1

x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الحياة الاسرية

الزوج و الزوجة

الآباء والأمهات

الأبناء

مقبلون على الزواج

مشاكل و حلول

الطفولة

المراهقة والشباب

المرأة حقوق وواجبات

المجتمع و قضاياه

البيئة

آداب عامة

الوطن والسياسة

النظام المالي والانتاج

التنمية البشرية

التربية والتعليم

التربية الروحية والدينية

التربية الصحية والبدنية

التربية العلمية والفكرية والثقافية

التربية النفسية والعاطفية

مفاهيم ونظم تربوية

معلومات عامة

الاسرة و المجتمع : التربية والتعليم : التربية العلمية والفكرية والثقافية :

الثقافة العقلية

المؤلف:  السيد الدكتور سعد شريف البخاتي

المصدر:  الثقافة العقليَّة ودورها في نهضة الشعوب

الجزء والصفحة:  ص 59 ــ 69

2024-05-01

960

المراد من الثقافة العقلية التي نقصدها هنا ونتبناها في حركتنا، هي: المنظومة الفكرية الكاملة التي تبني الحركة العلمية والمعرفية لدى الإنسان، والتي تنظم السلوك الفكري والعملي للفرد والمجتمع.

قد يتصور البعض أن هذا شيء من المثالية أو... إلا أننا يمكننا أن نبين مرادنا، وأنه يتمتع إلى حد كبير، وكبير جداً بالواقعية.

الثقافة العقلية هي عبارة عن المعرفة (الحكمة) النظرية والعملية. فالنظرية وظيفتها تنظيم المعارف الحقة وبنائها على أساس عقلي برهاني من خلال العقل وأدواته، والمعرفة العملية وظيفتها معرفة الخير من الشر، وكيفية اتباع الأول ونبذ الثاني.

فالحكمة النظرية هي التي تثبت لك المعتقد الحق المطابق للواقع الذي لا يشوبه الشك ولا يعتريه، بواسطة الدليل العقلي البرهاني القطعي. فبالبرهان يثبت مفاصل الرؤية الكونية الحقة ـ الله، الكون، الإنسان - من دون مجاملة لطائفة أو نص أو ..... ومن ثم تفريع النظام الأيديولوجي عليه، بحيث يصبح هناك انسجام كامل بين الرؤية الكونية (المعتقد) وبين النظام (الآيديولوجية).

وبعد ثبوت الرؤية الكونية الحقة، وتفريع النظام القائم على أساس الواقع من الخير والشر، فيسن كل ما فيه الخير للفرد والمجتمع، ويُمنع كل ما فيه المفسدة والشر. بعد ذلك لا بد من تطبيع الفرد؛ وبالتالي المجتمع على اتباع الحق وسلوك الخير، وبذل الوسع في ذلك.

إلا أنَّ هذا يتطلب منا أن نقوم بالبحث والتحقيق في الطرق التي يقوم عليها التفكير في شقيه التعريفي والاستدلالي. فلا بد من بيان قوانين التفكير وكيفية عمل العقل على وفقها، بمعنى كيف نتعرف على الأشياء بحيث نتصورها كما هي عليه في الواقع ونفس الأمر؛ لكي نستطيع بعد ذلك أن نحكم عليها سلباً أو إيجاباً، فإنك ما لم تعرف الفكرة لا تتمكن من الحكم عليها بالصحة أو الفساد.

ثم بعد معرفتها بشكلها الصحيح، كما هي عليه في الواقع ونفس الأمر، لا بد أن نتعرف على طرق الاستدلال عليها، وكيف نثبت حقانيتها أو بطلانها؛ لكيلا يكون حكمنا عليها متأثراً بالعواطف والميول والعوامل الداخلية أو الخارجية، بل على وفق البرهان العقلي القطعي.

وبعد معرفة طرق وقوانين التفكير البشري السليم منه والسقيم ننتقل إلى معرفة المناهج والقنوات التي يستقى منها العلم والمعرفة ومعرفة مقدار ما يمكنها الكشف عنه، ومدى حجية كاشفيتها، وهل أن الرؤية الكونية تكتشف بنفس الطريق والمنهج الذي تكتشف به الأيديولوجية أو العلوم التجريبية، أم لكل منهجه وطريقه؟

فإذا تمكن الباحث المثقف من هذين الأمرين - القانون والمنهج - يدخل بعد ذلك في حريم المعتقد (الرؤية الكونية)، والتي تمثل أهم أركان الثقافة، فيبدأ بعملية البناء الثقافي من الحذر، ومنه ينطلق في بناء النظام الذي يراد له أن يحكم الفرد والمجتمع، ويتربى عليه.

فالثقافة العقلية لها دور مهم وكبير ومتفرد في توجيه الإنسان ـ فرداً ومجتمعاً - في مساره الصحيح، ووضعه في جادة التقدم والنهوض.

الثقافة العقلية تنظم عملية البناء الثقافي، وتمكنه من إيجاد رؤية كونية رصينة مترفعة عن الخرافات والباطل، وبالثقافة العقلية يتمكن الإنسان من معرفة الخير والشر، فيتبع الأول ويجتنب الآخر.

والثقافة العقلية تعنى وضع كل شيء في موضعه، وتعني الحكمة. وكفى بها أنها تمكن الفرد من معرفة مواطن الخلل في سلسلة الأفكار والشبهات الواردة من هنا وهناك، والتي تعصف في مصير الشعوب.

وقفة

عندما نتحدث عن النهضة، قد يتبادر إلى ذهن البعض أن المراد هو الثورة ضد سياسة معينة، أو ثورة على وضع اقتصادي أو اجتماعي أو.....

ولكن ما نرنو إليه هو الثورة الحضارية، التي تهدف إلى بناء الفرد والمجتمع من الجذر واللباب، لا من الشكل والقالب فحسب.

وهذا يستدعي معرفة الحقيقة الإنسانية وزوايا كمالها، وكيفية النهوض بكل كمال حتى يصل إلى غايته التي ينال بها السعادة، فليست النهضة التي نرومها تكتفي بالالتفات إلى الحياة الآخرة والعزوف عن الدنيا؛ إذ لا رهبانية في دين ربنا الذي جاء به المصطفى (صلى الله عليه وآله) كما لا تعني الانغماس في الدنيا والذهول عن الآخرة.

فليس محط نظرنا الجسد فقط، ولا الروح فحسب، ولا نريد التركيز وتكريس الهمم على التعمق في عالم الفكر والتفكير، الذي لا نفع فيه إلا ملء المكتبات وتسويد بياض الورق.

نعم، النهضة التي يطمح إليها الشعب هي نهضة حضارية تنتشله من الأزمة الثقافية التي طعنت المثقفين بالكسل، وغرست فيهم الازدواجية ولوحت لهم بالتبعية.

الأمة التي تريد أن تصرع الهوان والذل بقدم الكرامة، عليها أولاً أن تعرف كوامن ذاتها، وكنوز مواهبها؛ لتتمكن من الاستفادة بما لديها وتسخيره في طريق مجدها.

لا بد أن نبني حضارتنا على أساس المؤهلات والمواهب الطبيعية، التي جبلت عليها شخصية الفرد الإنساني، من خلال الإجابة على التساؤلات: مم تكون الإنسان؟ ما هي الأبعاد في شخصيته؟ ما هي الروافد المغذية لكل بعدٍ حتى يصل إلى غايته، وكيف يحصل الانسجام بينها؟

مما لا شك فيه أن الإنسان كائن ثنائي الأبعاد، له بعد مادي وبعد غيبي، له جسد يمشي ويتحرك، وله روح تفكر وتحزن وتفرح.

ولا نجاح لمشروع ما لم يُولِ الاهتمام لكلا الجانبين، الاهتمام بالجسد وتوفير ما يحتاج إليه، والاهتمام بالروح وما يحقق لها الطمأنينة والارتياح، فللجسد متطلباته، وللروح متطلبات أخرى، والإخلال بمتطلبات أي منهما يسبب الحرمان من السعادة.

فها هو المراد من النهضة، وها هي أهدافها.

ولو رجعنا إلى حقيقة الإنسان، نجد أن روحه وعنصره المجرد ـ وباعث الحياة في وجوده - يحقق أفعاله من خلال قوى ثلاث، لكل منها مجالها وغاياتها، وحكمتها التي اقتضت وجودها في الكائن الإنساني.

قوى النفس الثلاثة هي: الشهوة، والغضب، والعقل، فالحكمة من وجود الشهوة هو جلب النفع، فتراها تميل بطبعها إلى ما يحفظ لها كيانها الفردي والنوعي، من المأكل والمشرب الذي لا يمكن أن يستمر وجودها - كفرد في هذه الدنيا ما لم تحصل عليه. كما تميل بطبعها وذاتها نحو حفظ النوع والنسل - من حيث تشعر أو لا تشعر - من خلال ما أودع فيها من شهوة الجنس.

فلم تكن الشهوة فينا هي الغاية الأساس، بل هي وسيلة لحفظ الفرد والنوع الإنساني.

وأما القوة الثانية وهي الغضب، فالحكمة من وجودها دفع الضرر الخارجي الذي يحدق بالإنسان - فرداً أو مجتمعاً - بين الفينة والأخرى. فلم تكن النفس الإنسانية لتقف صامتة أمامها، بل تتحرك - وبطبعها أيضاً نحو الدفاع والخلاص من هذا الضرر الذي يهدد وجودها أو وجود كرامتها ومبادئها.

فلم تكن قوة الغضب مطلوبة لذاتها، بل هي كسابقتها لحفظ الوجود الإنساني من التلف، وليستمر ويمارس نشاطه بكامل حريته.

تبقى القوة الثالثة، وهي القوة العاقلة - العقل - وهو الوجود المدير لمملكة الإنسان.

فمن خلاله تطّلع النفس على الحقائق المحيطة بها وبواسطة حركته التفكيرية توسع مداركها العلمية، وبه تكاملت العلوم والفنون والصناعات.

ثم إن الحكماء قسموا العقل إلى قوتين، فلم يكن العقل عندهم قوة واحدة، بل هناك قوتان أطلقوا على إحداهما العقل النظري، بينما سموا الأخرى العقل العملي (1).

فالعقل النظري غايته الإدراك العلمي المعرفي، فبهذه القوة يتمكن من معرفة الأشياء ويطلع على حقائقها، كما يتمكن من إدراك القضايا النظرية والعملية.

أما العقل العملي، فالحكمة من وجوده هو التحريك نحو العمل، من خلال إدراك القضايا العملية الجزئية؛ فإن الإنسان لا يفعل ولا يصدر منه الفعل ما لم يعلم أن هذا الفعل حسن وفيه منفعة له أو لأمته، ومجرد علمه الكلي - بالعقل النظري - أنَّ الإحسان للآخرين فعل حسن، وأن استعمال المريض للدواء فيه نفع له، والغش فعل قبيح، لا يحرك الإنسان بل الذي يحركه هو العلم بأن هذا الفعل في هذه اللحظة فيه إحسان للآخرين، والإحسان فعل حسن، هو الذي يجعل الإنسان يتحرك، وأن استعمال هذا الدواء الآن يخلصني من علتي، هو الذي يدفعني لتناول الدواء، وهكذا.

فالقوة الأولى وظيفتها الإدراك وتحصيل العلم، سواء كان له علاقة بالعمل، كما في مسائل الخير والشر والنفع والضرر، أم لا علاقة له بالعمل كالعلم بقوانين الطبيعة ووجود بعض الأشياء والأشخاص.

ومن أجل هذه القوة سمّي الإنسان كائناً مفكراً؛ إذ بواسطة هذه القوة يشخص ما ينفعه وما يضره، ومن خلاله يتعرف على حقائق الأمور، فيعرف الحق منها من الباطل.

فهو الذي يبني منظومة الإنسان الفكرية المعرفية حول كل ما يحيط به: الله، الكون، الإنسان، علاقته بما حوله، هدفه في هذه الدنيا، هل هناك حياة بعد حياتنا هذه؟ من أين بدأنا وإلى أين تذهب؟ ما هو النظام الذي لا بد أن نسير عليه؟

وإنما يتوصل إلى الأجوبة عن كل ذلك بواسطة التفكير.

فالتفكير - الذي هو حركة عقلية - هو أساس تحرك الإنسان نحو الخير أو الشر، وهو أساس كل معتقد، باطلاً كان أم حقاً، فيه نفع للمجتمع أو فيه هلاكه. فإما أن يسلّط إمكانياته وقدراته في إرضاء شقيقتيه من الشهوة والغضب، أو يكون سيداً حكيماً يسوسهما ويقودهما بعنايته وحكمته نحو الهدف الذي أوجدا من أجله.

فأساس الخير العقل، كما أن أساس الشر هو العقل. وكل فكرة حقة قد نعمت الإنسانية بخيرها هي نتاج التفكير العقلي، كما أن الدمار والبؤس الذي منيت به البشرية هو من منعطفات التفكير العقلي.

وهذا ما يجعل المصلحين أمام الأمر الواقع، من أن الإصلاح الجذري من هنا منطلقه وأساسه. فهل لنا أن نصلح السياسة أو الاقتصاد أو الظواهر الاجتماعية أو الأمراض النفسية التي أنهكت الأمة أو....، من دون أن تصلح أساس جميع ذلك، وهو العقل وكيفية عمله؟!

وهل يمكن أن نتصور ذلك؟! وهل السياسة والاقتصاد والتربية والإرهاب والانحراف والفساد الاقتصادي و.... إلا نتاج عملية التفكير العقلي؟!

ومن هنا، فلا بد لنا أن ننحني إجلالاً وإكباراً للشخص الذي وضع يده على الجرح منذ مئات السنين، حين نصغي إليه في عمق التاريخ وهو ينادي بقومه: (إنما يدرك الخير كله بالعقل)، إنه النبي الأمي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) حين ظهر في أُمة قد أعلنت إفلاسها - كغيرها - في ميادين شتى، فأخذهم بهذا الشعار ليضعهم على رأس قوافل الحضارة.

وهل يصح لنا بعد هذا أن ننادي بالإصلاح قبل أن نصلح أداة الإصلاح؟!

لا يمكن للنجار أن يصنع كرسياً متواضعاً ما لم يصلح قدومه (مطرقته)، ولا يتمكن الفلاح أن يعمر أرضه ما لم يصلح معوله ومسحاته، وهكذا لا يمكن للأمة أن تستعيد مجدها، وتبني حضارتها ما لم تولِ اهتماماً لإصلاح عقلها، وتعمل على معرفة كيفية عمله.

الإصلاح الجذري

ذكرنا فيما تقدم أن الفعل الاختياري منشؤه الثقافة، فهي التي تحرك الفرد والمجتمع من دائرة الوعي أحياناً، ومن دائرة اللاوعي واللاشعور غالباً.

كما قد بيّنا أن الثقافة هذه، إنما هي صنيعة التفكير العقلي، فالثقافة التي نراها تحكم بعض المجتمعات إنما هي حصيلة تفكير بعض أبنائها، فإن كان تفكيرهم يهدف إلى خير الأمة وتقدمها وتحقيق العيش الرغيد فيها خرجت نتائج تفكيرهم في هذا المجال، ثم أنزلوه بأساليب خاصة إلى وسط الأمة، حتى تحولت هذه الأفكار إلى ثقافة تحرك المجتمع بأسره نحو الخير.

وعندما نرى ثقافة بعض المجتمعات تسير في الطرف الآخر، من الغش والانتهازية وعدم مراعاة الآخر و...، فلا شك بأن هذه الثقافة هي الأخرى نتيجة بعض العناصر الفاسدة في الأمة التي سخرت عقلها لمصالحها الخاصة، واستطاعت أن تبث هذه الثقافة من خلال سلوكيات معينة.

وما نريد الوصول إليه هو: كيف تستطيع أن تجعل العقل البشري يسلك طريقاً - في تفكيره - يوصله إلى نتائج صائبة فيها الخير له ولأمته؟ ثم بعد ذلك كيف نوصل هذه النتائج إلى الأمة، ونجعلها ثقافة حاكمة فيها؟

فإذا كانت الثقافة هي المحرك الأساس لسلوكيات المجتمع والفرد، فلا بد أن تكون هي نقطة البحث الإصلاحي، وبما أنها نتيجة طبيعية لطبيعة التفكير السائد في تلك الأمة، ومن خلال طبيعة التفكير تتشكل عناصر الثقافة من العقائد والتقاليد والأعراف والفنون، فلا بد من تقنين عملية التفكير أولاً، بأن تجعل لها ضوابط لتصحيح حركتها؛ لنضمن سلامة النتائج المتوالدة، والتي ستكون في المستقبل - القريب - جزءاً من ثقافة الأمة.

أما إذا رفعنا اليد عن هذه النقطة الأساس - كما هو الحال عندنا - فسوف نهتف بإصلاح ونئن ونشكو من التدهور والتراجع من دون جدوى؛ لأن ثقافتنا - أعرافنا تقاليدنا، معتقداتنا - ليست تحت سيطرتنا ولسنا نحن الذين نضع مفردات بنائها وبرامجها وأهدافها، بل هي تصاغ ويُخطط لها خارج حدود مملكتنا، وتهدى إلينا ضمن برامج معينة، فما علينا إلا أن نأخذها - ببساطتنا وطيبتنا وحسن ظننا - فنسير عليها وفق ما يراد لنا، ومع ذلك نهتف بالإصلاح فلا نرى نتائج النجاح.

ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما خلص في القلب، وصدقته الأعمال، حكمة عظيمة تصدر عن أعظم مصلح عرفته البشرية، النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، فمجرد تمني حلول فكرة وثقافة مكان أخرى، أو مجرد التظاهر بزي المفكرين والمصلحين، وتسطير الألقاب والعناوين، لا يغير من الواقع شيئًا، بل لا بد من صفاء الفكرة ووضوحها وخلوصها من أي شائبة في القلب، ثم لا بُدَّ من قرنها بالعمل.. لا بد أن تبدأ حركتها على متن الواقع.

أما أن ندعو إلى ثقافة ولا نسير بهديها، وننقد أخرى ونلاصق أخلاقها، فما هذا إلا الإزدواجية المقيتة.

ولنعد إلى ما كنا فيه، فعلينا أولاً أن نظهر الأداة المولدة للثقافة من شوائبها؛ لتصبح نقية متعالية عما يشينها، ويسيء إلى الفرد والمجتمع لتصبح ثقافتنا إشراقة أمل المستقبل تشع من بين مفاصلها.

نعم، ثقافتنا هي سلاحنا في استرداد حقوقنا، وهي الواعز الذي يشعرنا بالمسؤولية تجاه واجباتنا.

لقد استطاعت بعض دول العالم الآخر أن تنزل قوانين التفكير السليم وأساليبه وطرق الوصول إلى المعلومة إلى رياض الأطفال، وتعويدهم على ممارستها، وأصبح التعليم عندهم يعني كيفية الوصول إلى المعرفة والعلم، لا كيفية حفظها وتدوينها حين تأتي جاهزة.

وهذه هي الخطوة الأولى التي لا بد أن نصل إليها، فلتكن ثقافتنا وبرامجنا كيف نفكر؛ لنصل إلى العلم والثقافة، لا أن نقرأ ونحفظ ما أنتجه الآخرون.. كيف نبتكر ونصنع، لا كيف نستورد ونستهلك مــا يصنعه الآخرون.

ينقل ابن ورّام في مجموعته أنه: (أصابت أنصارياً حاجة، فأخبر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: ائتني بما في منزلك، ولا تحقر شيئاً. فأتاه بحلس (2) وقدح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من يشتريهما؟ فقال رجل: هما علي بدرهم. فقال (صلى الله عليه وآله): من يزيد؟ فقال رجل: هما بدرهمين. فقال: هما لك. ابتع بأحدهما طعاماً لأهلك، وابتع بالآخر فأساً. فأتاه بفأس، فقال (صلى الله عليه وآله): من عنده نصاب (3) لهذا الفأس؟ فقال أحدهم عندي. فأخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأثبته بيده، فقال: اذهب واحتطب ولا تحقرن شوكاً ولا رطباً ولا يابساً. ففعل ذلك خمس عشرة ليلة، فأتاه وقد حسنت حاله. فقال (صلى الله عليه وآله): هذا خير من أن تجيء يوم القيامة وفي وجهك كدوح (4) الصدقة) (5).

هكذا كان المصلح الذي بعثته السماء، يعطي الأمة مفاتيح الكسب ومفاتيح العلم ومفاتيح ما يحتاجونه - كل بحسب طاقته -؛ لتكون الأمة قادرة على تحمل مسؤولياتها، ولا تظل تستجدي ما تقتات عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ انظر: السياسة المدنية، أبو نصر الفارابي، ص 80، النفس من الشفاء، ابن سينا، ص 284 ـ 285.

2ـ الحلس: كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله .... والحلس بساط يبسط في البيت المصباح المنير، للفيومي، ص 146.

3ـ نصاب ككتاب: مقبض السكين.

4ـ الكدح: الخدش جمع كدوح.

5ـ تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ابن ورّام)، ورّام بن أبي فراس المالكي الاشتري، ص 53. 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي