى ارتكاب حالات العدوان والجريمة بحق الأبرياء.
ولهذا السبب ورد في الروايات السابقة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «سُوءُ الظَّنِّ يُفْسِدُ الامُورَ وَيَبْعَثُ عَلَى الشُّروُرِ».
والأهم من ذلك أنّ في الكثير من موارد سوء الظن الّتي يترتّب عليها ارتكاب جريمة بحق الطرف الآخر فانّ هذا الإنسان الذي قاده سوء ظّنة لارتكاب هذه الجريمة سوف يثوب إلى رشده ووعيه بعد ذلك ويشعر في قرارة نفسه بتأنيب الضمير ويتسلّط عليه الاحساس بالإثم الذي قد يؤدي به إلى الجنون أحياناً.
وعلى سبيل المثال نشير إلى حادثة واحدة منها ، فعند ما دخل الطبيب النفساني يوماً ليعود مرضاه في مستشفى المجانين والمتخلفين عقلياً رأى رجلاً قد جيء به حديثاً إلى هذا المكان وهو يرّدد كلمة (منديل) مرّات عديدة ، وعند ما بحث هذا الطبيب النفساني عن حاله واستقصى مرضه العقلي رأى أنّ السبب في جنون هذا الشخص هو أنّه رأى يوماً في حقيبة زوجته منديلاً يحتوى على قنينة عطر وبعض الهدايا المناسبة للرجال ، فأساء الظن بزوجته فوراً وتصور أنّها على ارتباط برجل أجنبي ، فكان أن قتلها بدافع من الغضب الشديد وبدون تحقيق وفحص ، وبعد أن فتح المنديل رأى في طيّاته ورقة كتب عليها ، هذه هدية منّي إلى زوجي العزيز بذكرى يوم ولادته.
وفجأة أصابته وخزة شديدة وشعر بضربة عنيفة في أعماق روحه أدّت إلى جنونه فكان يتذكّر هذا المنديل ويكرّره على لسانه.
د) إنّ سوء الظن هو في الحقيقة ظلم فاضح للغير ، لأنّه يجعل الطرف الآخر في قفص الاتّهام في فكر هذا الشخص وذهنه فيكيل له أنواع السهام ويطعنه في شخصيّته وحيثيته ، فلو أضفنا إلى ذلك بعض الممارسات العملية المستوحاة من سوء الظن لكان الظلم أكثر وأوضح ، ومن هذه الجهة قرأنا في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «سُوءُ الظَّنِّ مَنْ أقَبَحَ الظُلُم».
ه) إنّ سوء الظن يتسبّب في أن يفقد الإنسان أصدقاءه ورفاقه بسرعة ، وبالتالي يعيش الوحدة والانفراد والعزلة وهذه الحالة هي أصعب الحالات النفسية الّتي يواجهها الفرد في حركة الحياة الاجتماعية ، لأن كل إنسان متشخص ويحترم مكانته وشخصيته نجده غير مستعد لئن يعيش ويعاشر الشخص الذي يسيء الظن بأعماله الخيرة وسلوكياته الصالحة ويتّهمه بأنواع التهم الباطلة ، وقد قرأنا في الأحاديث السابقة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً أنّه قال : «مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ سُوءُ الظَّنِّ لَم يَترُكْ بَينَهُ وَبَينَ خَلِيلٍ صُلحَاً».
و) وقد رأينا في الروايات السابقة أنّ سوء الظن يفسد عبادة الإنسان ويحبط أعماله ويثقل من كاهله يوم القيامة ، فإذا كان المراد بسوء الظن في هذه الرواية هو سوء الظن بالله تعالى قد يتّضح حينئذٍ السبب في فساد العبادة وحبط الأعمال ، وإذا كان المراد هو سوء الظن بالناس (كما نستوحي ذلك من ذيل هذه الرواية) فإنّ ذلك بسبب أنّ الإنسان الذي يعيش سوء الظن بالناس يرتكب في الكثير من الموارد التجسّس على الناس ، وبالتالي يترتب على ذلك أن ينطلق في ممارساته الاجتماعية من موقع الغيبة للطرف الآخر والتهمة أحياناً ، ومن المعلوم أنّ الغيبة والتهمة هي أحد الأسباب في عدم قبول الطاعات والعبادات.
ز) إنّ سوء الظن باعتباره انحرافاً فكريّاً ، فإنّه سيؤثر بالتدريج على أفكار الإنسان الاخرى وسيقود تصوراته وأفكاره في طريق الانحراف أيضاً ، فتكون تحليلاته بعيدة عن الواقع ومجانبة للصواب ، فيمنعه ذلك من التقدّم ونيل الموفقية في حركة الحياة ، وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «مَنْ ساءَ ظَنُّهُ ساءَ وَهمُهُ».
الآثار السلبية لسوء الظن بالله :
إنّ سوء الظن بالله تعالى وعدم الثقة بالوعود الإلهية الواردة في القرآن الكريم والأحاديث المعتبرة له آثار سلبية مخرّبة في دائرة الإيمان والعقائد الدينية حيث يمثّل سوء الظن هذا عنصراً هدّاماً لإيمان الشخص يبعده عن الله تعالى كما قرأنا في الروايات السابقة عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) في مناجاة النبي داود (عليه السلام) قوله : «يا رَبِّ ما آمَنَ بِكَ مَنْ عَرَفَكَ فَلَم يُحسِنِ الظَّنَّ بِكَ» ([32]).
ومضافاً إلى ذلك فإنّ سوء الظن بالوعود الإلهية يتسبب في فساد العبادة وحبط العمل ، لأنّه يقتل في الإنسان روح الاخلاص وصفاء القلب ، وقد قرأنا في الأحاديث السابقة أنّه: «إِيِّاكَ أَنْ تُسِيءَ الظّنَّ فَانَّ سُوءَ الظّنِّ يُفسِدُ العِبادَةَ وَيُعَظِّمُ الوِزرَ» ([33]).
والملاحظة الاخرى هي أنّ سوء الظن بالله تعالى وعدم الثقة بوعده يورث الإنسان الضعف والاهتزاز أمام الحوادث الصعبة والظروف العسيرة ، كما ورد في تفسير الآيات الشريفة في باب سوء الظن أنّ بعض المسلمين الجدد ابتلوا بسوء الظن بالوعد الإلهي بنصر المجاهدين في ميادين القتال ، وبالتالي عاشوا الهزيمة الروحية أمام الأعداء في حين أنّ المؤمنين الحقيقيين الذين كانوا يعيشون حسن الظن بالله كانوا يتصدّون للأعداء وقوى الانحراف والزيغ بمنتهى الشجاعة والشهامة والجرأة.
ومضافاً إلى ذلك فإنّ سوء الظن بالله تعالى بإمكانه أن يحرم الإنسان من العنايات الإلهية واللطف الرباني ، لأنّ الله تعالى يتعامل مع عبده بما يتطابق مع حسن ظنه أو سوء ظنّه بربّه كما قرأنا في الأحاديث السابقة في وصيّة لقمان الحكيم لابنه حيث يقول :
«يا بُنَيَّ أَحسِنَ الظّنَّ بِاللهِ ثُمَّ سَل فِي النّاسِ مِنْ ذا الَّذِي أَحسَنَ الظَّنَّ بِاللهِ ، فَلَم يَكُن عِندَ ظَنِّهِ بِهِ» ([34]).
وخلاصة الكلام أنّ الإنسان إذا أراد أن يعيش الهدوء النفسي والاستقامة في خط الصلاح والإيمان والتصدّي للنوازع الدنيوية وعناصر الشر وبالتالي ينال الإيمان الخالص وعناية الله تعالى ورعايته ينبغي له أن يعيش حسن الظن بالله تعالى ويثق بوعده.
أسباب ودوافع سوء الظن :
إنّ هذه الرذيلة الأخلاقية حالها حال سائر الرذائل الاخرى تنشأ من عدّة عوامل وأسباب :
1 ـ التلّوث الظاهري والباطني : فالأشخاص الذين يعيشون حالة التلوث النفسي في واقعهم يتصوّرون الآخرين مثلهم من خلال (المقارنة مع الذات) والتي هي حالة تكاد تكون سائدة عند أغلب الناس حيث يتصوّرون أنّ الآخرين مثلهم ، فما لم يتطهر الإنسان في ذاته ونفسه فمن العسير أن يتخلّى من سوء الظن بالنسبة إلى الآخرين ، وفي ذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «لا يَظُّنُّ بِأَحَدٍ خَيراً لأنّهُ لا يَراهُ إلّا بِطَبعِ نَفسِهِ» ([35]).
2 ـ المعاشرة مع رفاق السوء : فالشخص الذي يجالس رفاق السوء والفاسدين والأشرار من الناس فمن الطبيعي أن يسيء الظن بجميع الناس لأنّه يتصوّر أنّ الناس مثل هؤلاء الرفاق كما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «مُجالَسَةُ الأَشرارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالأخيارِ» ([36]).
3 ـ المحيط الفاسد : عند ما يعيش الإنسان في اسرة ملّوثة أو في مدينة أو مجتمع متخلّف وسيئ على المستوى الثقافي والأخلاقي ، فإنّ ذلك من شأنه أن يورثه سوء الظن بجميع الأفراد حتى الأخيار منهم ، وحتى لو كان يعاشر ويجالس الصلحاء ولكنّ غلبة الفساد والانحطاط في المجتمع بإمكانه أن يخلق فيه سوء الظن.
4 ـ الحسد والحقد والتكبّر والغرور : وتعتبر عاملاً آخر من عوامل سوء الظن ، لأنّ الإنسان الحسود والحقود يريد من خلال سوء الظن تسقيط شخصية الطرف الآخر والتقليل
من اعتباره ، وكذلك الشخص المتكبّر يتحرّك من موقع تحقير الآخرين والسخرية بشخصيتهم من خلال إساءة الظن بهم وبذلك يخلق في ذهنه عن شخصية الطرف الآخر صورة مهزوزة وحقيرة.
5 ـ عقد الحقارة : وهي أحد العوامل لسوء الظن بالناس ، فالشخص الذي يعيش الحقارة في شخصيته ويشعر بالتفاهة لذاته أو يجد من الآخرين تحقيراً لشخصيته فانّه يسعى كذلك في التنقيص من شخصية الآخرين واحتقارهم ويتصوّرهم شخصيات ملّوثة وحقيرة ليشبع هذه العقدة في نفسه ويرضي حالته النفسية المهزوزة ، وحينئذٍ يشعر بالراحة الكاذبة من جرّاء ذلك.
أمّا سوء الظن بالله تعالى فيعتمد في الأصل على ضعف الإيمان واليقين في الإنسان واهتزاز صورة الالوهية في دائرة صفات الذات وصفات الأفعال ، فضعف اليقين واهتزاز الإيمان من شأنه أن يخلق في فكر الإنسان سوء الظن وعدم الثقة بالوعود الإلهية لعباده ، وكذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى وقدرته ورحمانيّته ورازقيّته وسائر صفاته الحسنى ، وبالتالي يوصد أمامه أبواب السعادة والنجاة.
مراتب سوء الظن :
وأحد الأسئلة المهمّة التي تثار على بساط البحث في هذا المورد هو أنّه أساساً هل أنّ سوء الظن أمراً اختيارياً أو غير اختياري؟ فلو رأى الإنسان ظاهرة معيّنة وأساء الظن بشخص أو أشخاص بدون اختيار ، فهل هذا المعنى يوجب له الذم والتوبيخ؟ وهل تقع هذه الحالة مورداً للتكليف مع أنّ مقدّماتها غير اختيارية؟ وكيف يمكن تعلّق الذم والعقاب بأمر غير اختياري؟
ويمكن الإجابة عن هذه التساؤلات وعلامات الاستفهام من طريقين :
الطريق الأول : أنّ سوء الظن هذا الذي يقفز إلى ذهن الإنسان بدون اختيار منه لا يكون مورد الذم والعقاب لوحده ، فلو أنّه لم يتجسّد في مرحلة العمل ولم يرتب الإنسان عليه أثراً على مستوى الممارسة والكلام ، ولا يصدر منه سلوك يشير إلى سوء الظن هذا فإنّه لا يقع مورد الذم ولا العقاب ، ولذلك ذكر بعض علماء الأخلاق في هذا المجال : «وَأَمّا الخَواطرُ وَحَدِيثُ النَّفسِ فَهُو مَعفُوٌ عَنهُ ... وَلَكنَّ المَنهِيَّ عَنهُ أَنْ تَظُنَّ ، والظَّنُّ عِبارَةٌ عَمّا تِركَنُ إِلِيهِ النَّفسُ وَيَميلُ إِلَيهِ القَلبُ» ([37]).
وخلاصة الكلام أنّ سوء الظن له ثلاثة مراحل :
أحدها : سوء الظن القلبي.
الثانية : سوء الظن اللّساني.
الثالثة : سوء الظن العملي.
فأمّا ما كان في القلب فلا يقع مشمولاً للتكليف لأنّه خارج عن دائرة الاختيار ، ولكنّ ما يصدر من الإنسان بلسانه أو بعمله فهو الممنوع والحرام.
ولهذا ورد في بعض الروايات قوله (عليه السلام) : «وإِذا ظَننتَ فلا تَحَقِّقْ» ([38]).
الطريق الثاني : إنّ الكثير من أشكال سوء الظن غير الاختيارية تتضمّن مقدّمات اختيارية في البداية أو في إدامتها واستمرارها ، فالأشخاص الذين يجالسون رفاق السوء فيحصل لهم سوء الظن بالأخيار ينبغي عليهم اجتناب مثل هذه المعاشرة ولمثل هؤلاء الرفاق من الفسّاق والأشرار حتى لا تحصل لديهم حالة سوء الظن تجاه الآخرين ، وهذا أمر اختياري ، ولكن لو حصل له سوء الظن بدون مقدّمات اختيارية ، فيجب على الإنسان أن يتفكّر في حالته هذه ويضع في تصوّره احتمالات صحيحة إلى جانب الاحتمالات السيئة التي أورثته سوء الظن ، مثلاً يقول : إنّ هذه المرأة الأجنبية التي رآها مع الشخص الفلاني ، إمّا أن تكون أخته أو ابنة أخيه أو ابنة اخته أو زوجته وأمثال ذلك من أقرباء الشخص الذين لا يعرفهم هو ، فلا شك أنّ مثل هذا التفكير السليم واحتمال هذه الاحتمالات الصحيحة يتسبب في إضعاف سوء الظن عنده أو يزيله تماماً من ذهنه ، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «اطلُبْ لأخِيكَ عُذراً فَانْ لَم تَجِدْ لَهُ عُذراً فَالتَمِسْ لَهُ عُذراً» ([39]).
وقد مرّ علينا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أنّه قال : «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلاً (مَحمَلاً» ([40]).
وعلى هذا الأساس يمكننا تقسيم سوء الظن إلى ثلاثة أقسام :
1 ـ سوء الظن الذي يتجسّد في أفعال الشخص وكلماته وأقواله ، وهذا القسم من سوء الظن الحرام.
2 ـ سوء الظن الذي لا يظهر أثره خارجاً ، ولكنّه يمكن للشخص إزالته من خلال التفكير السليم وبواسطة إزالة مقدّماته الخارجية ، فهذا النوع من سوء الظن يحتمل أن يكون مشمولاً لأدلّة الحرمة.
3 ـ سوء الظن الذي لا يترتب عليه أثر خارجي ، وهو خارج تماماً عن دائرة اختيار الإنسان وإرادته ولا يمكن إزالته بشتى الوسائل ، فمثل هذا الظن السيء لا يكون مشمولاً للتكاليف الشرعية ما دام الإنسان لم يرتّب عليه أثراً معيّناً.
والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في الآية 36 من سورة الأسراء : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
وفي هذه المرحلة يجب التوجّه إلى الاصول والمبادئ الحاكمة في دائرة علاج الأمراض الأخلاقية والرذائل النفسية ، وأهمّها التفكّر في الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لسوء الظن ، لأنّه عند ما يتفكّر الإنسان في عواقب سوء الظن وكيف أنّه يتلف رأس المال الاجتماعي بين أفراد البشر ويسلب منهم الثقة والاعتماد المتقابل ويربك الهدوء والاستقرار في مفاصل المجتمع ، ويتسبب في خسارة الإنسان لأصدقائه وفقده لأحبائه ويورثه الغفلة عن واقعيّات الامور والحقائق الاجتماعية ، ويقوده إلى ارتكاب الظلم والعدوان في حق الآخرين (كما تقدّم تفصيله سابقاً) فحينئذٍ سوف يبتعد عن هذه الرذيلة الأخلاقية بدون صعوبة ، كما أنّ إطّلاع الإنسان على كون الغذاء مسموماً سيخلق في نفسه مناعة شديدة عن تناوله ، هذا من جهة.
ومن جهة اخرى فإنّه كلّما تحرّك الإنسان لقطع جذور هذه الرذيلة وقلع أسبابها من مواقع النفس ، أي مجالسة رفاق السوء والتي تسبب سوء الظن بالأخيار أو يبتعد مهما أمكنه عن الأجواء الملّوثة والمحيط السيء والفاسد ، ويطهّر قلبه من أدران الحسد والحقد والتكبّر والغرور التي هي من العوامل المهمّة لسوء الظن وأمثال ذلك من الأسباب والعوامل الاخرى ، فسوف تنتهي وتزول منه هذه الرذيلة الأخلاقية.
ومضافاً إلى ذلك فإنّ بعض الامور يمكنها أن تساعد الإنسان على إنقاذه من شر هذه الحالة السلبية ، وهي :
ا : البحث عن الاحتمالات السليمة في تبرير سلوكيات الآخرين المبهمة التي قد تورثه سوء الظن ، كما قرأنا في الروايات السابقة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلاً (مَحمَلاً» ([41]).
ومن الواضح أنّ الكثير من الأعمال والسلوكيات الصادرة من الأشخاص تقبل التبرير السليم والحمل على الصحّة.
ب : أن يبتعد الإنسان عن التجسّس في أعمال الآخرين والذي قد يكون معلولاً لسوء الظن أولاً ، ويتسبب كذلك في سوء الظن أيضاً ، فلو أنّ الإنسان تجنّب التجسّس في حياة الآخرين الخصوصية فانّه يكون قد تخلّص من أحد الأسباب المهمّة لسوء الظن.
ج : أن لا يرتب أثراً عملياً على سوء ظنّه وبذلك يحقّق له أحد طرق العلاج لهذه الرذيلة ، لأنّ الإنسان إذا أساء الظن بشخص من الأشخاص وأفعاله ثم جسّد سوء الظن هذا على سلوكياته وأفعاله كأن يبتعد عنه ويظهر عدم الثقة به أو يستشمّ من أفعاله وعلاقته بذلك الشخص أنّه يسيء الظن به ، فهذه الحالة تسبب في تقوية سوء الظن وزيادته واشتداده ، ولكن إذا لم يهتمّ لذلك ولم يرتّب عليه أثراً ، فإنّه سيضعف تدريجياً وبالتالي سينتهي ولذلك ورد في الروايات الإسلامية : «إِذا ظَنَنَّتُم فَلا تَحَقَّقُوا» ([42]).
ولا شك أنّ الالتفات إلى العقوبات الإلهية الاخروية والآثار المعنوية السلبية لهذه الرذيلة الأخلاقية والتي سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة لها أثر قوي أيضاً في الوقاية من الابتلاء بهذا المرض المعنوي ، وتمنح الإنسان القدرة على التحرّك بعيداً عن ممارسة تداعيات هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.
موارد الاستثناء :
لا شك أنّ قبح سوء الظن رغم أنّه يعتبر قاعدة كليّة وأصل من الاصول الاخلاقّية في دائرة علم الاخلاق ، إلّا أنّه هناك استثناءات لهذا الأصل العام وردت الإشارة إليها في الروايات الإسلامية ، ومن ذلك :
أ) إذا ساد الفساد والانحطاط الأخلاقي في مجتمع ما وكان التلّوث بالرذائل الأخلاقيّة هو السائد لهذا المجتمع البشري فانّ حسن الظن في مثل هذه الحالات ليس فقط لا يعدّ من الفضائل الأخلاقية ، بل يمكن أن يورّط الإنسان بعواقب سلبيّة ومشاكل حقيقية أيضاً ، وورد التحذير من هذا النوع من حسن الظن في الروايات الإسلاميّة.
فنقرأ في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «اذا اسْتَوْلَى الصَّلاحُ عَلَى الزَّمانِ وَاهْلِهِ ثُمَّ أساءَ رَجُلٌ الظَنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَم ، وَإِذا اسْتَوْلَى الْفَسادُ عَلَى الزَّمانِ وَاهْلِهِ فَاحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ» ([43]).
وهذا المضمون ورد أيضاً بتعبيرات مختلفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) والكاظم (عليه السلام) والهادي (عليه السلام) ([44]).
وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ» ([45]).
وهذا أيضاً يمكن أن يكون إشارة لمثل هذه الأزمان والحالات التي يسود فيها الانحطاط الأخلاقي في مفاصل المجتمع البشري ، وإلّا فانّ سوء الظن بعنوانه أصل عام لا يمكن أن يكون مورد المدح والثناء والقبول.
ويستفاد من مجموع ما تقدم من الروايات أنّ الأصل في الأجواء الاجتماعية السالمة نسبياً هو حسن الظن ، وعلى العكس من ذلك فإذا عاش الإنسان في أجواء فاسدة ومتخلّفة فانّ الأصل يجب أن يبتنى على سوء الظن ، وطبعاً هذا لا يعني أن ينسب الإنسان بعض التهم ويلفّق بعض العيوب والنقائص لشخص من الأشخاص ، بل ينبغي الاحتياط في مثل هذه الظروف لئلّا يتورّط الإنسان في مشاكل ومصاعب يفرضها عليه هذا المحيط الفاسد.
وطبعاً لا ينبغي أن يكون هذا الاستثناء وهذه الروايات ذريعة بيد الأشخاص لكي يتحرّكوا من موقع سوء الظن بأيّ إنسان ويقول بأنّ هذا الزمان كثر فيه الفساد وشاع فيه الانحطاط فمن الخطأ حسن الظن بالناس ، فحتى في الأزمنة الفاسدة والأجواء المنحطة يجب على الإنسان أن يصنّف الناس إلى عدّة أصناف ، فيجعل من الأشخاص الذين يتجّلى في محياهم الصلاح والخير في دائرة الصالحين ، فلا ينبغي أن يكونوا مورد سوء الظن ما دام لم يشاهد منهم أمراً منكراً من موقع الوضوح.
ولكنه عليه أن يضع الفئات التي شاهد منها سلوكيات مخالفة وأفعال منكرة بصورة متكررة في صف الأشرار والمفسدين ، ولا ينبغي عليه أن يحسن الظن بنيّاتهم وأفعالهم اطلاقاً.
ب) بالنسبة إلى الامور الأمنيّة في المجتمع الإسلامي والتي يتعلّق بها سلامة المجتمع وأمنه واستقراره لا يجوز حسن الظن بأيّة حركة مشكوكة في هذا المجتمع ، بل يجب عليه أن يبتعد عن حسن الظن ما أمكنه ذلك ، أو بتعبير آخر يجب عليه أن يتّخذ جلباب الاحتياط في تعامله مع هذه السلوكيات والحركات الصادرة من بعض الأفراد المشكوكين.
ومفهوم هذا الكلام لا يعني أنّه يجوز هتك حرمة الأفراد أو التعامل معهم بسلبية نتيجة سوء الظن ، بل المراد أنّ جميع الحركات والسلوكيات المشكوكة يجب أن توضع تحت النظر ويتمّ دراستها بدقّة ، فلو اتّضح بعد التحقيق ومن خلال القرائن والبيّنات الواضحة أنّ مثل هذه الحركات كانت بدافع من سوء النيّة ومقترنة بتصرفات خاطئة ومحرّمة هناك ينبغي اتّخاذ التدابير العملية اللازمة.
ج) ومن الموارد الاخرى التي يجوز فيها سوء الظن ، بل قد يكون واجباً أيضاً هو في الحالات التي يكون الإنسان في مقابل العدو ، ويمكن أن يطلب العدو الصلح وينادي بالمحبّة والصداقة ويعلن عن رغبته في التعاون وأمثال ذلك ، فمثل هذه الموارد لا ينبغي التعامل معه بسذاجة وتصديق كلّما يقوله من موقع حسن الظن واسدال الستار عن الماضي نهائيّاً والتقدّم إلى العدو بابتسامة عريضة والشد على يده ومعانقته ، بل ينبغي أن يضع في زاوية الاحتمال أن يكون هذا السلوك من العدو من موقع المكر والحيلة والخدعة لإستغفال الطرف المقابل.
ولهذا ورد في عهد مالك الأشتر المعروف قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «الحَذَرُ كُلُّ الحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعدَ صُلحِهِ فَإنَّ العَدُوَّ رُبَّما قاربَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالحَزمِ وَاتَّهِم فِي ذَلِكَ حُسنَ الظَّنِّ» ([46]).
[1] سورة الحجرات ، الآية 12.
[2] سورة الفتح ، الآية 12.
[3] سورة الفتح ، الآية 6.
[4] سورة الاحزاب ، الآية 10.
[5] سورة آل عمران ، الآية 154.
[6] سورة النور ، الآية 12.
[7] وسائل الشيعة ، ج 18 ، ص 138 ، ح 42 ؛ بحار الانوار ، ج 72 ، ص 195.
[8] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 268.
[9] غرر الحكم.
[10] المصدر السابق.
[11] المصدر السابق.
[12] المصدر السابق.
[13] المصدر السابق.
[14] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح 360 ؛ بحار الانوار ، ج 71 ، ص 187.
[15] غر الحكم.
[16] المصدر السابق.
[17] بحار الانوار ، ج 67 ، ص 394.
[18] المصدر السابق ، ص 394.
[19] غرر الحكم.
[20] غرر الحكم.
[21] المصدر السابق.
[22] المصدر السابق.
[23] المصدر السابق.
[24] غرر الحكم.
[25] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 71 ، ح 2.
[26] المصدر السابق ، ص 72 ، ح 3.
[27] بحار الانوار ، ج 67 ، ص 365 ، ح 14.
[28] مستدرك الوسائل ، ج 11 ، ص 250.
[29] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 72 ، ح 4.
[30] المصدر السابق.
[31] غرر الحكم.
[32] بحار الانوار ، ج 67 ، ص 394.
[33] غرر الحكم.
[34] آثار الصادقين ، 12 ، ص 240.
[35] غرر الحكم.
[36] بحار الانوار ، ج 71 ، ص 197.
[37] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 268.
[38] فرائد الاصول للشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره) ، في حديث الرفع ؛ بحار الانوار ، ج 55 ، ص 320 ، ذيل الحديث 6.
[39] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 196 ، ح 15.
[40]نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح 360 ؛ بحار الانوار ، ج 71 ، ص 187.
[41] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح 360.
[42] كنز العمال ، ج 3 ، ص 479 ، ح 7585.
[43] نهج البلاغة ، كلمات قصار ، ح 114.
[44] ميزان الحكمة ، ج 2 ، ص 1787 ، ح 11575 إلى 11577.
[45] بحار الانوار ، ج 74 ، ص 158 ، ح 142.
[46] نهج البلاغة ، الرسالة 53.